الدكتور حازم ناظم فاضل
دكتوراه في علم النفس التربوي
المقدمة
تعتبر هجرة الكفاءات والخبرات، أو ما اصطلح على تسميته (هجرة الأدمغة)، أو (هجرة العقول)، أو (نزف الأدمغة): واحدة من أكثر المشكلات حضورًا على قائمة المشاكل الاجتماعية والاقتصادية التي تعاني منها البلدان النامية، منذ أن باشرت هذه البلدان بوضع البرامج للنهوض بأوضاعها المتردية،
الموروثة عن حقب طويلة من الحكم الاستعماري والهيمنة الأجنبية.إن ظاهرة هجرة الأدمغة العربية والإسلامية ليست
حديثة بل قديمة، وتعود إلى القرن التاسع عشـر، وازدادت في القرن العشـرين، خاصة
بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. وتنتشـر هجرة الأدمغة في الدول العربية
والإسلامية بشكل كبير، لا سيما في البلدان العربية والإسلامية الفقيرة، وذات
المستوى الاقتصادي المتواضع.
و(هجرة الأدمغة): أو (نزف الأدمغة/ Brain
Drain)، مصطلح ابتدعه البريطانيون للإشارة إلى وصف خسائرهم الناجمة عن
هجرة الأدمغة من بريطانيا، خلال السنوات التي أعقبت الحرب العالمية الثانية؛ من
العلماء والمهندسين والأطباء، إلى أمريكا الشمالية، وبخاصة إلى الولايات المتحدة
الأمريكية، وذلك سعياً وراء الـرواتب المرتفعة.
ويطلق مصطلح (هجرة الأدمغة) على هجرة
العلماء والمتخصصين في مختلف فروع العلم والمعرفة، من البلدان النامية إلى البلدان
الصناعية المتقدمة أو المعرفية. وتسهم هذه الهجرة في زيادة فقر البلدان النامية،
وزيادة غنى البلدان الصناعية والمعرفية، وقوتها؛ لأن البلدان النامية علّمت ودربت
هؤلاء العلماء والمتخصصين عشـرات السنين، وأنفقت على ذلك الكثير، وتلقفتهم البلدان
المتقدمة شبه جاهزين، أو بقليل من التعليم والتدريب، فزادت التنمية الشاملة لدى
البلدان المتقدمة المستقبلة لهم، ونقصت في البلدان النامية. مما أدى إلى زيادة
الفجوة الرقمية، التي هي فروق في الميادين المتخصصة في المعرفة والعلم والعقل
والاقتصاد والتعليم، أي إنها فجوة شاملة لميادين عديدة، ولا سيما في دخل الفرد
والمجتمع. وهذه الفجوة لا تني تزداد في القرن الحادي والعشرين.
إذن، تُعرف هجرة الأدمغة: بأنها العملية
التي يفقد فيها بلد ما القوة العاملة الأكاديمية والتكنولوجية، من خلال انتقال هذه
العقول، ورأس المال البشـري، إلى بلدان أكثر ملائمة، وأكثر تطوراً. ويعتبر هذا
الاتجاه مشكلة للدول الأصلية، لأن الأفراد الأكثر مهارة وكفاءة يغادرون البلاد،
ويساهمون بخبراتهم في تنمية اقتصاد البلدان الأخرى، حيث يمكن أن يعاني البلد الذي
يغادرونه من صعوبات اقتصادية، لأن أولئك الذين بقوا ليس لديهم (المعرفة) لإحداث
فرق في الاقتصاد، مقارنةً بالذين غادروه.
وتُعرِفها منظمة اليونسكو: بأنها "شكل
غريب من أشكال التبادل العلمي بين الدول، لأنه يتميز بحركة في اتجاه واحد، تتدفق
حتماً إلى البلدان المتقدمة".
وعندما تزداد هجرة العقول من دولة نامية، قد
تكون هناك بعض التداعيات السلبية التي يمكن أن تؤثر على الاقتصاد، وتؤثر على
التنمية. وتشمل هذه التأثيرات؛ على سبيل المثال لا الحصر:
(1) إحداث نقص في القوى العاملة في الأنشطة
الرئيسية.
(2) زيادة الفجوة التكنولوجية بين الدول
المتقدمة والنامية.
(3) خسارة العائدات الاقتصادية.
(4) فقدان القطاع التعليمي لكوادره.
(5) فقدان الثقة بالاقتصاد.
(6) فقدان الأفكار المبتكرة.
(7) خسارة استثمار الدولة في التعليم.
وهناك نتائج إيجابية لهجرة الأدمغة، لا بد من
الإشارة إليها، ومنها:
(1) يتعلم
المهاجرون مهارات وخبرات جديدة، يمكنهم الاستفادة منها لصالح الاقتصاد المحلي
بمجرد عودتهم، كما يعتبر المهاجرون جسـراً ثقافياً بين المجتمع المضيف ومجتمعهم
الأصلي.
(2) التحويلات المالية: يرسل المهاجرون
الأموال التي يكسبونها إلى وطنهم، مما يساعد على تحفيز اقتصاد البلد الأم، ويمكن
أن تجدد مخزون رأس المال البشـري، الذي ربما يكون قد استنفد في الوطن الأم بسبب
هجرة الأدمغة.
(3) تحسين العلاقات الدبلوماسية: يمكن
للمهاجرين أن يلعبوا دوراً كبيراً في تحسين العلاقات الدبلوماسية بين البلدان، من
خلال علاقاتهم وأعمالهم في الخارج.
ويمكن
الحد من هجرة الأدمغة والعقول، من قبل الحكومات، عن طريق:
(1) إنشاء جسور بين البلد الأم والمغتربين
في الخارج، والاستفادة من مهاراتهم في بلدهم الأم، أو تشجيعهم على استثمار
أموالهم في مشاريع استراتيجية.
(2) تحقيق التنمية المستدامة: من خلال
الاستثمار في التعليم والبحث العلمي، للوصول إلى مستويات متقدمة.
(4) الاستقرار السياسي: استقرار الوضع
السياسي أحد العوامل التي تجعل الأفراد يفكرون بالبقاء في بلدهم، والعمل على
النهوض به.
(5) اتخاذ خطوات لتحفيز النشاط الاقتصادي:
مثل تشجيع الاستثمار في قطاعات مختلفة، مما يؤدي إلى زيادة فرص العمل، وتقليل نسبة
البطالة.
(6) ربط التعليم بسوق العمل: هناك فجوة
بين خريجي الجامعات وسوق العمل، من المهم أن تعمل الدول على ردمها، من خلال توجيه
الأفراد للدراسة في الفروع التي تحتاجها الدولة، وأن يكون التعليم له طابع عملي،
بحيث يكون الخريج قادراً على العمل بمجرد إنهاء دراسته الجامعية.
أسباب هجرة الأدمغة العربية والإسلامية:
تزايد
تعقيد المجتمعات في عصـر المعلومات، وتزايدت الفجوة الرقمية بين الدول النامية
والدول المتقدمة، وذلك لأسباب عديدة، تختلف من بلد إلى آخر، ومن ظروف مهاجرين إلى
أخرى، من حيث العوائق والمشكلات، ولا سيما اضطراب الأمن في بلادهم، أو الإغراءات
المالية والشخصية في البلاد المستقبلة لهم. ولكن انخفاض مستوى الدخل، أو الفقر، أو
البطالة، هو من أولى أسباب الهجرة، وكذلك الاضطرابات الاجتماعية والسياسية
والحروب، والفساد والرشوة، وانعدام الحريات العامة في أحكام الطوارئ، مما يقيِّد
حرية الإنسان، ويخفض من كرامته. وقد أسهم إنشاء إسرائيل - مثلاً - في قلب الوطن
العربي، في حرمان الفلسطينيين من مالهم وأرضهم ومائهم ومنشآتهم التي قاموا
بتأسيسها منذ مئات السنين، فتشـردوا في البلاد العربية والإسلامية من دون جنسية،
مما سبب الاضطرابات في الشـرق الأوسط، وزاد من معدلات هجرتهم إلى أقطار العالم
والبلاد العربية والإسلامية الأخرى.
ويهاجر
كثير من العائلات من البلدان النامية إلى البلدان المتقدمة صناعياً ومعرفياً،
لتعليم الأبناء في الجامعات المستقبلة لهم، حيث تمنحهم تلك البلدان الإقامة
الدائمة، أو الجنسية، وفي هذا استنزاف للبلدان النامية؛ لأن قليلاً منهم عاد إلى
الوطن الأم في نهاية القرن العشرين.
هناك أسباب مختلفة لهجرة الأدمغة، لكنها تختلف باختلاف
البلد الذي يعاني هذا النوع من الهجرة، وبشكلٍ عام يمكن تقسيم أسباب هجرة الأدمغة
إلى:
(1) عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي: فإذا كان
البلد الأصلي يعاني من الحروب والصـراعات والفوضى، سواء كانت داخلية أم مع دولة
أخرى، فإن ذلك يفتح الباب مشـرعاً أمام هجرة العقول والأدمغة، فهي تحتاج إلى
الاستقرار كي تنمو، وتطور مهاراتها، وهكذا تجد في الدول المتقدمة ضالتها، فتترك
بلدانها الأصلية وتهاجر.
فمثلاً: بعـد الاحتلال الأمريكي للعراق في 9
نيسان ۲۰۰۳م، تعرض حملة الشهادات العليا للاغتيالات،
واستخدام وسائل تهديد مباشر لإجبارهم على مغادرة العراق، وقد قتل جراء ذلـك نـحـو
(٢٤٦) عالماً، وفقاً لما أعلنه وزير التعليم والبحث العلمي العراقي. فيما هاجر
أكثر من (٢٠٠٠) منهم إلى الخارج، لذلك فإن هجرة العقول العراقيـة تعكـس خـسارة
فادحـة، واستنزافاً لشريحة نادرة ومؤثرة وفاعلة في المجتمع العراقي.
وتمثل هذه المشكلة بالنسبة للعراق، والبلدان
العربية والإسلامية، جرحاً نازفاً يثخن الجـسـد العراقـي والعربي، وتقف حاجزاً
كبيراً في طريق التنمية العربية والإسلامية، من خلال استنزاف العنصـر الأثمن
(الإنسان)، والثروة الأعلى، من بين العوامل الضـرورية للنهوض بتنمية حقيقيـة متينة
الأسس.
وتعد ظاهرة هجرة الكفاءات والعلماء من الدول
العربية والإسلامية إلى الخارج، أحد أهـم العوامـل المؤثرة على تطور الاقتصاد
القومي، وعلى التركيب الهيكلي للسكان والقـوى البـشرية. وتكتسب هذه الظاهرة أهمية
متزايدة في ظل تزايد أعداد المهاجرين، خاصة من الكوادر العلمية المتخصصة. وتتمثل
أهم الآثار السلبية في حرمان هذه الدول من الاستفادة مـن خبرات ومؤهلات هذه
الكفاءات في مجالات التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
(2) البحث عن فرص عمل: وهو أبرز
أسباب الهجرة، فغالباً ما تكون نسب البطالة، في البلدان النامية، بين الشباب - على
سبيل المثال - كبيرة، في حين تعاني البلدان المتقدمة من نقص في اليد العاملة،
فهكذا يجد المهاجر في الدول المتقدمة فرصة العمل التي يبحث عنها.
(3)
البحث عن وظائف ذات رواتب أعلى: أحياناً تتوفر وظائف للأدمغة في بلدانها
الأصلية، ولكنها تكون بأجور متدنية، ولا تراعي المهارة والموهبة التي يتمتع بها
هؤلاء، لذا يبحثون عن وظائف تناسب مهاراتهم في الخارج، حيث تكون الأجور أعلى
بكثير، والدول الغنية بحاجة لهذه المهارات.
ويفسـر بعض الخبراء هذه الظاهرة
بالشلل الإداري السائد في البلدان النامية؛ فالإنسان المتعلّم إنما بذل الجهود
المتواصلة في الدراسة والتخصّص بهدف إفادة بلده وشعبه، ولكنه عندما يتخرّج من
الجامعة تراه يُزجّ في دائرة من الدوائر، ليجلس وراء المكتب، ويقبض مرتبه، ولكنه
في قرارة نفسه يشعر بعدم الارتياح، لعلمه بأنه لا يؤدّي خدمة في المجال الذي تخصّص
فيه، ولأن التخلّف الإداري سدّ أبواب العمل في وجهه. أضف إلى ذلك، أن وجود
الديكتاتورية والاستبداد والضغط الفكري، من شأنه أن يمنع المتوقد الوهّاج من أن
يقدّم خدمة إلى بلده، فتراه يعيش حالة من التناقض والانفصام، فيتمزّق داخلياً،
ويحاول أن يستغّل أيّ فرصة للهروب والخلاص من بلده إلى البلدان المتقدمة، حيث لا يتمتع
بوضع معاشي أفضل فحسب، وإنما الفرص متاحة هناك أكثر لتقديم خدماته، والتعبير عن
إرادته، وأفكاره، وثقافته.
إن هذه الظاهرة هي -في الحقيقة- جزء
من مشكلة أكبر، هي مشكلة عدم وجود بيئة للتطوّر في بلداننا العربية والإسلامية.
(4) السعي إلى نوعية حياة أفضل: مستوى
الفقر في الدول النامية مرتفع عموماً، ولا يجد الموظفون والعاملون في القطاعات
المختلفة، في الأجور التي يتقاضونها، ما يضمن لهم عيشاً كريماً، نتيجة اضطرارهم
لتسديد مبالغ كبيرة كإجارات للمنازل، والأمور الصحية، ومستلزمات الأسـرة والأطفال،
لذلك يبحثون عن مستوى معيشة أفضل في البلدان المتقدمة، التي غالباً ما تؤمن لهم
مستوىً لائقاً للمعيشة، تجعل تركيز المهاجر منصباً على تنمية خبراته وعلمه
وقدراته، مما يسهم في نمو وتطور البلد الذي هاجر إليه.
(5) قلة مجالات البحث العلمي لحاملي الشهادات
والكفاءات:
مما يؤدي إلى ارتفاع معدلات البطالة وميل الشباب للبحث عن بدائل في الخارج.
(6) عدم قدرة المجتمع على استيعاب الطاقة
الإبداعية وأصحاب الكفاءات: الذين يجدون أنفسهم إما عاطلين عن العمل، أو لا يجدون عملاً يناسب
اختصاصاتهم في بلدانهم.
(7) عدم وجود عدد من
الوظائف، في العديد من التخصصات، مثل: علم الذرة، الدراسات الجيولوجية.
(8) عدم وجود بيئة
مناسبة للنمو الحضاري: فإننا بحاجة إلى أن
نرجع إلى قضية هامة في التطوير الحضاري لبلادنا، ألا وهي البيئة المناسبة للنمو
الحضاري في مختلف الأصعدة والمجالات. ولا يمكن تحقيق ذلك إلاّ أن نخلق في المجتمع
الروح الإيجابية، ومن ثم إيجاد حالة التعاون، كما يقول تعالى: {وَتَعَاوَنُوا
عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ
وَالْعُدْوَانِ}(سورة المائدة،الآية: 2). فعلينا أن نبدأ بأنفسنا، ونشـرع بالعمل
الجدّي، من خلال خلق الروح الجماعية في أنفسنا، في جميع الأعمال التي نؤديها،
فنبادر مثلاً إلى إنشاء لجانٍ ومؤسسات للتأليف، ومراكز دراسات وأبحاث، وتشكيل فرق
العمل العلمي، كأن تتخصص كل مجموعة في جانب ما، بعد أن تعيّن مشرفاً عليها، ينسق
بينها وبين مجموعات العمل الأخرى.
وهذا النوع من العمل
الجماعي نحن بحاجة إلى ممارسته في جميع المجالات العلمية، والفروع الأكاديمية في
الجامعات.. ليتوسع إلى أن يتحول إلى نواة للحضارة، وهذه الحضارة إنما تبدأ منا،
وتنطلق من نفوسنا، وتستند إلى مبادرتنا. والإسلام يأمرنا بالتعاون، لأنه أرضية
الحضارة، فمن المستحيل إن يبني شخص من الأشخاص حضارة، أو عملاً كبيراً، بمفرده.
(9) انعدام الحرية في
بعض الأقطار العربية والإسلامية، أو كبتها: وهو من أهم ما يميز الحياة السياسية في معظم البلدان العربية والإسلامية،
حتى أن كثيراً من المعتقلين السياسيين يحملون أعلى الشهادات العلمية؛ لا لشـيء إلا
لأن لهم وجهة نظر في سياسة بلادهم. مما يضطر أكثر الطلبة إلى الاستقرار في الخارج،
حتى لا تصل إليهم أيدي السلطة، وحيث يجدون من الحرية ما لا يحلمون به في أوطانهم.
مساهمة الدول العربية والإسلامية في إثراء
الدول الغربية:
إنَّ ما يحدث في
عالمنا العربي والإسلامي من عدم استغلال الخيرات التي منحها الله لأمتنا، على
مستويات عديدة، منها الظاهر ومنها الخفي، ومن هذا الخفي هجرة الأدمغة التي تترك
أوطانها في عالمنا لأسباب عديدة، وتهاجر إلى الغرب، فيحتضنها ويرعاها ويستفيد منها
أيما استفادة، ويضيفها إلى رصيد قوته.
وتشير الإحصاءات المأخوذة من الدراسات التي قامت
بها جامعة الدول العربية، ومنظمة العمل العربية، ومنظمة اليونسكو، وبعض المنظمات
الدولية والإقليمية المهتمة بهذه الظاهرة، إلى الحقائق التالية :
(1) يساهم الوطن
العربي في ثلث هجرة الكفاءات من البلدان النامية.
(2) إن 50% من
الأطباء، و 23% من المهندسين، و 15% من العلماء، من مجموع الكفاءات العربية
المتخرجة، يهاجرون متوجهين إلى أوروبا والولايات المتحدة، وكندا، بوجه خاص.
(3) أن 54% من الطلاب
العرب الذين يدرسون في الخارج، لا يعودون إلى بلدانهم.
(4) يشكل الأطباء
العرب العاملون في بريطانيا حوالي 34% من مجموع الأطباء العاملين فيها.
(5) أن ثلاث دول غربية
غنية، هي الولايات المتحدة، وكندا، وبريطانيا، تصطاد 75% من المهاجرين العرب.
(6) ويهاجر من
(باكستان) أعداد هائلة، وكذلك من (الهند).. فالهند وإن كانت دولة تدين بالهندوسية،
والمسلمون فيها أقلية، لكن هذه الأقلية المسلمة تبلغ حوالي (100) مليون نسمة،
وكثير منهم يهاجرون إلى إنجلترا، وفرنسا، وكندا، والولايات المتحدة، وإلى غيرها من
بلاد أوروبا. وهناك دولة إسلامية كبرى، هجّرت إلى الآن (21) ألف طبيب إلى أمريكا
فقط، هي (نيجيريا). فيما تصدّر القارة الإفريقية، وأغلبها بلاد إسلامية، حوالي
(20) ألف مهاجر سنوياً.
فهذه العقول الإسلامية
التي هربت، لو وجهت جهودها إلى خدمة المجتمعات الإسلامية، لتغير وضعها من حال
التخلف التقني إلى درجات التقدم العلمي، الذي يحفظ ماء وجهها كخير أمة أخرجت
للناس.
هذا، ولا تزال ظاهرة
هروب العقول الإسلامية مستمرة، من العالم النامي إلى العالم الصناعي، ومن القلب
العربي إلى المركز الصناعي الغربي. فهناك أكثر من مليون طالب من البلدان العربية
يتابعون دراستهم في الخارج، لا سيما الخريجين الذين حصلوا على درجة الدكتوراه..
وغالبية هؤلاء لا يعودون إلى بلادهم، إذ يعتقدون أن الفرص هناك قليلة، والأجر
منخفض، كما أنهم يشعرون بعدم الأمن، وانعدام العدالة، في بلادهم، إذ يرون أن
المؤسسات البحثية والجامعية يسودها الاستبداد والمحسوبية، إلى جانب ضعف الإنفاق
على البحث العلمي.
إن من أهم المشكلات
التي تعبر عن واقع الأمة في مختلف المجتمعات الإسلامية، وتُعيق بناء مستقبل أفضل
لها؛ مشكلة (هروب النخب العلمية) - التي تحمل العقول والخبرات والمهارات - إلى دول
الغرب، مما يؤثر في قوة الأمة الإسلامية، عموماً؛ فكرياً، وحضارياً، وتربوياً،
وعلمياً. علماً بأن ظاهرة (هروب النخب العلمية)، قد تزايدت في العقود الثلاثة
الأخيرة لأسباب كثيرة؛ منها: عدم توفير الظروف المادية والاجتماعية التي تؤمن
مستوى لائقاً من العيش، بالإضافة إلى ضعف الاهتمام بالبحث العلمي، وعدم وجود مراكز
البحث العلمي المطلوبة؛ إلى جانب المشاكل السياسية والاجتماعية، وعدم الاستقرار،
التي تعاني منها أقطار عربية مختلفة.
ومما يلفت النظر في
الوطن العربي والعالم الإسلامي أنه مع ازدياد معدلات هجرة العقول العربية
والإسلامية إلى الغرب، يزداد اعتماد غالبية البلدان العربية والإسلامية على
الكفاءات الغربية في ميادين شتى، بتكلفة اقتصادية مرتفعة، ومبالغ فيها في كثير
الأحيان.
وبعبارة أخرى، فإن
البلدان العربية والإسلامية تتحمل - بسبب هذه الهجرة - خسارة مزدوجة؛ لضياع ما
أنفقته من أموال وجهود في تعليم وإعداد الكفاءات العربية والإسلامية المهاجرة، من
جهة، ومواجهة نقص الكفاءات، وسوء استغلالها، عن طريق استيراد الكفاءات الغربية
بتكلفة كبيرة، من جهة أخرى.
إن الحقيقة المرة تكشف
أن العالم العربي الذي ينفق على السلاح (60) مليار دولار (يخزن في المستودعات)، لا
ينفق على البحث العلمي إلا (600) مليون دولار فقط (يهدر بعضها في المصـروفات
الإدارية). وبينما تنفق الجامعات العربية والإسلامية 1% فقط من ميزانياتها على
البحث العلمي، تنفق الجامعات الأمريكية 40% من ميزانياتها على قطاع البحث العلمي!!
لا شك أن هناك أسباباً
عديدة وراء هذه الظاهرة المؤسفة، ولا شك أيضاً أن استمرارها وعدم التنبه لها
ومعالجة أسبابها، سوف يزيد هذا النزيف، ويضاعف من حالة (الأنيميا العلمية،
والعقلية)، التي توهن من قوانا، وتجرنا بالتبعية خلف الدول الغربية.
فمتى نستغل طاقاتنا،
حتى لا تهاجر بمسوغات جلها غير معقول ولا مقبول؟
وقد ساهمت الدول
العربية والإسلامية فعلاً في إثراء الدول الغربية، لكن هذه الحيرة وهذه الشكوى
تزولان وتتبددان إذا ما تعرضنا للأسباب التي دعت هذه العقول إلى الهجرة ورفض الاستقرار
في أوطانها، وهذه بعضها:
(1) يعود الطالب، بعد
تخرجه في إحدى الكليات الأجنبية، ليعمل في وطنه، وهو مؤمل أن يكون مرتبه مشـرفاً
ومناسباً للشهادة التي يحملها، ولكن هذه الآمال تتلاشى حين يجد مرتبه ضئيلاً جداً،
لا يكفيه لتغطية حاجاته الضـرورية، ولا يساوي عشر ما كان يتقاضاه في البلاد
الأجنبية.
(2) يعود الطالب إلى بلده وهو يأمل المكانة
المرموقة التي يستحقها، وإذا به يجد اشخاصاً هم أقل منه بكثير، يتمتعون بدخل مرموق
جداً، فينقلب هذا النشاط وهذا التفاؤل إلى مركبات نقص ونقمة على وطنه، تجعله يهجره
إلى حيث سيجد المكانة المناسبة.
(3) افتقار الدول
العربية والإسلامية إلى المخابر العلمية؛ يدعو العلماء للهجرة إلى البلدان الغنية،
حيث سيجدون الجو الملائم لعملهم.
(4) سوء التنظيم
الإداري: إذا علمنا أن عدداً كبيراً من هؤلاء العلماء يبقون مدة طويلة يترقبون
تعيينهم في مكان ما.. وعندما ينفد صبرهم يضطرون للهجرة إلى حيث سيجدون مكاناً
شاغراً يترقب قدومهم.
وكمثال؛ أن أحد حاملي شهادة الدكتوراه في علم الذرة، عين مديراً
لإحدى المؤسسات التجارية، حيث يقوم بوظيفة لا صلة لها بما تحصّل عليه من علم، قضـى
من أجله عشـرات السنين.. وليست هذه الحالة وحيدة، بل ما أكثرها في وطننا العربي
والإسلامي، حيث نساهم في قتل المواهب، عنـدهـا لا يجـد الـعـالـم مفراً إلا
الـرجـوع من حيث أتى.
(5) انعدام الحرية
السياسية، والكبت الفكري، المنتشر في العالم العربي والإسلامي.
هذه بعض الأسباب التي
دعت أكثر العقول الإسلامية إلى الهجرة، لتشارك بناء اقتصاد الدول الغربية.. فهل
فكرنا في تفادي هذه المشاكل، ودرس كل الأسباب التي تدفعهم إلى الهجرة، لتستفيد
منهم أوطانهم التي أنفقت عليهم الأموال الكثيرة؟!.
إن إنفاق الحكومات في
بلدان الأصـل، واسـتثماراتها في تعليم أبنائهـا، الذين يهاجرون بعد ذلـك إلى بلدان
الدخل المرتفع، تعتبر مشاركة في برنامج المساعدات للبلدان المضيفة. حيث تحصـل
المجتمعات الضيفة على الضرائب من دخل المهاجرين، وتدفق العائدات من تعليم لم يمول
من قبل المجتمع المضيف. ولا يوجد شخص متعقل يمكن أن يبرر هذا الانتقال! فإذن، هناك
حالة تعويـض، ينبغي عـلى حكومات البلدان المضيفة أن تدفع الأمـوال إلى البلدان
الأصلية، مقابـل تلك الضـرائب التي هي من عائدات الاستثمار في التعليم! المؤشر
التقريبي تعويض يتمثل في مخصصات التعليم ضمن موازنة البلد المضيف. على سبيل
المثال، إذا وصلـت مخصصـات التعليم إلى 10 % من النفقات العامة، فإن عشـر مبالغ
الضريبـة التي تؤخذ من المهاجرين يمكن اعتبارها تعويضـاً عادلاً لحقيقة أن المجتمع
الضيف تلقى رصيداً من القوى العاملة، التي دفع مجتمع آخر نفقات تعليمها!
استهداف العملية
التعليمية في الدول العربية والإسلامية:
تعددت مصادر الثقافة في
عصـرنا، وتنوعت ألوانها، فلم تعد المدرسة وحدها هي المصنع الذي يُصنَع فيه الرجال،
وتصاغ فيه الأجيال. فقد أصبح ينافسها في هذا الميدان كثير من القوى الجديدة التي
ولدتها المدينة الحديثة، ينافسها في ذلك المطبعة؛ بما تخرجه من كتب ومن صحف ومن نشـرات،
وتنافسها فيه الإِذاعة والتلفزيون والتواصل الاجتماعي؛ بما توجهه من كلمات وألحان
وأفلام في مختلف الصور والألوان، وتنافسها فيه السينما والمواقع الإلكترونية؛ بما
تجسمه لوحتها الخداعة من حكايات، وما تَعْرِضه من فنون وشؤون، وتنافسها ألوان
أُخرى أقل أهمية؛ مثل المحاضرات والندوات والمسامرات والمؤتمرات، التي تعقد في
الأندية، وفي المواسم، بمختلف صورها، وفي الجماعات، ومثل شركات تسجيل الأغاني
الهابطة والأفلام الرخيصة، ودور اللهو والتمثيل.
كل هذه الألوان من مصادر الثقافة في عصـرنا،
تبين أن وزارة التربية والتعليم لم تعد وحدها في هذا الميدان، وأنها لا تستطيع أن
تنهض بعبئها، ما لم تجد عوناً يشد أزرها من كل هذه الأدوات الضخمة. ومن العبث
الساخر، والجهد الضائع، أن تنفق هذه الوزارة ما تنفقه من جهد ومن مال، بينما
الأدوات الأُخرى تتعقب جهودها وآثارها، تنقض ما أبرمته، وتشكك فيما قررته، وتدعو
إلى ما حذرت منه وحرّمته، وتقيم للناس مُثُلاً، وتبتدع لهم طرائق وعادات مما
تقترحه أو تختلقه، هي على نقيض ما تريد المدارس أن تزرعه وأن تؤسسه في أخلاق
النشء، وتصـرف القراء عن الجد من القول إلى الهزل، وعن النافع المثمر إلى التافه الغث، فتخلق أمزجة فاسدة باردة، لا تجد لذة
ومتاعاً إلّا في الساقط من القول، واللهو من الحديث.
ومن الواضح أن الدولة
التي تنفق أموالها، وتستهلك جهودها وقواها في إنشاء المدارس، وفي إعداد القائمين
عليها، وفي إحكام نظمها وبرامجها وألوان النشاط فيها، ثم تسهو بعد ذلك عن هذه
القوى الخطيرة التي تشاركها في هذا الميدان، فتترك سبلها ومنافذها مفتوحة لشهوات
المأجورين والمخدوعين، ومطايا الشياطين من الفاسدين والمفسدين، تفعل ذلك تقديساً
للوهم الذي أقامته الثورة الفرنسية اليهودية، وزخرفت له اسمًا خداعاً خلاباً،
فسمته (حرية الرأي)، أو (حرية النشـر)، أو (حرية الفرد)، وما هو في حقيقة الأمر
إلّا وسيلة اليهودية العالمية لإِفساد الجماعات، وهدم كل الأديان، حتى يتمكنوا من
السيطرة عليها جميعاً، بعد أن يقضوا عليها قضاء مبرماً. إن الدولة التي تفعل هذا
هي كالنافخ في قِرْبةٍ مقطوعة، أو الجابي في حوضٍ مثقوب.
لقد تمكن التعليم
العربي والإسلامي، بعبقريته الإسلامية، من دحض (الادعاء الكاذب) لعلم النفس
التربوي، في فصل التعليم عن التفكير، من خلال اعتماد برامج تعطي الأولوية للمحتوى
التقني والوجداني، على حساب التفكير الإبداعي العقلاني.
فنحن نلاحظ اليوم أن
البرامج الرسمية المعتمدة في التدريس، تشجع أكثر فأكثر على الاهتمام بالمواد
العلمية والتقنية. ولهذا التوجه ما يبرره بطبيعة الحال، أي ضمان حيّز من المعرفة،
وكمّ من الخريجين القادرين على تطبيق توجهات الدولة التنموية، وعلى اللحاق بركب
التكنولوجيا، أي تكوين طبقة من التكنوقراط الطيعين والقادرين على ضمان فاعلية قصوى
للنظام القائم.
وهذه البرامج تحد من
إمكانيات التفكير لدى الطلاب، من خلال إقصاء المواد الحاثة على التفكير؛ كالعلوم
الاجتماعية والإنسانية، مقابل التشجيع الكبير على العلوم الرياضية والفيزيائية
والطبيعية.
ويمكن القول إذن: أن
أحد الأهداف الرئيسية من وراء ذلك هو الحد من إمكانيات التفكير الفلسفي العقلاني،
أي الحد من إمكانيات التفكير في الأنا؛ كإنسان وككائن اجتماعي، أي في نهاية الأمر
الحد من إمكانيات الوعي بالذات.
إن استهداف العملية
التعليمية في الدول العربية والإسلامية، هي في مقدمة أولويات السياسة الغربية،
لإفقار وتجهيل المجتمع العربي والإسلامي، وطمس هويته، وتشويه الحقائق التاريخية،
والتضييق على مؤسسات التعليم العالي، ومنعها من الانفتاح على العالم لتطوير
برامجها وخططها، بما ينعكس على إثراء خبرات الأكاديميين، ومعارف الطلبة، وتعزيز
التبادل الأكاديمي عموماً.
المخطط الغربي في استقطاب الكفاءات العربية
والإسلامية:
ارتبطت ظاهرة الهجرة الخارجية في المجتمعات
العربية والإسلامية بمعنى أساس محدد، يتمثل في انتقال الشباب من دولة إلى أخرى،
بحثاً عن عمل، أو فرص ارتقاء اجتماعي واقتصادي وعلمي مختلفة، أفضل من القائمة في
بلدانهم، وفي حالات عدة - على نحو قسـري - بحثاً عن الأمان، للتخلص من أوضاع
الاضطراب الاجتماعي والسياسي، أو الظلم والاضطهاد الاجتماعي أو السياسي.
وشهدت المجتمعات العربية والإسلامية، ولا سيما
مجتمعات المشـرق العربي الكبير، منذ المرحلة العثمانية المتأخرة، في الربع الأخير
من القرن التاسع عشـر، وحتى اليوم، موجات مختلفة ومتعددة الأحجام من هجرة الشباب إلى
الدول المستقبلة للهجرة، خصوصاً الأميركيتين، ودول ما وراء البحار، في مرحلة ما
يدعي في أدبيات الهجرة الدولية بموجة الهجرة الدولية الأولى (1914-1880)، التي
تقلصت جداً خلال موجة الهجرة العربية والإسلامية الكبرى الثانية، في النصف الأول
من القرن العشـرين (1945-1915)، بموجب (الحصص)، بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى،
ليصل تقلصها إلى أعلى مستوى له مع أوائل ثلاثينيات القرن العشرين. ويمكن وضع
الهجرة الدولية الكبرى للشباب العربي في تلك الفترة في سياق تلك الموجة.
ولا شك أن وزارات التربية والتعليم هي أهم
المعاقل والحصون الساهرة على أمن الشعوب وكيانها، لأنها هي المؤتمنة على أثمن ما
تملكه الأمة من كنوز، وهي الثروة البشرية، بما تنطوي عليه من قوى مادية، ومن ملكات
عقلية وخلقية، ممثلة في رجال الغد الذين تشـرف على تربيتهم، وهي ثروة تتضاءل إلى
جانبها كل كنوز الأرض، لأن كنوز الأرض لا تساوي شيئاً بدونها.
فالعقل هو الذي يستخرجها من مكامنها، ويحيلها
من مادة صماء جامدة إلى قوة حية منتجة، والخلق الديني هو الذي يدفع الناس إلى
إعمال هذا العقل في الطريق الصحيح، وإلى بذل الجهد فيما وكل إليهم من أمور، أداءً
للأمانة، وابتغاءً للعزة والسيادة، وإعلاءً للحق .
وقد أصبحت مطامع أمريكا في هذه المنطقة،
وعداوتها لحماتها الذين يتصدون لحراستها، ويتزعمون نهضتها، مشهورة لا تخفى ولا
تحتاج إلى تنبيه. فاتصال القائمين على شؤون التربية والتعليم، في هذه الأمة
العربية والإسلامية، بالمؤسسات الأمريكية، والتعاون معها في ترويج مبادىء وأساليب،
يقال إن المقصود به هو رفع مستوى التعليم وإصلاح شؤون الجيل الجديد، وهو أمر لا
يصدقه العقل، ولا يتفق مع ما يبذلون من محاولات ظاهرة وخفية لابتلاع هذه الأمة
والكيد لها. فالذين يشتركون في المؤتمرات الأمريكية، والذين يتعاونون مع دور النشـر
الأمريكية - وكلها يمول من مصادر مريبة - يسخرون من عقولنا، ويخدعون أنفسهم إن
زعموا أنهم يخدمون أمتهم بالاشتراك في هذه المؤسسات.
فأمريكا في التسعينات أعطت (12) مليون تأشيرة
هجرة إليها، وفي عام (1995م) قاموا بتعديل في قانون الهجرة؛ لكي يستقطبوا العقول
المفكرة والمبدعة في العالم، فخصصوا (200) ألف تأشيرة سنوياً للعقول المبدعة..
انظروا إليها تحاول أن تبني نفسها أكثر وأكثر، مع أن أمريكا (رقم واحد) في العالم
في العلوم الآن؛ ومع ذلك فإن أي عقل يظهر فيه نوع من الذكاء أو الإبداع تعمل له
إغراءات حتى يأتي إليها، لا يأتي بعقد عمل ويعيش كالأجير عندهم، ولكن يعطى
الجنسية، ويعطى كل الصلاحيات، أحياناً المسلم يعيش في بلاد مسلمة سنوات وسنوات ولا
يستطيع أن يحصل على هذه الجنسية، بينما إذا ذهب إلى أمريكا بتأشيرة الهجرة مدة
ثلاث سنوات يحصل على الجنسية الأمريكية، ويصبح كأي مواطن أمريكي.
إن معظم المشـروعات التي تقام في البلدان
العربية والإسلامية تنفذها في أغلب الأحيان شركات أجنبية للاستشارات والمقاولات،
مع مشاركة وطنية في الحدود الدنيا. والنموذج السائد في البلدان العربية
والإسلامية، لتنفيذ المشـروعات، هو نمط الصفقات التي لا تنطوي في أغلب الأحيان على
نقل التكنولوجيا إلى الكوادر الوطنية، بل إقامة مشـروعات الإنتاج الجاهزة وفق
نموذج (تسليم المفتاح). ومن الواضح أن هذه الطريقة في التعامل لا تتيح للعلماء
والخبراء العرب إلا القليل من فرص العمالة وإثبات الجدارة، الأمر الذي يشعر
أصحابها بالاغتراب في أوطانهم، وتشكل دافعاً للهجرة. هذا فضلاً عن أن هذه الظاهرة
تشكل تبديداً كبيراً للموارد العربية والإسلامية، في استيراد التكنولوجيا الجاهزة
من البلدان الصناعية الغربية، الأمر الذي يعني بالتالي صرف النظر عن توفير الدعم
المالي اللازم لأنشطة البحث العلمي اللازم لبناء قاعدة تقنية عربية.
فالدول العربية والإسلامية تفتقد ما يمكن أن
يطلق عليه (مشـروع التنمية المتوازنة والشاملة)، والذي من أهم عوامله خلق وتعزيز
البيئة الفكرية والعلمية والثقافية، التي توفر مقومات العمل والاستقرار المعيشي
والنفسي والإنتاج العلمي.
إن فقدان أي نوع من الوحدة، أو التكامل، أو حتى
التنسيق بين البلدان العربية والإسلامية، في معالجة موضوع هجرة الأدمغة، أو
استخدام الكفاءات الوطنية وأصحاب الخبرات من العلماء والمهندسين والأطباء وغيرهم .
ومن الواضح أيضاً أن هجرة الأدمغة تؤدي إلى
توسيع الهوة بين الدول الغنية والدول الفقيرة، لأن هجرة أصحاب الكفاءات إلى الدول
المتقدمة، تعطي هذه الدول فوائد كبيرة ذات مردود اقتصادي مباشر، بينما تشكل
بالمقابل خسارة صافية للبلدان التي نزح منها أولئك العلماء، خاصة لأن التكنولوجيات
والاختراعات المتطورة التي أبدعها أو أسهم في إبداعها أولئك العلماء المهاجرون،
تعتبر ملكاً خالصاً للدول الجاذبة.
وتقوم الدعاية البرجوازية بالتغطية على مشكلة
(هجرة الأدمغة)، وتقـوم بإظهارها على أنها مجرد عامل في عملية هجرة العمل الدولية.
وفي الحقيقة، فإن هناك عوامل دفع وجذب عديدة لهجرة الأدمغة، منها:
(أولاً): عوامل الدفع لهجرة العقول: هي
مجموعة العوامل التي تدفع الأفراد إلى هجرة أوطانهم، مثل العنصـرية،
والديكتاتورية، وعدم تقدير العلم والإبداع، التي تشكل الدافع للأشخاص الأذكياء،
الذين يهاجرون من البلدان الأقل نمواً.. فبالإضافة إلى البطالة وعدم الاستقرار
السياسي، فإن بعض عوامل الدفع الأخرى هي:
1- عدم وجود مرافق بحثية: فعالم
الكيمياء - على سبيل المثال - لا يجد مرفق بحثي يعمل به في بلده، فيبحث عنه في بلد
آخر أكثر تقدماً.
2- التمييز في التوظيف: سبب آخر
طارد للعقول والأدمغة، وهو اتباع المحسوبية والفساد في تعيين الموظفين، عوضاً عن
معايير الكفاءة والخبرة والفرص المتساوية للجميع، فيجد المهاجر ضالته في الدول
المتقدمة، التي يكون التوظيف فيها على أسس الكفاءة والخبرة، معظم الأحيان.
3- التخلف الاقتصادي: تدني
الوضع الاقتصادي أحد الأسباب الرئيسية التي تدفع أصحاب الموهبة والكفاءة للهجرة، الذين
لا يجدون – غالباً – عملاً، وإذا وجدوه فالأجر لا يكفي لتأمين مستوى معيشـي جيد
يتناسب مع كفاءة هذا الشخص وما يحمله من خبرات وشهادات.
4- انعدام الحرية: تشكل القيود في
التعبير عن الرأي، سواءً فيما يتعلق بالشأن السياسي أو الواقع الاقتصادي، وطرق
تحسينه وتطويره، إلى تفضيل الفرد الهجرة ومغادرة بلده إلى بلد آخر يحترم رأيه ولا
يحاسبه عليه، بل على العكس قد يستفيد منه في عملية التطوير.
5- ظروف العمل السيئة: قد تساهم
ظروف العمل السيئة في البلدان الأصلية، وعدم توفير كل متطلبات العمل، إضافةً
لتأثير العلاقات الشخصية على علاقات العمل، في دفع الأفراد للهجرة خارج بلدانهم،
إلى دول تكون ظروف العمل فيها أفضل، ويكون تأثير العلاقات الشخصية على العمل
محدوداً.
(ثانياً): عوامل الجذب لهجرة الأدمغة: يُقصد
بعوامل الجذب، هي الخصائص الإيجابية للبلد المتقدم، الذي يرغب المهاجر في
الاستفادة منها.. فإضافةً إلى الوظائف ذات الأجور الأعلى، ونوعية الحياة الأفضل،
هناك عوامل جذب أخرى هي:
1- التوقعات الاقتصادية المتفوقة: توقع
الفرد بأنه سيحقق فوائد اقتصادية كبيرة من العمل في الخارج، تضمن مستوى معيشة لائق
له ولعائلته، أحد العوامل التي تشجعه على الهجرة.
2- مكانة التدريب الأجنبي: يأمل
الفرد بزيادة فرص التدريب والحصول على المهارات من البلد المتقدم، وهذا أحد أسباب
تفكيره في الهجرة، فهو يتعلم لغة ثانية، ويطلع على آخر ما توصل له العلم في مجاله.
3- البيئة السياسية المستقرة نسبياً: تمتاز
البلدان المتقدمة بأنها مستقرة، ولا يوجد فيها اضطرابات، بالتالي لا يوجد أي تهديد
يمنع الفرد من العمل، أو يحد من تطويره لمهاراته وخبراته، بالتالي يفضل الفرد
الانتقال إلى هذا البلد.
4- نظام التعليم الحديث والسماح بالتدريب
المتفوق:
يعتمد نظام التعليم في الدول المتقدمة على الموهبة والمهارات أكثر مما يعتمد على
التلقين، وهذا يشجع الفرد على الدراسة في هذه الدول، سيما أن الشهادة الممنوحة
هناك يكون معترفاً بها عالمياً.
5- الحرية الفكرية: تسمح
البلدان المتقدمة للفرد بمطلق الحرية في التعمق والتفكير، لما فيه مصلحة الشـركة
أو المؤسسة التي يعمل بها، بالتالي تفتح له باباً جديداً للإبداع، ربما لم يكن
متاحاً له في بلده الأصلي.
الخاتمة
إن نجاح الدول العربية والإسلامية في الحد أو
القضاء على نزيف العقول، يعود إلى الأسباب والحوافز والدوافع المؤدية للهجرة،
وكذلك على مدى حاجة البلدان المتقدمة وطلبها، وفي طليعتها الولايات المتحدة
الأمريكية. فالهجرة العلمية والفنية تسير جنباً إلى جنب مع التنمية الاقتصادية،
والتنمية تجتذب العقول والكفاءات من الأقطار العربية والإسلامية النامية إلى
البلدان الصناعية المتقدمة. وعليه، فلا رادع للهجرة العلمية إلا التنمية الشاملة
والمتكاملة في كامل البلاد العربية والإسلامية.
وهذا يتوقف على مدى نجاح البلاد العربية والإسلامية
في:
(1)
توفير الحريات الفكرية والسياسية لأصحاب الكفاءات العلمية.
(2) توفير
الحوافز المادية والمعنوية لأصحاب الكفاءات العلمية، وذلك من خلال زيادة رواتب
وأجور هذه الشـريحة من المجتمع، بما يجعلهم يشعرون بقيمة عملهم وإنجازاتهم
العلمية.
(3) إصلاح سياسة التوظيف في الدول العربية
والاسلامية، وذلك من خلال وضع الرجل المناسب في المكان المناسب.
(4)
وضع خطة شاملة طويلة الأمد، وخطط فرعية مرحلية، لاحتياجات الدول العربية والإسلامية
من القوى العاملة، المؤهلة علمياً وعملياً، في القطاعات الرئيسة للتنمية، وفي
المجالات كافة.
(5)
العمل على استثمار وتشغيل الكفاءات العلمية العربية والإسلامية المحلية في مشاريع
البناء والتطوير والتنمية، وعدم تفضيل الخبرات الأجنبية عليها، إلا عند الضـرورة
القصوى.
(6)
الاهتمام بالبحث العلمي، وفتح وتوسيع مراكز البحث العلمي الموجودة، وتخصيص المبالغ
المناسبة لذلك.
(7) على
الدول العربية والإسلامية اتخاذ قرارات سياسية واقتصادية مناسبة لتحسين البيئة
الاقتصادية والاجتماعية والعلمية داخل دولهم، للمحافظة على الكفاءات العلمية
العربية والإسلامية، وجذب الكفاءات الموجودة في الخارج.
(8)
تخصيص حصة من الموازنة العامة للدولة لأغراض البحث والتطوير.
(9)
على الدول العربية والإسلامية زيادة الاهتمام بالباحثين، من ناحية تحسين أوضاعهم
المادية، ومستوى معيشتهم، وتأمين مستلزماتهم اللازمة للقيام بالبحث العلمي، وتوفير
الحد الأدنى من الاستقرار النفسـي والذهني للباحثين، ومنحهم حرية التحرك والتنقل
والاتصال، بمعزل عن العوامل السياسية.
(10) ضرورة
العمل على رفع مستوى مهارة العمالة العربية والإسلامية، والتركيز على التخصصات
والمهن التـي تحتاجها أسواق العمل الخارجية، حتى تصبح لها القدرة على منافسة
العمالة الأجنبية الأخرى.
(11) من أجل منع هجرة الكفاءات السلمية العربية
والإسلامية، أو الحد منها، أو استقطاب تلك الكفاءات العلمية المهاجرة، بتوفير
الحريات السياسية، والأمن الشخصـي، لأصحاب تلك الكفاءات، بالإضافة إلى توفير المستوى
اللائق والاحترام والتقدير؛ من قبل الدولة والمجتمع على السواء، فضلاً عن المستوى
المعاشي الجيد، والسكن اللائق.
(12) الأخذ بنظر الاعتبار ضرورات تحقيق التنمية
الاقتصادية والاجتماعية والاستقرار السياسي، فإن واحداً من المهام المطلوبة في
رعاية الكفاءات العلمية المهاجرة، وتشجيع عودتهم، هو ضمان حرية الانتقال والسفر،
وعدم تنمية الشعور لديهم بأن عودتهم إلى الوطن سوف تحرمهم من السفر ثانية.
(13) تأسيس
مراكز البحوث العلمية المختلفة في رحاب الجامعات، والتعامل مع هذه المراكز
بالاهتمام الكافي، وتأمين كافة مستلزمات عملها.
(14) الدعوة إلى تسهيل مهام عمل أصحاب
الكفاءات، في مختلف الدول العربية والإسلامية، وتخفيف الإجراءات المعقدة.
(15) إعادة النظر بمفهوم الجامعة، وبفلسفتها
وأهدافها وتقنياتها، إذ لم تعد الجامعة مجرد مؤسسة مهمتها نقل المعرفة (التدريس)
والبحث العلمي فحسب، بل هي مؤسسة مهمتها تنمية العقل الناقد والفكر الحر، وهي
مراكز استشارية لحل مشكلات المجتمع والإسهام في تطويره.
(16) إن العامل الأهم لبقاء الكفاءات الطبية
داخل أوطانها، أو تشجيع الكفاءات المهاجرة بالعودة إلى أوطانها، هو احترام وتقدير
الكفاءات العلمية، وتحقيق الأمن والاستقرار السياسي والاقتصادي في هذه الدول،
والتبادل السلمي للسلطة ، وتوفير السكن اللائق والمستوى المعيشـي الجيد، الذي يحفظ
كرامتها، ويضمن مستقبلها، ويحملها للتفرع للبحث والإبداع.
(17) لو أنفقت الحكومات الإسلامية والأنظمة
العربية على البحث العلمي ربع ما تنفقه على الراقصات والفنانين وألوان الترف لدى
الفئات الحاكمة؛ لما اضطر آلاف الشباب والنخب العلمية والفكرية إلى الهرب من جحيم
الأنظمة إلى جنة الحرية الأكاديمية في بلاد الغرب!
على الأمراء والحكام أن يحترموا العقول والنخب
العلمية، على الأقل كما يحترمون الفنانات وبغايا الكليبات.
المصادر والمراجع:
(1) بين عصرين:
الاستراتيجية الأمريكية في العصـر التكنتروني، زبيغنيو بريجنسكي،
ترجمة: محجوب عمر، دار الطليعة، بيروت،1980م.
(2) تقرير الهجرة في العالم لعام 2020م، المنظمة
الدولية للهجرة، جنيف، 2019م.
(3) حصوننا مهددة من داخلها، محمد محمد
حسين، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط8، 1983م.
(4) دراسة سوسيولوجية لظاهرة
الهجرة لذوي الكفاءات العلمية من مصـر إلى المجتمعات العربية الشقيقة وآثارها على
المجتمع المصـري، سنية عبدالوهاب صالح، دار السويدي للنشـر والتوزيع، أبو ظبي،
1984م.
(5) عرب أوروبا: الواقع والمستقبل، د.مصطفى عبدالغني،
دار الجمهورية للصحافة، القاهرة، 2009م.
(6) العرب وتحديات العلم والتقنية، أنطوان
زحلان، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1981م.
(7) مشكلات عربية: رؤية عامة، باسم
صالح شادي، دار مجدلاوي للنشر والتوزيع، عمان، 2010م.
(8) الموسوعة العربية العالمية، مؤسسة
أعمال الموسوعة للنشر والتوزيع، الرياض، 1999م.
(9) نزيف الأدمغة: هجرة العقول العربية إلى
الدول التكنولوجية، محمود ياسين عطوف، دار الأندلس، بيروت،
1983م.
(10) هجرة الأدمغة العربية، الياس
زين، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1972م.
(11) هجرة العقول العربية: أسبابها وسبل
معالجتها،
دردة أحمد العلي، المنارة للنشـر، بيروت، 2001م.
(12) هجرة العقول، رياض عواد، دار
الملتقى للطباعة والنشر، قبرص، 1993م.
(13) هجرة العلماء العرب، محمد عبد
القادر أحمد، جامعة الدول العربية، القاهرة، 1986م.
(14) هجرة العلماء العرب، محمد
عبدالقادر أحمد، مكتبة النهضة المصرية ، 1986م.
(15) هجرة العلماء من العالم الإسلامي، محمد عبد
الحليم مرسي، مركز البحوث بجامعة محمد بن سعود الإسلامية، وزارة التعليم العالي،
الرياض ، 1984م.
(16) هجرة الكفاءات العربية: الأدمغة العربية، سيرين
مدحت خيري وإحسان غسان مدحت، الصايل للنشر والتوزيع، عمان، 2013م.
(17) هجرة الكفاءات العربية: بحوث
ومناقشات الندوة التي نظمتها اللجنة الاقتصادية لغربيّ آسيا والأمم المتحدة، مركز دراسات الوحدة العربية،
بيروت, 1981م.
(18) هجرة الكفاءات العربية، أنطوان زحلان، مركز دراسات الوحدة العربية،
بيروت 1982م.
(19) هجرة الكفاءات العلمية والفنية العربية:
رؤية تربوية معاصرة، اميل فهمي حنا شنودة، دار العلم للطبع والنشر
والتوزيع, 1983م.
(20) هجرة الكفايات العلمية، محمد
ربيع، مطبوعات جامعة الكويت، الكويت، 1972م.
(21) الهجرة وأحكامها: دراسة شرعية لواقع
الهجرة العشوائية في العصـر الحديث، د. إبراهيم عبد الله سلقيني، الملتقى
للنشر، غازي عنتاب- تركيا، 2022م.
(22) الهجرة وهجرة الكفاءات العلمية العربية
والخبرات الفنية أو النقل المعاكس للتكنولوجيا، محمد رشيد الفيل،
دار مجدلاوي للنشر والتوزيع، عمان، 2000م.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق