أبوبكر كارواني
ترجمة: آسو أحمد
أريد التوقف في هذه المقالة على ثلاث نقاط، وهي:
1_ التكفير كأداة للتعامل،
ومخاطره.
2_ وجود مشكلة السلطة،
وعدمها، والنظر في الشرعية، وموقع أصحاب السلطة.
3_ الديمقراطية، ودورها
في تجسيد القيم الإسلامية في هذا العصر.
تصنيف السلفية:
التيار السلفي الحديث
يلعب دوراً خطيراً فيما يتعلق بالحكم على الناس، والتشكيك في إيمانهم، وابتداعهم، وخلق
قلق اجتماعي، وتصحر الفكر بين المسلمين، وهناك أطياف سلفية عدة، بحيث
بإمكاننا تصنيف
السلفية الحديثة الى أربعة أصناف، وهي:
السلفية العلمية/ السلفية
المدخلية/ السلفية الحركية/ السلفية الجهادية.
ما يجمع هذه الأصناف الأربعة
هي أنها كلها سلفية، وتنتمي من حيث الفكر إلى بعض طروحات (الإمام أحمد) و(ابن تيمية)
و(الشيخ محمد بن عبد الوهاب)، بالإضافة إلى علمائها، ومنظريها المعاصرين. وهي تتشابه
في مسائل كـ (الولاء والبراء) و(دار الإسلام ودار الكفر) و(المنهجية الحرفية في فهم
النص) و(رفض الديمقراطية وحقوق الإنسان) و(الحقوق والحريات العامة) ومعارضة (حقوق المرأة)،
وتختلف في أمور أخرى. مثلاً فالمدخلية ترى الدين وسيلة لمنح الشرعية لكل سلطة وحاكم،
وإن كان فاسداً وفاجراً وظالماً! في حين على العكس منها تماما، فإن الجهادية منها تكفر
السلطةَ، وترى وجوب تغييرها عن طريق القوة والعنف والإرهاب.
السلفية الجهادية تركز
في تربية المنتمين إليها على أصول السلفية من (التوحيد) و(تحكيم الشريعة القسري) و(الولاء
والبراء) و(السمع والطاعة)، وهي تربط هذه المفاهيم بالجهاد، بمعنى القتال، والوقوف
بوجه الحكام وتكفيرهم.
تنظيم (داعش) يدخل ضمن
الصنف الرابع، أي السلفية الجهادية، ولسنا من الذين يقولون بأن كل السلفيين هم (داعش)،
أو أن (داعش) هم وحدهم السلفيون. ولكن المفاهيم والمقاييس ونمط الفهم الذي يتبناه السلفيون
-ومنهم المدخليون-، ويعملون عليه، توفر المناخ والبيئة والأرضية المناسبة للسلفية الجهادية
لتجنيد أعضائها. فالشخص المتأثر بالآراء السلفية يتقبل السلفية الجهادية بصورة أسهل،
مقارنة بغيره، فهناك الكثير من المشتركات، والاختلاف يكمن في مسألة استخدام القوة،
والنظر إلى الحكام فقط، وبالإمكان حله بسهولة.
التكفير كوسيلة بيد السلفية:
التكفير واتهام الناس
بالإشراك والضلال ليسا وسيلة بيد السلفية الجهادية فحسب، بل هما إشكالية حقيقية في
الفكر السلفي الحديث بكافة أشكالها ، وخاصة عند المدخليين.
فعندما يُتهم شخص يؤمن
بكافة أركان الإيمان، ويؤدي الصلوات، ويصوم، ويحاول جاهداً تجنب المحرمات، ويفتخر بهويته
الإسلامية، وبانتمائه الى الإسلام، ويدعو إليه، بأنه منحرف، وبعيد عن دين الله، فكيف
سيكون حال الإنسان العادي، أو المنتمي إلى الأحزاب العلمانية، أو التابع للطرق الصوفية؟
لا شك أن هؤلاء لن يكونوا أحسن حالاً عندهم من ذاك.
يكيل أحد وجوه السلفية
في كوردستان الاتهامات لـ(الاتحاد الإسلامي الكوردستاني) ضمناً - في معرض هجومه على
الإخوان المسلمين- بأنه تكفيري، ويشبه الخوارج، وأن قضيته (أي قضية الاتحاد الإسلامي،
والتيار الإسلامي بشكل عام) هي قضية الحكم والسلطة!
صحيح أن (الاتحاد الإسلامي
الكوردستاني) ذو خلفية إخوانية، تاريخياً، لكنه الآن حزب كوردستاني مستقل، له برنامج
ومنهاج داخلي خاص به، ويصدر بياناته وأدبياته بصورة مستقلة، وهو يطالب باستقلال كوردستان،
والتفكير العلمي والأخلاق الإسلامية يقتضيان ألاّ يحاكم من خلال غير أدبياته، أو من
خلال ما قيل في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، من قبل أشخاص في دول أخرى.
العجيب في هذا (الوجه
السلفي)، أنه حين يتهمهم بالإخوانية والتكفير، فإنه يحذر، في الوقت نفسه، من أن الدفاع
عن الديمقراطية -والذي يتهم به أحد خصومه الذين اتهمهم بالإخوانية والتكفير- يؤدي إلى
الحياد عن دين الله.. فكيف لشخص إخواني، تكفيري - بمنطقه طبعا - أن يكون مدافعاً عن
الديمقراطية؟! هذا الاستنتاج الخاطئ إنما هو
حصيلة الرفض القاطع للتيار الإسلامي، والحقد عليه.
ويقع (الوجه السلفي) في
خطأ أكبر.. فهو عندما يعتبر شخصاً يدافع عن الديمقراطية - دون أن يفرق بين الديمقراطية
والعلمانية - مرتكباً لإثم يُخرج صاحبه من الملة، ويطالبه بالتوبة والعودة إلى الدين،
فما الذي سيقوله لمئات الآلاف من مسلمي كوردستان الذين يدافعون عن الديمقراطية، بل
ويدافع جزء منهم عن العلمانية؟! ألا يُتهم هؤلاء أيضاً بالانحراف عن الدين وفساد العقيدة؟
فالإثم المتشابه، يتطلب عقوبة متشابهة. فهو إذا اعتبر الناس مسلمين، فإن المنطق يفرض
عليه الحكم عليهم بالحكم ذاته، وإن لم يعتبرهم مسلمين، فالأمر أدهى وأمر! فإخراج شخص
من الملة لدفاعه عن الديمقراطية، يلزمه إخراج أكثرية الشعب الكوردي منها، فهم يتحدثون
جهاراً نهاراً عن محاسن الديمقراطية، أو يشاركون - على الأقل- في إحدى آلياتها، وهي
الانتخابات، وينتمي عشرات الآلاف منهم إلى الأحزاب العلمانية!!
إنه يتهم الإسلاميين،
في إحدى مقابلاته المنشورة على شبكة الانترنت، بأنهم لا يعتبرون رئيس الإقليم ولي أمرهم،
وهم بذلك - حسب زعمه - يكفرونه، وهذا الخلط في إطار الظروف السياسية الحالية، ونمط نموذج (الدولة – الأمّة) إنما هو قياس في غير محله.
فإذا كانت الديمقراطية كفرا وطاغوتا - عند أصحاب الفكر السلفي - فإننا يحق لنا أن نوجه
السؤال التالي إليهم: إذا كان الدفاع عن الديمقراطية يؤدي بالشخص إلى الكفر، ويوجب
عليه التوبة، إن كان مسلماً! فما هو - استنادا إلى نفس المنطق- حكم الشخص الذي يعتبر
رئيسَ حزب علماني، مؤمن بالديمقراطية، ولي أمره، ويعتبر طاعته من طاعة الله ورسوله،
وواجباً دينياً على مسلمي كوردستان؟؟!
مشكلة السلطة، ومخاطر
ثقافة (أولي الأمر) لدى السلفية المدخلية
يتحدث الوجه السلفي، الذي
تم الحديث عنه في السطور السابقة، عن (الخوارج)، ويشبه (الإخوان)، و(الاتحادَ الإسلامي
الكوردستاني)، بصورة غير مباشرة، بهم، فهو يرى أن مشكلة الجانبين هي السلطة والحكم،
والمطالبة بها.
ولنسأل في البداية: متى
كفَّر أهل السنة والجماعة أهل القبلة، واعتبروهم خارجين عن الدين؟ وهل التكفير بارتكاب
الذنوب والمعاصي، إلا جزء من صلب المنهج التاريخي للخوارج؟ وإذا كان أهل السنة – تاريخيا-
قد شكلوا الأغلبية والسواد الأعظم من المسلمين، والخوارج أقليةً، ألا تقترب صورة السلفيين
الجدد في كوردستان اليوم من الصورة التاريخية للخوارج؟
ومن جهة أخرى، ألم تكن
مشكلة السلفيين الكبرى هي الهجوم على إيمان المسلمين، وهي نفس المشكلة الفكرية التي
يعاني منها الفكر السلفي الحديث؟
ثم هل إن مسألة كالديمقراطية
هي مسألة عقدية، وتقتضي تكفير الناس عليها؟ أم أن تعقيدها، في العالم الإسلامي، جاء
من منطلق بُعد بعض (ولاة الأمر) عنها، وتوسلهم بالدين لرفض الديمقراطية، بغية إدامة
حكمهم الفاسد والمقيت؟ ولا يتوقفون عند حد توظيف نوع مؤول من الدين تاريخياً، من أجل
منح الشرعية لعروشهم الجائرة في دولهم، بل يتجاوزونها الى دول أخرى، فترى السلفي الملتحي
جنباً إلى جنب مع الانقلابي العسكري (كما شهدنا في النموذج المصري)، واقفا في الجهة
المقابلة للديمقراطية وإرادة الشعب والتيار الإسلامي، في صورة فاضحة!! هذا إذا استثنينا
البعض من السلفيين ذوي المواقف، الذين يبدون مرونة تجاه مبادئ الديمقراطية، ويعارضون
الاستبداد.
ليس التكفير منطقاً للمدرسة
الإسلامية الوسطية، قديماً أو حديثا، ومن يحمل هكذا منطق من أبنائه فإنما هو تحت تأثير
الفكر السلفي، ويجب وضعه تحت ضوء الفحص والنقد كأي سلفي ومتطرف آخر.
وإذا كانت مشكلة الإسلاميين
هي الحكم والسلطة، فإن هذا من دواعي فخرهم! فالإسلاميون يعتزون بأنهم يحملون هَمَّ
الحكم، وأن من أسئلتهم الدائمة: من يحكم؟ وكيف يحكم؟ وهل أن الحكام يحكمون برغبة المواطنين،
وهل يستمدون منهم شرعيتهم؟ أم أنهم يحكمون حسب أهوائهم، ولصالح فئاتهم؟ وهل أن حكمهم
عادل أم ظالم؟ هل يخضعون لمساءلة الناس، أم أنهم -كبعض أولياء أمور السلفيين- فوق كل
رقابة ومساءلة، وعلى الناس - المغلوب على أمرهم - السمع والطاعة فحسب؟
وأي شخص لا يعير اهتماماً
كافياً لمشكلة الحكم، فهذا يعني أنه غائب عن مشكلة العدل والظلم، وأن حس المسؤولية
لديه منعدم، وله أخلاق العبيد إلى حد بعيد! فما من مشكلة مع الإسلامي الذي يحمل هم
الحكم، والوصول إليه عن طريق اللاعنف وإرادة الناس، بل المشكلة مع من لا يحملون هذا
الهم بالصورة المطلوبة إلى الآن، وعلى الإسلاميين تكثيف جهودهم بهذا الاتجاه، والقيام
بنقد أخلاقي قوي للسلطة.
ليس العيب أن تكون لك
مشكلة الحكم، بل العيب، كل العيب، أن لا تكون لك مشكلة في من يتولى الحكم، وكيف يديره،
وأن تطلب له السمع والطاعة الدائمين كـ (ولي للأمر)، وأن تبرر فساده وظلمه واستبداده
بالدين!!
العيب أن تكذب على الرسول،
وتنسب إليه - باسم الحديث و(السنة) - وجوب طاعة (ولي الأمر)، حتى إذا سرقك، أو ضرب
عنقك، وبذلك تطرح العديد من الآيات كـ[وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ
يَنتَصِرُونَ]، و[وَلاَ تَرْكَنُوا ْإِلَى الَّذِينَ ظلموا] جانباً، أو تقيدها بأحاديث
موضوعة أو ضعيفة، وقد ادعى البعض من المتشددين نسخ هذه الآيات بهذه الأحاديث تاريخياً!!
العيب أن يدعى إلى (من
اشتدّت وطأته، وجبت طاعته) مرة أخرى.. و بموجب هذه القاعدة كان علينا الخضوع لـ (داعش)،
فيما لو تم لها السيطرة على إقليمنا - لا قدَّر الله - بحكم أن الأمر بيده، وهو حاكم
البلاد الفعلي، وأن نعتبر عصيانه عصياناً لله عزوجل!
لذا فإن منطق السلفيين،
ومنهم المدخلية، تجاه العلاقة بين السلطة والدين، غريب جداً. فهم حين يتهمون الإسلاميين
باستغلال الدين، من أجل الوصول إلى السلطة، والتفريق بين المسلمين، يسمحون لأنفسهم
باستغلال الدين عن طريق ثقافة (ولي الأمر)، لتبرير أفعال بعض الحكومات والسلطات في العالم الإسلامي، التي تقوم
على الظلم والفساد والاستبداد.
إن هذا النمط من التعامل
مع الدين، ومحاولة قتل روحه المطالبة بالعدالة، والمنافية للظلم، وحصره في طاعة الحاكم
وأزلامه، فقط لأن السلطة بيدهم، من دون النظر في كيفية إدارتهم للسلطة، أو قمعهم للحقوق
والحريات الفردية، لهو أبشع أنواع استغلال الدين في مجال السياسة. ثم أي منطق يقبل
أن يُتهم من يتخذ من قيم الدين منطلقاً لمحاربة الظلم – دون أن يعتبر نفسه ممثلاً للدين
في المجتمع، أو أن يُصنف قواه على ذلك الأساس- بأنه يسيء استخدام الدين في السياسة،
بينما أن يُستغل الدين في تبرير الظلم، ويُتخذ وسيلة لتبرير الخضوع للنخبة الحاكمة،
يعتبر أمرا عاديا؟!
هل من المعقول أن يُخاطب
الناس في القرن الحادي والعشرين بخطاب ديني يخيرهم بين (الاستبداد) أو (الفتنة)؟! وهو
نفس الخطاب، وذات الحلقة المفرغة التي دار فيها المسلمون منذ أكثر من ألف عام، حتى
وصلوا إلى الانحطاط الذي يعيشونه حالياً.
جزء مما يحمله بعض السلفيين،
ومن يقف وراءهم من الحكام، من عداوة تجاه الديمقراطية، إنما يتعلق بالدور الذي تقوم
به الديمقراطيةفي كسر هذه المعادلة، وتصحيحها. بمعنى أنه إذا كان الحكام الظلمة يخوفون
شعوبهم دائما، من بعبع سيادة الفوضى والاضطراب، وزعزعة الأمن والاستقرار، في حالة ابتعادهم
عن السلطة، أو إزاحتهم عنها. فإن الديمقراطية، بضماناتها، وأطرها، وآلياتها، لها القدرة
على قلب تلك المعادلة، وطرح البديل الثالث أمام الشعوب المسلمة، وهو بديل الحرية والتغيير
السلمي، وعدم استبدال حاكم ظالم بآخر، في مرحلة ما بعد الثورة، والاضطرار إلى القبول
بفوضى وقتية، من أجل الاستقرار والحرية، والوصول إلى حكم راشد، أكثر إسلامية، وإنسانية!
إن منطق النضال الديمقراطي
يقول لنا إنه بالإمكان رفض كل من (الاستبداد) و(الفتنة) معاً، وفي آن واحد، دون أن
نكون مجبرين على الاستمرار في التضحية بالحرية والعدالة من أجل الأمن، فهذا مما لا
يليق بأي شعب في عصرنا. إنه يعلمنا - كما تعلمنا روح الإسلام - أن الفتنة الأكبر هي
الظلم والاستبداد، وهي مصدر الفتن الأخرى.
منطق تكفير الديمقراطية،
والحكم على إيمان المسلمين، وطلب طاعة ولي الأمر منهم، دون ربط شرعيتهم برضا الناس
والعدالة، رغم التغيرات العميقة التي طالت العالم، قريب جداً من منطق السلفية الجهادية،
ومنطق (داعش)، ولن يموه التهجم على (داعش) تلك الحقيقة، وذلك لأن:
1_ (داعش)، مثله كمثل
هؤلاء، لا يؤمن بالديمقراطية، والحقوق، والحريات العامة، وحقوق الإنسان، والقوم والقومية،
بمعناها العصري، ويشكك في إيمان كل من يؤمن بهذه المفاهيم.
2_ (داعش) يعتبر نفسه،
دون غيره، صاحب الحق الوحيد الذي يملك الفهم الصحيح للإسلام، ولا يؤمن بصحة فهم ونمط
من التدين خارج نمطه. وأدعياء السلفية، يرفضون فهم الإسلاميين الآخرين، وأتباع الطرق
الصوفية، والمراكز الشعبية للعلماء المسلمين، والعامة، ويعتبرونه خاطئاً، مختلطاً بالبدع
والخرافات العقدية، ويعتبرون فهمهم وحده هو الفهم الصحيح.
3_ تعمل السلفية الجهادية،
وكذلك (داعش)، فيما يتعلق بسلطة أمرائها، وفق ثقافة (ولي الأمر) و(الأمير) و(السمع
والطاعة) الدينية، في مجال السياسة. والفرق بينهما هو أن هؤلاء يريدونها لولي الأمر
الواقع، بينما يريدها السلفيون الجهاديون لأمرائهم هم، وهو في الجوهر نفس النمط من
الحكم.
4_ فهم الجانبين لجوهر
الإسلام متطابق - عدا عن استخدام القوة لتغيير السلطة، وتكفير الحكام-، فالاثنان لهما
فهم حرفي وظاهري للنصوص، ولا يؤمنان بعلل الأحكام، ومقاصد الشريعة، وحكمة التشريع،
إلا قليلاً، ويبدآن من النصوص إلى الواقع، دون الالتفات إلى مناط الحكم، وفقه المآلات،
واختلاف الزمان والمكان، ويسقطان الآيات والأحاديث على الواقع. والأنكى أنهما يعتبران
فهماً تاريخياً معيناً للقرآن والسنة، هو الفهمَ الصحيح الأخير، ويلبسانه التقديس،
باسم السلف الصالح!
5_ يمتاز الجانبان بالتعصب
لأفهامهم، وبالتحجر الفكري، وعدم الاعتراف بالمقابل، ويفكران بمنطق نمط تاريخي من الأمر
بالمعروف، والنهي عن المنكر، ولا يؤمنان بالتوصل إلى حلول وسطى. فالاثنان يعرضان المسائل
في إطار الحق والباطل. وعندما يتم إدخال المسائل الحياتية في ميدان العقيدة، وتخرج
من مجال المصالح والمفاسد، فمن الواضح أنها تفقد نسبيتها، وقابليتها للمساومة، و(الحق)
هناك يكون واحداً غير قابل للتقسيم! وعندما يطرح الإنسان رأيه وفهمه النسبـي - بحكم إنسانيته - هكذا، يصبح عمله إعلاناً
لحكم الله وأمره، ووجب على المقابل الخضوع والطاعة، وإلا اعتبر خارجاً عن أمر الله،
عاصياً له!! متغافلين أنهم يمثلون فهماً بشرياً معيناً للدين، في إسقاط النصوص، والرجوع
إليها، لا الدين ذاته، وجوهره، ورسالته، وخصوصاً في مجالات كالسياسة، ومسألة السلطة،
وأنماطها، وكيفيات تطبيقها، ومسألة الديمقراطية تدخل ضمن إطار المتغيرات غير العقدية.
6_ نمطا السلفية المشار
إليهما، لا يختلفان جوهرياً حتى في مسألة استخدام القوة والعنف، فإذا كان الجهاديون
يستخدمون العنف، ويسفكون الدماء بأيديهم، فإن (المداخلة) فضلا عن استخدامهم العنف المعنوي،
وإصدارهم الأحكام على إيمان المسلمين، فإنهم بدعوتهم إلى طاعة ولي أمر الزمان، وتبريرهم
أفعاله، وجرائمه أحياناً، يقومون بالشيء ذاته، ولكن في زمان ومكان مختلفين! فنمط الحكم
الذي يؤمن به الجانبان هو نفسه، ومن هنا لا أستبعد - إن وصلوا إلى السلطة ولم يتغيروا
- (ولا أستبعد بالطبع قيام سلفيي كوردستان بإعلان حزب لهم، أسوة بأقرانهم في دول أخرى)،
أن يفرضوا نمطاً تاريخياً من الفقه على الناس، عن طريق القوة، ويحكموا دولة تنعدم فيها
الحريات، والديمقراطية، وحقوق الإنسان، فهذه كلها بدع عندهم، ويجب محاربتها، وعلى ولي
أمر المسلمين منعها!
الديمقراطية كإطار للدفاع
عن العدالة وتجسيد للقيم الإسلامية
أثبت الواقع المعاصر،
أن (الديمقراطية) هي أداة مجرَّبة لتحديد سلطات الحكام، ومنعهم من سوء استخدامها، وحجزهم
عن الظلم والاستبداد، كما أنها إجراء عملي لمراقبتهم، ومساءلتهم، وتغييرهم، إذا اقتضى
الأمر، من قبل الشعب.
ويشهد الواقع أن الديمقراطية
متى ما غابت عن أية بقعة في العالم، فإن المواطنين يتعرضون، بمستويات وأشكال مختلفة،
إلى الظلم والاستبداد، سواء أكانت السلطات باسم الله، أو الطبقة، أو العلمانية.
ولذا، فإن العقل الأصولي والمقاصدي الإسلامي، الرصين،
والمنهجي، يفهم الديمقراطية في إطار قاعدة (ما لا يتم الواجب إلاّ به، فهو واجب). فإذا
كان نشر العدالة، ومقارعة الظلم، مطلبين إلهيين، ومن أهداف الإسلام، فمن الصعوبة الوصول
إليهما، في هذا العصر، وفي ظل الدولة الحديثة، بغير وسيلة مجربة، وعملية، كالديمقراطية.
فمن غير الممكن، في ظل أي نظام، غير الديمقراطية، أن تكون هناك رقابة، ومساءلة، وتداول
سلمي للسلطة، وفي حال غيابها يصبح الحكام طليقي الأيدي، غير آبهين بأحد، ونصائح العلماء
- حسب ما يعرضها عقل السلفية، والفقه التاريخي - تكون عديمة الجدوى، لأنها - تاريخيا
- لم تكن رادعا للحكام عن أنواع الظلم والسيئات، فمن غير المنتظر منها ذلك في واقعنا
الراهن.
الحديث حول الديمقراطية في دائرة الفكر الإسلامي،
ومنظومته، هو جزء من الحديث عن (العدالة) و(الحق) و(الظلم) و(الجور)، وذلك من منطلق
أن الديمقراطية أداة للحكم، وإرادة المواطنين تصبح من خلالها مانعاً لإساءة استخدام
السلطة وتحريفها. من هنا، فإن السؤال عما إذا كنا نريد الديمقراطية أم نرفضها، هو جزء
من سؤال ما إذا كنا نريد العدالة، ونرفض الظلم، أم لا.
الديمقراطية مرآة تجسد مطالب، وإرادة، واتجاهات
المواطنين، والمجتمعات. وبغير الديمقراطية في عصرنا، وفي ظل الدولة الحديثة، سيسود
الاستبداد، وحكم الأسرة غير الدستوري، وانعدام مشاركة المواطنين، والرقابةِ، ومساءلة
الحكام، وغيابُ الشفافية في إدارة المال العام، ومسيرة الحكم. لذا، فإن من لا يملك
آلية عملية مجربة بديلة عن الديمقراطية، لتحديد سلطات الحكام، ولا يعرضها، ويطالبنا
– في هذا العصر، وفي ظل الآليات الخطيرة الحديثة لممارسة السلطة - بالتصديق بعودة العدالة العمرية، فهو في خطأ. ولا
يصدق بهذا الادعاء الباطل، إلا من يعيش خارج منطق العصر، وتعقيداته، ويغفل عن أساليب
ممارسة السلطة في إطار نموذج الدولة الحديثة، ولم يطلع على تاريخ الشعوب المسلمة، وغيرها.
ولذا، فإن من يعادي الديمقراطية
في هذا العصر - ودون أن نتهم أحداً في نياته الخفية-، فهو يساند الظلم والتفرد، واستبداد
الحكام، وعدم مراقبتهم. بمعنى أنه لا يكترث لقضية العدالة، التي أشار إليها القرآن
في (سورة الحديد)، ووصفها بأنها جوهر رسالة جميع الأنبياء (عليهم السلام) عبر التاريخ
.
وليكن واضحاً عندنا، أننا
حين نضفي الشرعية الإسلامية على الديمقراطية، أمام أعين المسلمين -وخاصة الجيل الصاعد- وجميع العالم، فهذا يعني أننا
نربط الإسلامية بالعدالة ومقارعة ظلم الحكام، وعندما نعادي الديمقراطية باسم الإسلام،
ونصفها بالكفر والطاغوت، فإننا نقرن اسم الإسلام بالظلم والاستبداد ومعاداة الحقوق
والحريات، وهذا ما يضع مثل هذا الفهم تحت طائلة مسؤولية كبيرة، ويشكك حتى في فهمه للجوهر
التوحيدي للعقيدة الإسلامية، فتنزيه الذات الإلهية عن الظلم من مبادئ التوحيد.
إن معاداة آليات التصدي
لظلم الحكام - والتي تتجسد في الديمقراطية، وضماناتها، في هذا العصر- باسم دين الله،
يخلط الإسلام مع الظلم أمام أعين الملايين من الناس حول العالم. إن المشكلة الجوهرية
هنا هي المسلمون، وليس الإسلام. المشكلة هي: هل مجتمعات المسلمين، وفي الوقت الذي يطالب
الإسلام بالعدل، ويكافح الظلم، هي نموذج لذلك، أم على العكس، تعيش أغلب المجتمعات المسلمة تحت وطأة الظلم السياسي
والاقتصادي والاجتماعي، الذي هو العائق أمام تقدمهم ورقيهم.
ومن هذا المنطلق، فإني،
وأمثالي، نفتخر بالدعوة إلى الديمقراطية في مجال السياسة، ونعتبره جزءاً لا يتجزأ من
واجبنا الإسلامي، ونرجو من الله سبحانه أن يتقبل منا حرصنا هذا على تحقيق العدالة،
والنجاة من ثقافة (إما الاستبداد أو الفتنة) البغيضة، ويدخره لنا في خانة العمل الصالح
والجهاد المدني، ويجازينا عليه.
إن تبرُّمنا من الظلم
يجعلنا نعتبر الديمقراطية - لحين ظهور وسيلة أكثر فاعلية - مكسباً عظيماً للإنسانية،
ويدعونا إلى أن نفسر جزءاً من التشويه الذي أصاب الإسلام، وما تعيشه الشعوب المسلمة،
من حالة مزرية، ونربطه بغياب الديمقراطية والعدالة السياسية. وليس عجبا بعد ذلك، أن
يتقاعس الغرب عن مساندة الديمقراطية، ويتغاضى عن الانقلاب على صناديق الاقتراع، وإرادة
المواطنين، في أكثر دول العالم الإسلامي.
وفي الختام أطالب السلفيين والسلفيات بمراجعة تفكيرهم، ومنهجية فهمهم
للإسلام، وأن يستمعوا للآخر، ويقارنوا فهمه بما لديهم، ويعوا أن العالم مليء
بالأفهام والمناهج المختلفة لفهم الإسلام. عليهم أن يرفضوا فهماً يجعل من الإسلام،
بكل رحابته، لا يتسع لأناس مثل (أبو بكر علي)، و(مولانا)، وكل طبقة، وجماعة،
يطردون خارج دائرة الإسلام، تحت عنوان واسم مختلف، ولا يعود هناك مكان لأمثال
(جلال الدين الرومي)، و(حافظ الشيرازي) و(محوي)، و(مولوي)، و(كاك أحمدي شيخ).
وبهذا، وبدل أن يكون الإسلام، والالتزام الإسلامي، مصدراً للطمأنينة النفسية،
ومعينا ثرا لتذوق حلاوة الحياة، يتحول إلى عبء يؤرق كواهلنا، ويكبت فطرتنا في
التمتع فيما لم يحرمه الله، ونحول حياتنا إلى حالة من الطوارئ لم يردها الله منا.
وما من ضمان أن فهماً كهذا يمكِّن صاحبه من الاستمرار في أداء واجباته الدينية إلى
النهاية، فالتشدد والتطرف في فهم الدين وتطبيقه لا يستمران عادة، وينتج عنهما
العكس. هذا مع تأكيدنا على أننا نحترم أي نمط من الحياة تختارونه، فحديثنا عن
السلفية ليس على مستوى الأفراد والأتباع، بل إن ما نقصده هو على مستوى الفكر
والتيار، وهذا الدخول في الحكم على الناس، وفي الصراعات الفكرية والسياسية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق