كثيرًا ما أواجه بالاستهجان والاستغراب، أو عدم
التفهم لطريقة تعاملي مع الآخرين ارتباطًا بالوقت، وهي الطريقة التي أتبعها منذ
سنوات قليلة، ولن أغيّرها، لأن النظام الحياتي الزمني الذي توصلت إليه لم يكن إلا
لكي يُتّبع، ولكي ألتزم به فأحقق الحد الأقصـى من الوقت ومن الأهداف التي أبتغي
تحقيقها ذاتيًا، وفي إطار العائلة أو العمل.
منذ بضع سنوات اتخذت مسارًا جديدًا في تنظيم آلية العمل، عملي أنا، إذ جعلت العمل يبدأ مع طلوع الفجر، وينتهي عند انتصاف الشمس لكبد السماء، أو بعدها بقليل فترة العصر، وبالتالي ألقيت عبء القراءات، أو مشاهدة أحد الشـرائط الفنية، أو الأغنيات أو الموسيقى، أو الكتابة، أو المراجعات، وشؤون أخرى، للفترة المسائية.
قد لا يثير مثل هذا الأمر أي حفيظة، ولكن الذي
أثار البعض غير المتفهم خلال هذه السنوات هو أنني منذ العصـر فصاعدًا أغلق الهاتف
النقال حتى اليوم التالي، وهو الأمر الذي أزعجهم، ولكنه أراحني.
من المهم أن تكون واضحًا، فأنت أو أنا لسنا عبيدًا
للهاتف النقال، ولا لوسائل التواصل الاجتماعي، بل هي في خدمة ما تبتغيه؛ سواء من
حيث الاستخدام، أو من حيث التوقيتات. وعليه، فإن استجابة الآلة مرتبطة بإرادة
الشخص الذي ما إن يقرر ذلك ويعزم، فليس عليه إلا تلقي النتائج المبهرة.
بينما على الصعيد الإنساني، يفترض البعض -
وأحيانًا البعض الكثير - أن مجرد اتصاله بك، في الوقت الذي يشاء أن يتصل به هو،
أنك لا بد أن تكون مترقباً أو متحفّزاً دومًا لتلقي مكالمته! وعليك الإجابة بلا
إبطاء، وإن لم تفعل فلا عذر لك! فلقد اتصلت بك!
هذا مفهوم غير دقيق، حيث إنه في ظل وسائل
التواصل المختلفة، يمكن التواصل بأشكال عدة، ولا يفترض الرد الآني المباشر لأسباب
عديدة، جزء منها مرتبط بنظام الشخص الحياتي، وهو حرّ به، وليس لي ولك إلا احترامه.
فهل أنت تملك الحق أن تدخل على المدير في أي وقت مثلًا؟ أم أنك تعطي نفسك حق دخول
البيوت في أي وقت؟!
لماذا عليك - في الوضع الطبيعي- أن تبرّر نظامك
الحياتي، وعدم ردّك المباشر على الهاتف مثلًا، وكأنك موظف مترقّب ومتحفّز لدى
الهاتف! وكأن الشخص الآخر يمتلك حق اختراق وقتك وقتما يشاء، أو كيفما يشاء، دون أن
يضع لك العذر في باب (التمس لأخيك عذرًا)، فقد تكون أنت مريضًا أو حزينًا لسبب ما،
أو منشغلًا بأمر ما، أو قد تكون مستاء (أو طالعة روحك، بالعامية) لأي سبب، ولا
رغبة لديك لنقل هذه الحالة إلى غيرك، أو لا تريد لغيرك الإطلالة عليها! ولكن هاتِ
من يتفهم!
يختلف الأمر لمن بينهم تواصل هاتفي مباشر منظم؛
ذو سبب عائلي أو رفاقي أو عملي، فهذا أمر متفهم أن تكون الردود المطلوبة محسوبة
كيفما يتم الاتفاق عليه. وإلى ذلك، من المهم تحقيق التواصل السلس باللقاء الجسدي
المباشر، أو صوتيًا هاتفيًا، أو كتابة بالطبع، فالتواصل الاجتماعي فضيلة لا غنى
عنها، ويجب أن نتقنها، ولكنها بدون التفهم والتقبل تصبح إشكالًا كبيرًا.
اتصل بي أحدهم من البعيد، ليقول إنني اتصلت بك
بالأمس مساءً!
فقلت له مبتسمًا: أن لدي موظفاً واحداً اتفق
معي على أن يكون دوامه صباحياً، كما حال كل الموظفين، وطلب مني أن أتركه مساء،
ففعلت.
وكأنه لم يفهم التشبيه والاستعارة، فقال
مستغربًا: ومن هو هذا الموظف؟
قلت له: إنه هاتفي النقال.
فتعجب، ورفض بشدة!
فقلت له: يا أخي، إنني أغلق الهاتف مساءً منذ
سنوات؟
رفض هذا الأمر بقوة؟ (وما يعنيك أنت!)، وبدأ
مسلسل الاستجواب: لماذا، وكيف، وهل يحق لك؟ وكيف ذلك؟ وكأنني تحت طائلة تحقيق
استخباري!
عمومًا، أجبت عليه بكل غيظ مكتوم، مستغربًا عدم
تقبله، وليس بيني وبينه عمل يومي يستدعي التحفز والترقب، على سبيل المثال، فما
شأنك أنت بنظامي أنا!؟ وكل ما عليك هو أن تتعامل معه بأن تتقبله كما أتقبل نظامك،
أو لا تتقبله، ولكنك معنيّ بالتعامل معه، إن شئت الاتصال بي.
قد تجد مثل هذا الشخص الكثير من المتدخلين في
شؤونك الأخرى، أي ليس فقط في شأن نظامك الحياتي اليومي.. فلماذا تلبس كذا، ولماذا
تأكل كذا، ولماذا كنت مريضًا ولم تقل لي؟ ولماذا، ولماذا؟ ما لا يدخل في باب
الاطمئنان المحمود، وإنما يدخل من باب الاستهجان أو الاستغراب أو الرفض القطعي!
الذي لا يعنيني، ولا يعنيك، كما لا يعنيه! فلكلّ في تنظيم واقع حياته حقٌ له،
مادام يعود عليه بالراحة. وعليك بالتفهم وعدم الإيذاء.
في هذا العصر أصبح تنظيم الوقت ضـرورة لا غنى
عنها، أكثر من أي وقت مضى، خاصة في ظل تكاثف وسائل الاتصال الإلكتروني، والتواصل
الاجتماعي، التي إن تركت نفسك لها ستتوه وتنجرف، ولا تستطيع - عبر التكاثف الخبري
- من التدقيق أو الفرز أو التركيز وتحديد الأولويات، وبالتالي تحقيق الإنتاج وفق
ما تخطط له، وفي هذا الشأن كُتبت العديد من الكتب الهامة والضرورية.
هذا وقتي، وهو بمنطق الربوبية قد قُسّم إلى
خمسة أوقات لدى المسلمين (أو ثلاثة لدى المسيحيين)، عبر الصلوات، ما يمثل إشارة
هامة - مع إشارات أخرى كثيرة - لأهمية الترتيب والتنسيق والتخصيص وتنظيم الوقت
وتحديد الأولويات، ونحن لذلك يجب أن نكون ممتنين.
إن تنظيم الوقت هكذا - ولكل أن ينظم وقته كما
يبتغي، بالطبع - عاد عليّ بكثير من التركيز؛ من جهة، المفضي إلى الإنتاج، وبكثير
من الراحة، التي أستطيع من خلالها القراءة (في الكتاب المسطور)، وفي استنشاق هواء
الربيع، والحديث مع الفراشات، ومناقشة جبال الوطن، وأشجار التين (الكتاب المنظور،
أو المفتوح)، وتحديد الأولويات في كل يوم، واستعادة الطاقة التي استنزفت ضمن
مساحات أخرى، وفي المسار الأسبوعي والشهري والسنوي.
والأمر هكذا، أي بجدولة وتنظيم وقتك بين الإنساني
والإلكتروني، تستطيع أن تجعل من الحياة تبزغ كل يوم بشكل جديد، فتعيشها يوميًا،
وتكون المثابرة، ويكون الإبداع ذا مسار متصل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق