03‏/01‏/2016

عندما خاطب (مام جلال) العالم باللغة الكوردية

محسن جوامير
كاتب كوردستاني ـ السويد
بالرغم من الملاحظات والانتقادات الموجهة إلى مسودة الدستور، ومن جميع الأطراف والتوجهات والكتل، من كورد وغيرهم.. فانني أرى المادة الجديرة بالترحيب والتي أصابت كبد الحقيقة، وأظن أن الكثير يشاطرني هذا الرأي حتى الأخوة السنة.. هي المادة الرابعة، المتعلقة باللغة، والتي هي بحق من المواد الفريدة، وعروسة الدستور، التي فتحت أبواباً إنسانية رحبة، وعلى مصراعيها، لكل اللغات، حتى تبقى حية، وتتحرك بحرية، وتنمو، ويدرّس بها، ولا تتعرض إلى الشطب لأغراض
شوفينية، كما هو حاصل في دول إقليمية، مهما كان حجم وعدد المتكلمين بها، كالتركمانية والآثورية والكلدانية والأرمنية.. وبالتالي سدت الذرائع والحجج التي قد تؤدي إلى إثارة أمور لا تبشر بالخير، والتي يستفيد منها الأعداء، الذين يكبر عليهم أن يتمسك الآخرون بلغتهم، ولا يؤمنون إلا بوحدانية اللغة، وقرقوشيتها. ناهيكم عن كون اللغة من الحقوق التي تولد مع الإنسان، فإننا لا نبالغ إذا ما قلنا أن اللغة تتقدم على الدين في التعلم. وإذا كان [لا إكراه‌ في الدين]، كما قال ربنا، فإنه‌ لا اختيار، ولا مناص، من تعلم الإنسان لغته،‌ حديثاً وكتابة، وعدم فرض لغة أخرى، من أجل القضاء عليها، لأن في هذا محاربة لسنّة الله‌ في الخلق والكون، ولا مجال للتناطح في إطار النواميس الكونية.. [ولن تجد لسنة الله‌ تحويلا]، ولا [تبديلا]..
في العام ١٩٧٢ زرنا أنا والأستاذ (فؤاد الݘلبي)، الذي اغتالته‌ يد الإرهاب، أحد علماء الرمادي.. وأثناء الجلسة تحدثنا فيما بيننا بالكوردية هنيهة، وإذا بالعالم - الذي لا زلت أحترمه، لأنه‌ عزمنا على (الكباب)، وبيننا وبينه‌ ملح الوفاء والأحباب- أشار إلينا بأن نتحدث بالعربية، ونترك الكوردية.. واصطدمت حينئذ، وتحيّرت، ووسوس إليّ الشيطان أن أترك ديني، وأُلحد.. ولكن برهان ربي حفظني من ذلك، بعد أن تيقنت عن علمٍ بأن ثمة بوناً شاسعاً بين الدين والأدعياء، وهذا الحال المزري لا ينطبق فقط على المسلمين والعلماء في بلادنا، إنما هو سمة الكل، من: إشتراكيين وديمقراطيين، وعلمانيين وإسلاميين، ويمينيين ويساريين، ولا علاقة البتة بين المبادئ والأهواء.. وكلنا في هوى التعصب شرق!
وورود نص: (اللغة العربية واللغة الكوردية هما اللغتان الرسميتان) في (الدستور)، هو اعتراف واقعي جميل، جمال كوردستان والعراق، بوجود واقعين متميزين، متنوعين، مرشحين للعيش جنباً إلى جنب في الدولة الاتحادية المزمع تشكيلها ـ خاصة بعد انضمام كركوك، وأخواتها، إلى الأمّ كوردستان ـ إذا صلحت النوايا، وسمح به الإرهاب، الذي هو على الأبواب، ويجوس خلال الديار، ويحرق حتى المحراب، ولا يرضى إلا الإبقاء على شريعة الغاب، وفرض الأهواء بالمخالب والأنياب! ولوحة (رسمية اللغة العربية والكوردية) تزداد جمالاً وبهاء ورونقاً وتنميقاً وموزاييكاً، حينما تشارك اللغة الكوردية الجميلة، أختها في الدين والجوار: اللغة العربية العظيمة، في (التكلم، والمخاطبة، والتعبير، في المجالات الرسمية، كمجلس النواب، ومجلس الوزراء، والمحاكم، والمؤتمرات الرسمية)، ناهيكم عن البنود الأخرى المتعلقة باللغة الكوردية، ولا سيّما (في مجالات أخرى يحتمها مبدأ المساواة، مثل الأوراق النقدية، وجوازات السفر، والطوابع)، كما ورد في نص المسوّدة. لذا، حينما نرى اللغة الكوردية أيضاً، على صدرالطائرة الاتحادية التي تطير في أجواء الأردن، أو عبر تركيا، أو الشام، أو طهران، متوجهة إلى أوروبا، أو أمريكا، أو فيتنام.. وقتئذ يحقّ لمشرّعي الدستور فخر الادعاء - عن جدارة وصدق- بأنهم صدقوا ما عاهدوا الله‌ والناس عليه‌ في ديباجته.
إن إقرار هذا المبدأ، وبالرغم من كونه‌ من البديهيات في العالم المتحضر، الذي يتحسر ألماً حينما يسمع بأن حيواناً ما، أو سلالة قرد ما، توشك على الإاقراض، فكيف بلغة قوم؟! فإنه جدير بتحويله‌ إلى عالم الواقع والتطبيق، وبشفافية، وبصدر إنساني رحب، وأن لا يظل حبراً على ورق، كما حدث مع قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية.. وقد تأخرنا كثيراً عن قطار الإنسانية..
إذا كان تطبيق الدستور ملزماً على كل فرد، فإن الدولة هى الجهة الأولى التي عليها القيام بهذا الأمر، لتكون قدوة للكل، وتحتفظ بمصداقيتها.. لا سيما رموزها، وعلى رأسهم رئيس الدولة.
إنها لفرصة كبيرة، ويحدونا الأمل، أن يثبت الرئيس (مام جلال)، والوفد المرافق له،‌ هذه الحقيقة، أمام الأمم، في الزيارة المرتقبة إلى أمريكا، وذلك بأن يقدم سيادته‌ كلمة باللغة الكوردية أيضاً، بجانب اللغة العربية الحبيبة، حتى يعلم العالم بأن هناك حقاً رغبة صادقة في شرقنا، الذي حكمته الأفكار العنصرية، وما زالت، في بناء دولة دستورية اتحادية، على أنقاض الإرهاب، الذي طال العباد والبلاد، ولم تجن شعوبنا منه‌ إلا البؤس وأمراض الأعصاب والخراب. فهل يحقق (مام جلال)، ووفده‌ الموقر، هذه‌ الأمنية.؟!
**    **    **
كانت هذه رسالتي إلى الرئيس (مام جلال)، في حينه، وقد شاهدناه يومذاك وهو يتحدث باللغة الكوردية الحبيبة، من على أعلى منبر في العالم، إيذانا بعهد جديد للغة الكوردية، وأهلها.. واليوم، وبعد (12) عاماً على هذه الواقعة، ترى ما الذي تغير على أرض الواقع، في (العراق الجديد)، العراق الذي نهض من حطام الدكتاتورية.. العراق الذي شارك الكورد في تأسيسه، ولولاهم لما كان له أن يقوم على قدميه، بهذه الصورة؟! وماذا فعل الكورد بلغتهم، وأين وصلوا بها، في ظل الظروف الجديدة التي انفتحت أمامهم؟!

* هذه المقالة كانت بمثابة رسالة بعثتها للرئيس (جلال الطالباني)، طلبت فيها أن يخصص جزءاً من خطابه في (الجمعية العامة) للأمم المتحدة، للتحدث باللغة الكوردية أيضاً، فلبى الطلب مشكوراً.. أتمنى له الشفاء العاجل، بإذن الله. ونشر المقالة هو للذكرى، لعلها تنفع!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق