د. أكرم فتاح سليم
نتحدّث
في هذه الحلقة عن وحدة الوجود عند بعض فلاسفة الغرب، كـ(سبينوزا)([1])،
الفيلسوف الهولندي اليهودي، الذي ظهر مذهبه بإنكار وجود الأول القديم، وهو الله
سبحانه. فملامح الإلحاد بارزة في مذهبه، بجعل الطبيعة خالقاً ومخلوقاً، إذ يؤدّي
هذا الخلط إلى عدم فرز العلّة الأولى والوجود الأوّل عن الموجودات الأخرى.
هاجر
والدا (سبينوزا) من (البرتغال)، في فترة الاضطهاد الديني لليهود من قبل النصارى،
ودرس الديانة اليهودية والفلسفة، كما هي عند الفيلسوفين (ابن ميمون) و(ابن جبريل)،
اللذين عاشا في (الأندلس) كذلك.
تظهر في فلسفة (سبينوزا) ملامح وحدة الوجود، حيث
يتصوّر الطبيعة والكون ذات مظهرين، فهي فعّالة حيويّة خالقة من جهة، وهي منفعلة
مخلوقة من جهة أخرى. وأن هذا الجانب المنفعل هي المادة، وما تشتمل عليه الطبيعة من
غابات وهواء وماء وغير ذلك، وهذه الطبيعة كلّها من إنتاج الجانب الفعّال، وخلقه.
وعندئذ
يكون في الكون قوّة خالقة تخلق الأشياء، وهي التي يسمّيها (جوهر) الله. وفيه
أشياء مخلوقة: الأعراض، أو العالم. يقول: "إن كلّ شيء كامن في الله، وكلّ شيء
يحيا ويتحرّك في الله". ويقول أيضاً: "إن أعظم الخير هو معرفة الاتحاد
بين العقل والطبيعة". فهو يرى أن الحقيقة هي أن انفصالنا الفردي مجرد وَهِم،
وأننا أجزاء من مجرى القانون والسبب العظيم.
كما
يظهر القول بوحدة الوجود، وأن المطلق هو الوجود الحقيقي، وأن الكثرة في حقيقتها
واحدة، في فلسفة كلّ من (هيجل) "1770 - 1831م"، و(شيلنج) "1775 -
1854م"، وغيرهما من المثاليين الألمان([2]).
وقد
وجد هذا المذهب عند المفكر الإيطالي (جيور وانو برونو) 1548-1611م، حيث درس
الفلسفة واللاهوت في أحد الأديرة الدينية، إلا أنه خرج على تعاليم الكنيسة فرمي
بالزندقة، وفرّ من (إيطاليا)، وتنقّل طريداً في البلدان الأوروبية، وبعد عودته إلى
(إيطاليا) قبض عليه وحوَّل إلى محاكم التفتيش، فحكم عليه بالموت حرقاً([3]).
ومن
أقوال (سبينوزا)، التي تؤكّد على مذهبه في وحدة الوجود:
1. "ما
في الوجود إلا الله، فالله هو الوجود الحقّ، ولا وجود معه يماثله؛ لأنه لا يصحّ أن
يكون ثمّ وجودان مختلفان متماثلان".
2. "إن
قوانين الطبيعة وأوامر الله الخالدة شيء واحد بعينه، وإن كل الأشياء تنشأ من طبيعة
الله الخالدة".
3. "الله
هو القانون الذي تسير وفقه ظواهر الوجود جميعاً، بغير استثناء أو شذوذ".
4. "إن
للطبيعة عالماً واحداً هو الطبيعة والله في آن واحد، وليس في هذا العالم مكان لما
فوق الطبيعة".
5. "ليس
هناك فرق بين العقل، كما يمثّله الله، وبين المادة، كما تمثّلها الطبيعة، فهما شيء
واحد" (([4] .
والراجح
أن (سبينوزا) اطّلع على آراء (ابن عربي) الأندلسـيّ في وحدة الوجود، عن طريق
الفيلسوف اليهودي الأندلسـي (ابن ميمون)، وأعجب بأفكار (برونو) الإيطالي، وخاصة
تلك الأفكار التي تتعلّق بوحدة الوجود. ولقد قال أقوالاً اختلف فيها المفكّرون،
فمنهم من عدُّوه من أصحاب وحدة الوجود، وبعضهم نفى عنه هذه الصفة.
وفي
القرن التاسع عشر الميلادي نجد أن مقولة وحدة الوجود قد عادت تتردّد على ألسنة بعض
الشعراء الغربيين، مثل (بيرس شلي) 1792 - 1822م، فالله - سبحانه وتعالى- في رأيه
هو هذه البسمة الجميلة على شفتي طفل جميل باسم - مبتسم، وهو هذه النسائم العليلة
التي تنعشنا ساعة الأصيل، وهو هذه الإشراقة المتألقة بالنجم الهادي في ظلمات
الليل، وهو هذه الورود اليانعة تتفتح وكأنها ابتسامات شفاه جميلة، إنّه الجمال
أينما وجد.
ونجد
المستشرقين اهتموا كثيراً بدراسة كتب التصوف، ككتب ابن عربي؛ لأنّها تحقّق أهدافهم
في نشر الإلحاد، وإنكار النبوّات، ونبذ التكاليف الشـرعية، والدعوة إلى القول
بوحدة الأديان.. وما حلا لـ(جولد تسيهر)، عند شرحه معنى آيات القرآن الكريم، ليخرج
من ذلك بأحكام عامة، ففي (سورة المزمّل/ الآية 8)، عند قوله تعالى: [ وَاذْكُرِ
اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا]، يقول: "واذكر اسم ربك الذي
هو أنت". وفي (سورة الواقعة/ الآية 57)، عند قوله تعالى: [نَحْنُ
خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ]، يقول: "نحن خلقناكم بإظهاركم
بوجودنا، وظهورنا في صوركم".. وليس هذا التصوّر بمستغرب على من يقول إن عجل
بني إسرائيل أحد المظاهر التي اتّخذها الله، وحلّ فيها..
وليس
من الإنصاف أن نقول إن هذا هو رأي الصوفية المسلمين، ولا رأي بعده، بل يجب أن نضع
في اعتبارنا أنّ مذهب وحدة الوجود مذهب فلسفي، يبتعد عن المنهج القلبي العرفاني
الذي اختطّه أرباب المجاهدات والأحوال للوصول إلى وحدة الشهود. وفي وحدة الشهود -
ومهما قيل عنها من كلام ظاهره مستشنع، وباطنه سليم، على حدّ تعريف (أبي نصر السراج
الطوسي) - يبقى دائماً شيء هام أن نذكره، أن العبد عبد، والربّ ربّ، ولا تداخل ولا
امتزاج، ولا حلول ولا اتحاد، بل بمقدار ما يصل العبد إلى تحقيق عبوديته، يصل إلى
التحقّق من ربوبيّة الربّ، وتنزيهه عن كل إفك وباطل..
ولا ينبغي لنا أن نغضّ الطرف عن قيمة التفاسير
المبعثرة فى المراجع الصوفية الكبرى، لآيات بعينها من القرآن الكريم، فإنّ تبعثر
هذه التفاسير لا يحول دون تقديرها حقّ قدرها، ذلك لأنها غالباً ما سيقت لتدعيم
موقف، أو لتشهد على استمداد فكرة أو لفظة. فهي - من هذه الناحية - لا تخرج عن
كونها تفسيراً صوفياً غير مجموع. وفيما عدا ذلك يمكن القول إن أبرز التفاسير
الصوفية بعيدة عن التأويلات الفاسدة، كتفسير (عرائس البيان في حقائق القرآن، لأبي
محمد روزبهان الشيرازي)، المتوفّى سنة 606 هـ، وكذلك (التأويلات النجمية، لنجم
الدين داية)، المتوفّى سنة 654 هـ، وقد مات قبل أن يكمله، فأكمله (علاء الدولة
السمناني)، المتوفى 736 هـ.. فأغلب ما سقناه من تفاسير صوفية لا يسلم من النقد،
ولا يصحّ أن يكون نموذجاً صالحاً لتمثيل الصوفية والتصوف بأمانة وصدق([5]).
ففي تفسير(لطائف الإشارات)، كتبه (عبد الكريم بن
هوازن)، محاولاً أن يوفّق بين علوم الحقيقة – الفلسفة - وعلوم الشريعة، وقاصداً
إلى هدف بعيد: أنه لا تعارض بين هذه وتلك، وأنّ أيّ كلام يناقض ذلك خروج على أيّ
منهما، وعلى كليهما؛ فكلّ شريعة غير مؤيّدة بالحقيقة، فغير مقبول، وكل حقيقة غير
مقيّدة بالشـريعة، فغير محصول. ونحن خلال قراءتنا لـ(لطائف الإشارات)، نشعر أن كل
صغيرة وكبيرة فى علوم الصوفية لها أصل من القرآن الكريم، ويتجلّى ذلك بصفة خاصة
حيثما ورد المصطلح الصوفي صريحاً في النص القرآني؛ كالذكر، والتوكّل، والرضا، والولي
والولاية، والحقّ، والظاهر والباطن، والقبض والبسط، فلا تملك إلا أن تحكم أن
الصوفية قد استمدوا أصولهم وفروعهم من كتاب الله الكريم، وأن علومهم ليست غريبة
ولا مستوردة، كما يحلو لبعض الباحثين حين يتهمون التصوف الإسلامي بالتأثّر
بالتيارات الأجنبية: كاليونانية والفارسية والهندية والمسيحية([6]).
نجد
أيضاً فكرة وحدة الوجود عند (بيتر بروك)، عندما يقول: "إن العقل لا يجد
اطمئنانه النهائي إلا بمعرفة العلّة الأولى للموجودات، وإن معرفتنا وحدة الموجودات
في الله تبرّئنا من الحسد، وتعلّمنا أن في سعادة القريب سعادتنا"([7]).
وقوام مذهبه الجديد حيث تتلائم الأضداد. وبذلك يقوم الدليل على وجود الله (على
طريقة أوغسطين).
ويحتفظ
(كوزان) بالمنهج الفرنسي الذي يذهب من علم النفس إلى الميتافيزيقا، وينبذ قول
الألمان، بحدس عقلي يدرك المطلق مباشرة، وبذا نخرج من الذاتية إلى الموضوعية.
ولمّا كان الله غير متناهٍ، كان الموجود الأوحد. ولمّا كان الله عقلًا، كان
وجدانًا، والوجدان يتضمن التنوّع والتباين. فالله يستخرج الكون من ذاته بتطوّر
إرادي، كما يستخرج الإنسان من نفسه فعله الإرادي؛ وهذا التطوّر الإرادي في الله،
هو مع ذلك ضروري لازم من كماله، باعتباره العلّة المطلقة، إذ إن مثل هذه العلّة لا
تستطيع ألا تخلق. فحياة الكون، ومن ثمّة حياة البشر والشعوب، مظهر الحياة الإلهية؛
وكل ما هو موجود هو عقلي..
وقد
ثارت مناقشات حادّة حول هذه الأقوال، كان من أثرها أن (كوزان) تحوّل، منذ 1833م،
من وحدة الوجود إلى الإله المفارق، وظلّ إلى النهاية على المبدأ العقلي المنكر
للوحي. وبالرغم من سلطانه على التعليم، كان نفوذه ضئيلًا على جمهرة المثقفين([8]).
نستطيع
أن نقول إن الإسلام يؤمن بأن الله - جلّ شأنه- خالق الوجود، منزَّه عن الاتحاد
بمخلوقاته، أو الحلول فيها. وأنّ الكون شيء غير خالقه..
فهذا المذهب يخالف الإسلام، في إنكار وجود الله،
والخروج على حدوده، ويخالفه في تأليه المخلوقات، وجعل الخالق والمخلوق شيئاً
واحداً، ويخالفه في إلغاء المسؤولية الفردية، والتكاليف الشرعية، والانسياق وراء
الشهوات البهيمية، ويخالفه في إنكار البعث والحساب والميزان([9]).
وعلى
علماء المسلمين أن يصفّوا العقائد، وأن ينقّوها، وأن يبتعدوا بأنفسهم عن كل ملتبس،
وأنْ يقدّموا العقيدة للناس واضحة جليّة، وذلك أدب الإسلام في كل شيء، فقد نهينا
عن التعمّق والتجاوز على عظمة الله، فعليهم أن لا يتركوا بيت شعر، أو عبارة، يمكن
أن تلتبس على العامة، إلا وعدلوها وفسـروها التفسير الصحيح.. والمغرمون بالألغاز
لا يصلحون لإفهام الناس، إذا أصبح هذا دأبهم وعادتهم، فالناس يحتاجون إلى البيان
الواضح الجلي.. قال تعالى: [وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ
مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ]([10]).
([1]) باروخ سبينوزا: 1632 - 1677م، ولد بأمستردام من
أسرة يهودية، أراد والده له أن يصبح حاخامًا، فتلّقى اللغة العبرية، والتوراة،
والتلمود، والفلسفة اليهودية للعصر الوسيط. ولكنه ونتيجة لبعده عن الدين، عدل عن
مشروعه، وتحوّل إلى العلوم الإنسانية، وأخذ يتردّد على الأوساط البروتستانتية،
فلقي فيها طبيباً، لقنّه الطبيعة والهندسة والفلسفة الديكارتية. فازداد ابتعادًا
عن اليهودية، وكانت وفاته بمدينة (لاهاي). ينظر: يوسف بطرس كرم (ت 1959 م)، تاريخ
الفلسفة الحديثة، مكتبة الدراسات الفلسفية، الطبعة الخامسة، ص106.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق