د. حفيظ اسليماني - الجزائر
تخصص الفكر الإسلامي ومقارنة الأديان
لا يمكن لأيّ باحث في الأديان، وبصفة خاصّة في المسيحيّة،
أن يتجاوز الحديث عن شخصية (بولس)، هذه الشخصية التي قلبت المسيحيّة رأساً على عقب..
شخصية لم تر المسيح مطلقاً، وفجأة ظهرت على مسرح الأحداث بأفكار عقائدية جديدة..
وبحكم تزايد الحملات التنصيرية في العالم الإسلامي،
ارتأيت أنه من الواجب التطرّق لشخصية (بولس)، المؤسس الحقيقي للمسيحيّة الحالية.
يعدّ (بولس) شخصية محورية في المسيحيّة، إذ لا مسيحيّة
بدونه. يقول (شارل جنيبير): "دون (بولس) كان من
المحتمل أن لا توجد النصـرانية"([1]). و(بولس) هو الاسم الروماني، ومعناه: صغير أو قليل، أمّا اسمه
العبراني فهو: شاول، ومعناه: (المطلوب أو المسؤول)، وكان أحد القادة البارزين في
الكنيسة الأولى. وكان (شاول) يهوديّاً من سبط بنيامين"([2]).
ولد في (طرطوس)، التي كانت مركزاً من مراكز التهذيب العقلي"([3]).
وكان "استشهاد (بولس) سنة 67 أو 68 م"([4]).
-تحوّله إلى المسيحيّة:
فيما يخصّ
تحوّل (بولس) إلى المسيحيّة، هناك ثلاث روايات، وهي كالآتي:
الرواية الأولى: "وبَينَما
هوَ يَقتَرِبُ مِنْ دِمَشقَ، سَطَعَ حَولَهُ بغتةً نُورٌ مِنَ السَّماءِ 4 فوقَعَ
إلى الأرضِ، وسَمِعَ صَوتًا يَقولُ لَه: «شاوُلُ، شاوُلُ، لِماذا تَضطَهِدُني؟ 5 فقالَ
شاوُلُ: «مَنْ أنتَ، يا ربُّ؟« فأجابَهُ الصوتُ: «أنا يَسوعُ الذي أنتَ
تَضْطَهِدُهُ. [صَعْبٌ علَيكَ أنْ تُقاوِمَني. 6 فقالَ، وهوَ مُرتَعِبٌ خائِفِ:
«يا ربُّ، ماذا تُريدُ أن أعمَلَ؟« فقالَ لَه الرَّبُّ:] «قُمْ وادخُلِ المدينةَ،
وهُناكَ يُقالُ لَكَ ما يَجبُ أنْ تَعمَلَ«. 7 وأمَّا رِفاقُ شاوُلَ فوَقَفوا
حائِرينَ يَسمَعونَ الصَّوتَ، ولا يُشاهِدونَ أحدًا. 8 فنهَضَ شاوُلُ عَنِ الأرضِ،
وفتَحَ عَينَيهِ، وهوَ لا يُبصِرُ شيئًا. فقادوهُ بِـيَدِهِ إلى دِمَشقَ. 9 فبَقِيَ
ثلاثةَ أيّامِ مكفوفَ البَصَـرِ، لا يأكُلُ، ولا يَشرَبُ"([5]).
حسب هذه الرواية، (بولس) سمع صوتاً يناديه، وقد سمع
المرافقون له الصوت أيضاً، لكن من دون مشاهدة أحد.
الرواية الثانية: "وبَينَما
أنا أقْتَرِبُ مِنْ دِمشقَ، سطَعَ فَجأةً حَولي عِندَ الظُّهرِ نُورٌ باهِرٌ مِنَ
السَّماءِ 7 فوَقعتُ إلى الأرضِ، وسَمِعتُ صَوتًا يَقولُ لي: شاوُلُ، شاوُلُ،
لِماذا تَضطهِدُني؟ 8 فأجَبْتُ: مَنْ أنتَ يا ربُّ؟ قالَ: أنا يَسوعُ النـاصِريُّ
الذي تَضْطَهِدُهُ. 9 وكانَ الذينَ مَعي يَرونَ النـورَ، ولا يَسمَعونَ صَوتَ مَنْ
يُخاطِبُني. 10 فَقلتُ: ماذا أعمَلُ، يا ربُّ؟ فقالَ ليَ الرَّبُّ: قُمْ وادخُلْ
إلى دِمشقَ، وهُناكَ يُقالُ لكَ ما يَجبُ علَيكَ أنْ تَعمَلَ. 11 وكُنتُ فَقَدْتُ
بَصري مِنْ شِدَّةِ ذلِكَ النورِ الباهِرِ، فقادَني رِفاقي بِيَدي حتى دَخَلْتُ
دِمشقَ"([6]).
في هذه الرواية، نجد أن مرافقي (بولس) رأوا النور، لكن
دون سماع الصوت، وهو عكس الرواية السابقة.
الرواية الثالثة: "فمَضيتُ على
هذه الحالِ إِلى دِمَشق، وليَ التَّفويضُ والتَّوكيلُ مِن عُظَماءِ الكَهَنَة. 13 فرَأَيتُ أَيُّها المَلِكُ على الطَّريقِ عِندَ
الظُّهرِ نورًا مِنَ السَّماءِ، يَفوقُ الشَّمسَ بِإِشعاعِه، قد سَطعَ حَولي
وحَولَ رُفَقائي. 14 فسَقَطْنا جَميعًا إِلى الأَرض، وسَمِعتُ صَوتًا يَقولُ لي
بِالعِبرِيَّة: شاوُل، شاوُل، لِماذا تَضطَهِدُني؟ يَصعُبُ عَليكَ أَن تَرفِسَ
المِهْماز. 15 فقُلتُ: مَن أَنتَ يا ربّ؟ قال الرَّبّ: أَنا يسوعُ الَّذي أَنتَ
تَضطَهِدُه. 16 فانهَضْ وقُمْ على قَدَمَيكَ. فإِنَّما ظَهَرتُ لَكَ لأَجعَلَ
مِنكَ خادِمًا وشاهِدًا لِهذِه الرُّؤْيا الَّتي رَأَيتَني فيها، ولِغَيرِها مِنَ
الرُّؤَى الَّتي سأَظهَرُ لكَ فيها. 17 سأُنقِذُكَ مِنَ الشَّعبِ، ومِنَ
الوَثَنِيِّينَ، الَّذينَ أرسِلُكَ إِلَيهم، 18 لِتَفتَحَ عُيوَنهم، فيَرجِعوا
مِنَ الظَّلامِ إِلى النُّور، ومِن سُلطانِ الشَّيطانِ إِلى اللّه، ويَنالوا
بِالإِيمانِ بي غُفْرانَ الخَطايا، ونَصيبَهم مِنَ الميراثِ، في عِدادِ
المُقَدَّسين"([7]).
في هذه الرواية، نجد أن الجميع سقطوا على الأرض، وأن (بولس)
سمع صوتاً من السماء يكلّمه بالعبرية. كما نجد في هذه الرواية أن المسيح كلّف (بولس)
بأن يصبح خادماً.
هكذا يتّضح أن قصة تحوّل (بولس)، هي قصة مليئة
بالمتناقضات، وفقاً للروايات الثلاث:
- الرواية الأولى: (بولس) سمع الصوت، معيّة
المرافقين له، دون أن يروا أحداً.
- الرواية الثانية: الكلّ رأى النور، لكن (بولس)
وحده من سمع الصوت.
- الرواية الثالثة: سقوط الجميع على الأرض،
وسمع (بولس) صوتاً يكلّمه بالعبرية.
بالإضافة إلى تناقضات الروايات الثلاث، فإن هناك أمراً
مهماً، وهو أن دمشق في تلك الفترة لم تكن تحت حكم الرومان.. يقول (هيم ماكبي):
"يصعب على المؤرّخ أن يفهم مهمة (شاوول) حين يعلم أن دمشق، في تلك الفترة، لم
تكن تحت سلطة الرومان، وأن الأمبراطور كاليغولا تخلّى عنها عام 38 للميلاد. ومن
المعروف أن دمشق – تاريخياً – كانت، في تلك الفترة، جزءاً من مملكة الأنباط
العربية، التي كانت للملك الحارث. ولم يكن هذا الملك يساوم على سلطته أبداً، ولم
يكن يسمح لموفد مثل (شاوول) أن يدخل أراضيه بسهولة، ويطارد رعاياه، أو يطارد
جاليات تعيش في ظلّ حمايته، لا سيّما وأن هذا الموفد قادم من يهودا، التي يحتلها
أعداؤها الرومان"([8]).
يضيف (هيم ماكبي) أيضاً: "من المستحيل على (بولس) أن يحصل على رسائل من
الكاهن الأكبر، تخوّله مطاردة المسيحيين المؤمنين في دمشق، لسبب منطقي أساسي، وهو
أن هؤلاء المؤمنين هربوا إلى دمشق ليكونوا في مأمن من سطوة الرومان وسلطة الكاهن
الأكبر"([9]).
وعلى هذا تكون قصة رحلة (بولس) إلى دمشق، وفقاً لأعمال الرسل، هي قصة مشكوك
فيها، ممّا يعني أنها قصة من نسج كاتب حاول خداع الناس، دون أن يفلح في ذلك.
- صلب المسيح، وقيامته، في فكر (بولس):
لقد دعا (بولس) إلى عقيدة الصلب، وكان همّه هو القول
بالمسيح المصلوب، يقول: "لأَنِّي لَمْ أَعْزِمْ أَنْ أَعْرِفَ شَيْئًا
بَيْنَكُمْ، إلاَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ، وَإِيَّاهُ مَصْلُوبًا"([10]).
يقول (ول ديورانت) عن (بولس): "ولقد أنشأ (بولس)
لاهوتاً، لا نجد له إلا أسانيد غامضة أشدّ الغموض في أقوال المسيح. وكانت العوامل
التي أوحت إليه بالأسس التي أقام عليها ذلك اللاهوت، هي انقباض نفسه، وندمه،
والصورة التي استحال إليها المسيح في خياله؛ ولعلّه قد تأثّر بنبذ الأفلاطونية
والرواقية للمادة والجسم، واعتبارهما شرّاً وخبثاً؛ ولعلّه تذكّر السنة اليهودية،
والوثنية، سنة التضحية الفدائية للتكفير عن خطايا الناس: أمّا هذه الأسس، فأهمّها
أنّ كلّ ابن أنثى يرث خطيئة آدم، وأن لا شيء ينجيه من العذاب الأبدي، إلا موت ابن
الله، ليكّفر بموته عن خطيئته"([11]).
يؤكّد هنا (ديورانت) أن (بولس) تأثّر بسنّة التضحية
للتكفير عن الخطيئة، لذلك دعا إلى هذا الاعتقاد، وإشاعته. يضيف (ول ديورانت)، في
هذا الإطار، قائلا: "وتلك فكرة كانت أكثر قبولاً لدى الوثنيين منها لدى
اليهود، ولقد كانت مصر، وآسية الصغرى، وبلاد اليونان، تؤمن بالآلهة من زمن بعيد -
تؤمن بأوزوريس، وأتيس وديونيشس - التي ماتت لتفتدي بموتها بني الإنسان. وكانت
ألقاب مثل سوتر (المنقذ) واليوثريوس Eleutherios (المنجي) تُطلق على هذه الآلهة، وكان لفظ كريوس Kyrios (الربّ) الذي سمّى به (بولس) المسيح هو اللفظ الذي تطلقه الطقوس
اليونانية - السوريّة على ديونيشس الميت الُمفتدى، ولم يكن في وسع غير اليهود، من
أهل إنطاكية، وسواها من المُدن اليونانية، الذين لم يعرفوا عيسى بجسمه، أن يؤمنوا
به، إلا كما آمنوا بآلهتهم المنقذين. ولهذا ناداهم (بولس) بقوله: "هو ذا سرّ
أقوله لكم"([12]).
ونفس الأمر أشار إليه (شارل جنبير) قائلا: "ورأى (بولس)
بوضوح أيضاً أن الأتباع الجدد من المشركين لم يكونوا ليتقبلّوا كلّ القبول فضيحة
الصليب، وأنه يجب تفسير ميتة يسوع المشينة تفسيراً مرضياً، يجعل منها واقعة ذات
مغزى ديني عميق. وأعمل (بولس) فكره في هذه المشكلة المزدوجة - وذلك بطبيعة الحال
حسب الاتجاه الهيلينستي - ووضع لها حلاً، كان له صدى بالغ المدى. لقد تجاهل فكرة
عيسى الناصري، التي أغرم بها الاثنا عشر، ولم يتّجه إلا إلى عيسى المصلوب، فتصوّره
شخصية إلهية تسبق العالم"([13]).
(بولس) - حسب جنبير - جعل من المسيح المصلوب شخصية إلهية،
حتى تلقى الفكرة قبولاً لدى الأتباع، كي لا ينفروا من دعوته. يقول (بولس): "المَسيحُ
حَرَّرَنا مِنْ لَعنَةِ الشَّريعَةِ، بأنْ صارَ لَعنةً مِنْ أجلِنا، فالكِتابُ([14])
يَقولُ: «مَلعونِ كُلُّ مَنْ ماتَ مُعَلَّقًا على خشَبَةٍ. 14 وهذا ما فعَلَهُ
المَسيحُ، لِتَصيرَ فيهِ بَركَةُ إبراهيمَ إلى غَيرِ اليَهودِ"([15]).
وهذا النصّ حجة على المسيحيين، لا لهم، فقولهم بأن الذي
صلب هو الإله المتجسّد، فيكون بذلك هذا الإله ملعوناً. وهذا لا يجوز في حقّ الله
سبحانه وتعالى جلّ شأنه. فهل الله يلعن نفسه؟ طبعاً لا. وهذا ما تقول به الموسوعة
الكنسية، فإن (آدم) لمّا أكل من الشجرة، لم يلعنه الله، وإنّما لعن الأرض. فلماذا
لم يلعنه؟ تجيب الموسوعة الكنسية قائلة: "أمّا عقوبة المرأة، فلم يأتِ فيها
ذِكر اللعن، لأنّها مع آدم صورة لله، فلا تلعن"([16]).
فالله لم يلعن آدم وحواء، لأنّه على صورته، فبالأحرى أن لا يلعن نفسه، وبالتالي
بطل كلام (بولس).
وعن قيامة المسيح، يقول (بولس): "وإنْ كانَ المَسيحُ
ما قامَ، فتَبشيرُنا باطِلٌ، وإيمانُكُم باطِلٌ"([17]).
بناء على قول (بولس) نقول: إن الإيمان المسيحي باطل إذن، لكون صلب المسيح لم يحدث
أصلاً، وبالتالي فالحديث عن قيامته لا معنى له. وعلى هذا فـ(بولس) هدم المعتقد
المسيحي من حيث لا يدري.
في الختام، لا بدّ من التأكيد على ضرورة تكوين الشباب
المسلم في مجال علم مقارنة الأديان، هذا العلم الذي يعدّ السلاح الأكاديميّ في
مواجهة الحملات التنصيرية المتزايدة على عالمنا الإسلامي، بغية تفتيت هذا العالم
الذي تجمعه رابطة الرسالة الإسلامية السمحة النقية. وإلا سنكون ضحية تلك الحملات،
التي تشتغل ليل نهار لتحقيق أهدافها.. ولعلّ تطرّقنا لموضوع (بولس)، مؤسس المسيحيّة
الحالية، هي محاولة لكشف حقيقة هذه الشخصية من جهة، ومساهمة في التصدّي للعمل
التنصيري من جهة ثانية.
[3]
- قاموس الكتاب المقدس، تأليف نخبة من الأساتذة
ذوي الاختصاص ومن اللاهوتيين، هيئة التحرير: د. بطرس عبد الملك، د. جون الكساندر
طمسن، ذ. إبراهيم مطر، مكتبة العائلة القاهرة، ط14، ص:196
[11] - قصة الحضارة، ول
ديورانت، ترجمة محمد بدران، دار الجيل، ط 1998، م11، ص: 263-264
[12] - نفسه، ص: 264
[14] - يقصد بالكتاب: سفر
التثنية 21/23
[15] - غلاطية 3/13-14
[17] - رسالة بولس الأولى
إلى أهل كورنثوس 15/14
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق