01‏/01‏/2017

العبادة والعبودية

قاسم جميل (نوفيسي)
فكرة العبادة
فكرة العبادة هي فكرة قديمة قدم الحضارات، وحتى الشعوب البدائية لم تكن خالية من فكرة العبادة، وانتشرت بين جميع الشعوب بلا استثناء. ولا يخفى على أحد أن هناك آثاراً لدور العبادة موجودة في بقايا جميع الحضارات بشكل عام، ولا توجد حضارة لا توجد بينها آثار لدور العبادة، إن لم تكن أبرز من بقية الآثار كلها. وكما هو واضح وضوح الشمس أن فكرة العبادة راسخة بين المذاهب التي تؤمن بالكتب السماوية )لا أريد استعمال كلمة الأديان، لأن الدين عند الله الإسلام)، وقد خاض فيها أيضاً الفلاسفة خوضاً.. إذاً، فما هي العبادة المطلوبة من العباد في الوحي المنزّل من عند الله رب العالمين على الرسل والأنبياء، وما أنزل الله تعالى على خاتم الأنبياء والرسل (محمد بن عبد الله) (صلى الله عليه وسلم)؟

سيكون موضوع بحثنا في هذا المقال بيان معنى العبادة المطلوبة من الناس، والمذكورة في كتاب الله المنزل على (محمد بن عبد الله) (صلى الله عليه سلم)، ولقد قال الله تعالى في كتابه الكريم: [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلّا لِيَعْبُدُونِ] ﴿الذاريات: ٥٦﴾.. قبل كل شيء لا بد من توضيح معنى العبادة والعبودية، كما ورد في كتب معاجم اللغة العربية، لكي يبنى على معناها اللغوي فهم العبادة المذكورة في كتاب الله، والمطلوبة من العباد فهماً صحيحاً، لأنّ القرآن أنزل باللغة العربية الفصيحة، ولم تكن المصطلحات الفلسفية، ولا المصطلحات الكلامية، أو التصوفية، والعرفانية، هناك، في ذلك الوقت، معروفة ومستعملة في المحيط الذي أنزل الله تعالى فيه الوحي على خاتم أنبيائه (محمد بن عبد الله) (صلى الله عليه وسلم).

معنى العبودية والعبادة في اللغة العربية
 العَبْدِيَّةُ والعُبودِيَّةُ والعُبودَةُ والعِبادَةُ: الطّاعَةُ. (القاموس المحيط).
تقول: عَبْدٌ بيِّن العُبُودَةِ والعُبودِيَّةِ. وأصل العُبودِيَّةِ الخضوعُ والذلُّ. (الصحاح في اللغة). العِبادة: الطاعةُ. (الصحاح في اللغة).
قال (ابن الأثير): ومعنى العبادة في اللغة: الطاعة مع الخضوع.
فخلاصة الكلام أن العبودية والعبادة في اللغة العربية هما بمعنى الطاعة مع الخضوع والذلّ. ويمكن هنا الإشارة إلى السؤال الشائع بين الناس: لماذا خلق الله تعالى العباد؟ وجوابه من القرآن الكريم، حيث يقول الله تعالى: [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلّا لِيَعْبُدُونِ]﴿الذاريات:٥٦﴾، فإن هذه الآية تصرّح أن الله تعالى خلق الجنّ والإنس فقط ليعبدوه، أيْ يطيعوه وينفّذوا أوامره، فلا بد أن يكون له أمر مهمّ، أو أوامر مهمّة، أو نهي مهمّ، أو نواهي مهمّة، فخَلَقَهم لكي يعبدوه، أيْ ينفّذوا أوامره ونواهيه، فلا معنى ولا مفهوم للطاعة بدون وجود أمر - أو أوامر - أو نهي - أو نواهي-، إذاً فما هي تلك الأوامر والنواهي؟ سنذكر بعض الأمثلة من تلك الأوامرالمطلوبة من العباد تنفيذها، والنواهي التي لا بد عليهم أن يتجنّبوها، لكي يتبيّن لنا معنى العبودية والعبادة المذكورة في كتاب الله، والمطلوب من العباد أن يقوموا بها:
 بعض الأوامر المطلوب من العباد أن يقوموا بها:
لا يمكن لأيّ إنسان أن يدّعي أنه يعبد الله حقّ عبادته، بدون أن يثبت مدّعاه بالدليل القاطع، بما أمره الله تعالى في الوحي المنزل من عنده على نبيّه.. أمّا أن يقوم ببعض الأعمال والأفعال والحركات، ممّا لم ينزل الله تعالى بها سلطاناً، ويسمّيها العبادات، فهذا شأن آخر، وله حقّ أن يفعل ما يشاء، ولكن ليس له حقّ أن يكذب على الله، ولقد بيّن الله تعالى أوامره ونواهيه عن طريق الوحي الذي أنزله على رسوله. وهذه بعض تلك الأوامر التي ذكرها الله تعالى في هذه الآيات:
1- [إِنَّ اللّـهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلّكُمْ تَذَكّرُونَ ﴿٩٠﴾ وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللّـهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلَا تَنقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّـهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللّـهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ] ﴿النحل:٩٠- ٩١﴾.
2- [يَا أَيُّهَا الّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلّـهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللّـهُ أَوْلَى بِهِمَا، فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَن تَعْدِلُوا وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللّـهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا] ﴿النساء: ١٣٥﴾.
3- [يَا أَيُّهَا الّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلّـهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللّـهَ إِنَّ اللّـهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ] ﴿المائدة: ٨﴾.
4- [قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ] ﴿الأعراف: ٢٩﴾.
5- [وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ] ﴿هود: ٨٥﴾.
6- [وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا] ﴿الإسراء: ٣٥﴾.
7- [فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللّـهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللّـهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللّـهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ] ﴿الشورى: ١٥﴾.
8- [إِنَّ اللّـهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّـهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّـهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا] ﴿النساء: ٥٨﴾.
9- [وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ] ﴿الشعراء: ١٨٢﴾.
10- [وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ] ﴿الرحمن: ٩﴾.
تفضّل أيّها العابد، هذه بعض الأوامر المطلوبة منك، من طرف معبودك، لكي تقوم بها وتطبّقها وتنفّذها، فانظر كيف لا بد أن تكون عابداً لله وحده، ولا تنس أن هناك أوامر أخرى كثيرة، قد بيّنها الله تعالى في كتابه الكريم، ويجب عليك أن تقوم بها، إذا أردت أن تكون عابداً مخلصاً لله. أما أن تقوم ببعض الحركات والأعمال والأفعال، التي ما أنزل الله بها من سلطان، ثمّ تسمّيها العبادات، فإنها لن تغنيك يوم القيامة عن شيء.. كن ما شئت، وسمّ الأشياء بما تشاء، ولكن لا تكذب على الله، ومن أظلم ممن كذب على الله؟ واعلم أن الأعمال والأفعال التي تسمّيها العبادات، وهي ليست بمذكورة في كتاب الله، وما قام بها نبيّه (صلى الله عليه وسلم) لن تفيدك شيئاً يوم الدين، يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً، والأمر يومئذٍ لله.
بعض النواهي التي يجب أن يتجنّبها العابدون لله:
لنتأمل في النواهي الواردة في هذه الآيات، ثم نتأمل في ما يجري حولنا في المجتمع الذي نعيش فيه، فلننظر كيف نعبد الله، أيْ كيف ننفذ أوامره، وكيف نبتعد عن نواهيه؟!:
1- [وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ، وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّـهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ] ﴿هود: ١١٣﴾.
1- [لّا يَنْهَاكُمُ اللّـهُ عَنِ الّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللّـهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴿٨﴾ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللّـهُ عَنِ الّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلّهُمْ فَأُولَـئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ] ﴿الممتحنة: ٨-٩﴾.
3- [وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلّا بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللّـهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلّكُمْ تَذَكّرُونَ] ﴿الأنعام: ١٥٢﴾.
4- [وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا] ﴿النساء: ٢﴾.
5- [وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴿٤٢﴾ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ ﴿٤٣﴾ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ، أَفَلَا تَعْقِلُونَ] ﴿سورة البقرة: ٤٢- ٤٤﴾.
6- [وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ] ﴿البقرة: ١٨٨﴾.
7 –[وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ، وَاتَّقُوا اللّـهَ إِنَّ اللّـهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ] ﴿المائدة:٢﴾.
8- [يَا أَيُّهَا الّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللّـهَ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ] ﴿آل عمران:١٣٠﴾.
هذا بعض من النواهي المذكورة في الوحي الإلهي، والمطلوب من العباد أن يبتعدوا عنها، وليست هذه النواهي وحدها، بل هناك نواهٍ أخرى كثيرة، قد بيّنها الله تعالى في كتابه الكريم بشكل واضح لا لبس فيها، يجب على العباد أن يتجنّبوها إذا أرادوا أن يكونوا عابدين لله، مطيعين له، ومنفّذين لأوامره. أين الذين يزعمون أن (الدين أفيون الشعوب) من هذه النواهي؟ وأين الذين يبرّرون أعمال المستبدين الظالمين والديكتاتورين والقتلة والظلمة، من هذه النواهي الواضحة والبيّنة، التي لا يستيطع أن يؤّولها إلا من كان في قلبه مرض، أو أن يشاقق الله ورسوله، لأن الله أمر رسوله أن يبلّغ هذه النواهي للعباد، وهي مخالفة لأهوائهم، التي تأمرهم أن يطغوا في الأرض، ويفسدوا فيها، ويتكبروا على العباد؟! أمّا الذين يؤمنون بالله ورسله، فلا مجال لهم - مقابل هذه النواهي - غيرالانقياد والخضوع والاستسلام.
لكي يتبيّن الموضوع أكثر، فلا بدّ من بيان بعض الأمثلة من الأوامر المذكورة في الوحي، والمطلوب من العباد أن يقوموا بها. ولأجل هذا نبيّن باختصار ثلاثة من الأوامر التي أمر الله تعالى العباد بتنفيذها، وهي: إقامة الصلاة، والإنفاق في سبيل الله مما رزقهم، والدفع بالتي هي أحسن: [ادْفَعْ بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ، فَإِذَا الّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ]، يعني الأخلاق الكريمة، والتعامل مع الآخرين بالحسنى والتي هي أحسن.

إقامة الصلاة:
إن القرآن يبيّن لنا أن الأمر بإقامة الصلاة كان موجوداً في الوحي المنزّل من عند الله على جميع الأنبياء والمرسلين، وأنّ الصلاة ليست بدعة أتى بها (محمد بن عبد الله/ صلى الله عليه وسلم). ولقد أمر الله تعالى بإقامة الصلاة في القرآن الكريم أكثر من اثنتي عشرة مرة، ثمانية منها مع الأمر بإيتاء الزكاة، يعني: إعطاء الزكاة، وأربع منها بدونها (بدون صيغة إيتاء الزكاة). وبالتدبر والتأمل فيما قبل الأمر بإقامة الصلاة، وما بعد الأمر بإقامتها، يتبيّن لنا معنى إقامة الصلاة بشكل واضح، والمقصود منها.. فلنتدبّر هذه الآيات:
1- [وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ] ﴿البقرة: ٤٣﴾.
2- [وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلّا اللّـهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلّيْتُمْ إِلّا قَلِيلًا مِّنكُمْ وَأَنتُم مُّعْرِضُونَ] ﴿البقرة:٨٣﴾.
3- [وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ، وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللّـهِ، إِنَّ اللّـهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ] ﴿البقرة:١١٠﴾.
4- [أَلَمْ تَرَ إِلَى الَذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللّـهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا] ﴿النساء: ٧٧﴾.
5- [فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللّـهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواالصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا] ﴿النساء: ١٠٣﴾.
6- [وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ] (الأنعام: ٧٢) [وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ] ﴿يونس: ٨٧﴾.
7- [وَجَاهِدُوا فِي اللّـهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَـذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللّـهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ] ﴿الحج: ٧٨﴾.
8- [وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلّكُمْ تُرْحَمُونَ] ﴿النور: ٥٦﴾.
9- [مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ] ﴿الروم:٣١﴾.
10- [أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللّـهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللّـهَ وَرَسُولَهُ وَاللّـهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ] ﴿المجادلة:١٣﴾.
12- [إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الّذِينَ مَعَكَ وَاللّـهُ يُقَدِّرُ اللّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللّـهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّـهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللّـهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللّـهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللّـهَ إِنَّ اللّـهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ] ﴿المزمل:٢٠﴾.
تبيّن هذه الأوامر النازلة من عند الله، في إقامة الصلاة، مدى أهميتها، فكيف يمكن لإنسان أن يكون مؤمناً بالله، ومؤمناً بهذه الأوامر، ويدّعي أنه يعبد الله، ثم لا ينفّذ هذه الأوامر النازلة من عند الله؟! فالعبادة معناها الخضوع مع الطاعة، فأين الخضوع، وأين الطاعة، لمن لا ينفذ أوامر الله التي ذكرها في كتابه، وأمر عباده أن يقوموا بها؟!

الهدف من إقامة الصلاة
بتأمّل بسيط في أحوال الأمة الإسلامية بشكل عام، وتأمّل أحوال المصلين منهم بشكل خاص، يتبيّن أن العبادة أفرغت من معناها الحقيقي، كما أفرغت من معناها الحقيقي في المذاهب التي تؤمن بالكتب السماوية، فصارت العبادة في المذاهب التي تؤمن بالكتب السماوية، مثل الطقوس الموجودة في المذاهب التي لا تؤمن بالكتب السماوية، فصارت العبادة طقوساً وحركات وأفعال، وكأنّها فارغة من المعنى. ولا شك أن الأغلبية العظمى من المسلمين هكذا ينظرون إلى العبادة (ولا نكفّر أحداً، فنحن لسنا أصحاب الدين حتى ندخل فيه من نشاء ونخرج منه من نشاء، فإنما علينا البيان والتوضيح وليس التكفير).. وكذلك أفرغت أغلب الأوامر من معانيها الحقيقية، على سبيل المثال: الذكر، ولقد أفرغ من معناه الحقيقي، فصار مجرد كلام يقال هنا، ويقرأ هناك، بدون الانتباه إلى معناه الحقيقي الذي وضع له، وهكذا كثير من الأوامر صارت شعارات تكتب، وأقوال تقال، وعبارات تقرأ هنا وهناك.. وقد فرّق الفقهاء بين العبادات (وهي ليست بموجودة في الدين بهذه الصيغة)، وبين المعاملات، بينما هي عماد الدين، كما قال النبـي (صلى الله عليه وسلم): "الصلاة عماد الدين"، وهو القائل: "الدين المعاملة"، أيْ إنّ الصلاة - في الحقيقة - هي عماد المعاملة، ولا يخفى على أحد أن المصلّي، أو المصلّين، يقرأون في الصلاة صيغة طلب الهداية بصغية الجمع، وليس بصيغة المفرد، لأن المعاملة لا يمكن أن تكون بين فرد واحد، بل لا بدّ أن تكون بين اثنين أو أكثر، والصيغة التي لا بدّ أن يقرأها المصلّي في كلّ ركعة من صلاته، هي قول الله تعالى: [إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ* اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ* صِرَاطَ الّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ](الفاتحة: ٥- ٧) هذه هي العبارة التي لا بدّ أن يقرأها كلّ من يصلّي، في كلّ ركعة من ركعات صلاته.. نشاهد في هذه العبارة أولاً الإقرار والاستعداد لتنفيذ أوامر الله بصيغة [إياك نعبد]، ثم طلب العون من الله تعالى بصيغة [إياك نستعين]، في تنفيذ أوامره، وكذلك طلب الهداية من الله تعالى بصيغة [اهدنا الصراط المستقيم]، أي: الطريق المستقيم للمعاملة، وهو طريق المعاملة التي قام بها الذين أنعم الله تعالى عليهم، غير المغضوب عليهم، ولا الضالين. ولقد ذكر الله تعالى بيان وصفات المغضوب عليهم، والضالّين، مراراً وتكراراً في القرآن الكريم، ولا حاجة أن يتعب أحد نفسه، ويفسّر بما لم ينزّل الله تعالى به سلطاناً.
ولقد خاطب الله رسوله وقال: [اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللّـهِ أَكْبَرُ وَاللّـهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ] ﴿العنكبوت: ٤٥﴾.
 هذه الآية تبيّن أن إقامة الصلاة لها وظيفة مهمة، وهي النهي عن المنكر والفحشاء، وليست مجرد طقوس وحركات تقام، وكلمات تقرأ في زاوية من زوايا المسجد، أو البيت، أو في أيّ مكان آخر، بل لا بدّ أن يكون لها أثر في حياة المصلّي، وتصرفاته، ومعاملاته مع الآخرين، لأنّ الله وصف الصلاة أنها تنهى عن الفحشاء والمنكر، فلا شك أن الصلاة التي لا تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولا تلزم المصلّي بتنفيذ أوامر الله - وهي كلها لمصلحة العباد - تكون فارغة من معناها الحقيقي، لأن المصلّي يطلب من الله تعالى، في كل ركعة من صلاته، أن يهديه إلى الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم، فلا شكّ أنّ من يسلك صراط الذين أنعم الله عليهم، يبتعد عن كل ما نهى الله تعالى عنه، ويقوم بكل ما أمر الله به. ولأنّ الحديث هنا هو عن المعاملة، ولا تكون المعاملة بين أقلّ من اثنين، لأجل هذا نرى أن المصلّي يطلب من الله تعالى بصيغة الجمع: [اهدنا الصراط المستقيم]، أيْ يرشدهم إلى الطريق المستقيم للتعامل مع الآخرين، وهو طريق الذين أنعم الله عليهم بالهداية، كما قال الله تعالى: [ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين]. ولقد بيّن الله تعالى في آيات عديدة من كتابه، طريق الذين أنعم عليهم، وما هو المقصود منهم، كما بيّن طريق (المغضوب عليهم، والضالين)، كما ذكرنا..

ما هي فائدة ذكر الله للعباد؟
كما تنهى الصلاة عى الفحشاء والمنكر، فإن الذكر ينبّه الذاكر ليبتعد عنما نهى الله تعالى عنه، ويحثّه ليقوم بما أمر الله به، ويزكّي النفس أيضاً، كما يقوّي العلاقة بين العبد والخالق، وله تأثير كبير على تربية الفرد في المجتمع.
قال الله تعالى: [يَا أَيُّهَا الّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللّـهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴿٩﴾ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللّـهِ وَاذْكُرُوا اللّـهَ كَثِيرًا لّعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ] ﴿الجمعة:٩-١٠﴾. إن الله تعالى يخاطب المؤمنين في هذه الآية، ويقول: إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ، فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللّـهِ. وهذه العبارة تبيّن أن الصلاة تشمل ذكر الله، ولأجل هذا جاء بعد جملة [إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ]، أمر [فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللّـهِ]، ثم يأمر الله تعالى فيقول: [وَذَرُوا الْبَيْعَ، ذَلِكُمْ خَيْرٌ لّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ]. إنّ هذه الآية تبيّن أن الإنسان يحتاج إلى التربية والتزكية، وأن يدعو ربه ويذكره. ثم يؤمر بالانتشار في الأرض بعد الصلاة مباشرة، حيث يقول: [فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ]، هنا أمر الله تعالى بالانتشار في الأرض، ولم يقل من شاء فليبق في المسجد، ومن شاء فليخرج، لأن هناك أمر آخر، بعد الأمر بالانتشار، وهو أمر [وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللّـهِ]، فلا يوجد إنسان على وجه الأرض لا يحتاج أن يبتغي من فضل الله، وإلا من أين سيأكل ويشرب، وكيف سيدير أموره؟!! إذاً، فلا بدّ على الجميع أن يبتغوا من فضل الله، ثم أمر الله تعالى وقال: [وَاذْكُرُوا اللّـهَ كَثِيرًا لّعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ].. نعم، لا بدّ عليهم أن يذكروا الله كثيراً، ولا ينسوه، لكي ينفّذوا أوامر الله، ويبتعدوا عمّا نهى عنه، فهذا سيكون سبباً لفلاحهم في الدنيا والآخرة.
وقال الله تعالى: [فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللّـهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا] ﴿النساء: ١٠٣﴾، في هذه الآية أيضاً، بعد جملة [فإذا قضيت الصلاة]، أيْ بعد انقضاء الصلاة، يأمر الله سبحانه بذكره بقوله: [فاذكروا الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبكم].
وقال الله تعالى مخاطباً رسوله: [اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّـهِ أَكْبَرُ وَاللّـهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ] ﴿العنكبوت: ٤٥﴾، نرى بعد أن أمر الله تعالى في هذه الآية بإقامة الصلاة، وأكّد أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، قال: [وَلَذِكْرُ اللّـهِ أَكْبَرُ]، فلا بدّ أن أثر ذكر الله في تزكية النفس، وإبعاد الذاكر عن الفحشاء والمنكر، ليس بأقلّ من أثر الصلاة. ولأجل هذا قال: [ولذكر الله أكبر]، إذا أردنا أن نعرف حقيقة المقصد من ذكر الله، فلا بدّ أن نعرف أولاً معنى كلمة (الذكر)، في اللغة العربية، لكي نبني عليه الفهم الصحيح لذكر الله. فـ(الذكر)، بكسر الذال، معناه خلاف النسيان، كما ورد في (مقاييس اللغة): ذَكَرْتُ الشيء، خلافُ نسِيتُه. فمعنى اذكر الله ، أيْ لا تَنْسَه. فلا شك أن المؤمن يسعد كثيراً بذكر الله، لحبّه له، فهو قبل كل شيء يحبّ أن يذكر معبوده الذي خلقه، وهو على يقين كامل أن له ما في السموات وما في الأرض، ولا شك أن المؤمن الذي يذكر الله كثيراً لا يغفل عن تنفيذ أوامره، ويسعى بقدر الاستطاعة لتنفيذها، ويتجّنب ما نهى الله عنه.. والمؤمن على يقين كامل أن جميع أوامر الله هي في مصلحة العباد، فلا شك أن ذكر الله أيضاً يكون في مصلحة العباد، وهم مستفيدون منه، وأن الله تعالى لا يخسر شيئاً، حتى إنْ لم يذكره أحد من الناس، ولا ينفعه شيئاً، وإن ذكره جميع من في السموات ومن في الأرض..
 والآن نريد أن نطرح هذا السؤال: ما هي فائدة ذكر العبد لله في الليل والنهار، إن لم ينفذ الذاكر أوامر الله، ويبتعد عما نهى عنه؟! أين معنى العبودية والعبادة والطاعة في هذا النوع من الذكر؟ من يستفيد من هذا النوع من الذكر ؟ لا شكّ أن العباد لا يستفيدون من هذا النوع من الذكر، وأن الله تعالى غنيّ عن كل شيء، ولا يخسر شيئاً إنْ لم يذكره الناس، وكذلك لا يستفيد شيئاً، إن ذكره من في السموات والأرض جميعاً على الدوام، ولكن الناس يخسرون كثيراً بسبب عدم ذكرهم لله تعالى. وقد قال الله تعالى في محكم كتابه: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللّـهِ وَاللّـهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ] ﴿فاطر: ١٥﴾، فلا شك أن تنفيذ الأوامرالسابقة، وأمثالها، يحتاج إلى علاقة قوية بين العبد والمعبود، وهذه العلاقة القوية تكون في ذكره وعدم نسيانه.

الصلاة ليست بمجرد حركات
يقول الله تعالى: [لّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ] ﴿البقرة: ١٧٧﴾.
هذه الآية تصرّح أن الهدف الأساسي من الطاعة ليس معناه أن يتوجه الإنسان نحو الشرق أو نحو الغرب، بل الهدف الأساسي من الطاعة أن يؤمن الإنسان بالله والملائكة والكتاب والنبيين، وأن يعطي المال - على حبّه له - ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين، والذين يريدون أن يحرروا رقبتهم من العبودية، وإقامة الصلاة، وإعطاء الزكاة، والوفاء بالعهود إذا عاهدوا، والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس.
وللعلم أن كل حركة من حركات الصلاة لها معنى خاص وعميق، لا بدّ أن تؤثّر هذه الحركات في المصلّي، فعندما يكبّر المصلّي تكبيرة الإحرام، فلا بدّ عليه أن يعرف أنه أقرّ أن العظمة هي لله، فلماذا التكبّر على الآخرين، وإهانتهم. ثم يبدأ بالفاتحة، وفي البداية يقول: الحمد لله، فما دام أنه اعترف أن الذي يستحق كل الحمد هو الله وحده، فلماذا يطلب ما ليس بمستحق له؟! ثم يقول: ربّ العالمين، فما دام أنه اعترف وأقرّ أن الله هو رب العالمين، فلماذا يرى نفسه فوق الآخرين، ويميّز ويفرّق بين الناس على أساس القومية أو المذهب؟! ثم هو يركع، وهو يعرف أن الركوع يأتي بمعنى الخضوع، في اللغة العربية، فلا شك أن الذي يركع لله حقاً، وينحني له، لا يمكن أن يتكبّر على عباده، فكيف يمكن أن يظلمهم؟! وكذلك السجود، فإنه - في اللغة العربية - يأتي بمعنى الخضوع والتذلّل، فلا شك أن الذي يسجد لله حقاً، ويذلّ له، لا يستكبر على عباد الله.
عرف مما سبق أن الذي يعبد الله حقاً، هو الذي ينفذ ويطبّق أوامر الله، ويبتعد عما نهى عنه. فكيف يمكن لإنسان أن يدّعي أنه يعبد الله، ولا يحاول أن ينفّذ أوامره، وعلى رأسها إقامة العدل في المجتمع؟! فماذا يفعل بقول الله تعالى: [إن الله يأمر بالعدل والإحسان]، فلا بد عليه أن يسعى - بقدر الاستطاعة - لإقامة العدل في المجتمع. ولا شك أن إقامة العدل في المجتمع، يحتاج إلى عمارة الأرض، وإصلاح المجتمع.. إذاً، فلا بدّ على الذي يعبد الله حق عبادته، أن يعمّر الأرض ولا يفسد فيها.. فإذا رأينا أناساً يزعمون أنهم يعبدون الله، وفي نفس الوقت يظلمون عباده، فلا بدّ أن نعرف أنهم لا يصدقون، ولو كانوا صادقين في عبادة الله، لما خالفوا أمره، وظلموا عباده!! إن الذين يصلّون ثم يظلمون عباد الله، لا بدّ أن يعرفوا أنهم يقومون بحركات شبيهة بحركات الصلاة، ولكنها فارغة من معانيها، لأن الله تعالى يقول [إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر]، فلا شك أن كلام الله صحيح، ولا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه، ولكنهم هم الذين لا يقيمون الصلاة حق الإقامة، بل يقومون بحركات شبيهة بحركات الصلاة. ومعلوم أن الصلاة هي بمعنى الدعاء، فالمصلّي في صلاته يبدي استعداده لتنفيذ أوامر الله، ويطلب منه العون، ويدعوه أن يهديه ويرشده إلى الصراط المستقيم للمعاملة، لأنّه يقول في صلاته: [إياك نعبد، وإياك نستعين، إهدنا صراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين]. ولا شك أن كل إنسان باستطاعته أن يساعد على إقامة العدل، وإلى هذا أشار النبـي (صلى الله عليه وسلم)، حيث قال: (كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته) وليس بشرط أن يكون حاكماً، لكي يسعى لإقامة العدل، مع أن الحاكم عليه أعظم مسؤولية في إقامة العدل.

 الإنفاق في سبيل الله
يمكن أن نقول إن أكبر مشكلة تواجه البشرية في كل العصور هي مشكلة المجاعة، ولا شك أن الإنفاق في سبيل الله شيء عظيم عند الله، ولأجل هذا قد أمر الله تعالى بإنفاق المال في سبيله أكثر من سبع مرات بصيغة الأمر في القرآن الكريم، كما ورد في هذه الآيات:
1- [لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللّـهَ بِهِ عَلِيمٌ] ﴿آل عمران:٩٢﴾.. العبارة واضحة وبيّنة في أهمية الإنفاق في سبيل الله.
2- [وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللّـهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ] ﴿البقرة: ١٩٥﴾. نرى في هذه الآية أن الله تعالى يأمر عباده بالإنفاق في سبيله، وينهاهم أن يلقوا بأيديهم إلى التهلكة.. إن المجتمع الذي لا ينفق ماله، يلقي بنفسه إلى التهلكة، ويكون هلاكه بطرق مختلفة، ومنها الحروب التي تقع بين الطبقات، وتفسخ المجتمع، والعداوة بين الأغنياء والفقراء، والسرقات، والقتل.. [وأحسنوا، إن الله يحب المحسنين]، فكيف يمكن أن يدّعي الإنسان أنه مؤمن بالله، ولا يسعى إلى محبة الله الذي أحسن إليه بنعمه، فلا يحسن إلى عباد الله كما أحسن الله إليه.
3- [يَا أَيُّهَا الّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لّا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظّالِمُونَ) ﴿البقرة: ٢٥٤﴾، إن الله تعالى يخاطب المؤمنين في هذه الآية، ويأمرهم أن ينفقوا مما رزقهم، من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه، فلا فائدة في الإنفاق في ذلك اليوم، ولا صداقة، ولا شفاعة.. ثم يقول الله: [والكافرون هم الظالمون]، يعني أن الذين لا يؤمنون بأوامر الله، فلا ينفقون في سبيله، هم الظالمون.
4- (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّـهُ قَالَ الّذِينَ كَفَرُوا لِلّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَن لّوْ يَشَاءُ اللّـهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنتُمْ إِلّا فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) ﴿يس: ٤٧﴾، ولقد وصف الله تعالى الكفار في هذه الآية وصفاً دقيقاً قبل آلاف السنين، وما زالوا متمسكين به حتى الآن، فمن طبيعة الكفار أنهم لا ينفقون شيئاً من أموالهم، وإذا أنفقوا شيئاً من أموالهم على الناس يمنّون عليهم منّاً، بحيث يتمنى- الذي أنفق عليه- الموت من كثرة ما يمنّ عليه الذي أنفق ماله عليه.. أما صفات المؤمنين الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله، فهي كما ذكرها الله تعالى في هذه الآية الكريمة: (الّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّـهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ] ﴿البقرة: ٢٦٢﴾، هذه الآية تبيّن معنى الإنسانية، واحترام كرامة الإنسان: إن الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله حبّاً لتنفيذ أوامر معبودهم، لا يتكبّرون على عباد الله الذين أنفقوا عليهم المال، بل يحترمونهم، ويكرمونهم، ويحبونهم في الله، إنْ كانوا مؤمنين، وإن لم يكونوا مؤمنين، يكرمونهم ويحترمونهم لأن الله كرّمهم بقوله [ولقد كرّمنا بني آدم]، وهم أخوة لهم في الإنسانية، فالمؤمن يحترم بني آدم بتكريم الله له. فالكرامة الإنسانية محترمة في كل الأحوال، فالمؤمنون ينفقون أموالهم، لأنهم مؤمنون أن الله لا يخلف وعده، وقد وصف الله أهل الجنة بعد دخولهم فيها بقوله: [لهم فيها ما يشاءون ولدينا مزيد]، فلماذا لا ينفقون أموالهم في سبيل الله على عباده، ما دام أنهم مؤمنون بهذا الأجر العظيم عند الله. أما الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس، ويمنّون على الذين أنفقوا عليهم إلى درجة الإذلال، فهؤلاء لم يشعروا بحلاوة الإيمان، وليسوا بموقنين جيداً بما وعد الله تعالى عباده المؤمنين، ويمكن أنهم لا يؤمنون بالله والجنة، بل إن هدفهم الأساسي أن يمدحهم الناس ويعظموهم في هذه الدنيا.
5- [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلّا أَن تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّـهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ] ﴿البقرة: ٢٦٧﴾، إن الله تعالى يخاطب المؤمنين في هذه الآية، ويأمرهم أن ينفقوا من أموالهم الطيبة، ومما أخرج لهم من الأرض، وأن لا يختاروا الرديء وينفقوا منه، ثم يقول: [واعلموا أن الله غني حميد]، والله تعالى ليس بمحتاج إلى أحد، ولا شك أن نفع الإنفاق أيضاً، مثل بقية الأعمال، يعود على العباد أنفسهم، فلا شك أن إحدى صفات المؤمن الذي يعبد الله حق عبادته، أن ينفق من طيبات أمواله في سبيل الله، أما الذين يراؤون الناس فوضعهم يختلف، ولا يهمهم أن ينفقوا أردأ ما عندهم، أو حتى التالف والعفن مما يملكون، ومع هذا يمنّون على عباد الله، ويتكبّرون عليهم، ثم يحبّون أن يحمدوا، ويحسبون أنهم قد قاموا بعمل عظيم.
6- يقول الله تعالى: [آمِنُوا بِاللّـهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ]﴿الحديد: ٧﴾. إن الله تعالى يأمر المسلمين في هذه الآية بالإيمان به وبرسوله، ويأمرهم بالإنفاق مما جعلهم مستخلفين فيه.. فهذه الآية تبيّن أن كل شيء في الحقيقة ملك لله، وأن الإنسان مجرد مستخلف من طرف الله فيه.. ثم يقول: [فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير]، وصف الله تعالى أجرهم بالأجر الكبير، وهو القائل: [لهم فيها ما يشاءون، ولدينا مزيد]، فلا شك أن هذا الأجر الكبير الذي وعد الله تعالى به عباده المؤمنين المنفقين، يجعلهم لا يبخلون عن الإنفاق مما استخلفهم الله تعالى فيه.
7- يقول الله تعالى: [وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ] ﴿المنافقون: ١٠﴾.. هذه الآية تبيّن أنه لا بد على الإنسان من تنفيذ أمر الله، والإنفاق مما رزقه الله، من قبل أن يأتيه الموت، فإذا جاءه الموت فلا فائدة أن يطلب من الله تعالى، ويقول: لو أخرّه إلى أجل قريب لتصدّق وكان من الصالحين، بل هي كلمة هو قائلها، هذا الإنسان المسكين الذي يجمع المال، ولا ينفقه في سبيل الله على المستحقين، يتمنى الرجوع إلى الدنيا لكي ينفق في سبيل الله ويكون من الصالحين، لأن الحقيقة ظهرت أمامه، وعرف مدى أهمية الإنفاق في سبيل الله، فتمنّى لو أخرّه الله تعالى إلى أجل قريب، وهو في ادعائه هذا ليس بصادق، ولو كان صادقاً لعبد الله وأنفق في سبيله، لأن الله خلقه ليعبده، وأبلغه عن طريق رسله كيفيّة عبادته، ومن ضمن عبادته الإنفاق في سبيل الله، ولكنه كذّب رسل الله، ولم يفعل ما أمره الله تعالى في هذه الدنيا.
8- يقول الله تعالى: [فَاتَّقُوا اللّـهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْرًا لِّأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ] ﴿التغابن: ١٦﴾، هذه الآية أيضاً تبيّن أن الإنفاق خير للمنفقين أنفسهم، فلا شك أن فائدة الإنفاق تعود على المنفقين أنفسهم بشكل خاص، وعلى المجتمع بأكمله بشكل عام.
9- يقول الله تعالى: [وَمَا لَكُمْ أَلّا تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللّـهِ، وَلِلّـهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَـئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللّـهُ الْحُسْنَى وَاللّـهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ]﴿الحديد:١٠﴾. هذه الآية تبيّن أن ميراث السموات والأرض لله وحده، وأنه لا بد على المؤمنين أن ينفقوا في سبيل الله، ثم تبيّن الآية أن هناك أوقاتاً يكون للإنفاق فيها تأثير أكبر وأجر أعظم، ولكنه في كل الحالات له أثر عظيم في المجتمع.
وهناك آيات أخرى كثيرة تبيّن مدى أهمية الإنفاق في سبيل الله، وتحضّ الممؤمنين على الأنفاق في سبيله، منها قوله تعالى: [وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللّـهُ وَكَانَ اللّـهُ بِهِمْ عَلِيمًا] ﴿النساء: ٣٩﴾، ماذا سيخسر البشر بإيمانهم بالله واليوم الآخر، والإنفاق مما رزقهم الله على إخوانهم في الإنسانية؟ [قُلْ أَنفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ] ﴿التوبة: ٥٣﴾، وما الفائدة في إنفاق المال، ثم إشعال الفتن بين الناس، وتحريض بعضهم على بعض، وسفك دمائهم، وإشعال نار الحروب والعداوات بين الشعوب، والإفساد في الأرض، من أجل أن يربح أضعاف ما أنفق؟ ومنها قول الله تعالى: [وَالّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَـئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ] ﴿الرعد: ٢٢﴾، هذه هي صفات المؤمنين بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر: إنهم يصبرون لوجه الله، ويقيمون الصلاة، وينفقون مما رزقهم الله سراً وعلانية، ويدفعون بالحسنة السيئة، حبّاً لتنفيذ أوامر الله، وهم مؤمنون أن صلاتهم ومناسكهم وحياتهم ومماتهم كلها لله رب العالمين. وقد وصفهم الله تعالى في آية أخرى بقوله: [إِنَّ الّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللّـهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لّن تَبُورَ] ﴿فاطر: ٢٩﴾.
تبيّن هذه الأوامر مدى أهمية الإنفاق في النظام الذي اختاره الله تعالى لعباده، ولا يخفى على أحد أهمية الإنفاق، وتأثيره على المجتمع، ولا شك أن إنفاق المال ليس بسهل على نفس الإنسان، وأن حبّه للمال يجعله يقدم حتى على قتل أبيه، وأخيه من أبيه، فكيف بأخيه في الإنسانية؟! وهو ليس بمستعد أن ينفق المال بسهولة، ولكن الإيمان بالله يجعل الإنسان المؤمن أن يضحي بنفسه مع ماله في سبيل الله، وفي سبيل إقامة العدل في المجتمع.. ولا شك أنه إذا دخلت حلاوة الإيمان في قلب العبد، فإنه يكون مستعداً أن ينفق كلّ ما يملك في سبيل الله.. ولا شك أن الإنسان المؤمن، كأيّ إنسان آخر، يحب المال حبّاً جمّاً، ولكن حب المؤمن لخالقه ومعبوده أشد بكثير من حبه للمال والولد والأم والوالد والعشيرة. ولا شك أن المؤمن على يقين كامل أن لله ما في السموات وما في الأرض، وأنه هو مجرد مستخلف فيه، ولا يوجد شيء أحب إليه من خالقه ومعبوده، فهو مستعد أن يعمل كل شيء في سبيل تنفيذ أوامر خالقه، حبّاً له، قبل أن يكون خوفاً من عقابه، وهو يفرح ويسعد عندما يقوم بتنفيذ أمر من أوامر الله تعالى.. فهو عندما ينفق مما رزقه الله يفرح، ولا يفارقه السرور، ما دام أنه يسعى ليكسب وينفق في سبيل الله، فهو يفرح بالكسب أيضاً، لأنه يعرف جيّداً إنه بعد أن يكسب يكون باستطاعته أن ينفق، وإن لم يكسب فكيف يمكن له أن ينفق في سبيل الله؟! إذاً، فلا بد على المؤمنين أن يعمروا الأرض، ويصلحوا ويخترعوا، حتى يكون باستطاعتهم أن ينفقوا.. كيف يمكن للمؤمنين أن ينفقوا بدون أن يكسبوا، وكيف يمكن لهم أن يكسبوا بدون أن يخترعوا، ويعمّروا الأرض، ويقيموا شركات تجارية، ومؤسسات علمية؟! لا أقصد بالمؤسسات العلمية المؤسسات التي تدّرس آراء الفقهاء واختلافهم في الأحكام، وتدّرس اختلافات الفرق المختلفة، والمناظرات التي جرت بين علماء علم الكلام والفلسفة والمنطق، على مدى التاريخ، حيث إذا حذفناها من حياة المجتمع البشري لن يتغير شيء، بل أقصد بالمؤسسات العلمية المؤسسات التي تفيد المجتمع البشري، بحيث إذا حذفت من حياة المجتمع البشري يتأثر المجتمع بحذفها تأثّراً كبيراً. خلاصة الكلام إن إنفاق المال صعب على نفس الإنسان بدون أن يتوقع شيئاً مقابل الإنفاق، وكذلك صعب على نفس الإنسان أن ينفق ماله بدون أن يكون له هدف من إنفاقه، فالإنسان مهما وصل إلى الدرجات العلى من الأخلاق، يبقى حريصاً على المال وجمعه وكنزه، إلا من رحم الله، والمؤمنون أيضاً يحبّون المال مثل بقية الناس، ولا يختلفون عنهم شيئاً، ولكن حبّهم لخالقهم ومعبودهم أشد بكثير من حبّهم للمال والأولاد وأي شيء آخر، ولأجل هذا هم مستعدون أن يضحوا بأرواحهم وأموالهم في سبيل الله، وفي سبيل إقامة العدل، الهدف الأساسي من إرسال الرسل، كما قال الله تعالى: [ولقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزل معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط]، أيْ العدل، وهؤلاء هم الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله، ولا يطلبون أيّ نوع من الأجر من أحد غير الله رب العالمين.
 كيف يمكن لإنسان أن يدّعي أنه يعبد الله، وينفّذ أوامره، بدون أن ينفق المال في سبيله؟ وكذلك، كيف يمكن أن ينفّذ هذه الأوامر الإلهية، إن لم يكن عنده مال؟ فكيف يمكن أن ينفق من لا يملك؟ إذاً، فلا بدّ على المؤمن أن يسعى لكسب المال حتى ينفقه في سبيل الله، ولا شك أن السعي لكسب المال وعمارة الأرض، يحتاج إلى التقنيات، إذاً فلا بدّ على المؤمنين أن يسعوا للحصول على التقنيات، فلا يمكن الحصول على الأموال بدون الحصول على التقنيات، ولا شك أن الذي يكسب المال وينفقه في سبيل الله، هو الذي يعبد الله حق عبادته، أما الذي يكون ثقلاً على الآخرين بادعاء أنه يعبد الله، فهذا في الحقيقة يعصي أوامر الله التي وردت في هذه الآيات!
مع وجود كل هذه الأوامر، نرى أن عدد الذين يموتون من الجوع يفوق عدد الذين يموتون من ثلاثة أنواع من أشد الأمراض فتكاً بالبشر، فماذا يريد أن يقول الذين يحاربون الدين، ويدّعون أن قلوبهم تحترق من أجل الإنسانية؟ هؤلاء هم الذين يمنعون العلاج، أعني: الطعام، من الذين يموتون من الجوع، وينهبون ثروات بلدانهم بسرقات قانونية وغير قانونية، ويعيشون في الرفاهية على حساب الشعوب الفقيرة، وأوطانهم، ثم يدّعون أن الدين هو سبب لكل المشاكل البشرية؟!! قد يكون كلامهم صحيحاً في حق نظام رجال الدين، والذي يدافع عنه هؤلاء الذين يهجمون على الدين، ولكنه ليس بصحيح ولا أساس له بالنسبة للدين الإلهي.

هل طلب الأنبياء والرسل الأجر من الناس مقابل التبليغ؟
مما لا شك فيه، وبأمر من الله تعالى، لم يطلب أحد من الأنبياء والرسل أيّ نوع من الأجر من العباد، مقابل تبليغ رسالات ربهم، ولقد جاهدوا جهاداً كبيراً في سبيل تبليغ رسالات ربهم، واتهموا بأنواع التهم الباطلة من قبل الكفار، وعذبوا كثيراً في سبيل تبليغها، فحاربهم الكفار، وأخرجوهم من بلدانهم، فهاجروا إلى ديار الغربة في سبيل تبليغ ما أوحى إليهم ربهم، وعرض عليهم الكفار المناصب والأموال، ليتركوا تبليغ رسالات ربهم، ويعيشوا في الرفاهية والنعيم، ولكنهم أبوا وفضلوا المشقات والصعوبات، مع الدعوة إلى إقامة العدل، على الرفاهية والعيش في النعيم بجانب الطواغيت والمستكبرين.. هكذا كان الأنبياء، والمصلحون الذين اتبعوهم.
لا يخفى على الذين يتابعون الحروب والنزاعات، أن هناك مسألتان أساسيتان بنيت عليهما حجج وأسباب النزاعات والحروب، من بداية التاريخ البشري إلى يومنا هذا، وهما مسألتيْ الزعامة والسلطة، والثروة والمال.. فلا شك أن أغلب الحروب التي أشعلت باسم الدين، أو باسم الوطن، أو بأيّ أسم آخر كان، تختفي وراءها مسألة الزعامة والسلطة، أو مسألة المال والثروة، وقلّما قامت الحروب للدفاع عن إقامة العدل، وهي الحروب التي خاضها المؤمنون المتقون في فترات من الزمن.. فليعلم الجميع أن هدف المؤمنين من الجهاد والقتال في سبيل الله، ليس تحرير قطعة من الأرض، أو احتلال قطعة منها، بل هدفهم الاساسي هو الدفاع عن إقامة العدل، ولقد بيّن الله تعالى هذا في كتابه الكريم بشكل واضح، كما ورد في هذه الآيات:
1- [لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّـهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللّـهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ] ﴿الحديد: ٢٥﴾، نرى في هذه الآية أن الله تعالى بيّن الهدف الأساسي من إرسال الرسل وإنزال الكتب، وهو أن يقوم الناس بالعدل، الناس وليس الرسل وحدهم.. ثم قال: [وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد]، بهذا البأس الشديد لا بد من محاربة ودفع من يمنع إقامة العدل وإرجاعه إلى حدّه.. ثم قال الله تعالى: [وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب]، ولقد بيّن الله هنا أن المقصود هو نصرة الله ورسله بالغيب، أيْ إقامة العدل وتنفيذ أوامر الله.. ثم يقول الله تعالى: [إن الله قوي عزيز]، يعني أن الله تعالى باستطاعته أن ينصر رسله بدون أن ينصرهم أحد من عباده، ولكن ليمتحن عباده: حتى يستحقّ المدافع عن إقامة العدل الأجر والمكافئة يوم القيامة، ويستحقّ المانع لإقامة العدل العذاب والعقاب في الآخرة.
2- [إِنَّ اللّـهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّـهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّـهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ] ﴿التوبة:١١١﴾..
 مما لا شك فيه أن الله تعالى لم يفوّض أحداً من عباده، لا من الأنبياء ولا من الرسل، ولا من الذين يجاهدون في سبيله، أن يتسلّطوا على رقاب العباد، ولم يمنحهم حقّ أن يطلبوا من الناس أيّ نوع من الأجر، لا مقابل تبليغ الرسالة الإلهية، ولا مقابل الجهاد في سبيل الله.. وقد صرّح الله تعالى في هذه الآية، في حق المؤمنين المجاهدين في سبيله: أن الله اشترى منهم أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، يعني لا بد أن ينفقوا أموالهم في الجهاد في سبيل الله، لا أن يحصلوا على الامتيازات والمناصب والأموال.. وقد أمر الله تعالى رسله وأنبياءه، في آيات كثيرة، أن يبلّغوا العباد أنهم لا يريدون منهم أيّ نوع من الأجر، مقابل تبليغ الرسالات الإلهية والدعوة إلى الله، وأن أجرهم لا يكون إلا على رب العالمين، وليس على العباد.. وكذلك المصلحون الذين سلكوا مسلك رسل الله وأنبيائه، وسعوا في إصلاح المجتمع وإقامة العدل، لم يطلبوا أيّ نوع من الأجر مقابل الدعوة إلى الله وإصلاح المجتمع، كما ورد قول لله تعالى: [وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ ﴿٢٠﴾ اتَّبِعُوا مَن لّا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مُّهْتَدُونَ] ﴿يس:٢٠- ٢١﴾، فإن الأمر باتباع من لا يسألون الناس الأجر مقابل دعوتهم للإصلاح، يوضّح لنا بشكل بيّن أن المصلحين التابعين للأنبياء والرسل، لم يطلبوا الأجر من الناس مقابل دعوتهم للإصلاح.. وهناك آيات عديدة موجودة في القرآن الكريم تبيّن ذلك، ولم ترد آية واحدة تشير إلى أن الرسل والأنبياء طلبوا من الناس أيّ نوع من الأجر مقابل تبليغ رسالات ربهم والدعوة إلى دين الله.. وهذه بعض تلك الآيات التي أمر الله تعالى رسله أن يبلغوا الناس أنهم لا يطلبون منهم أيّ نوع من الأجر، بل هم يريدون أجرهم من الله رب العالمين وحده وليس غيره:
 1- [أُولَـئِكَ الّذِينَ هَدَى اللّـهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ] ﴿الأنعام: ٩٠﴾، لقد ذكر الله تعالى الأنبياء وأشار إليهم بصيغة [أولئك الذين هدى الله]، ثم أمر نبيه أن يقتدي بهداهم بصيغة [فبهداهم اقتده].. لقد أمر الله تعالى في هذه الآية نبيّه (محمد بن عبد الله/ صلى الله عليه وسلم) أن يقتدي بمن سبقه من الأنبياء، ويقول للناس: [لّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ]، فهذه الآية تصرّح بأن الأنبياء لم يطلبوا أيّ نوع من الأجر من العباد، فكيف يمكن للذين يدّعون أنهم ورثة الأنبياء أن يطلبوا أو يقبلوا منهم أجراً.
2 – [وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلّا عَلَى اللّـهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُم مُّلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَـكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ] ﴿هود: ٢٩﴾، هنا في هذه الآية يخاطب (نوح) عليه السلام قومه بأمر من الله، ويقول لهم: لا أسألكم عليه مالاً.. كيف يمكن أن يكون هناك أوضح من هذه العبارة؟!
3 [يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلّا عَلَى الّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ] ﴿هود: ٥١﴾، في هذه الآية يخاطب (هود) - عليه السلام - قومه بأمر من ربّه، ويقول لهم إنه لا يسألهم أيّ نوع من الأجر، مقابل دعوتهم إلى الصراط المستقيم.
4 [قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلّا مَن شَاءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا] ﴿الفرقان:٥٧﴾.. إن الله تعالى يخاطب نبيه (محمد بن عبد الله/ صلى الله عليه وسلم) في هذه الآية، ويأمره أن يخاطب الناس ويقول لهم إنه لا يسألهم أيّ نوع من الأجر.
5 [وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ]﴿الشعراء:١٠٩﴾. في هذه الآية يخاطب (نوح) عليه السلام قومه، بأمر من ربه، أنه لا يطلب منهم أيّ نوع من الأجر.
6 [وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ] ﴿الشعراء: ١٢٧﴾. في هذه الآية يخاطب (هود) - عليه السلام- قومه، بوحي من ربه وأمر منه، أن يقول لهم إنه لا يطلب منهم أيّ نوع من الأجر، وأن أجره على رب العالمين فقط، وليس على غيره.
7 [وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ] ﴿الشعراء: ١٤٥﴾. في هذه الآية أيضاً يخاطب (هود) عليه السلام قومه.
8 [وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ] ﴿الشعراء: ١٦٤﴾.. في هذه الآية (لوط) عليه السلام يخاطب قومه، بوحي من ربّه، وأمر منه.
9 [وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ] م بني آدم يء﴿الشعراء: ١٨٠﴾.. في هذه الآية (شعيب) عليه السلام يخاطب قومه، بوحي من ربّه، وأمر منه، ويبلّغهم أنه لا يطلب منهم أيّ نوع من الأجر.
10- [قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ، إِنْ هُوَ إِلّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ] ﴿ ص: ٨٦- ٨٧﴾، في هذه الآية يأمر الله تعالى نبيّه (محمد بن عبد الله) أنه ليس من المتكلّفين، ولا يريد منهم شيئاً، وأنّ ما يوحى إليه من الله، ويؤمر بتبليغه، ما هو إلا ذكر للعالمين، وأنه لا يسألهم عليه أجراً.
11- [ذَٰلِكَ الّذِي يُبَشِّرُ اللّـهُ عِبَادَهُ الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُل لّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللّـهَ غَفُورٌ شَكُورٌ] ﴿الشورى: ٢٣﴾.

مقارنة بسيطة
في زمن نزول الوحي على (محمد بن عبد الله/ صلى الله عليه وسلم) كان هناك فئتان من الناس باسم الأحبار والرهبان، هؤلاء كانوا مشغولين بأمورالدين، وتعليمه للناس، وكانوا يصوّرون لعامة الناس وكأنهم وكلاء الله في الأرض، ولقد وصفهم الله تعالى في هذه الآيات وصفاً دقيقاً:
يقول الله تعالى: [يَا أَيُّهَا الّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّـهِ، وَالّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّـهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ. يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ] ﴿التوبة:٣٤- ٣٥﴾.. الخطاب هنا موجّه للمؤمنين، وكأن الله تعالى ينبّه المؤمنين ويحذّرهم أن يرتكبوا مثل هذه الجريمة التي يقوم بها هؤلاء الأحبار والرهبان، ثم يؤكد الله تعالى أن كثيراً من الأحبار والرهبان، ولم يقل كلّهم، لأنه كان منهم من لم يكن شريكاً مع الأكثرية في هذه الصفات السيئة. ثم يؤكد الله تعالى ويقول: [لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّـهِ]، لا شك أن أكلهم أموال الناس بالباطل كان كافياً أن يبعد الناس عن الدين، ويصدّهم عنه، كما هو في زماننا.. فلا شك أن كثيراً ممن يدّعون أنهم يعلّمون الناس الدين، ويخدمونه، يبعدون الناس عن الدين، ويصدّونهم عنه، بسبب تصرفاتهم الشنيعة التي يقومون بها باسم الدين.. ثم يقول الله تعالى: [وَالّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّـهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ]، هؤلاء الذين يكنزون الأموال، ولا ينفقونها في سبيل الله على المحتاجين والفقراء والمساكين، يرتكبون جريمة عظيمة في حقّ الإنسانية، ولأجل هذا يقول الله تعالى: [فبشرّهم بعذاب أليم].. وإذا تأمّلنا مجتمعنا البشري في عصرنا هذا، سنجد نماذج كثيرة مثل هذين الصنفين، يعني الذين يتحدثون باسم الدين، ويأكلون أموال الناس بالباطل، ويصدّونهم عن سبيل الله.. على سبيل المثال يمكن أن نجد (قبراً) يملك عشرات المليارات من الدولارات، وأطناناً من الذهب، وقد جمعت هذه المبالغ من أموال الناس، ومن ضمنهم الفقراء والمساكين، وأن سدنة هذا القبر يتمتعون بها كما يشاؤون، وباسم الدين، فلا هم ينفقونها على المساكين والفقراء، ولا هم يحضّون الناس على إطعام المساكين، بل هم يحضّون الفقراء والمساكين أيضاً، كما يحضّون الأغنياء، على التبرع للقبر، لكي لا يحرموا من نعيم الجنة الأبدية، لأنهم يصوّرون للناس أن صاحب القبر له صلاحية كاملة من طرف الله أن يدخل الجنة من يشاء، ويرسل إلى جهنم من يشاء، وكأنهم أصلاً لا يؤمنون بالإنفاق في سبيل الله، ولا يهمهم أن هناك ملايين من الناس، من إخوانهم في الإنسانية، يموتون من الجوع، وعلاجهم في يد سدنة هذا القبر، أو ذاك، والقبر لا يأكل ولا يشرب، ولا يحتاج إلى المصاريف، وهؤلاء السدنة يزعمون أنهم يخدمون الدين، وأنهم على مذهب أهل البيت، فأيّ مذهب هذا، وأيّ أهل بيت هؤلاء؟ والصنف الثاني: الذين يكنزون الذهب والفضة والأموال، ولا ينفقونها على المساكين والفقراء في عصرنا هذا، هم صناع القرارات الدولية، والذين يتشدّقون باسم الإنسانية وحقوق البشر في الجرائد، وعلى شاشات التلفازات - إذا صحّ الجمع بهذا الشكل -، وهم الذين يمهّدون الأرضية لإشعال الحروب بين الشعوب والدول والجماعات، لأجل مصالحهم الاقتصادية، فيموت فيها عشرات الآف من الأبرياء، وحتى مئات الآلاف، فلا يؤلمهم موتهم، ما داموا هم يربحون الأموال، وهم الذين يدعمون المستبدين والديكتاتوريين والقتلة في المحافل الدولية، لأجل مصالحهم الاقتصادية، وهم الذين يسرقون أموال الشعوب الضعيفة عن طريق هؤلاء المستبدين والديكتاتوريين، فيموتون جوعاً، وهم يمنعون عنهم الطعام الذي سرقوه منهم عن طريق هؤلاء المستبدين والديكتاتوريين الذين يحكمونهم بالنار والحديد، بدعم منهم، للحفاظ على مصالحهم الاقتصادية.
كان هناك في جميع مراحل التاريخ من يكذب على الله، ليخدع الناس، ويدّعي أن له صلاحية كاملة من عند الله للشفاعة عنده يوم القيامة، وأنه يستطيع أن يغفر ذنوب الآخرين، وأن يضمن لهم الجنة، وكأنه وكيل الله في أرضه، وله كامل الصلاحيات، وباستطاعته أن يعمل كلّ شيء من طرف الله، وأن أمره أمر الله، لا يمكن ردّه.. وهؤلاء يوجبون على العباد أن يخضعوا لهم، إذا أرادوا أن يعبدوا الله، ومن لم يخضع لهم ولأوامرهم فهو خارج عن دين الله، وهؤلاء هم الذين يحلّون لأنفسهم أموال الناس بالباطل، باسم الله وباسم دينه، فهؤلاء هم رجال الدين.. وهناك أناس يزعمون أن الله عيّن للبشر أئمة معيّنين ومنصوص عليهم من طرف الله، ولا يمكن لأحد أن يخالفهم، فمن أراد أن يأخذ دينه من غيرهم فهو ضال مضل، في نظرهم.. مثل هذه الفكرة كانت موجودة في الأديان القديمة، وهي فكرة عنصرية تقدّم طائفة على الآخرين بمجرد نسبهم، ولا أساس لها في الوحي الإلهي ودين الله.. وفي الحقيقة لا فرق بين رجال الدين عند اليهود والنصارى والمسلمين في أكل أموال الناس بالباطل، وباسم الدين، وتبرير أعمال المستبدين والديكتاتوريين والطواغيت، فهم مشتركون في هذه الصفات السيئة.. وظهر أناس في العصور الأخيرة يخدعون الناس بشعارات جذابة، مثل: الحرية، حقوق البشر، والمساواة، وحق الاختيار والعيش الكريم للجميع، وهم أبعد الناس من هذه الشعارات، فلا هم يحترمون حرية الآخرين، إن لم تكن في مصلحتهم الاقتصادية، ولا هم يحترمون حقوق البشر، بل يدعمون كل ديكتاتوري ومستبد يعمل لمصلحتهم الاقتصادية، ولا هم يقبلون بالمساواة.. على سبيل المثال، إذا قتل شخص من أتباعهم، أو من المتحالفين معهم، يأخذون من القاتل ملايين الدولارات، وإذا قتل أحد أتباعهم شخصاً، ممن ليس بمتحالف معهم، فلا يدفعون لأهل المقتول شيئاً، وإذا دفعوا فلا تتجاوز دية المقتول مئات الدولارات، فهذه هي المساواة التي يريدونها ويتشدّقون بها.. ولا هم يحترمون حق الاختيار، فإذا اختار شعب حاكماً له، ولم يكن خادماً لمصالحهم، فلا يقبلونه بأيّ شكل من الأشكال.. ولا يحترمون العيش الكريم، فهم ينهبون ثروات الدول الضعيفة والفقيرة بالقوة، أو عن طريق عملائهم، وشعوبها تموت من الجوع.
هذه مقارنة بسيطة بين الرسل، الذين أرسلهم الله لتبليغ رسالاته، وإقامة العدل، وبين الذين يعادون الله ورسله لأنهم يأمرون بإقامة العدل، ويدعون إلى المساواة بين جميع أفراد البشر، وعدم التفريق بين الناس بسبب لونهم أو لغتهم.. فلا شك أن أكثر هؤلاء الذين يعادون الله والأنبياء، يريدون أن يكونوا آلهة للبشر، وطواغيت تطاع بلا قيد أو شرط، وهؤلاء يرون أنفسهم فوق الآخرين، ولا بد على بقية الناس أن يطيعونهم، وكأنهم خلقوا للزعامة، وغيرهم خلقوا لخدمتهم.. وبين الذين في قلوبهم زيغ، ويزعمون أنهم ورثة الأنبياء، ويأكلون أموال الناس بالباطل، وهم أبعد الناس عن اتّباع الرسل والأنبياء.. ولا شك أن هؤلاء الذين يأكلون أموال الناس باسم الدين، هم في الحقيقة يعصون الله، فكيف يمكن أن يكونوا على طريقة الأنبياء والرسل، وكيف يمكن أن يدعوا أنهم ورثة الأنبياء؟ لقد بيّن الله في كتابه الكريم ما أنزل على الأنبياء والرسل، وما أمرهم به، فالقرآن الكريم قد بيّن كيفية تبعية الرسل والأنبياء لمن يريد أن يتبعهم، وليس لأحد الحق أن يشرح كيفية اتباع الأنبياء والرسل كما يرى.  

الهدف من إرسال الرسل وإنزال الكتب

لقد بيّن الله تعالى في كتابه الكريم الهدف من إرسال الرسل وإنزال الكتب في آيات كثيرة، نذكر فيما يلي بعضاً منها:
1- [لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّـهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللّـهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ] ﴿الحديد: ٢٥﴾.. سبقت الإشارة إلى بعض معاني هذه الآية الكريمة، وأنها تبيّن الهدف الأساسي من إرسال الرسل وإنزال الكتب، وهو أن يقوم الناس بالقسط (أيْ بالعدل)، فالآية لا تقول: ليقوم الرسل، بل تقول: ليقوم الناس، ولا شك أن كلمة الناس تشمل الرسل أيضاً، فلا شك أن جميع الناس مسؤولون عن إقامة العدل في المجتمع، حسب هذه الآية الكريمة.
2- [فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللّـهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللّـهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللّـهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ] ﴿الشورى:١٥﴾.. يخاطب الله سبحانه وتعالى نبيّه (محمد بن عبد الله/ صلى الله عليه وسلم)، وفي الآية إشارة إلى الأمر بإقامة العدل..
3- [سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِن جَاءُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ إِنَّ اللّـهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ] ﴿المائدة:٤٢﴾.
4- [إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّـهُ وَلَا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا] ﴿النساء:١٠٥﴾.
5- [إِنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ] ﴿الزمر:٤١﴾.

ادعاء الكفار أن الله أمرهم بالظلم
هناك فكرة قديمة جديدة، وهي أن كثيراً من الظالمين والكفار - مع أنهم لا يؤمنون بالله - ولكنهم يكذبون على الله، ويزعمون أن الله أمرهم بالفحشاء والمنكر. وقد بيّن الله تعالى في كتابه كذبهم على الله، وافتراءهم عليه، في هذه الآيات:
1- [وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللّـهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّـهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللّـهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ] ﴿الأعراف: ٢٨﴾.
2- [إِنَّ الّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللّـهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا، إِلّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّـهِ يَسِيرًا] ﴿النساء:١٦٨-١٦٩﴾.
3- [مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هَـذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّـهُ وَلَـٰكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ] ﴿آل عمران : ١١٧﴾.
4- [فَبَدَّلَ الّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ] ﴿الأعراف: ١٦٢﴾.
5- [إِنَّ الّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ] ﴿آل عمران: ٢١﴾.

نموذج للأخلاق الكريمة والراقية
لقد اهتم الوحي بالأخلاق الفاضلة والكريمة اهتماماً كبيراً، وجعل على كل فرد أن يبدأ بنفسه، قبل أن يأمر الآخرين بها، لأن كل إنسان مسؤول عن عمله في هذه الدنيا ويوم القيامة، ولا يسأل الإنسان يوم القيامة عن النسب، بل يسأل عما كسب، ومعلوم للجميع أن الأقوال تؤثر في الآخرين أكثر من الأفعال، وأن الأقوال بلا أفعال لا قيمة لها ولا وزن، فكيف إذا خالفت الأفعال الأقوال؟!! فلا بد على المؤمن الداعي إلى الله أن يبدأ بنفسه، كما قال الله تعالى في كتابه الكريم: [أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ] ﴿البقرة: ٤٤﴾.. ولكن مع الأسف الشديد نرى أن أكثر الذين يدعون إلى الإصلاح والأخلاق الفاضلة، أفعالهم تدل وكأنهم يريدون إصلاح غيرهم من المجتمع، وغالباً ما ينسون أنفسهم وهم يعظون الآخرين وينصحونهم. وهناك أوامر كثيرة في هذا الموضوع تأمر المؤمن أن يبدأ بنفسه قبل الآخرين، ومنها هذه الآيات:
1- [ادْفَعْ بِالّتي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ] ﴿المؤمنون: ٩٦﴾.. إن الله تعالى يأمر المؤمن في هذه الآية أن يدفع السيئة بما هي أحسن، يعني الحسنة العظمى.
2- [وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالّتي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ] ﴿فصلت: ٣٤﴾.. وفي هذه الآية أيضاً يأمر الله تعالى المؤمن أن يدفع السيئة بالتي هي أحسن، أي بأحسن الحسنة، ولا يقابل السيئة بالسيئة، ولا ينتظر حتى يبدأ المقابل بالحسنة ثم يبدأ هو.
ومن نماذج الأخلاق الكريمة نصيحة (لقمان) لابنه، والتي ذكرها الله تعالى في كتابه الكريم، حيث يقول الله تعالى:
[وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلّـهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللّـهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ﴿١٢﴾ وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللّـهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴿١٣﴾ وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ﴿١٤﴾ وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴿١٥﴾ يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللّـهُ إِنَّ اللّـهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ﴿١٦﴾ يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴿١٧﴾ وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللّـهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ﴿١٨﴾ وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِير] ﴿ِلقمان: ١٢-١٩﴾.
يؤكد الله تعالى في هذه الآية أنه أعطى (لقمان) إتقان التصرف في الأمور والمعاملات، حيث يقول: [وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ]، تبيّن هذه الآية في البداية أن الله تعالى أعطى (لقمان) الحكمة، أيْ إتقان الأمور، ثم أمره أن يشكر الله: [أَنِ اشْكُرْ لِلّـهِ]، ثم بيّن الله تعالى: [وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ]، لأن شكر الله على نعمه هو في الحقيقة تنفيذ لأوامره، ولا شك أن تنفيذ أوامر الله يخدم مصلحة العباد.. ثم قال: [وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللّـهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ]، يعني من جحد أوامر الله ولم ينفذها، فلا يضر الله شيئاً، بل إن ضرره يرجع إليه.. ثم تبدأ نصيحة (لقمان) لابنه، بقوله تعالى: [وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ]، هنا لا بد من التدبر في هذه الآية، وقبل كل شيء لا بد أن نعرف أن الإنسان الذي كرّمه الله تعالى يظلم نفسه ظلماً عظيماً عندما يذلّ نفسه أمام مخلوق لا يستطيع أن يضرّ نفسه أو ينفع، فكيف يمكن أن يضر الآخرين أو ينفعهم؟!! وكذلك أنه يظلم نفسه عندما يجعل هذا المخلوق، الذي لا يستطيع أن يضرّ نفسه وينفعها، وسيطاً بينه وبين خالقه، الذي خلقه من العدم، وخلق السموات والأرض، وله ما في السموات الأرض، والذي وسعت رحمته كل شيء.. وكأن لسان حاله يقول: إن خالقه ظالم - نعوذ بالله- ولا يعدل، فيبحث عن وسيط عادل يجعله وسيطاً بينه وبين خالقه وخالق السموات والأرض، وكأنه لم يقرأ أبداً ولم يسمع بقوله تعالى: [وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان]، فإن هذا الخطاب هو للنبـي (صلى الله عليه وسلم)، ومع هذا لم يقل الله له: فليأتوا إليك، وليجعلوك، أو غيرك من الأنبياء والأولياء، وسيطاً بيني وبينهم، حتى أجيبهم، فإن الله تعالى أرحم وأعزّ وأجلّ من أن يقبل أن يجعل بينه وبين عباده وسيطاً.. ولا شك أن ابن آدم يظلم نفسه ظلماً كبيراً عندما يجعل مخلوقاً مثله وسيطاً بينه وبين خالقه الذي وسعت رحمته كل شيء، وهو قد أمر عباده أن يطلبوا منه، ولا يطلبوا من غيره، وكذلك يظلم نفسه بإشراكه مخلوقاً مع خالقه، ويقبل منه أوامره ونواهيه، التي يصدرها حسب هواه، وهي أغلبها ليست لصالح العباد.. وكما بينّا سابقاً، إن جميع أوامر الله، ونواهيه، هي في مصلحة العباد، ولا يوجد أمر أو نهي إلهي لا يكون في مصلحة العباد، وعندما يشرك الإنسان شيئاً مع الله، فهو يشركه معه في أوامره ونواهيه، وأن الذي يُشرَك مع الله يُصدِر الأوامر والنواهي حسب هواه، أو أن هناك من يصدر الأوامر والنواهي باسمه، وأغلبها - إن لم يكن كلّها - ليس في مصلحة العباد.. ثم يقول الله تعالى: [وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ]، لا بدّ من التدبر في هذا الأمر العظيم من النظام الذي اختاره الله لعباده. نلاحظ هنا أن الله تعالى يأمر الإنسان أن يشكره ويشكر والديه، وبيّن سبب شكر الإنسان لوالديه، وهو أن أمّه حملته وهناً على وهن، وأرضعته في عامين، فإن هذا يوجب على الإنسان أن يشكر والديه، مقابل هذه المشقة الكبيرة والعناية العظيمة. ونرى كيف أن الله تعالى جمع بين شكره وشكر الوالدين.. ثم بيّن أن مصير الإنسان في النهاية يكون إلى الله، فيرجع الجميع إلى لله رب العالمين، ويحاسبهم.. ولكن مع الأسف الشديد، مع هذا الأمر المهم من رب العالمين، نرى أن الملايين من البشر، حتى من الذين يدّعون أنهم مؤمنون، لا يحترمون آباءهم وأمهاتهم، ولا يرحمونهم، فكيف بشكرهم؟! ثم يقول الله تعالى: [وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ]، هذه الأية تبيّن أنه يجب على الإنسان أن يطيع والديه في جميع الأمور، ما عدا المعصية.. فلا شك أن هذا الأمر العظيم: [وصاحبهما في الدنيا معروفاً]، يحلّ مشاكل كثيرة في المجتمع البشري، لأنه يوجب على الإنسان أن يصاحب والديه بأحسن وجه، ويحترمهما، ويكرمهما، ثم يأمره الله تعالى أن يتّبع سبيل من أناب إليه، وأن مصير الجميع سيكون إلى الله، وأنه سينبّئهم بما كانوا يعملون في الدنيا.. والآن نريد أن نسأل هذا السؤال: هل هناك عقل سليم، يريد مصلحة المجتمع البشري، ثم يرفض مثل هذا النظام، وهذه الأخلاق الكريمة، من الاحترام والإحسان؟ فإن النظام الذي يوجب على الإنسان أن لا ينسى إحسان من أحسن إليه، نظام يحضّ على نشرالفضيلة والإحسان بين الناس، وتحريضهم على الأعمال الحسنة، والتسابق في الخيرات.. ثم يقول: [يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللّهُ إِنَّ اللّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ]، هذه الآية تبيّن أنه لا بد على الإنسان المؤمن أن يقوم بالأعمال الحسنة، ويفعل الخير، ولا يفكر في حجمها مهما كان صغيراً، فإنه أفضل من العدم، ومهما كان صغيراً، فإن الله لن يضيّعه، وأينما تكون سيأتي بها الله، إن الله عليم بكلّ شيء. وهذا دليل أيضاً على أنه لا بدّ على الإنسان المؤمن أن لا يحقر من الإحسان شيئاً، ولو كان قليلاً، فإن القليل أفضل من العدم.. ثم يقول: [يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ]، في هذه الآية يأمر (لقمان) ابنه أن يقيم الصلاة، وقد ذكرنا أهميتها وتأثيرها في المصلّي، وكذلك يأمره أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ولا يخفى على أحد أن المجتمع الذي لا يكون فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ينتشر فيه الفساد، ويتفسخ. وأفضل طريقة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، العمل قبل القول، فإن الأعمال تؤثر أكثر من الأقوال.. ومن أراد أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فلا بد عليه أن يبدأ بنفسه، كما صرّح به القرآن الكريم: قال الله تعالى: [أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ] ﴿البقرة: ٤٤﴾. إن الذين يأمرون الناس بالمعروف، وينهون عن المنكر، ولا يعملون بما يقولون، فكأنهم يكذبون على أنفسهم، وعلى الآخرين، بأعمالهم، فكيف يمكن أن يكون لكلامهم أثر في النفوس؟! ولا شك أن طريق الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ليس محفوفاً بالورود، بل محفوف بالأشواك والصعوبات والأذى، ولأجل هذا أمر (لقمان) ابنه أن يصبر على ما يصيبه، وأكّد له أن ذلك من عزم الأمور، يعني من الأعمال العظيمة، ولا شك أنه لا يمكن أن يقوم بعمل عظيم غير من يكون له عزم كبير، ولا يقوم بالأعمال العظيمة إلا العظماء.. ثم يقول: [وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ]، نرى في هذه الآية أن (لقمان) يأمر ابنه أن لا يميل خدّه من الكبر، وكذلك يأمره أن لا يمشي في الأرض شديد الفرح إلى حدّ الطرب، ويؤكّد له أن الله تعالى لا يحبّ المتكبرين، والذين يفتخرون على الناس.. فأيّ عقل سليم، يريد الخير للعباد، يمكن أن يرفض هذه الأخلاق الكريمة، وهذا النظام العظيم؟!.. لا يمكن أن يتصور أن أصحاب العقول السليمة، والنفوس الكريمة، الذين يريدون الخير للمجتمع البشري، أن ينكروا مثل هذه القيم، ولا يتصور أن ينكرها إلا من يريد أن يتكبّر على الناس، ويتخذهم عبيداً.. ثم يقول: [وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِير]، أيْ ارْفُقْ بنفسك، واخفض من صوتك، إن أنكر الأصوات - أيْ أقبح الأصوات، التي لا يسكن إليها القلب - لصوت الحمير.. فلا بدّ على المؤمن الالتزام بالأخلاق الحسنة، ومنها أسلوب الخطاب مع الآخرين، وخفض الصوت، وعدم رفعه، مهما يكن المخاطب.. فهل يمكن لشخص يدّعي أنه يريد الخير والسعادة للمجتمع البشري، ثم يرفض هذه الأخلاق الكريمة، ويحرّض الآخرين على رفضها؟
إن الذين يدعون العباد إلى الإشراك بالله، لا يكتفون بعدم الإيمان بعدالة الله، بل يسعون إلى التدخل في أمر الله، ويظهرون للناس أنهم يعترفون بالله، مع هذا يبحثون عن شركاء ليتوسطوا لهم عند الله، ويشفعوا لهم، ويشرحون للناس كيفية شفاعة هؤلاء الشركاء عند الله، فيزعمون أنهم يقرّبون الذين يعبدونهم، ويعظمونهم، زلفى إلى الله.. قال الله: [أَلَا لِلّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللّهِ زُلْفَى إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفّارٌ]﴿الزمر: ٣﴾، نرى هنا أن دعاة الشرك أيضاً يظهرون للعباد أنهم لا ينكرون عبادة الله، ويزعمون أن عبادتهم لهؤلاء الشركاء هي في الحقيقة فقط لأجل أن يقربوهم إلى الله أكثر! فلا شك أن هؤلاء من جهة لا يؤمنون بعدالة الله، ويبحثون عن الوسطاء ليتوسطوا لهم عند الله، ويقولون للناس إن شفاعتهم مقبولة عند الله، فلا بد على من يريد أن يتقرب إلى الله أن يعظمّوهم ليحصلوا على شفاعتهم عند الله. ومن جهة أخرى، يريدون أن يثبتوا للعباد العلاقة القوية والمتينة بينهم وبين هؤلاء الشركاء، الوسطاء بين الله وبين العباد، ليستظلّوا بظلّهم، ويتكبّروا على الناس، فيشفعوا لهم عند الشفعاء الذين صنعتهم خيالاتهم وأفكارهم، وأظهرتهم كشركاء لله تعالى.. فهؤلاء لا يقبلون - بأيّ شكل من الأشكال - بالمساواة بين أفراد البشر، فمما لا شك فيه أن الشرك لظلم عظيم، كما قال الله تعالى: [إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ]، ولأجل هذا قال الله تعالى مخاطباً نبيّه (محمد بن عبد الله/ صلى الله عليه وسلم): [وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ]﴿الزمر: ٦٥﴾، فإن الله تعالى لم يعط لأحد حقّ التدخل في أمره مهما كان.. لا شك أن دعاة الشرك بالله يخترعون أنواعاً من الشركاء، من عند أنفسهم، فيمكن أن تصنعه لهم أيديهم، أو يمكن أن تصنع لهم أفكارهم وتخيلاتهم، شريكاً أو شركاء.. على سبيل المثال، يمكن أن يجعل دعاة الشرك قوميتهم وجنسهم فوق بقية الأقوام والأجناس، ويصنعوا الأقوال والروايات باسم الله، وباسم دينه، على عظمة وأفضلية قومهم وجنسهم على الآخرين! ويمكن أن يجعلوا مذهبهم شريكاً لله، ويصنعوا أقوالاً وروايات باسم الله، وباسم الدين، ويدّعوا أن من يكون خارج مذهبهم فمصيره إلى جهنم وبئس المصير، ولا يقبل الله تعالى منه شيئاً، وإنْ عبد الله وتصدّق وأنفق في سبيل الله وجاهد في سبيله!.. وكأنّ لسان حال هؤلاء يقول إن الله تعالى لا يقبل شيئاً من أعمال العباد بدون موافقة مذهبهم. ومن أظلم ممن كذب على الله؟!.. فهؤلاء يفرّقون ويميّزون حسب هواهم بين عباد الله، على أساس النسب أو القومية أو القطر (أيْ المكان الذي ولد فيه)، أو أي سبب آخر من الأسباب التي ليس للإنسان دخل فيها، فلا أحد من البشر اختار أباه، ولا أحد منهم اختار قوميته، ولا أحد منهم اختار المكان الذي ولد فيه.. وللعلم إن المجتمع الراقي والسعيد هو المجتمع الذين يقدّر أفراده باعمالهم، فإن كانت أعمالهم مفيدة وجيدة، فهم جيدون ومفيدون للمجتمع، وإن كانت أعمالهم سيئة وغير مفيدة للمجتمع، فهم مثل أعمالهم لا هم جيدون ولا هم مفيدون للمجتمع.. إن المجتمع الذي يقدّر أفراده بنسبهم أو قوميتهم، ويعظّم الفرد لأجل نسبه أو قوميته أوالمكان الذي ولد فيه، فهو مجتمع فاشل ومتخلّف وبائس وخال من الأخلاق الكريمة، وهو مجتمع متفسّخ، والمجتمع المتفسّخ صعب التعامل معه، فكيف يمكن إقامة العدل فيه؟ ولن يتحسن وضعه حتى يغيّر ما به من هذه الصفات السيئة.. ولأجل هذا نرى أن القرآن الكريم يأمر المؤمن أن يبدأ بنفسه قبل أن يبدأ بالآخرين، لأنه مسؤول عن عمله، وليس بمسؤول عن نسبه، وكذلك يأمره أن لا ينتظر أن يفعل الآخرون الحسنة ثم يقابلهم بالإحسان، بل يأمره أن يبدأ هو بالإحسان.. مع وجود هذا النظام القيم، الذي يريد للمجتمع البشري الخير والسعادة والأخلاق الكريمة، يكذب أناس على الله، وعلى الناس، ويزعمون أن دين الله ليس لمصلحة العباد.. قد يكون سببه أنهم يرون ويسمعون شيئاً آخر من رجال الدين، وقد يكون لمرض في قلوبهم، ولغيظ في صدورهم، ولأنهم يريدون أن يعبدوا الشيطان، فيأمرون بالفحشاء والمنكر والبغي، ولنشر الفساد والظلم بين الناس، عسى ولعل أن يحصلوا على العظمة التي وعدهم الشيطان بها، فيتكبروا على الناس، ويطغوا في الأرض، ويفسدوا فيها.

 عبادة الشيطان
إن الوحي يأمر بعبادة الله، وينهى عن عبادة الشيطان، فالإنسان إما أن يعبد الله وحده، وينفّذ أوامره، ويقوم بالعدل والقسط، أو أن يعبد الشيطان، فيأمر بالفحشاء والمنكر والبغي، وينصر كل من يدعو إلى عبادة الشيطان.. وكما هو معلوم أن الله تعالى خلق الإنس والجن ليعبدوه، وأمر بني آدم أن لا يعبدوا الشيطان، حيث قال الله تعال: [أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مّبِينٌ]﴿يس: ٦٠﴾، هذه الآية تبيّن أن الله تعالى حرّم على بني آدم عبادة الشيطان، وأكّد أنه لهم عدو مبين. فما دام أن الله تعالى قد أمر بني آدم أن لا يعبدوا الشيطان، فلا شك أن له أوامر يأمر بها بني آدم، ويزيّنها لهم.. إذاً فما هي تلك الأوامر التي يأمر الشيطان أتباعه بها، ونهى القرآن أن يعبدوه فيطيعوه وينفّذوا أوامره؟ لقد بيّن الله تعالى بعض تلك الأوامر الشيطانية في القرآن الكريم، حيث قال: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ . إِنَّمَا يَأْمُرُكُم بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللّـهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ] ﴿البقرة: ١٦٨، ١٦٩﴾، وقال الله تعالى: [الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ وَاللّـهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلًا وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ] ﴿البقرة: ٢٦٨﴾، وقال الله تعالى: [يَا أَيُّهَا الّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَىٰ مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَـٰكِنَّ اللّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]﴿النور: ٢١﴾.. عندما نتأمل في هذه الأوامر الشيطانية، ونتأمل في أفعال وأعمال المجتمع بشكل عام، نرى أن كثيراً من الناس يعبدون الشيطان في الأفعال والأعمال، ويلعنونه بالألفاظ والأقوال.

خلاصة الموضوع
مما لا شك فيه أن جميع أوامرالله هي لمصلحة العباد، وعلى رأسها إقامة العدل، وإقامة الصلاة، وأنه لا يوجد في الدين شيء خاص اسمه (العبادة)، وأن التعبّد بمعنى التفرّغ والبقاء في مكان خاص، سواء في المسجد أو في أيّ مكان للعبادة، مخالف لروح الدين، وأن معنى العبادة في الحقيقة يعني تنفيذ أوامر الله كما أمر.. وتبيّن أن تجمّع المؤمنين في المسجد لإقامة صلاة الجماعة، ليس فقط لقيام بعض الحركات، وقراءة بعض العبارات والألفاظ، بل لا بد أن تكون للصلاة بشكل عام، وصلاة الجماعة بشكل خاص، أثر كبير في تصرفات المصلين في المجتمع. فلا فائدة في صلاة لا تنهى عن الفحشاء والمنكر والبغي. وتبيّن أنه لا بد على المؤمنين أن يقيموا صلاة الجماعة بقدر الاستطاعة، لكن إذا قضيت الصلاة فلا بد عليهم أن ينتشروا في الأرض، ليبتغوا من فضل الله، أما البقاء في المسجد، أو في أيّ مكان آخر، فهو مخالف لروح الدين، ومعنى العبادة.. بل إن الذي يخرج من المسجد، بعد إقامة الصلاة، ويذهب لبناء معمل، أو أيّ عمل آخر، ليفيد المؤمنين، هو الذي يستمر في عبادة الله، بشرط أن لا يخالف أوامر الله.. أما الذين يبقون في المساجد، وأماكن أخرى، بادعاء أنهم يعبدون الله، فيكونون ثقلاً على المؤمنين، فهؤلاء في الحقيقة يعصون الله، ولا يعبدونه.. ألم يقل الله تعالى في كتابه مخاطبا للمؤمنين: [يَا أَيُّهَا الّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴿٩﴾ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللّهِ وَاذْكُرُوا اللّهَ كَثِيرًا لّعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴿١٠﴾ وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِندَ اللّـهِ خَيْرٌ مِّنَ اللّـهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللّـهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ] ﴿الجمعة: ٩-١١﴾، فهذه الآية تبيّن لنا أنه يجب على المؤمنين أن ينتشروا في الأرض بعد انقضاء الصلاة، ويبتغوا من فضل الله. وهذه الآية تبيّن لنا أيضاً التأثير المشترك للصلاة والذكر، كما قال الله: [فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللّـهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ].. فإن الصلاة هي عماد الدين، ويجب على المؤمنين إقامتها على أحسن حال، وإن الصلاة هي بمعنى الدعاء، وإن الدعاء مخّ العبادة، والمؤمن يصلّي ويطلب العون من الله في صلاته، ليهديه إلى [الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين].. لقد ذكر الله تعالى في كتابه مراراً وتكراراً صفات الذين أنعم الله عليهم، وكذلك صفات المغضوب عليهم، وصفات الضالّين، فلا داعي أن يتعب أحد نفسه ويفسّرها بغير ما بيّنه الله تعالى في كتابه، أو يخصّها ببعض الذين ذكرهم الله تعالى في كتابه. وكذلك تبيّن أن أثر الذكر في تزكية النفس، وإبعاد الذاكرين عن الفحشاء والمنكر والبغي، ليس بأقلّ من الصلاة، كما قال الله تعالى: [وَاذْكُرُوا اللّـهَ كَثِيرًا لّعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ].
مع هذا كله، فإن أبسط الأمور التي تقام في المسجد، لا تراعى خارج المسجد.. على سبيل المثال، فإن مما لا شك فيه أن صفوف الصلاة في المسجد، والوقوف فيها، تعلّمنا معنى المساواة وعدم التمييز، لأننا لا نرى أيّ نوع من التمييز فيها، فليس هناك أيّ مكان خاص لأحد في الصفوف، فالذي يدخل المسجد مبكراً يتقدّم، والذي يدخل متأخراً يبقى في الخلف، وليس له أن يتقدّم ويؤخر الآخرين.. ولا تميّز بين المصلين لا في الصفوف، ولا في الوقوف.. ولم يستثن أحد من إقامة الصلاة، بل يجب على الجميع إقامتها، وليس لأحد حق أن يؤخّر أحداً ويتقدم هو في الصفوف.. وكما هو معلوم للجميع، ليس هناك في المسجد أيّ مكان خاص لمن يسمّون أنفسهم أشرافاً، أو أصحاب النسب والحسب، أو... ولا يخفى على أحد أنه من الصعب، إن لم يكن مستحيلاً، إقامة العدل في مجتمعات تسيطر عليها فكرة تعظيم الأشراف، وأصحاب النسب والحسب، بدون النظر إلى أعمالهم.. وبمجرد أن هذه طبقات تسمّي نفسها الأشراف، ويكون فيها دور للنسب، وبمجرد أن فلان هو من ذرية فلان، فإنه مكّرم.. وكذلك في المجتمعات التي لا تنظر إلى الفرد كشخص مستقل، ولا يقدّر الفرد بعمله، أيْ إنْ كان عمله صالحاً ومفيداً للمجتمع، فهو صالح ومفيد للمجتمع مثل عمله، وإن كان عمله غير صالح وغير مفيد للمجتمع، فهو مثل عمله ليس بصالح ولا مفيد للمجتمع.. وكذلك من المستحيل تطبيق العدالة في المجتمعات التي تقدّس الأفراد، وتقدّس العوائل والطبقات، ولأجل هذا نرى أن النظام الذي أرسله الله تعالى لعباده ليس فيه شيء من هذه الألقاب (خلافاً للنظام الذي يبيّنه رجال الدين للناس، ويزعمون أنه من عند الله)، بل الإنسان يقدّر بعمله، لأنه مسؤول عمّا يكسب، وليس عمّا ينسب، فإن كان عمله جيداً ومفيداً للمجتمع، فهو كذلك، وإن كان عمله غير مفيد للمجتمع، فهو مثل عمله ليس بمفيد للمجتمع، كائناً من كان كان أبوه أو عشيرته أو نسبه.. نرى أن ابن (نوح) لم يفده نسبه، لأنه كان صاحب عمل غير صالح، وكذلك نرى أن نسب (إبراهيم) عليه السلام لم يضره، مع أن اباه كان عابد الأصنام، وصانعها، فاختاره الله للرسالة، وبعثه رسولاً، وجعل في ذريته النبوة، مع هذا لم يقبل الله تعالى من (إبراهيم) طلبه بشكل مطلق، عندما طلب منه أن يجعل من ذريته إماماً للناس، بعدما قال له ربه: إني جاعلك للناس إماماً، قال: ومن ذريتي، قال: لا ينال عهدي الظالمين.
محاولة لتوضيح جواب بعض الأسئلة القديمة الجديدة:
هناك بعض الأسئلة هي قديمة وجديدة، تشغل بال كثير من الناس، وقد خاض فيها الفلاسفة والمنطقيون والكلاميون ورجال الدين أجمعون، منذ آلاف السنين، خوضاً، مثل: ماذا سيخسر الله، إن لم يعبده الناس؟ وماذا سيستفيد الله من عبادة الناس، إذا عبدوه وحده؟ وماذا سيخسر الناس، إن لم يعبدوا الله ؟ وماذا سيستفيدون، إذا عبدوا الله وحده؟ لا أريد أن أخوض في المصطلحات الفلسفية والمنطقية والكلامية، للإجابة على هذه الأسئلة، لأن الذين خاضوا فيها للإجابة على هذه الأسئلة لم يصلوا إلى نتائج مقنعة ومرضية، بل أكثرهم إما أقنعوا أنفسهم بها، أو دخلوا في أشياء لا علاقة لها بها، ولقنّوها الناس.. بل سأحاول الإجابة عليها بعبارات واضحة وبينة ومختصرة جداً من القرآن، وبعيدة عن المصطلحات الفلسفية والمنطقية المعقدة، فندخل الموضوع بالأسئلة كما يلي:
ماذا سيخسر الله تعالى، إن لم يعبده العباد وحده لا شريك له؟
فلنقرأ جواب هذا السؤال من كتاب الله تعالى في هذه الآية: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللّـهِ وَاللّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ]﴿فاطر: ١٥﴾. إذاً الجواب بسيط جداً، فلن يخسر الله تعالى شيئاً، ولو كفر جميع الناس، وصاروا على قلب أشقى رجل على وجه الأرض. وهناك آيات كثيرة، وروايات، بهذا المفهوم والمعنى.
وماذا سيستفيد الله من عبادة العباد، إذا عبدوه وحده لا شريك له؟
فلنقرأ جواب هذا السؤال أيضاً من كتاب الله تعالى في هذه الآيات:
1- [لِلّـهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ]﴿لقمان: ٢٦﴾.
 2- [وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكّرُونَ]﴿الجاثية: ١٣﴾.
 3- [وَلِلّـهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى]﴿النجم:٣١﴾.
إن هذه الآيات تبيّن لنا، بعبارة واضحة وبيّنة، أن ما في السموات وما في الأرض، هو ملك لله، وأن الله هو الغني الحميد. إذاً فإن الله لن يستفيد شيئاً من عبادة العباد، ولو عبده جميع الناس، وصاروا على قلب أتقى رجل على وجه الأرض. وهناك آيات كثيرة في القرآن الكريم، دالّة على هذا المعنى.
ماذا سيستفيد الناس إذا عبدوا الله وحده لا شريك له ؟
فليعلم الجميع أنه لا معنى لعبادة الله بدون إقامة العدل، كما سبق، فإذا عبد الناس الله وحده لا شريك له، ونفّذوا أوامر الله، فأقاموا العدل فيما بينهم، وعمّروا الأرض، ولم يسعوا في الفساد في الأرض، وأصلحوا المجتمع البشري، ونشروا الصداقة والمحبة بين الناس، وأنفقوا أموالهم في سبيل الله، وأطعموا في سبيل الله إخوانهم في الإنسانية، بدون أن يطلبوا منهم جزاء ولا شكوراً، فإن الفائدة ستعود على العابدين، والبشرية.. ولا شك أن إقامة العدل، وعمارة الأرض، والإصلاح فيها، والإنفاق في سبيل الله، كلها من أوامر الله، وهي أعمال صالحة تنشر المحبة والصداقة بين الناس، فلا بد منها.. ولا يخفى على أحد أن معنى إقامة العدل، أن يحصل كل واحد على حقّه، فلا يظلم أحد.. ولا يخفى أيضاً على الناس، أن من معاني إصلاح المجتمع، أن لا يتكبّر بعضهم على بعض، لأن من يريد إصلاح المجتمع يبدأ بنفسه، فالمصلحون الذين يحسبون أنفسهم عبيداً لله، لا يتكبّرون على عباد الله، وعلى أخوانهم في الإنسانية، فكيف بالتعدي على حقوق الآخرين؟ وهل يخفى على أحد أن الأعمال الصالحة تنشر المحبة بين الناس، وتكون سبباً أن تأخذ الصداقة مكان العداوة والبغضاء، ويأخذ التواضع مكان التكبر. حسب علمي في زمن النبـي (صلى الله عليه وسلم)، لم يكن الناس يسألونه عن العبادات، لا أفضلها ولا أحسنها، بل كانوا يسألون عن أفضل الأعمال، ولكن عندما أراد بعض الناس أن يبعدوا الدين عن الحياة، قسّموا الدين إلى (العبادات) و(المعاملات)، فبدأ الناس يسألون عن أفضل العبادات - وهو الأمر الذي ليس له أساس في الدين - ويتفرّغون لها، بادعاء أنهم يعبدون الله، ويتركون تنفيذ أوامره في المجتمع، مثل إقامة العدل، ولا يهمهم ما نهى الله عنه، على سبيل المثال قول الله تعالى: [ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسّكم النار]، وكأنّ هذه الأوامر والنواهي ليس لمعبودهم!!
ماذا سيخسر الناس إن لم يعبدوا الله وحده؟
لا شك إذا عصى الناس رب العالمين، ولم ينفذوا أوامره، فسيقتل بعضهم بعضاً، ويسفكوا دماء بعضهم البعض، ويتخذوا بعضهم بعضاً أرباباً، ويتكبّر بعضهم على بعض، ويظلم بعضهم بعضاً، ويأكل الضعيف القوي، وينتشر الفساد في البر والبحر بسبب أعمالهم، ولن يخسر الله شيئاً، ولكن الناس سيخسرون خسارة كبيرة، بل سيخسرون كلّ شيء.. وكذلك الأمر إذا غيّر معنى العبادة، وأفرغت عن معناها الحقيقي. ولا شك أن من لم يعبد الله، ولم ينفذ أوامره، فسيعبد الشيطان، وينفّذ أوامره.. ومعلوم أن معنى عبادة الشيطان يعني تنفيذ أوامره، ولا شك أن أوامره كلّها شرّ، تأمر بالفحشاء والمنكر، وهناك من أتباعه من يأمرون بالإفساد بين العباد، والإفساد في الأرض، والدعوة إلى طاعة الطواغيت والمستبدين والمستكبرين، وتزيين أعمالهم.. مع الأسف الشديد، إن كثيراً من الناس يقومون بهذه الأوامر الشيطانية، فيبرّرون أعمال المستبدين والطواغيت باسم الله واسم الدين، ويزيّنونها لهم، ويصورونها للعباد، وكأنها أوامر إلهية، فيدعمون الشيطان على صدّ الناس عن سبيل الله، وإضلالهم، وإبعادهم عن دين الله، ولكن باسم الله، وليس باسم الشيطان.. أليس من يقوم بهذه الأعمال هو متحالف مع الشيطان، لإغواء الناس، وإبعادهم عن الهداية والطريق المستقيم؟ إن لم يكن هؤلاء متحالفين مع الشيطان، فلماذا يزيّنون أوامره، وكأنها أوامر إلهيّة، ويدافعون عن المستبدين والمستكبرين، ويبرّرون أعمالهم باسم الدين، ويفترون على الله الكذب؟!

الهدف من خلق الإنسان

بعدما تبيّن لنا معنى العبادة، نشير هنا إلى السؤال الشائع بين الناس، وهو سؤال قديم ومجدد، وقد خاض فيه الفلاسفة والمنطقيون والكلاميون ورجال الدين كلهم أجمعون منذ آلاف السنين، وهو: لماذا خلق الله العباد؟ وقد أجاب الله تعالى على هذا السؤال في كتابه الكريم، حيث قال: [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلّا لِيَعْبُدُونِ. مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ. إِنَّ اللّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ]﴿الذاريات: ٥٦-٥٨﴾، هذه الآيات تبيّن أن الهدف من خلق العباد هو أن يعبدوا الله رب العالمين، أيْ يطيعوه وينفّذوا أوامره.. وقد سبق بيان معنى العبادة في اللغة، وهي بمعنى الطاعة، فمعنى عبادة الله يعني تنفيذ أوامره.. وقد أشير إلى بعض أوامر الله ونواهيه، فيما سبق، وهي كلّها لمصلحة العباد.. وبعبارة أخرى، إن الذين يعبدون الله، هم الذين ينفّذون أوامره، فلا معنى للعبادة بدون تنفيذ أوامر الله، ولا معنى لتنفيذ أوامر الله بدون إقامة العدل، ومحاربة الظلم والظالمين.. ثم يقول الله تعالى: [مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ]، وهذا دليل واضح وبيّن أن الله تعالى لا يريد من العباد لنفسه شيئاً، لأنه غنيّ، ولا يحتاج إلى شيء من العباد، بل إن المطلوب من العباد هو عبادته وحده، أيْ تنفيذ أوامره ونواهيه، وجميع أوامره ونواهيه - كما ذكرنا مراراً - هي في مصلحة العباد، وليست للإضرار بهم، فإن الذي ينفّذ أوامر الله، لا يمكن أن يضرّ العباد على علم، وإنْ أضرّ نفسه وذويه.. ولقد سبق أن ذكرنا، أن الهدف الأساسي من إرسال الرسل وإنزال الكتب أن يقوم الناس بالقسط، يعني العدل، كما قال الله تعالى: [لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّـهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ]﴿الحديد:٢٥﴾.. وهناك آيات كثيرة في هذا الموضوع، ذكرنا بعضاً منها، مثل: [إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي]، ولا شك أن هذا الأمر يوجب إقامة العدل، وعدم التمييز والتفريق بين عباد الله تعالى في إقامة العدل، ولأجل هذا نرى أن الله تعالى يأمر بالتعاون على البرّ والتقوى، وينهى عن التعاون على الإثم والعدوان.. وخلاصة الكلام، إن الله تعالى خلق العباد لكي يقيموا العدل فيما بينهم في هذه الدنيا، وسيحشرهم لكي يقيم عليهم العدل، ويجازيهم طبقاً لأعمالهم في الآخرِة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق