غالباً ما تشير الأدبيات الحديثة وخصوصاً ذات التوجه القومي إلى وجود تناقض وتنافر بين القومية والدين، من ناحية أخرى فإن كثيراً من الكتاب الإسلاميين يلغون العلاقة القومية – الدينية ويعتبرونها خطيئة لا تتوافق مع المسلمات الإيديولوجية لعالمية الدين الإسلامي!.
والحقيقة التي نراها بأن كلا الفريقين لم يتلمسا كل جوانب الصواب وسقطا في عموميات عاطفية أكثر منها واقعية، بسبب النظرة الأحادية التعصبية، ذلك أن الانتماء العقائدي لا يلغي الانتماء القومي مطلقاً، وأن الاختلاف في كثير من مناحي الحياة ليس بالضرورة أن يكون شراً، فالاختلاف يعني التنوع، والتنوع يضفي على الحياة نوعاً من البهجة والحيوية لا تتوفران مطلقاً في حتمية صب الأمور في مجرى واحد، كما تخيله أفلاطون في جمهوريته الطوباوية، أو كما أرادت أن تصوره شيوعية ماركس وأنجلز، عندما صورا المجتمع البشري كمزرعة دجاج لا تعيش فيها إلا الدجاجة التي تنتج البيض، بغض النظر عن الكيفية التي تعيش فيها! .
من هذا المنطلق فقد أعطى التصور الإسلامي قاعدة أخلاقية عريضة لمسألة الاختلاف، عبرت عنها الآية الكريمة: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله اتقاكم} 13 الحجرات والآية واضحة في مخاطبة الناس جميعا بكافة انتماءاتهم لجعل الاختلاف مصدراً للتعارف الدنيوي وما يتبعه من حياة آمنة ليبقى الشأن الأخروي لله وحده، وفي الآية تأكيد على التعايش السلمي تأكيداً لا نقاش حوله رغم كل الاختلافات بين الشعوب والأقوام.
بينما تؤكد الآية: {ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين} 122 الروم، على أن الاختلاف معجزة يقف عندها الإنسان موقف تقديس، وهذا المبدأ ليس له مثيل في الأديان الأخرى، حيث نجد في الكتاب المقدس ما يعاكسه تماماً، وحسب ما جاء فيه: "وبعد أن رأى الرب بني آدم يبنون مدينة بابل ويتكلمون لغة واحدة قال: ها هم شعب واحد ولهم جميعاً لغة واحدة! ما هذا الذي عملوه إلا بداية ولن يصعب عليهم شيء مما ينوون أن يعملوه، فلننزل ونبلبل هناك لغتهم حتى لا يفهم بعضهم لغة بعض، فشتتهم الرب من هناك على وجه الأرض كلها، 6-8 التكوين".
وخطاب الناس جميعاً لا تكاد تخلو منه سورة من سور القرآن، وفي هذا دليل دامغ على منهجية التكامل الإنساني القومي من خلال النسيج الديني التوحيدي الذي لا يفرق بين اسود وأبيض وأصفر إلا بالتقوى، وهو أمر مرهون لله وحده ، بقوله تعالى: {ولا تزكوا أنفسكم هو اعلم بمن اتقى} 32 النجم، وأن الشر راجع لتصرف النفوس الحائدة عن طريق الله بقوله تعالى: {وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} 33 النحل، وأن الخطوط العريضة للتنسيق القومي ضمن النسيج الديني قد أرسته آيات بينات لا تقبل التأويل، مثل قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم} 11 الحجرات، فلا يجوز خلال هذا النسيج الاستهزاء والسخرية وغيرها من الأمراض التي سرت بين أوصال الشعوب كافة وصارت مرضاً مزمناً يفتك بأطراف البشرية كافة.
بين مفهومي القومية والأمة
إن التداخل بين مفاهيم " أمة " و " شعب " و" قوم " أمر حتمي من الناحية اللغوية البحتة إلى حد كبير، وكثير من الأدبيات وخصوصاً في مجال السياسة صارت تخلط بين هذه المفاهيم عن قصد وغير قصد.
وإذا وضعنا المفهومين الأخيرين في خانة واحدة، فإن القرآن الكريم لم يضع حدوداً قاطعة بين هذه المفاهيم على ما تبلورت عليه هذه الأيام، حيث صارت الأممية تعبيراً عن فئة أو جماعة تنتمي لعقيدة واحدة وبأجناس متباينة، في حين تدل كلمة " قوم " أو " شعب " إلى مجموعة من الناس بانتماء جنسي واحد.
فعن المفهوم الأول جاء قوله تعالى: {وقوم نوح من قبل إنهم كانوا أظلم وأطغى} 52 النجم، وقوله تعالى: {مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم}31 غافر ، وقوله تعالى: {إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم} 76 القصص، وقوله تعالى: (( كذب به قومك وهو الحق قل لست عليكم بوكيل} 66 الأنعام.
فهذه الآيات وغيرها تلمح للانتماء القومي، وإذا جمعناها مع آيات أخرى مثل قوله تعالى: {رب فلا تجعلني في القوم الظالمين} 94 المؤمنون، وقوله تعالى: {قالوا إنا أُرسلنا إلى قوم مجرمين} 32 الذاريات، وقوله تعالى: {إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون} 99 الأنعام، وقوله تعالى: {لقد فصلنا الآيات لقوم يفقهون} 98 الأنعام.
وقوله تعالى: {كما أنشأناكم من ذرية قوم آخرين} 133 الأنعام، فإن مجموع الآيات ليس فيها إشارات سلبية بمعنى ذم القومية ككيان متعاكس مع المبادئ الإسلامية، ولكنها إشارات لغوية مجردة إلى مصطلح قد يكون متوافقاً مع المبادئ الإلهية أو متعاكساً معها؛ مع أن أقوام الأنبياء قد عرفوا بأنبيائهم مثل قوم لوط وقوم نوح وقوم صالح وقوم يونس..... الخ، أي أن الله أرسل لكل الأقوام انبياءاً تكلمهم بلغاتهم.
أما مفهوم الأمة فيعد أكثر وضوحاً وبعداً في تعبيره عن مجموعة من الناس يجمعها مبدأ واحد، وإن أعطت في أماكن أخرى معان أخرى لا تختلف كثيراً عن المعنى الأول لكلمة "قوم".
فقد جاء في القرآن عشرات الآيات في هذا المجال، كقوله تعالى: {كان الناس امة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين}213 البقرة، وقوله تعالى: {ولقد بعثنا في كل امة رسولاً أن اعبدوا الله} 36 النمل، والأمة هنا تشير إلى مجموعة بشرية لم تكن على المنهج الإلهي، وأن الفرق بين الانتماء القومي والعقائدي توضحه الآية التالية خير توضيح: {ومن قوم موسى امة يهدون بالحق وبه يعدلون}159 الأعراف، فمن المعلوم أن قوم موسى (عليه السلام) هم بنو إسرائيل وهم من الناحية العرقية من سلالة يعقوب (عليه السلام) حفيد إبراهيم (عليه السلام)، بينما تشير الآية إلى أن قسماً من هؤلاء القوم كانوا على الحق والآخرون ليسوا كذلك، وكذلك الآية عن بني إسرائيل بقوله تعالى: {وقطعناهم اثنتى عشرة أسباطا أمما} 160 الأعراف، وفي ذلك دليل على اختلاف بني إسرائيل سياسياً وعقائدياً رغم انتمائهم لجد واحد، فصاروا قوماً متوزعين على أمم مختلفة حسب انتمائهم السياسي. وأما قوله تعالى: {وكذلك أرسلناك في امة قد خلت من قبلهم أمم}30 الرعد، وقوله تعالى: {إنا وجدنا آباءنا على امة وإنا على آثارهم مهتدون} 122 الزخرف، وغيرها من الآيات المتماثلة فكلها تصب في المعنى العقائدي للأمة.
ومن المعاني الشاملة لمعنى الأمة والتي لا تجدها في أية عقيدة أخرى، وهي من شمولية الإسلام الذي مصدره الخالق الواحد، قوله تعالى: {وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم} 38 الأنعام، والتي تحتاج إلى وقفات تأملية عميقة عن معنى أممية كل مخلوقات الله بعبادتها له وتسبيحها، ومصداقية لمعنى السلام والتسليم لله في كل الأمور، وتزيدها وضوحاً الآية الكريمة: {تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليماً غفوراً} 44 الإسراء.
ومن المعاني العميقة لمعنى الأمة في قوله تعالى: {إن إبراهيم كان امة قانتاً لله} 120 النحل، ورغم أن معظم التفاسير تشير لكون إبراهيم (عليه السلام) كان إماما على الطريق السليم، ولكن المعنى الاشمل أن إبراهيم (عليه السلام) وبفكر التوحيد الخالص الذي رفعه، وإرسائه لأسس الإسلام الصحيح،قد أرسى فكراً لا سابق له ومنهجاً كاملاً لدين التوحيد – الإسلام – وأمميته.
الأمة والقومية في فكر الرسول (صلى الله عليه وسلم)
مما لا شك فيه أن فكر الرسول (صلى الله عليه وسلم) في هذا المجال كان مستمداً من الأسس الرئيسية بما في القرآن الكريم في هذا المجال، وأن تصرفاته عموماً كانت وحياً بالأفعال والأقوال .
وكان عليه الصلاة والسلام يصر على تلقيب بعض الصحابة بأصولهم القومية اعتزازاً وتكريماً، فكان بلال الحبشي، وصهيب الرومي، وسلمان الفارسي، وهي إشارات للعرب الذين ظهرت الدعوة من بينهم بأن هؤلاء ليسوا أقل قدراً منهم، بل كانوا أفضل بكثير من بعض أقارب الرسول الذين لم يصدقوه وحاربوه كأبي لهب وكثير من شرفاء قريش الذين ناصبوه العداء، وهذا الأمر يعرفه كل قارئ بسيط لسيرة الرسول (صلى الله عليه وسلم).
ولذلك نزلت الآية الكريمة لتؤكد هذا الاتجاه في عموم الفكر الإسلامي بقوله تعالى: {ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم}112– 113 التوبة، وكان الرسول (صلى الله عليه وسلم) في كل أفعاله وأقواله ومن خلال زرع الحق والعدالة والمساواة بين كل الناس يحقق قوله تعالى: {وإن هذه أمتكم امة واحدة وأنا ربكم فأتقون} 52 المؤمنون، والأمة في فكر الرسول (صلى الله عليه وسلم) ليست كياناً اجتماعياً مجرداً تحكمه قوانين مدنية، وإنما كيان عقائدي بالدرجة الأولى ينتج عنه تركيب اجتماعي خاص على ضوء تعاليم الشريعة، والتي لا تأخذ شكلاً جامداً، بل يتغير بتغير المكان والزمان وحسب مصلحة الأمة عملاً بقول الرسول (صلى الله عليه وسلم) "أنتم أعلم بأمور دنياكم – صحيح مسلم" ، وبدون المساس بثوابت الأركان.
وفكر الرسول (صلى الله عليه وسلم) أساسه ذلك التكليف الذي ألقي على عاتقه بقوله تعالى: {وكذلك جعلناكم امة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً} 143 البقرة، وعليه فإن إشاعة بعض الأقوال مثل "كان محمدٌ كل العرب" هي أقوال خاطئة بالكامل ، ففي زمانه (صلى الله عليه وسلم) كان بين العرب منافقون وكفار شأنهم شأن أي شعب آخر، وحاشاه أن يكون تجسيداً لهذه الفئات.
ولذلك فإن القرآن رسم حدود هذا الفكر بتشخيصه للحالات السلبية التي يقوم بها الأعراب وهم بدو العرب، والمشهورون بأنفتهم وغلظة طباعهم، فقال الله تعالى بشأنهم: {ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرماً ويتربص بكم الدوائر عليهم دائرة السوء والله سميع عليم} 98 التوبة، وفي مكان آخر يضعهم في خانة واحدة مع بعض أهل المدينة من المنافقين، فيقول تعالى: {وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق}101 التوبة، وعلى نفس السياق فإنه لا يضع الأعراب في سياق المؤمنين بتفريقه بين الإسلام في الظاهر والإيمان الفعلي بقوله تعالى: {قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم}14 الحجرات، والآية غاية في الإعجاز حيث تقيس المعيار الحقيقي للأمة المسلمة بالإيمان، وهو اليقين بالتوحيد، وفيها كذلك إلغاء خصوصية فئة قريبة من الرسول (صلى الله عليه وسلم) من الناحية القومية، حتى لو أعلنت انتماءها للإسلام ظاهرياً! .
وفي هذا المجال فقد كانت تجربة الرسول (صلى الله عليه وسلم) غاية في الصعوبة بين قبائل متنافرة تعتز بأنفتها، حيث أراد صهرها في بوتقة واحدة مع شعوب أخرى، مع إلغاء كل أفكار الاستعلاء والقومية، إنطلاقاً من المفهوم القرآني، قال تعالى: {فإذا نفخ في الصور فلا انساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون}101 المؤمنون، لقد تجلت هذه المعطيات في رسم الصورة الأولية للدولة الإسلامية الناشئة من هذه الأمة في نص وثيقة المدينة، كما جاءت في سيرة ابن هشام، وهي بمثابة ما يعرف هذه الأيام بالدستور، والتي أعلنها (صلى الله عليه وسلم) بعد خمسة أشهر من قدومه للمدينة، نظم فيها كل العلاقات بين المسلمين والمشركين واليهود حيث جاء فيها:
" بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمد النبي (صلى الله عليه وسلم) بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم ولحق بهم وجاهد معهم إنهم امة واحدة من دون الناس .... وأن ذمة الله واحدة يجير عليهم أدناهم، وأن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس، وأنه من تبعنا من يهود له النصر والأسوة ... لليهود دينهم وللمسلمين دينهم ..".
وفي هذه الصورة فقد أرسى الرسول (صلى الله عليه وسلم) صورة الأمة الجديدة وأعطاها بعداً جديداً عندما ضمن حقوق كل من دخل معهم وعاش معهم من غير دينهم ولم يتعد حدوده المرسومة له.
وفي قراءة مفصلة للوثيقة فإن النتيجة التي لا يمكن الحيود عنها، بأن مفهوم هذه الأمة ليس مفهوماً صارماً، ولكنه يتغير بتغير مصالحها على أن ترد الأمور إلى الله عز وجل في كتابه والى الرسول (صلى الله عليه وسلم) في سيرته الصحيحة، بدون تأويلات باطنية وتفسيرات ظنية، وأن كل الأقليات الدينية والقومية مضمونة الحقوق داخل هذه الأمة ما دامت تعيش في كنفها.
قراءة تاريخية لعنصر التكامل
لو نظرنا في لمحة سريعة على مجمل التاريخ البشري، فإننا نرى التجربة الإسلامية فريدة من نوعها في تأليف أمة من أقوام وقبائل مختلفة وإنبثاقاً من بقعة لم تكن على بال أحد مطلقاً.
فبعض الأديان كالهندوسية واليهودية ديانات مغلقة على قوم معينين، وأديان فارس القديمة كالمزدكية والمانوية والمجوسية لم تكن شرائع متكاملة ولم تقدر على جمع قومية واحدة، والمسيحية لم تستطع مطلقاً التغلب على النعرة القومية، والتاريخ الأوروبي القديم والحديث شاهد على ذلك.
ولعل واحدة من انصع التجارب التاريخية في هذه المجال هي الحروب الصليبية، حيث حارب المسلمون بكافة قومياتهم تحت لواء قيادات مختلفة من تركية وكردية وعربية ومماليك، بينما الصليبيون الذين اندفعوا بأطماع إقتصادية تحت إدعاءات دينية من ألمان وانكليز وفرنسيين، جاءوا كل تحت لواء ملكه، وكان ملوكهم وأمراؤهم يتقاسمون الأراضي والغنائم كل حسب قوته ولا يزالون!.
وأما التسامح مع أهل الذمة فإن أي قراءة سريعة لأي جزء من تاريخ الأمة الإسلامية ترينا بجانب التداخل القومي العميق بين مكونات الأمة، معاملة نادرة بل سامية لهم، وتجربة الأندلس يعرفها القاصي والداني، وما فعله (فرديناندز وإيزابيلا) ومن جاء من بعدهم ممن أندوا جبين الإنسانية بمحاكم التفتيش سيئة الصيت، شيء خارج عن كل السياقات الإنسانية، ولكن الهيجان الإعلامي الغربي قلب كل المفاهيم ولا يزال، حتى صار الشرع الإسلامي على ما فيه من حث على الرأفة بأهل الذمة وغيرهم ووجوب حمايتهم موضع اتهام وتهكم.
فمصطلح أهل "الذمة" لا ينتقص مطلقاً من مكانة أهل الكتاب أو من مواطنيتهم في التعبيرات الدارجة، بل يضعهم بجانب المواطنة في خانة الأقلية التي من واجب الأغلبية حمايتها والدفاع عنها، وهم جزء من الأمة، كما رأينا في وثيقة المدينة.
وأما التاريخ القريب في هذا المجال فإن الدولة العثمانية مثلته خير تمثيل والى انتهاء عصر السلطان عبد الحميد وقبل استلام (الاتحاد والترقي) الذي عمل رجاله على ترسيخ النعرة القومية بين أقوام الأمة الإسلامية، فنظرة واحدة إلى رجال الدولة ومن هم بالمراكز الرفيعة مقارنة بنسبهم السكانية تعطينا فكرة واضحة عن مكانة الأقليات في زمن هذه الدولة.
لقد أدرك المسلمون بأن دينهم ليس ديناً عربياً، فهو للناس كافة، وهو ينظم حياة الإنسان منذ ولادته إلى وفاته ـ وهو لا يلغي التطلعات القومية، بل ويرعاها ويقدسها بدءاً بالعائلة.
ففي تقرير رسمي رفعه قنصل انجلترا في تونس لوزير خارجيته ونشر في الكتاب الأزرق عام 1878، جاء فيه: "والدولة العثمانية لم تكن تتعرض لمذاهب وتقاليد غير المسلمين الذين يقطنون في البلاد التي افتتحتها هذه الدولة.... وتحافظ على أرواحهم وأموالهم وأعراضهم"، تلك هي الطريقة التي جرت عليها الدولة العثمانية مع أهل ذمتها.
بينما يتكلم عن روسيا القيصرية آنذاك فيقول: "لقد كان هم روسيا القيصرية مسخ ثقافات وعقائد أهل القفقاس والقرم وآسيا الوسطى، ثم جاءت بالروس إلى هذه المناطق وأسكنتهم فيها" .
لقد كانت آخر تجربة لوحدة الأمة بإنتهاء الخلافة العثمانية، وكانت ذروة النجاح للإمبريالية الغربية بإسقاطها للأممية الإسلامية، وقد قالها كرزون وزير خارجية بريطانيا في مؤتمر لوزان عام 1924 :
"إن تركيا قد قضي عليها ولن تقوم لها قائمة لأننا قضينا على القوة المعنوية فيها: الخلافة والإسلام"، وكان يعني بتركيا الدولة العثمانية حتماً.
لقد اعتقدت الإمبريالية الغربية أنها تستطيع الضغط على الشرق الإسلامي لإنكار روحه التي عاشها لمئات السنين وغرس نبتة القومية الأوربية العنصرية فيه مقابل استغلاله مادياً تحت صور باهتة من الاستقلال المزيف!.
لقد كان السلطان عبد الحميد الشخصية التاريخية المتميزة التي وعت هذه الأمور بذكاء نادر وقراءة متأنية لواقع مرير، ففي إحدى المرات عرض عليه المدعو (ارمينيوس فامبري) وهو يهودي الأصل وكان يعمل في خدمة الدولة العثمانية بأن يسمح له السلطان بإلقاء محاضرة عن العرق التركي فأجابه: "علينا أن لا نمنح فرصة للقوميات – يقصد التعصب – أبدا ، لأن كل المسلمين إخوة، كما أن النزعات القومية بإمكانها أن تحدث منازعات جدية بيننا" .
وصدق حدس السلطان فقد أثبتت الأحداث لاحقاً أن هذا الشخص من كبار الماسونيين وكان وراء دعوته مقاصد خبيثة ثم هرب خارج تركيا، ولقد كان الحفاظ على تنوع لغات المسلمين وعاداتهم ضمن فكر الجامعة الإسلامية من أهم سمات فكر السلطان عبد الحميد، والذي دفع ثمن هذا الأمر باهضاً.
لقد وعى المفكرون الأتراك في هذا الزمن فداحة تشتت الأمة الإسلامية، فها هو احمد داؤد اوغلو وزير خارجية تركيا الحالي يقر في كتابه القيم "العمق الاستراتيجي" بأن المؤسسات الاستعمارية وبعد تصفية الدولة العثمانية قد شكلت نظاماً تعليمياً وسياسية ثقافية عملت ولا زالت تعمل على تأجيج الصدام بين مكونات الأمة الإسلامية، ثم يردف ليقول: "لقد وعى العالم الغربي مخاطر هذا النسيج القومي المتكامل فعمل على تصعيد الخلافات بين العناصر التركية والعربية والفارسية والكردية، وهي العناصر الرئيسية العريقة لهذه الأمة"
إن الأبواب أمام عودة التجربة الإسلامية في المفهوم الاممي وإحترام التكوين القومي بدأت تنفتح وبهدوء، خصوصاً بعد الرجوع الهادئ والمتوازن لتركيا نحو الشرق الإسلامي وتحرر شعوب جمهوريات الاتحاد السوفيتي من الهيمنة الشيوعية، وشعور العرب وهم مادة الإسلام أن دورهم وموقعهم التاريخي قد فقدوه تماماً بتقليدهم للفكر الغربي القومي، والذي لا يتجانس على الإطلاق مع الموروث الثقافي العميق للإسلام، وهو موروث لا يمكن تجاهله أو القفز من فوقه لأنه أساس شخصية العربي ومعظم الأقوام المجاورة له، وهو يسمو على الفكر القومي بلباسه الأوربي الذي رسخ الفكر الاستعماري الامبريالي من خلال تأكيده على التفوق العنصري وإفرازاته كالنازية والصهيونية والشوفينية، لأنها تعتقد أن التاريخ بدأ بها وسينتهي عندها!.r
* كلية الهندسة – جامعة الموصل
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق