01‏/01‏/2017

ندوة فكرية تبرز دور العلماء المسلمين في مواجهة التطرف والغلو

 أربيل: الحوار
تحت شعار (دور العلماء المسلمين في مواجهة التطرف والغلو)، عقد فرع كوردستان لـ(المنتدى العالمي للوسطية) يوم الخميس الموافق 28/10/2016، ندوة فكرية تناولت دور العلماء المسلمين في مواجهة تيارات التطرف واتجاهات الغلو الديني.
عقدت الندوة بـ(أربيل)، وكانت الثانية في عاصمة إقليم كوردستان، وحضرها عدد من علماء الدين الإسلامي وشخصيات فكرية ومجتمعية، إلى جانب مجموعة من الصحفيين وطلبة علوم الشريعة.

ويهدف (المنتدى العالمي للوسطية) في فرعه الكوردستاني من عقد هذه الندوات الفكرية والعلمية إلى توحيد توجهات العلماء المسلمين الكورد المقاصدية في بيان بطلان مزاعم تيارات التكفير وحركات التطرف باسم الدين، وتفنيد حججهم الظاهرية حيال المسائل المتعلقة بتحكيم الشريعة وإقامة الخلافة، ودحض قواعد اختلقوها لتبرير مسالكهم الإجرامية في التعامل مع المجتمعات الإسلامية.

ويبتغي المنتدى منذ تأسيس فرعه الكوردستاني لأن يكون الجبهة الفكرية والتوعوية للمجتمع الكوردي لمساندة الجبهة الميدانية ضد ما يسمى بـ(تنظيم الدولة)، والمعروف إعلامياً بداعش.

وكان المتحدث الرئيس في هذه الندوة: المفكر والأكاديمي المعروف الدكتور (محسن عبد الحميد). وأدار الندوة وقدّم لها الأستاذ (عمر إسماعيل)، عضو هيئة الأمناء بالمنتدى، حيث قال في معرض تقديمه: "ليس بخاف علينا أن العلماء المسلمين يتبوؤن مكانة قيادية ومجتمعية، وتقع على عواتقهم مسؤوليات جسام، ويؤدون دوراً حساساً ومصيرياً، والقرآن الكريم بيّن لنا في آيتين جامعتين مانعتين مقام العلماء من خلال ربطه جلّ شأنه اسم عظمته باسم العلماء، قوله تعالى: {شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالمَلاَئِكَةُ وَأُولُو العِلْمِ قَائِماً بِالقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَ هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ}، وقوله تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}، والرسول (عليه الصلاة والسلام) أوضح لنا دور العلماء ومهامهم  بقوله في حديث شريف: "إن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً إنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر"، رواه الترمذي وغيره، وصححه الألباني.
وخاطب الأستاذ (عمر إسماعيل) الحضور، موضحاً وظيفة العلماء كونهم حائط الصد الأول بوجه التطرف والإرهاب، قائلا: "من المعلوم لدى حضراتكم أن مفردة (ورثوا) تعني تلقي مضامين الرسالة السماوية وديمومة حمل لواء النبوة، وهذه المهمة تأتي في سياق الأوقات الاعتيادية، فكيف إذا اضطربت الأوضاع، وحلّت الأزمات، حيث الوطن بكافة انتماءاته يواجه المشاكل، وتعصف بالأمة الإسلامية المحن، وتحاك ضدها المؤامرات، بأشكال وأدوات شتى، والمتربصون بالأمة يسعون إلى تشويه الهوية الإسلامية والأخلاقية.. ففي وقت اشتداد الخطوب تكون وظيفة العلماء الربانيين على النحو التالي:
أولاً: قيادة المسيرة وحماية وتوجيه أفراد المجتمع. ثانياً: نشر الوعي وتثقيف الأمة، من خلال نشر العلم وإشاعة الفكر المعتدل. ثالثاً: إيصال الرسالة السماوية بالشكل الصحيح وتربية وإعداد المجتمع. رابعاً: تجميع وتوحيد فئات المجتمع على الأخوة الإيمانية. خامساً: العمل على رفع المعنويات وزيادة مستوى الثقة والتلاحم الداخلي. سادساً: قيادة جبهة الإصلاح والنضال والكفاح ضد الظلم والفساد وغياب العدالة".
وأفرد الأستاذ (عمر إسماعيل) جزءاً من كلامه ليبرز دور العلماء المسلمين الكورد في الماضي والحاضر، حيث قال: "برز في الأمة الكوردية علماء ربانيون لا حصر لهم مقارنة بالأمم الأخرى، كانت لهم إسهامات حضارية عظيمة ومواقف جريئة لا تعد، فالأمة الكوردية أمة مهضومة الحقوق ومسلوبة الهوية القومية، كان أول المدافعين لاسترداد حقوق شعبها العلماء، فهم كانوا حاملي لواء الثورات السياسية، والحركات الفكرية والأدبية، وحتى الثورات المسلحة في مراحل مختلفة من نضال الأمة الكوردية، حيث ظهر رجال عظام أمثال (الشيخ محمود الحفيد) و(الشيخ سعيد بيران) و(قاضي محمد) و(بديع الزمان سعيد النورسي) و(بيرميرد)، وهنالك العشرات بل المئات لا يسع الوقت لذكرهم، من حملة لواء الثورة القومية والإصلاح الاجتماعي، وبنات الثقافة القومية الرصينة".
واختتم قائلاً: "ولو نحينا سير العلماء والمساجد والتكايا والخانقاهات من التاريخ الكوردي لأصبح هذا التاريخ أقرب إلى الصفر"، مضيفاً: "اليوم يواجه العالم الإسلامي، وخاصة منطقة الشرق الأوسط، بما فيها إقليمنا – إقليم كوردستان- موجة تطرف ديني، وإن كان في جزء منها، باعتقادي، مؤامرة سياسية تستهدف الإسلام والمسلمين، لكن الجزء الأكبر على علاقة بالقضايا الفكرية والعلمية، من قبيل الفهم الخاطىء، وسوء استعمال وتوظيف بعض الفتاوى والمواقف والأحداث التاريخية، هي في الأصل كانت انعكاساً لأوضاع ثقافية واجتماعية خاصة شهدتها العصور السالفة، وحتى في تلكم العصور كانت مثار رفض وانتقادات، فما بالكم إذا وظفت في عصرنا الحالي حيث التقدم الحاصل في المجتمعات والتغيرات التي طرأت على أنماط الحياة، بالتأكيد، رغم مخالفتها لجوهر الإسلام ومبادئه، هي ضد الإنسانية وأسلوب المعيشة العصرية"، مؤكداً: "وانطلاقا من هذا الفهم يعدّ المنهج الاعتدالي، والفهم المقاصدي للنصوص والأحكام الشرعية، وسيلة ناجحة وسلاحاً فعالاً لمواجهة الغلو الفكري والتطرف السلوكي، وأفضل إجابة على الأسئلة المغرضة التي يثيرها المناهضون للإسلام".

وبعدها قدّم المفكر والأكاديمي الدكتور (محسن عبد الحميد)، ورقته المعنونة: (المنهج المقاصدي في مواجهة الفكر المتطرف)، مبتدئاً بالقول: "لم يكن المسلمون في أيّ عصر من العصور أحوج إلى المنهج المقاصدي في فهم دينهم كعصرنا الحاضر، ذلك لأن المنهج المقاصدي هو منهج (القرآن الكريم)، و(القرآن) لم ينزل حتى نقرأ ألفاظه، نعم، قراءة ألفاظه عبادة، ولكن الهدف الأساسي ليس فهم ظاهر (القرآن)، بل المراد التعمق في ألفاظه وفهم عباراته، لنقف على الأسرار والمقاصد الربانية، ذلك لأن الآيات والنصوص نزلت لتحقيق مصالح العباد، جلها ودقها، فإذن كيف نحقق هذه المصالح، التي تتعلق بالدين والنفس والعقل والنسل والمال، وما يتفرّع عن تلكم الضروريات من جزئيات؟"، مضيفاً: "في الصدر الأول من الإسلام، ابتداءاً من رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، والخلفاء الراشدين، وتابعيهم، والأئمة الذين صاغوا هذه المذاهب بناءً على الاجتهادات أو فهم الدين، جلّهم كانوا يسيرون على مقاصد الشريعة".
وأشار الدكتور (محسن عبد الحميد) أثناء عرض ورقته العلمية، إلى مواقف تاريخية أهمل فيها العمل بالمنهج المقاصدي، مبيّناً مقطعاً تاريخياً من أثر الإمام (أبو المعالي الجويني) الملقب بـ( إمام الحرمين)، وهو شيخ (أبو حامد الغزالي)، وهو يشكو انشغال الفقهاء بالجزئيات لدرجة أنها كانت الشغل الشاغل في حياتهم ومحاور رئيسة في فقههم، غير مدركين مقاصد الإسلام وكلياته، فقال (إمام الحرمين): إن الفقهاء في عصره لم يفهموا الشريعة.. فكان (الجويني) وتلميذه (الغزالي) يؤكدان على المقاصد منهجاً في فهم الشريعة وتطبيقها.   
واستدرك الدكتور (محسن عبد الحميد): "والحق إن غاية الإسلام من الوحي الذي أنزله الله تعالى على رسوله، وهو الكلمة الأخيرة التي بلّغها الرسول (عليه الصلاة والسلام) للبشرية، هذا الوحي، سقف معصوم في قطعياته، ورغم ذاك يتسنى للمجتهدين أن يبنوا عليه في كل عصر مجموعة من المقاصد والكليات التي يسيرون وفقها الحياة، لأن الحياة لا يمكن تسييرها بالجزئيات فقط"، موضحاً: "خسارتنا أمام القانون الغربي كانت بانشغالنا بالجزئيات".
وعرض الدكتور (محسن عبد الحميد) مواقف لعلماء بارزين في الحقب الإسلامية السابقة وهم ينكرون على المشتغلين بالجزئيات على حساب المقاصد والكليات، ومنهم الفقيه الأصولي الكبير الإمام (شهاب الدين القرافي)، إذ يقول في مصنّفه (الفروق): "ومن خرّج الفروع بالمناسبات الجزئية غير الكلية تناقضت عليه الفروع واختلفت، ومن خَرّج الفروع بالمناسبات الجزئية غير الكلية تناقضت عليه الفروع واختلفت، وتزلزلت خواطره فيها، وضاقت نفسه لذلك وقنطت، لانشغاله بحفظ الجزئيات التي لا تتناها، وينقضي العمر، ولن تنقضي نفسه من طلب مناها، ومن ضبط بقواعده استغنى عن حفظ أكثر الجزئيات، لاندراجها في الكليات". أما الإمام (أبو محمد الشاطبـي) فيقول: "مقاصد الشرع في بث مصالح التشريع أن تكون مطلقة، لا تختص باباً بغير باب، ولا محل دون محل، ولا بمحل وفاق دون محل خلاف، وبالجملة، الأمر في المصالح مضطرد، مطلق في كليات الشريعة وجزئياتها، لأن من تجميع الجزئيات نستنتج المقصد الأسمى أو المطلوب من الشريعة، أو من جل تلك القضايا التي تواجهنا".. وأما الإمام (ابن القيم الجوزية) فيقول: "نحتاج إلى علمين، علم الواجب وعلم الواقع، فعلم الواجب أن يكون لنا رسوخ في فهم الشريعة، ولا يكون الرسوخ في فهم الشريعة بدراسة مذهب واحد، ولا بدراسة الألفاظ ولا بدراسة تجميع النصوص"، والكلام للدكتور (محسن عبد الحميد)، "ويقصد ابن القيم الاتقان في الألفاظ ليس بوجهة واحدة ولا برواية واحدة، بل بكل الروايات الصحيحة لمعاني الألفاظ، لأن الفقيه لن يصل إلى درجة الاجتهاد حتى يكون مطلعاً على ما أوردنا ذكره، وفوق ذاك يجب الاستنباط من كل المذاهب التي نعرفها، وأن يزيد عليها من زمانه، وأن يسقط النص على الواقع بما يحويه من متغيرات".
واختتم الدكتور (محسن عبد الحميد) عرض مضامين ورقته بالإشارة إلى أنه حالياً منكب على تأليف كتاب بعنوان (منظومة القتال في القرآن)، يرد فيها على منتهجي العنف والتطرف باسم الجهاد والقتال، وهما مفردتان وردتا في القرآن ضمن منظومة متكاملة من المقاصد، لا يمكن تجزأتها إطلاقاً، فإذا حدث ذلك - وهو ما يحدث بالفعل من لدن أصحاب الفهم الجزئي المغالي - فالنتيجة كما نراها اضطراب أحوال بعض المجتمعات الإسلامية.

واختتمت الندوة عقب عدة مداخلات من المشاركين، عقبوا خلالها على ما ورد في ورقة الدكتور (محسن عبد الحميد)، مبدين على بعض مضامينها الملاحظات، مع توجيه بالغ التقدير لشخصه، وتأكيدهم لأهمية تنظيره في مجال الفقه المقاصدي، لأن كوردستان بأمسّ الحاجة إلى هذا الفقه الذي به يتم مجابهة التطرف ومقارعة الغلو وبناء المجتمع على الاعتدال والوسطية، وآمل المشاركون أن يواصل فرع كوردستان لـ(المنتدى العالمي للوسطية) عقد مثل هذه الندوات، وتوسيع المشاركة فيها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق