03‏/01‏/2016

عبق الكلمات/ كمالُ الدِين، وإتمامُ النعمة

عبد الباقـي يوسف
يقول الله جل شأنه: [الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً] آل عمران/3.  
يخبر الله تعالى المؤمنين باليأس الذي أصاب [الَّذِينَ كَفَرُواْ] في ردّهم عن الإسلام، واليأس يعني أنهم بلغوا مبلغ القناعة من ثباتكم في دينكم، وأنهم لا يستطيعون أن يزحزحوكم عنه، [فَلاَ  تَخْشَوْهُمْ ] مهما بدر منهم، فهي مبادرات يائسة، تبدر من يائسين، [وَاخْشَوْنِ] لأن خشيتكم مني تزيدكم ثباتاً في دينكم، وتزيدكم قوة على قوة.
ثم قال: [الْيَوْمَ]، بعد كل هذه السنوات الطويلة من نزول القرآن، آية آية، وسورة سورة، ثم بعد كل هذه القرون الطويلة من تاريخ [الدِّينَ]، الذي هو [عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ] آل عمران 19، وكل تلك الأعداد الهائلة من الأنبياء والرسل، والأحداث [وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ] آل عمران 85، [وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ]فصّلت33.
[الْيَوْمَ]- [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ] - استوى الدين على كماله، وهذا الاستواء بث اليأس في نفوس [الَّذِينَ كَفَرُواْ] .. [الْيَوْمَ]- أصبحتم أكثر قوة، أكثر حضوراً، أكثر علماً، أكثر معرفة، وأكثر توازناً، وأكثر نضجاً..  [الْيَوْمَ]، بعد عصر الجمعةِ، يومَ عَرَفةَ، في حَجّةِ الوداع، والنبـي (صلى الله عليه وسلم) واقفٌ بـ(عَرَفاتٍ)، على (العضباء)، فكادت عضُدُ الناقة تندقّ، لثقلها، فبرَكَت.. [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ]- خذوا البشارة الكبرى عني، فقد [أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ] أبلغته بكم حدّ الكمال، [وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي]، بأن – [أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ]، دون أن أدع نقصاً فيه - [وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً]، ذلك أن الإسلام هو السبيل الوحيد للنجاة، وهو صراط الله الوحيد المستقيم.
ومعنى ذلك أن الله لم يكن قد أكمل للناس دينهم، لأن الآيات بدأت تأتي معها بالأحكام والتشريعات الجديدة، ودوماً كان يأتي الجديد في التنزيل، حتى اكتمل الجديد بالجديد.. [أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ]، يعني أن الدين كان قيد الإكمال، قبل [الْيَوْمَ ].. و[وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي]، أن نعمة الله بلغت الإتمام {الْيَوْمَ]..
وقوله جل وعلا: [وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً]، يعني أن (الإسلام)،  قبل [الْيَوْمَ ]، كان في مراحل بلوغ مرتبة أن يرضيه الله للناس[ دِيناً].. فلو لم يرسل الله - جل ثناؤه- محمداً (صلى الله عليه وسلم) رحمة للعالمين، للبثت رسالة الدين دون خاتمة. ولو انقطع التنزيل في منتصفه، أو في بعض أجزائه، للبث القرآن دون إكمال.
وهذه الآية هي حاسمة في كمال الدين، فلو توفي الرسول (صلى الله عليه وسلم) دون نزول هذه الآية، لعلّ البعض قال بأن القرآن لم يكتمل، لأن الرسول قد تُوفيّ، والقرآنُ قيْدَ النزول، ولا شيء يشير بأن القرآن نزل بكامله. فكان بيان الله للناس، قبل وفاة الرسول (صلى الله عليه وسلم) بأن [الْيَوْمَ] بلغ كل شيء أوجه في الدين، وأنه عند وفاة الرسول (صلى الله عليه وسلم)، سيكون قد تلقى كل شيء، وبلّغ الناس ما تلقاه.
وقد روي عن النبـي (صلى الله عليه وسلم) أنه قرأ (سورة المائدة)، في (حجّة الوداع)، وقال: (يا أيها الناس، إن سورة المائدة من آخر ما نزل، فأحلوا حلالها، وحرموا حرامها).

وقد جاء الخطاب هنا لعموم المؤمنين، ولم يخص به الرسول، كأن يقول له: (لك)، بدلاً عن [لَكُمْ]، وذلك للمزيد من البيان بأنه رسول بين الله والناس، وأن الله يخاطب الناس على لسانه، و[الْيَوْمَ] قد قام بكل ما عهد الله إليه.  فلو لبثت آية، أو كلمة، لم يبلّغها للناس، لما كان كمال الدين، ولما كانت تمام النعمة. وبالتالي، لما بلَغَ الإسلام درجةَ أن يرضاه الله للناس [دِيناً]. ولذلك بكى (عمر) عندما نزلت هذه الآية، ولعلّه بدأ يدرك أنها في وجهها الآخر بمثابة النعي لرسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فقال له النبـي (صلى الله عليه وسلم): (ما يُبكيك يا عمر)؟ قال: (أبكاني أنّا كنا في زيادةٍ من دينِنا، فإذا كَمَلَ، فإنه لا يكملُ شيءٌ إلا نقَصَ)، فقال عليه الصلاة والسلام: (صدقت). ويُروى أنه (صلى الله عليه وسلم) ما لبِثَ بعد ذلك، إلا واحداً وثمانين يوماً.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق