يشهد العالم العربي هذه الأيام موجة من التظاهرات الجماهيرية والغضب الجماهيري بشكل غير معهود من قبل.. وقد كثرت التفسيرات والأقاويل بشأن هذه الأحداث وأسبابها، بدءا من القهر السياسي وانعدام المشاركة السياسية وهشاشة الديمقراطية المدعاة، فضلا عن التخلف الاقتصادي وفقدان العدالة الاجتماعية، وليس انتهاء بالتبعية الشاملة للغرب سياسيا واقتصاديا وثقافيا..
والملاحظ ان هذه الاحداث ما ان انفجرت شرارتها في تونس حتى انتقلت سريعا الى ......
بلدان اخرى كثيرة كمصر واليمن وليبيا والبحرين والجزائر وغيرها.. وهذا يدل على ان الاسباب واحدة وان الارضية متشابهة وان ما يجري ليس سحابة صيف او عاصفة عابرة، وانما هو زلزال سياسي واجتماعي وثقافي شامل، لن يهدأ حتى يحقق اهدافه .. واذا كانت وتيرة الاحداث في بعض الدول اسرع منها في بعضها الاخر فان ذلك يدل على تفاوت شدة وقوة هذه العناصر المولدة لهذا الغضب والاحتقان الجماهيري من بلد الى اخر..ولكن الشيء المؤكد انها جميعا تشترك في ان الأسباب والدوافع موجودة، وأن هذه الأحداث قد وضعت المنطقة بأكملها على أعتاب عهد جديد. زمن استبدادي طويل..
لقد مرت قرون طويلة على هذه الأمة وهي تعيش في ظل أنظمة حكم جائرة لا تحكمبالسوية ولا تعدل بين الرعية.. أنظمة قامت على أسس حكم العائلة او العصبة، بعيدا عن مشاركة الشعب، وفي أحيان كثيرة رغم إرادته.. وإذا كان الإسلام كدين قد جاء بمبادىء سامية في مجال إقامة الحكم العادل والراشد، فإن التطبيق التاريخي لتلك المبادىء السامية لم يستمر طويلا، وسرعان ما جرى الالتفاف عليها منذ زمن (معاوية) والحكم الأموي، الذي أسس لطريقة جديدة في الحكم الجبري ظلت سارية حتى سقوط (الدولة العثمانية) بدايات القرن العشرين، لتبدأ مرحلة جديدة من حكم الدويلات القومية والوطنية، التي سارت على نهج الحكم الجبري الأموي دون أن تقترب من المبادىء الإسلامية في الحكم، أو أن تستفيد من الآليات الديمقراطية التي وجدت رواجا لها في (الغرب الأوروبي) منذ (الثورة الفرنسية).. إن هذا الزمن الاستبدادي الرديء والطويل من الحكم الجبري في منطقتنا العربية والإسلامية، أرسى حالة من التخلف الاجتماعي والاقتصادي والفكري والسياسي، وعلى كل المستويات، وأفقد إنسان هذه المنطقة كل فاعليته.. ولذلك وجدنا أن قطار التقدم والتطور الحضاري كان يسير غير عابىء بنا، وقد تقدمتنا دول في سباق التطور هذا، كانت تعد متخلفة عنا بكل المقاييس، فإذا بها تتفوق علينا في مسيرتها نحو ركب الحضارة..
تغيير على قطار التضحيات..
لقد سطرت الجماهير العربية بدمائها وتضحياتها ما يمكن اعتباره أكبر ثورة تحررية ثقافية منذ بزوغ شمس الإسلام على هذه المنطقة.. فلقد جاء الإسلام بمبادىء مثل أن السلطة للشعب يوليها من يشاء، وأن الحاكم الذي يولى من قبل الشعب هو (أجير) عنده قبل أن يكون (أميرا) عليه، وأنه إذا ما قصر أو أساء في إمارته، فإن على من ولاه (وهو الشعب) أن يقوم بنصحه وتقويمه، فإن لم ينتصح، يصار إلى عزله وتنصيب غيره بدلا منه.. وهذه المبادىء السامية وجدت تطبيقها الناصع في فترة (الخلافة الراشدة)، وهكذا وجدنا الخليفة الأول للمسلمين (أبي بكر الصديق) يقولها عفوية في أول خطبة له بعد توليته، دون أن يلقن بها أو يتردد بشأنها، لأنها كانت واضحة في ذهنه، بدهية حسب معرفته وفهمه للإسلام، وكذلك كانت عند جمهور المسلمين من الصحابة آنذاك، وهكذا وجدناه قائلا:" إني وليت عليكم{فهناك جهة قامت بتوليته، وليس الأمر قدرا مقدسا أو اختيارا إلهيا} ولست بخيركم{وهذا فهم آخر اختفى تماما بعد عصر الخلافة الراشدة،ولم نعد نجده إلا عند حكام الغرب في العصر الحديث..فالحاكم لا يختار لهذه المهمة لأنه من طينة أرقى، ولا هو بالذي يصبح كذلك بعد اختياره للحكم}، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني...{فإن أحسن الحاكم فإن على جمهور المسلمين أن يصبح عونا له، ولكن إن أساء أو انحرف، فعلى المسلمين أن يأخذوا على يديه ويقوموا بنصحه وتقويمه، لأنه ليس معصوما، ولا هو بمطلق الصلاحية، وإنما هو وكيل عن المسلمين يعمل في مصالحهم بما يفيدهم، فإن لم ينتصح جرى عزله وتنصيب غيره!}.. فهذه الخطبة على قصرها أثبتت أسس الحكم الراشد والصالح في الإسلام، وقد استمرت هذه الأسس واضحة عند الحاكم والمحكوم طوال العصر الراشدي، ولكنها سرعان ما بدأت بالذبول بعد تولي (معاوية) للخلافة وتأسيسه للحكم الأموي، الذي جعلها (وراثية) في (البيت الأموي).. وسرعان ما أزيحت هذه المبادىء الإسلامية السامية، ليصار إلى صورة من صور (تأليه الحاكم) وتقديسه، وإعطاء الصلاحيات المطلقة له، وإطلاق يده في أموال المسلمين، وحتى في أرواحهم!.. وهكذا وجدنا (خليفة المسلمين) في صورة أشبه ما تكون بـ (قيصر) و(كسرى)، بعيدا عن الصورة الإسلامية الناصعة والمتقدمة التي رسمتها النصوص الإسلامية، ووجدت تطبيقها في (الحكم النبوي) أولا، ثم من بعده في حكم (خلفائه الراشدين)!.
ولن نخوض هنا في الأسباب التي ساهمت في هذا الانحراف المبكر عن الحكم الراشد في الإسلام، لأنه خارج مجال اهتمامنا في هذا المقال، ولكنا نريد أن نؤكد القول بأن هذه الثورات المباركة التي تشهدها (المنطقة العربية) اليوم، إنما هي إعادة لرسم مسار هذه الأمة، وتصحيح لهذا الانحراف الباكر الذي أشرنا إليه، وإحياء للمبادىء السامية التي جاء بها الإسلام في مجال (الحكم والإدارة)، والتي يبدو أن البيئة العربية، والعالمية، آنذاك لم تكن في مستوى استيعاب وإدراك سموها وعظمتها، فانتظرت طويلا، ودفعت الثمن غاليا، حتى وصلت إليه!!.
ومن هنا، فإن على الشعوب العربية والإسلامية جميعا أن تدرك أن ما يجري اليوم، هو ليس مجرد انتفاضة عابرة، أو ثورة كأي ثورة، وإنما هو رسم جديد لمسار التاريخ، وإحياء لدور الأمة (الشعب) في ممارسة حقوقها، والقيام بدورها الهام والأساسي في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر!
آليات ومبادىء..
إن الدرس الهام الذي يستنتجه المرء من كل ذلك هو أن المبادىء السامية وحدها لن ترتقي بالإنسان، بل لابد من وجود الأرضية التي يتم عليها تطبيق و إنزال هذه المبادىء!.. وأن النيات الطيبة وحدها لا تكفي لخلق عالم من المساواة والعدالة والحرية.. ولقد قالها القرآن الكريم صريحة {إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى}العلق6-7، فجعل الطغيان ملازما للاستغناء والتجبر، وهو المدخل الطبيعي إلى الفساد والظلم..ولن ينجو (الإنسان) منه إلا بإيجاد الآليات التي تعين على ذلك!! ولقد أوضح (الإسلام) ذلك، وحدد مبادىء الحكم الراشد، وحذر من الانحراف عنها، ولكنه ترك (الآليات) إلى التطبيق البشري، لأنها من (المتغيرات) أولا، ولأنها تحتاج إلى تبن بشري لها، بمعنى أنها لا تزرع في الهواء، ولا تأتي بمجرد العلم بها، أو التفكير فيها، بل لا بد من الأرضية المناسبة والحاضنة لها!!.. وقد طال أمد ذلك، وهاهي الشعوب العربية اليوم، تصرخ بملء صوتها وإرادتها، أن الأرضية اليوم مهيئة أمام (الحكم الراشد) فينا، وأن زمان الحكم الجبري الفرعوني قد ولى..
إن الآليات والمبادئ الديمقراطية التي عرفتها الشعوب في هذا العصر، من قبيل (تعددية الأحزاب السياسية)، و(فصل السلطات)، و(استقلالية القضاء)، و(حرية الصحافة والإعلام)، و(الانتخابات العامة الحرة)، و(تداول السلطة)، و(تحديد مدة الولاية العامة)، وغير ذلك مما يحد من طغيان السلطة، ويفعّل من دور وحضور ومشاركة الشعب، ممثلا في حرية تكوين وإنشاء النقابات والمنظمات المهنية والمنظمات ذات النفع العام، وهي ما أصبحت تعرف بـ (منظمات المجتمع المدني)، كل ذلك هو مما توصلت إليه الشعوب عبر تاريخ البشرية الطويل من آليات لترشيد الحكم والممارسة السياسية، وليس من ضير على المسلمين فيما لو استفادوا منها أو جاؤوا بخير منها!!.. وفي رأيي أن هذه الأحداث الأخيرة هي مؤشر حضاري هام على أن شعوبنا قد بلغت مرحلة تستطيع فيها التعامل والاستفادة وتنزيل هذه الآليات على واقعها، وهو ما لم يكن متيسرا من قبل.. ومن هنا أيضا فإني أزعم أن لا خوف على هذه الثورات من الانحراف كما حصل مع الثورات و مبادرات الإصلاح التي انطلقت في بدايات القرن الماضي، في منطقتنا العربية والإسلامية!.
والسعيد من اتعظ بغيره..
إن التزام الآليات الديمقراطية، واستقلالية وقوة منظمات المجتمع المدني، هي التي تجنب مجتمعاتنا الحرب الأهلية والاضطرابات والفتن والانقلابات العسكرية، وليس العكس.. إن الدكتاتورية، وسلبية المجتمع وعزلته عن المشاركة السياسية، طريق إلى ايجاد المجتمع المتواكل الضعيف المهزوم.. وقديما أشار القرآن الكريم إلى هذا القانون الحضاري الاجتماعي بقوله:{فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ} الزخرف54، فاستخفاف المجتمع ينتج سلبية وتواكلا يثمر الطاعة العمياء للسلطة، وهو ما يؤدي إلى سقوط الجميع في دائرة الفسق.. فلكي تخرج شعوبنا من دائرة الاستخفاف والطاعة المطلقة لحكامها، عليها أن لا تستسلم، ولا تدع المجال للسلطة أن تستخف عقولها، وتسلب إرادتها.. وهو ما أصبح اليوم بفضل تضحيات وثورات الشعوب ممكنا!..
إن إطلاق الحريات الأساسية، هو المدخل والسبيل إلى إيجاد مجتمع حر متماسك.. ولن تثمر الدكتاتورية والاستبداد سوى تفريغ المجتمعات من طاقاتها وحيويتها، وتعطيل إنسانها من المشاركة الفاعلة والصادقة في البناء والعطاء.. إن الدكتاتوريات هي مقبرة الإبداع والتقدم، وإذا ما اقترن التقدم بالدكتاتورية، في مقطع تاريخي ما، فإنه يكون قصير العمر، باهض الثمن، في حساب المجتمع وآلام البشرية.. ومن هنا قولنا بأن حيوية المجتمع وقوته، عبر وجود وحيوية منظمات المجتمع المدني، هي الضامن والضمان لعدم سقوط المجتمع والسلطة في دائرة الفوضى والصراعات الداخلية.. إن قوة السلطة لا تقتضي قمع الشعب، كما أن قوة الشعب لا تعني ضعف السلطة.. بل على العكس، فإن قوة السلطة من قوة الشعب، وقوة الشعب من قوة السلطة، ولن ينتج شعب متخاذل مسلوب الإرادة سوى سلطة هشة ضعيفة دكتاتورية، والعكس صحيح أيضا!!.r
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق