عندما بدأت العملية السياسية في العراق بعد عام 2003 ، كانت ـ ولازالت ـ متأثرةً بتراكمات الماضي الممتد إلى عشرات، بل مئات السنين، وهو ما ترك آثارا سلبية على الكثير من مفاصل العملية السياسية الديمقراطية، التي ولدت بتشوهات خلقية ألقت بظلالها بعد مرور ثمان سنوات على مجمل الحالة العراقية بمختلف قطاعاتها الخدمية والاقتصادية والاجتماعية.
ولو أننا عدنا قليلاً إلى الوراء لوجدنا ان أساس المشكلة كان في أزمة الثقة بين مكونات الشعب العراقي، فالشيعة يرون انهم اضطهدوا منذ زمن الدولة العثمانية وان اضطهادهم استمر حتى بعد قيام الدولة العراقية الحديثة عام 1921 ، أما الكرد فيرون أن الأساس القومي الذي قامت عليه الدولة العراقية ضيّع حقوقهم القومية كشعب كردي يعيش في هذا الوطن ويشكل جزءاً حيوياً منه ، أما السنة وهم الأقرب للسلطة والأكثر نفوذاً في العراق منذ مئات السنين ، فإنهم يخشون الانتقام الشيعي ـ الكردي بسبب ما لاقته هاتان الفئتان من جور الأنظمة العراقية المتعاقبة، وكان آخرها نظام صدام حسين الذي اعتمد على الإقصاء والتهميش للكثير من مكونات الشعب العراقي وبالخصوص الشيعة، حتى وصل الأمر إلى محاربتهم في طقوسهم الدينية وعباداتهم اليومية.
وبناءً على ما تقدم تمت كتابة الدستور على أساس توافقي، وتم إقرار النظام البرلماني للدولة إرضاء لجميع المكونات وطمأنةً لها، إلا أن هذا النظام أدخل الحكومة العراقية في نفق المحاصصة المسماة بـ(التوافق )، فالكتل الكبيرة أصبحت تتحكم بالبرلمان وتفرض على الحكومة ـ وهي الجهاز التنفيذي ـ وزراء وموظفين لا يملكون الكفاءة اللازمة لإدارتها، ومؤهلهم الوحيد للمنصب هو انتماؤهم للكتلة الفلانية او الطائفة العلانية، وفي حين لا نستغرب ان يخضع البرلمان للمحاصصة بين مكونات الشعب، لأنه مجلس تشريعي رقابي يمثل المكونات العراقية بنسبها السكانية الموجودة على ارض الواقع، الا ان المستغرب ان تنتقل المحاصصة إلى مجلس الوزراء مع انه جهاز إداري تنفيذي ، فتوزيع الوزارات يكون على الكتل البرلمانية باحتساب نقاط لكل كتلة على ضوء عدد المقاعد التي تمتلكها في البرلمان، ظناً منهم ان هذه الطريقة تمثل الديمقراطية التوافقية...!!! ولا ادري أي عقلية ساذجة أقرت هذا النظام ؟! فالمعروف ان عدد الوزارات في جميع دول العالم يكون محدداً مسبقاً ، ثم يقوم رئيس الوزراء أو رئيس الجمهورية باختيار وزراء لشغل هذه الوزارات، اما ان يرتبط عدد الوزارات ارتباطاً نسبياً مع عدد المقاعد البرلمانية فهو من المآسي المضحكة ؟؟!!!.
اذ انه يعني ان تزيد الحكومة من عدد وزاراتها في كل دورة برلمانية مع زيادة نسبة الكتل التي تترشح للبرلمان، وهو ما حدث بالفعل خلال دورتين برلمانيتين حتى وصل عدد الوزارات الآن الى 43 وزارة وهي اكبر وزارة في العالم!!!، ولا يخفى على كل ذي رأي ما يمثله هذا التوسع في عدد الوزارات من استنزاف لموارد الدولة ولموازنتها، في حين ينتظر الشعب من الحكومة ان تحقق له التنمية وتسد النقص الكبير في الخدمات الأساسية والبنى التحتية التي يحتاجها.
كما ان هذه الطريقة جعلت رئيس الحكومة بمنأى عن المحاسبة، فقد برر رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي أكثر من مرة خلال الدورة السابقة فشل حكومته في توفير الخدمات ومكافحة الفساد بأنه لا يتحمل أخطاء وزرائه لأنهم مفروضون عليه من قبل أحزابهم وانه لا يستطيع محاسبتهم، وهو امر واقع، فالتوافق يفرض على أي رئيس وزراء أن يقبل بما تقدمه له الكتل السياسية من اسماء، وأزمة الثقة بين الكتل يجعلها تؤّل كل محاسبة لأحد وزرائها بأنه استهداف لها من قبل الكتل الأخرى، وهكذا حتى دخلت البلاد في دوامة من الفساد والتربح على حساب المال العام والإهدار والاستنزاف للموارد.
لذلك فقد أثبتت التجربة ان أفضل الحلول للإصلاح السياسي الذي يستتبعه الإصلاح الاقتصادي والتنموي والاجتماعي، أن يتحول العراق الى النظام الرئاسي بان يكون انتخاب رئيس الجمهورية مباشراً من الشعب، ويكون هذا الرئيس مسؤولاً عن تشكيل الحكومة ليتحمل نتائج الفشل والنجاح، ولا يتملص من المسؤولية بحجة المحاصصة والتوافق.
أما من يبحثون عن ضمان حقوق المكونات العراقية فنقول انها مضمونة مسبقاً من خلال تمثيلها في البرلمان المنتخب من قبل الشعب، وكل ما نحتاجه لضمان هذه الحقوق هو تفعيل البرلمان من خلال انتخاب الأشخاص الأكفاء والممثلين الحقيقيين لمكونات وطوائف الشعب العراقي.
* كاتب وصحافي - النجف
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق