خليل حلاوجي
نينوى
? في مجتمعاتنا يشاع التوارث كطريقة منطقية لنقل المعارف عبر الأجيال. وقد تطور المسار التفاعلي للثقافة من أسلوب الحوار والتفاعل إلى أسلوب الإقصاء والاستبعاد، وبذلك تضاربت الرؤى والتصورات والمناهج والمفاهيم والمرجعيات، وتعارضت الأنساق الثقافية، وتعددت المدارس، ولكل مدرسة رجالها، وطريقة تفكيرها؛ إنها ثقافة المطابقة، لا ثقافة التمايز.. وهنا يتم تأشير القلق الثقافي، حيث نخفق في كل مرة في الموائمة في التأثر والتأثير مع (الآخر الغربي)، وأيضاً مع (الماضي التراثي)، حيث حضور كلا التأثيرين (استعارة) نحاول أن ننقذ بها واقعنا المأزوم، بكل تحدياته المتزايدة، كمّاً ونوعاً.. فالواقع يطرح المزيد من القلق، وحلولنا تطرح المزيد من
الاغتراب، وتزداد بذلك التناقضات والتناحر والتضاد، وهكذا نجد أنفسنا مع أنفسنا في حالة إقصاء واستبعاد وتمويه وتخفٍ وإكراه وتنكر.. والواقع ما زال يختبر وعينا، لعلّه يستفيق من سباته الطويل.. وهنا نقف مع إشكالية الثقافة المسطحة في واحد من
تداعياتها، حيث علاقة تجديد الفكر بظهور الشخص المجدد، وبمعنى أدق: علاقة الفكر
بالمفكر، في عصـر العولمة، ونحن نعيش تداعياته، وإرباكاته..
بقليل من التأمل،
ونحن نلحظ عندما يموت أحد علماء أي مدينة، تظهر الدعاوى التي تمجد جهده، ويهتم
الإعلام بنشـر آثاره، وكأن هذه المدينة استيقظت على وقع أخباره.. بل تجد البعض
يدعو لإقامة التماثيل إحياء لذكراه، وتعقد الندوات والمؤتمرات وفاء لذكرى الفقيد،
وهو يمكث ساكناً تحت التراب! وهنا تستوقفنا فكرة خطيرة عن (جدوى الفكر)، ودوره في
الارتقاء بالحياة اليومية؛ فالمفكر وهو حي لا ينتبه له أحد، بالقياس إلى انتباههم
إلى لاعب كرة قدم، أو مطرب، أو سياسي مغمور! ذلك أن كتابات المفكرين أصبحت على
(الرف)، فهي عصية على أيّ محاولة لاندماج جهد العقلاء في تعزيز تفاصيل حياتنا في
مواجهة تحديات أزماتنا المتجددة المتعددة، فضلاً عن إكسابها مزية الدواء لعللنا،
وبث العافية الفكرية في الفضاء المعكر المتخم بالأمراض الفكرية
..
فهل يعود مرد ذلك
لأن هذا المفكر طرح أفكاره في الظل؟ فالرجل وهو حي وجدناه يركض خلف جمهوره، ولم
يتقدمهم ليقودهم، فقد طرح فكراً لا يوقظ نائماً، ولا ينصـر مظلوماً، ولا يحرك
ساكناً، ولا يملك الشجاعة ليقدم البدائل لإنقاذ سوءات الواقع.. والسؤال الآن: كيف
يتسنى للمفكر أن يضع البوصلة التي تهيأ المجتمع لتغيير المسار عند كل أزمة؟ وهل له
القدرة على منافسة رجل السياسة وهو يعبث بمصير المجتمعات، أو رجل الاقتصاد وهو
يتدخل في كل صغيرة وكبيرة من معائشنا.. أو متون الإعلام، وهو يبث بوسيلة الإمتاع
والمؤانسة ما يعطل العقلية النقدية، ويخدر الوجدان الحضاري؟! وهكذا نرى أن بعض
الأبطال رحل عن الحياة وقد صنع جمهوراً يجيد الطاعة العمياء، والاستماع الجيد،
والإنصات المحايد، الذي يلزم المتلقي بتجاهل الجدال والنقاش، ويحيله إلى متلقٍ
جبان عليه بالسمع والطاعة لكل موجات الإعلام الخبيث، دون محاولة مناقشة ما يقوله فكر
هذا المفكر أو ذاك.. فالإعلام يقدم القامات الفكرية التي تسهم في المداهنة،
والتبعية، وقبول الحال كيفما كان، مخافة الفتنة الثقافية !!
وسنصدم والحال هذا،
خصوصاً إذا قارنّا هذا الجهد المبرمج بما صنعه الأنبياء وهم يؤسسون لإشاعة منظومة
تفكير لا تجذب المتحمسين، بل تستفز تأملات الواعين، وتستدعي من الناس أن يكونوا
شركاء في المعرفة، لا زبائن طارئين.. في فارق نوعي بين المنهجين.. فالفكر الثوري
هو غير الفكر المستقيل، والفكر الذي جل اهتمامه (الطاقات الوصفية)، هو غير الفكر
الذي (يتحرى استثارة العقل النقدي)..
لقد التبس الموقف،
وتشوهت العلاقة بين الفكر والمفكر، وظهر النموذج الأكثر تشوشاً، فنجد من لبث في
السجن، ثم علّق على حبل المشنقة، فتحول إلى بطل أسطوري، فقط لأنه صار ضحية لنظام
طاغوتي يخشاه الناس، ولا يعرفون كيف يواجهونه، حيث الناس تقارن جهد المفكر بطبيعة
معاناته وعذاباته داخل السجون.. ولا يتم التحري عن صحة أفكاره، طالما أن طريقة
موته كانت مؤثرة وجدانياً، تبكي لها العيون بحرارة.. فالحماس للفكرة ينطلق عندهم
من حماسهم للمفكر، وطريقة تمرده على السلطة الاجتماعية أو السياسية.. وهكذا تظهر
مشكلة تحيز المجتمع لكل صور العواطف الفكرية، أكثر من تحيّزه لجدوى الفكرة ونضوجها
ورسوخها ..
إن الأمم التي صححت
مسارها، أنصتت لمفكريها وهم يسهمون في مصارحة المجتمعات، لعلها تستبدل أفكارها
المتوارثة بأفكار عملية تنقد الذات، وتضع اللوم على المجتمع قبل غيره، في محاولة
ناجحة لمحاسبة النفس على صعيد الفرد، وعلى صعيد الكتل المجتمعية؛ في الجامعات،
ومراكز البحث العلمي، والصحافة، والإعلام.. وهذا هو دليل نضجها التاريخي..
فالقوة الفاعلة
لنهضة أي مجتمع، ليست في امتلاك السلاح والجيوش والشعارات، بل في تبني الأفكار
النهضوية لمفكرين أفذاذ، لم يسهموا في تخدير الوعي، أو تبرير الخطيئات المجتمعية،
بل صفعوا مستمعيهم، وأيقظوهم من سبات مدح الذات وانتفاخها.. وإلا ما معنى أن ترى
الملايين تمشـي باكية القلب، والعيون، في جنازة زعيم طغى، وتجبر، وكتم أفواههم،
وسرق أحلامهم، مقابل بضعة أفراد خرجوا في جنازة عالم مفكر.. كان المجتمع قد وضعه،
ومعه أفكاره، على الرف؟!
وبالمقابل نجد
تياراً آخر يهتم بمنتجات العولمة بمعيارها الثقافي، حيث المركزية الغربية، وما
تفرضه من إمكانات واسعة لسيادة الولاء الأعمى للآخر، واختزال الذات إلى فضاء هامشي
يهتم بالهامش الثقافي على حساب المتن، وبالتالي تحريك المشهد الثقافي بصورة
فوضوية، لها بالغ التأثير على مناهج التعليم المدرسي، وواضعي الدساتير، وراسمي خطط
الحرب والسلام، وتأجيج المواجهة المفتعلة بين رجال الدين ورجال الدولة..
وهنا نجد المجتمع
الحي هو الذي أنقذ نفسه من لغو الكلام، ومن الشعارات الجوفاء، والمشاريع الحالمة
التي سرقت من أعمارنا السنين الطوال، قبل أن نكتشف عقمها وعدم جدواها، وتأكدنا
بعدها ألا واقع لها يمكن أن يتحقق. وهو مجتمع يهتم بالفكرة لا بالمفكر.. ويهتم
بالمسميات لا بالأسماء.. ويهتم بالجدوى لا بالمظاهر .. وإلا .. فالمجتمع ميت، وإن
بدا أنه يسعى فوق الأرض على غير غير هدى ..
ولا نزال ننتظر بكل
شوق ذلك المفكر الذي ينتفع من أفكاره الحية كل أفراد المجتمع، فهو الملهم لتثوير
قناعاتهم، وهو المصحح لكل ارتباكاتهم، وهو المخلص الذي معه يقوم الناس جميعاً في
حركة فاعلة، لجعل الغد أجمل وأتقن بكثير من هذا الحاضـر البائس...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق