08‏/09‏/2014

لماذا حكم صلاح الدين بالموت على السهروردي؟

د.سعد سعيد الديوه جي
مدخل
غالبا ما يتم تناول بعض الأحداث التاريخية بشكل عاطفي، مقصود تارةً، وغير مقصود تارة أخرى، لإثارة القارئ، وإعطاء الحدث بعداً وجدانياً، كثيرا مايشد القارئ العادي إلى ما يرمي إليه المؤرخ، والذي عادة ما ينطلق من خلفية عقائدية، لايستطيع تجاوزها، عند كتابة تفاصيل الحدث أو ملابساته المتشعبة .
إن (صلاح الدين الأيوبي) ظاهرة فريدة  من ظواهر التاريخ الإسلامي والعالمي، ليس بسبب انتصاره في معركة (حطين) وفتح (بيت المقدس) (583هـ -1187 م)، رغم أهمية المعركة البالغة من كافة الأوجه، والتي غيرت تاريخ العالم الإسلامي بشكل لا يمكن إنكاره، ولكن بسبب تكامل هذه الشخصية، في كافة المجالات العسكرية والسياسية والاجتماعية، وتشخيصه الدقيق للأخطار المحدقة بالإسلام والمسلمين.

وسنتناول هنا موقف (صلاح الدين) من الحركة الباطنية، والتي تمثلت رؤوسها بالحركة الإسماعيلية، وما نتج عنها من تأسيس الدولة الفاطمية في شمال أفريقيا ومصر (297 هـ -
567هـ )، وظهور حركات أخرى كالقرامطة في العراق والبحرين، والذين غزوا الكعبة ودنسوها عام (317 هـ)، والحشاشين النزارية في (آلموت) في بلاد فارس، الذين عاثوا في الأرض فساداً، من خلال عمليات الاغتيال المنظم لرؤوس الحركة الإسلامية السياسية والعسكرية والثقافية.
وكان النظام الفاطمي - الإسماعيلي- يقوم على فلسفة غاية في السرية، أساسها التأويل الفاسد لآيات القرآن الكريم، وتعظيم شخصية الإمام الإسماعيلي، ومعصوميته، وربطه بسلالة آل البيت، من خلال ادعاءات كاذبة. وكانت هذه الفلسفة تقوم على نسف الدين الإسلامي بشعارات إسلامية، وأهمها اتخاذ التصوف الحلولي - الذي كان (الحلاج) أحد أعمدته (ت309هـ )- وسيلة لنشر المذهب الباطني، ومايتبعه من أفكار الحلول ووحدة الوجود، ومحاولة ربط الإسلام بالأفكار الأفلاطونية والزرداشتية والمزدكية والمانوية، تحت مسميات شتى، منها المذهب الإشراقي النوراني، وهو مذهب تدثر بالتصوف الحلولي الحلاجي لنسف الإسلام.
لقد نشرت الباطنية الإرهاب في العالم الإسلامي، ولذلك أجمع علماء الأمة على وجوب قتلهم ومحاربتهم، وأنه عمل شرعي، من واجبات جميع السلاطين والملوك أن يحاربوهم، ويقضوا عليهم، وينظفوا سطح الأرض من رجسهم، كذلك حرم علماء الشرع صداقتهم ومشاركتهم وأكل اللحم الذي يذبحونه والتزاوج معهم. فسار (صلاح الدين) على هذا النهج، وعمل على استئصالهم بكافة السبل. وليست المسألة -كما تبدو- حرباً فكرية، وكما يحلو لبعض المستشرقين أن يضعوا المسألة في إطارها.
1 - السهروردي والمذهب الإشراقي - النوراني :
واسمه الكامل: أبو الفتوح شهاب الدين يحيى بن حبش بن أميرك السهروردي، من أصول فارسية، وقد قتل سنة (587هـ - 1191م)، بينما تختلف المصادر حول سنة ولادته بين (545 هـ أو 50 هـ ). أسماه أتباعه بـ(الشيخ المقتول)، وهذا يعني أنه قتل بعد سقوط الدولة الفاطمية بعشرين عاماً، وهو غير الشيخ عمر السهروردي (632 هـ -1234م) الزاهد المعروف، وصاحب الطريقة المعروفة باسمه.
والحقيقة أن معلوماتنا عن السيرة الشخصية للسهروردي قليلة، ولكن يمكن تلخيص فكره، بـ: تمجيد الأفكار المنحرفة عن أصول الإسلام باسم التصوف. فيقول المستشرق (ماسينيون)، بعد أن يربط أفكاره بالأفلاطونية والزرداشتية: ".... ومن وجهة النظر هذه سيتبدى لنا انتاج السهروردي لا على أنه ثورة في الفكر، أو استئناف لاستكشاف حاسم، بل على أنه الأوج الذي سيشع منه الإلهام قدماً حتى فارس الحديثة .... وأن تحسب حساباً لما نعرفه عن اللاهوت واللتيتورجيا الفلكية عند الصابئة، لأن بعض التراتيل التي يوجهها السهروردي إلى ملائكة الأفلاك، في مماثلة ظاهرة معهما".  وقد تنقل (السهروردي) بين شمال فارس - عش الباطنية - وشرق الأناضول، تحت زي التصوف، إلى أن استقر في (حلب)، حيث لقي مصرعه، وعاملاً على نشر الأفكار الباطنية بأسلوب جديد.
وباطنية السهروردي، وعلاقته بالتصوف الحلولي، الذي دعا إليه (الحلاج)، وغيره من زعماء القرامطة، يضعه (ماسينيون) بصورة مبهمة، فيقول: "وبهذا المقتضى يرتبط (السهروردي) عن قصد وشعور بتيار الاتجاهات الصوفية المنبثقة عن تعليم (الحلاج): وهو نوع من الاستيطان التجريبـي للقرآن، يجلب خطر القتل على المؤمن المدعو لتحقيق التوحيد باطنياً، كما حدث لموسى حينما دعي لمحادثة سرية على جبل الطور!!".
وهنا يبرز تهافت الفكر الاستشراقي لـ(ماسينيون)، وغيره ممن طبلوا وزمروا للحركات الباطنية، التي أخذت على عاتقها هدم الإسلام من داخله، تحت مسميات شتى، لعل أبرزها: التصوف الحلولي، كما ذكرنا ما نتج عنه من أفكار وحدة الوجود، وصولاً لإنكار فكرة الخالق والمخلوق! ثم إلى نشر الإلحاد، وهي الغاية النهائية للباطنية، ودعاتها، التي كان (السهروردي) أحد أعمدتها الكبار، وحث على نشرها من خلال تنقله بين البلدان. ويمكن أن نأخذ فكرة عن تصرفاته المشبوهة تحت غطاء التصوف، قول أحد أصدقائه المسمى فخر الدين المارديني: "ما أذكى هذا الشاب وأفصحه، فلم أجد أحداً مثله في زماني، إلا أني أخشى عليه لكثرة تهوره واستهتاره، وقلة تحفظه، أن يكون سببا لتلفه".
إن الفكر الاستشراقي – النوراني، والذي يحمل اسماً براقاً لامعاً، يخفي تحته مقاصد باطنية خبيثة، يقول بشأنه (ماسينيون): "وبالجملة، فإن حكماء فارس كانوا جميعاً على اتفاق، وهي أن كل نوع، والأفلاك السماوية، والوسائط، ومركباتها، لها ربها في عالم النور، وهو عقل مفارق مهيمن على ذلك النوع ..."! فمثلاً، كان عندهم للماء نموذج أول (صاحب صنم ) في العالم الروحي، الذي يسمونه (خرداء)، والنموذج الأول اسمه (جرداء)، وللنار (أردبهشت) ..... الخ. وهذا الكلام لا أساس عقلاني، ولا منطقي، ولا إسلامي له، بتاتاً، ولا يمثل إلا خلطاً متعمداً بين العقائد الإسماعيلية - الباطنية -، والعقائد الفارسية القديمة من زرداشتية ومزدكية ومانوية، والتي تعتبر ديانات ثنوية تؤمن بإله الخير - النور -، وإله الشر - الظلام -، وتقدس النار، وهي التي تمثل إشعاع الملوك والكهنة ومجدهم في الديانة المزدكية، وأن النار العنصرية هي خليفة الله بين العناصر، كالنفس البشرية بين الأجسام، كما جاء في كتاب السهروردي “ حكمة الإشراق “ ص 234.
ويعرض (ماسينيون) ما يسميه بـ(نظرية النور، ومراتب الأنوار)، ابتداءاً من نور الأنوار، بوصفه الموجود الأول والظاهر الأول، مارين بدرجات الأنوار الطاهرة، حتى تصل إلى الأنوار المهيمنة على الأنواع والأجسام، ومن بينها النور المهيمن على الإنسان، أطلق عليه (السهروردي) اسم “ أسفهيد“، وهو لقب كان يحمله دهاقين (طبرستان) جنوب (بحر الخزر)، وقد ظلوا على مكانتهم عهداً طويلاً بعد الفتح الإسلامي.
والحقيقة أن المذهب الإشراقي مبدأ قديم، حاول (السهروردي) صياغته بصورة باطنية، وإعطائه بعداً إسلامياً صوفياً مزوراً، استناداً للآية الكريمة: {الله نور السموات والأرض، مثل نوره كمشكاة فيها مصباح} 30 –النور، بعد تأويلها تأويلاً فاسداً، وخلطها بالتعاليم الفارسية المندرسة، كما نوهنا لذلك.
ويقول الدكتور (حسن إبراهيم حسن) -رحمه الله - في حاشيته على كتاب (السيادة العربية) لـ(فان فلوتن): "والإشراقيون عموماً يرون أن هذا العالم قد صدر من إله غير معصوم من الخطأ(!)، وأن أول ما خلق منه هي النفوس الطاهرة والأرواح الخالصة من كل شائبة، ثم تلا ذلك التجسد هبوط الروح من ملئها الأعلى، ودخولها في الجسم، وإختلاطها بالمادة، وقد ابتدأ هذا التجسد بدخول الأرواح في أجسام النساء، وهذا التجسد في نظرهم هو الخطيئة الكبرى، التي يجب التكفير عنها بالتوبة، وأن المادة عندهم مصدر الشرور، وللتوفيق بين مطالب الحياة المادية لجأوا إلى بعض الحيل والفتاوى، من ذلك قولهم بأن الملاذ -وإن كانت مرذولة- فلا بأس من تناولها بقدر ما تقتضي بذلك حاجة الحياة، وضرورة الوجود، مادمنا نستنكرها بقلوبنا ! 
وفسروا وحدة الوجود تفسيراً آخراً، بأن إشعاع النور الأصيل هي الظاهرة المولدة الأصيلة للوجود، والكشف عنه، وهو ما صرح به (السهروردي) في كتابه سالف الذكر.
من هذا العرض السريع يتبين لنا أن (السهروردي) كان باطنياً - إسماعيلياً - حاول أن يروج لمذهبه، تحت غطاء المذهب الاستشراقي، بصورة صوفية، ولضرب تعاليم الإسلام من داخلها.
2 - التصوف الإسلامي بين مفهومين: 
لم يختلف المسلمون حول كثيرٍ من المفاهيم، كما اختلفوا حول مفهوم التصوف، والذي نراه أن للتصوف مفهومين لا اتفاق بينهما، حيث أن هذا المصطلح طارئ على الفكر الإسلامي.
فالتصوف السني الشرعي، أو الزهد، حيث يصوره (ابن تيمية) بقوله: "الزهد ترك ما لا ينفع في الآخرة، والورع ترك ما تخاف ضرره في الآخرة".
وفي هذا السياق يندرج ذوق الإيمان وحلاوته، فذكر الرسول ( ص) الذوق والوجد، وعلاقتهما بالإيمان، فقال (ص): "ذاق طعم الإيمان، من رضي بالله رباً، وبالإسلام دينا، وبمحمد رسولا".
ويقول (ابن تيمية): "إذا لم تجد للعمل حلاوة في قلبك وانشراحاً، فاتهمه، فإن الرب تعالى شكور، ويعني أنه يثيب العامل على عمله في الدنيا، من حلاوة يجدها في قلبه. والقصد بأن السرور بالله، وقرة العين به، تبعث على الازدياد من طاعته، وتحث السير إليه". ويقول (الجنيد البغدادي) (ت297 هـ) بأن التصوف "هو الخروج من كل خلق رديء، والدخول في كل خلق سني"، وكذلك قوله: "التصوف هو صفاء المعاملة مع الله". ويقول (سفيان الثوري): إن "الزهد في الدنيا قصر الأمل، وليس بأكل الغليظ، ولا لبس العبا". وسئل (الإمام أحمد) عن الرجل يكون معه ألف دينار: هل يكون زاهداً، فقال: نعم، على شريطة ألا يفرح إذا زادت، ولا يحزن إذا نقصت".
ويقول (الجنيد البغدادي) كذلك: "إن مذهبنا مقيد بالأصول والسنة، فمن لم يحفظ الكتاب، ويكتب الحديث، ويثق فيه،  لا يقتدى به". ويقول الشيخ (نور الدين البريفكاني): "التصوف هو الوقوف على حدود الشريعة، والعمل بعزائمها". أما التصوف الآخر، وهو التصوف الحلولي، أو الباطني، وهو تصوف له جذور سياسية عميقة، أساسها إرجاع المجد الفارسي البائد، وهو الوليد غير الشرعي للفرق الباطنية عموماً، والإسماعيلية خصوصاً، وهؤلاء المتصوفة يعتقدون بوحدة الوجود والحلول، وهذه الأفكار دخيلة على المفاهيم الإسلامية، فيقول (ابن تيمية): "ليس أحد من أهل المعرفة بالله يعتقد حلول الرب تعالى به، أو بغيره من المخلوقات، ولا اتحاده به، وإن سمع شيء من ذلك، فنقولٌ عن بعض أكابر الشيوخ، وكثير منه مكذوب، اختلقه الأفاقون من الاتحادية، الذين أضلهم الشيطان".
وبوحدة الوجود، يتساوى عبدة الله مع عبدة الأصنام والكواكب والنيران والحيوانات والإنسان، هذه الطواغيت التي هدمها الإسلام. وبوحدة الوجود، ينقلب الدين إلى أوهام، وخرافات، وعقائد باطلة، منهارة، لا فائدة منها، ما دام الإنسان جزءاً من الله. حتى أن المستشرق (نيكلسون) يقول: "إن الإسلام يفقد معناه، ويصبح اسماً على غير مسمى، لو أن عقيدة التوحيد، المعبر عنها بعقيدة (لا إله إلا الله)، أصبح المراد بها: لا موجود على الحقيقة إلا الله، فوحدة الوجود قضاء تام على كل معالم الدين المنزل".
وما كانت عقيدة الاستشراق النورانية، التي تزعمها (السهروردي)، إلا إحدى تفرعات هذه المفاهيم، مع التركيز على كون الخالق والنور شيئاً واحداً، وأن الأمور تنتهي إلى العقل الأكبر، حيث يقول (الجيلي) - أحد دعاة التصور الحلولي - بأن العقل الأول -المنسوب إلى محمد (ص)- خلق منه جبريل (ع) في الأزل ، فكان محمد (ص) أباً لجبريل، وأصلاً لجميع العالم ! ، وهذه هرطقات باسم العقل، وازدراء له، وهي تكون لب العقائد الباطنية - الإسماعيلية.
وهذا الغلو بالرسول (ص)، من قبل الباطنية، هو تبرير مفتعل للغلو بأئمة الإسماعيلية، ورفعهم إلى مراتب الألوهية، كما رفع الفرس ملوكهم إلى هذه المراتب. فيقول (الجيلي) بأن الإنسان الكامل - الحقيقة المحمدية -، وهو الذي يستحق الأسماء والصفات الإلهية، وهو استحقاق الأصالة والملك، بحكم المقتضى الذاتي! واضعين وراء ظهورهم كل الآيات التي تتعلق ببشرية الرسول (ص): {قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي، أنما إلهكم إله واحد، فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً، ولا يشرك بعبادة ربه أحداً} الكهف 110 .
لقد اتخذ التصوف الحلولي من وسيلة التقليد منهجاً لنشر هذه المفاهيم، فظهرت المراجع الوهمية، والتي تبلورت أساساً في رفع أئمتهم إلى مراتب الألوهية، ولذلك قال الإمام (أحمد بن حنبل): "لا تقلدني، ولا تقلد  مالكاً، ولا الشافعي، ولا الأوزاعي، ولا الثوري، وخذ من حيث أخذوا".
لقد صار التأويل الفاسد “الباطني”، وما تفرع عنه من مسميات، هو أول مراتب الإلحاد، ولهذا صار العمود الفقري للتصوف الحلولي، الذي يعد المذهب الإشراقي - النوراني - أحد تفرعاته. وفي هذا يقول (ابن تيمية): "يأخذون كلام الله ورسوله، المعروف عند المسلمين، ويتأولونه على أمور يقرونها، ويدعون أنها علم الباطن".
وهذا التصوف يتميز بالسرية والكتمان والتقية، ويضيقون بالتصريح والتعبير المباشر عن آرائهم وتبريراتهم، وكان ذلك واضحاً في كل ممارساتهم.
لقد أدرك بعض المستشرقين صلة هذا النوع من التصوف بالسياسة، لذلك ذهب المستشرق (ثولك) إلى أن هذا التصوف مأخوذ من أصل مجوسي، محتجاً بأن عددا كبيرا من المجوس ظلوا على دينهم في شمال  يران، بعد الفتح الإسلامي. وقد لمس هذه الحقيقة الفريدة (فون كريمر) في كتابة (تاريخ الأفكار البارزة في الإسلام)، وكذلك المستشرق الهولندي (دوزي) في كتابه (تاريخ الإسلام).
إن المذهب الاستشراقي ما هو إلا خليط من التصوف الحلولي الباطني، والأفكار الفارسية القديمة، التي تقدس النار بصورة عامة، جرى تقديمه على أنه من الإسلام، وهو في حقيقته حركة تهدف إلى إرجاع المجد الزرداشتي - المجوسي-، وهي مسألة في غاية التعقيد، لسرية هذه الحركات بصورة عامة، ومانتج عنها من حركات كادت تعصف بالعالم الإسلامي، كالحركة النكتاشية، التي هيمنت على الحركة الثقافية في (الأناضول) و(البلقان) لقرون عديدة.
3 - موقف (صلاح الدين) من التصوف: 
يقول الدكتور (محمد علي الصلابي) في كتابه القيم عن (صلاح الدين الأيوبي، بأن الأخير قد سار على نهج أستاذه (نور الدين) باهتمامه بالمؤسسات الصوفية (الخانقات)، والمهتمة بأصول الدين الحنيف، وأحسن إلى شيوخهم، واستمع إلى نصحهم، حيث وقفوا معه في حروبه ضد الصليبيين، وكذلك تأسياً بسيرة والده (نجم الدين أيوب)، الذي كان حسن السيرة، كثير الإحسان للفقراء والصوفية، شجاعاً كثير الصلاة، وله مدارسه الخاصة في (دمشق) و(القاهرة).
وقد كان (صلاح الدين) محبوباً عند أهل التصوف، وكما يقول الدكتور (الصلابي)، فقد سلك طريق الزهد، أي أنه التزم تصوف الزهد، إن أردنا هذا المعنى، كما أنه لم يحفظ ما تجب عليه الزكاة، ولم يخلف في خزانته إلا سبعاً وسبعين درهماً وغراماً واحداً ذهباً، ولم يمتلك ملكاً ولا داراً ولاعقاراً ولا بستاناً.
ويورد الدكتور (الصلابي) معلومات في غاية الأهمية عن اهتمام (صلاح الدين) بتصوف الزهد، حيث كانت تستهدف عنايته  هذه إحياء الحركة السنية، التي حاول الفاطميون - الباطنية - طمسها بكل السبل، ومنها السبل الثقافية، بإشاعة التصوف الحلولي الباطني، وتفرعاته، الذي ذكرناه آنفاً.
فقد أنشأ أول خانقاه للصوفية في (مصر)، ووقف عليهم أوقافاً جليلة، وولى عليهم شيخاً يدبر أمورهم، عرف بشيخ الشيوخ، وكان أهل هذه المدارس معروفين بالعلم والصلاح، وأن عدد من كان بها بلغ الثلاثمائة، وقد رتب لهم السلطان كل مستلزمات الحياة، حتى أنه أعطى نفقة لمن يريد السفر !
لقد جاء (صلاح الدين) إلى (مصر)، وكل مظاهر الغلو الباطني قد تعمقت إلى حد كبير في مفاصل المجتمع، لذلك عمل على جذب علماء السنة وشيوخهم، ليشاركوا في عملية الإحياء السني. وكما يقول الدكتور (الصلابي): فقد كان التصوف السني وأهله، من الفئات القادرة على إشباع هذا الجانب، ولذلك فإن المتصوفة السنيين قد ساهموا في هذه الحركة، كما ساهموا في التصدي للغزو الصليبي.
ومن هذه المعطيات، نستطيع أن نتصور لماذا كان موقف (صلاح الدين) حازماً تجاه الحركات الفكرية الباطنية، والتي تدثرت بلباس التصوف، والتي كانت الحركة الاستشراقية - النورانية - إحدى تفرعاتها، ولبست لبس التصوف، وكان (السهروردي) أحد كبار دعاتها الباطنيين، في محاولة لإرجاع المجد المجوسي الغابر؟ ولماذا عمل (صلاح الدين) على استئصال هذه الفئة، التي حاولت هدم الإسلام من داخله، وباسمه، وبشتى السبل: من الاغتيالات السياسية، إلى إدخال المفاهيم الغريبة، وخصوصا المجوسية، على الإسلام؟ فعمل (صلاح الدين) على استئصالهم، وكان (السهروردي) أحدهم، حيث كان حازماً إلى أقصى الحدود في تطبيق الشريعة والسنة، ولم تنفع شفاعة ابنه (الملك الظاهر) بتخفيف العقوية عنه، الذي حاول التسلل إلى مراكز السلطة، كما فعل (الحلاج) من قبله

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق