01‏/03‏/2015

مفهوم العصمة لدى دعاة السلفية (الألباني نموذجاً)

د. سعد سعيد الديوه جي
من أشد المصائب الفكرية التي ابتلي بها المسلمون، مصيبة صب الأفكار والمعتقدات التي يعتقدون بصحتها في قوالب جامدة وفضفاضة ثم يدعون الإنتساب لها، فتنشأ الفرق المختلفة التي يدعي كل منها بأنها الناجية ولا غير.
ومن هذه الأفكار، مبدأ العصمة البشرية المطلقة، وهو مبدأ مرفوض تماماً بالنسبة لملائمة الطبيعة البشرية، لأنه يخالف كل القوانين القرآنية. فالرسل والأنبياء، وهم أكمل الخلق، معصومون عصمةً دينية مطلقة فقط، وأما ما يصدر عنهم من أفعال دنيوية -في بعض الأحيان- فهي لا تدخل ضمن إطار العصمة الدينية، لأنها لا تخضع للأوامر والنواهي الدينية، حيث من الممكن أن يتعرض الرسل والأنبياء لحوادث اعتيادية، كالحادثة التي أودت بحياة القبطي عندما وكزه (موسى) (عليه السلام) عن غير قصد فقتله،
وحادثة القرعة في السفينة التي حملت (يونس) (عليه السلام)، التي ساهم فيها وكان من المدحضين، وحادثة الصحابي عبدالله بن أم مكتوم (رض) ، الذي كان يقول فيه الرسول (صلى الله عليه وسلم) عندما يراه: "أهلاً بالذي عاتبني فيه ربي".
فالرسل والأنبياء بشرٌ خصهم الله بالرسالة والوحي، وليس لهم أية تجليات إلهية {قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد} 110 / الكهف، وعظمتهم تكمن في بشريتهم.
لذلك فنحن مجبرون على اتباعهم في ما يخص البلاغ الديني المطلق، وأما في تصرفاتهم الدنيوية، فالأمر متروك للأتباع، كنوعية اللباس، وشكله، ونوعية الطعام، وطريقة تناوله، طالما بقي في حدود الشرع .
لقد استغلت فكرة (العصمة)، واتباع المعصومين، أسوأ استغلال، داخل بعض التيارات الإسلامية المتصارعة على زعامة الأمة، أو لتبرير معتقداتها، فشطحوا بعيداً عن الثوابت القرآنية، وجعلوا كثيراً من المسائل الدنيوية بموازاة المسائل الدينية البحتة.
ولعل أغرب ما في الأمر، أن يقترن هذا المفهوم بالمصطلح الشائع هذه الأيام المسمى بـ(السلفية)، أو ما يعرف بالأصولية الظاهرية، والتي أخذت أفكارها من فترات زمنية محددة من التاريخ الإسلامي، الممتد لأكثر من أربعة عشر قرناً. ويعتقد المنتمون لهذا المبدأ أنهم على الطريق الصحيح، وغيرهم من الفرق ليس كذلك. وأكثر ما يؤخذ على هذه الفرقة التعصب للماضي، كأفضل الأزمان، وإهمال الحاضر، وتناسي المستقبل تماماً.
ومما يؤخذ على المنهج الذي يدعي السلفية، نتيجة وقوف الزمن عندهم، عدم قبول أي رأي اجتهادي جديد، وعدم تفاعلهم مع التطورات العلمية الهائلة، الجارية في عصرنا هذا، ومدى موائمتها لأفكار يعتمدون عليها، أثبت العلم بطلانها بما لا يدع مجالاً للشك ، وعدم إيمانهم بكل شئ يمت للباطن والمجاز، رغم قوله تعالى {هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شئ عليم} 6 – الحديد. ناهيك عن ظهور مسائل فقهية لم يكن يعرفها أهل تلك الأزمان مطلقاً.
في العصر الحديث تبلورت هذه الحركة على يد (محمد بن عبدالوهاب) (ت1206هـ) في الجزيرة العربية، والذي تحالف مع (محمد بن سعود) (ت 1179هـ)، الذي كان ساعياً لإنشاء إمارته الخاصة به، ومحاربة الدولة العثمانية، تحت راية إنكار البدع، ونبذ الشرك، وإقامة دولة الشرع، بدون أن يعطي أياً منهما أفكاره الخاصة عن أمور سياسية ودينية، كطريقة الحكم في الإسلام، وموقفهما من الشورى. وكانت أفكار محاربة البدع، وإعطاء تفاسير خاصة للتوحيد، هي الغطاء الديني للهدف السياسي من محاربة دولة الخلافة، وقد تم إهمال كافة الملابسات التاريخية والعقائدية التي رافقت قيام الدول الإسلامية، واندثارها، وتم حصر مسألة التوحيد في مسائل ثانوية، كالشواهد على القبور، وعلاقة المساجد بالقبور، وغيرها من المسائل الجانبية، ولم يسلكا طريقة الدعوة بالتي هي أحسن {أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن} 125- النحل، بل اتبعا أكثر الطرق دمويةً في سبيل ذلك.
ومن أشهر المنظرين المحدثين لفكرة (السلفية) الشيخ (الألباني) (ت1997م)، التي رفع بها من يتبعهم لدرجة العصمة، وهو أمر مرفوض وشديد الغرابة داخل التيار الإسلامي السني !
وفي تنظيراته هذه يقع في مطبات تاريخية وعقائدية عديدة، ربما لضعف ثقافته التاريخية، أو انه يتجنب الخوض فيها -كمعظم أتباع هذا المنهج- حيث تسقط المثالية التي يدعونها.
الألباني
لقد بلغ تعلق (الألباني) بظاهر الآيات حد السذاجة المفرطة، إلى حد اتهام خصومه بعدم جدوى إيمانهم، وأن كل تأويل أو تفسير مجازي، أو رمزي، مرفوض رفضاً قاطعا عنده، برغم أنه من أسرار عظمة القرآن، هذا علماً أن معظم معاني التأويل قد وردت في القرآن الكريم بمعنى التفسير، كقوله تعالى: {وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كلُ من عند ربنا ومايذكر إلا أولو الألباب} 7- آل عمران، وقوله تعالى: {وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث} 6- يوسف، وهو في هذا المجال غير التأويل القسري الذي اتبعته الباطنية في تحريف القرآن، والذي يقصده الشيخ في أحاديثه الظاهرية، التي أفنى حياته في الدفاع عنها بشتى السبل، والتي يقول في هذا المجال بشأنها: "تالله إن إيماناً بالنصوص كلها على طريقة الرمز والتأويل فهو إيمان لا يساوي فلساً، ولا يغني عند الله شيئاً"، وبذلك فهو يخبط التأويل الصالح بالتأويل الباطني الطالح بجرة قلم.
فالسلف الصالح، الذي يجب اتباعه بكل شيء، وبدون تفكير، وبلا اجتهاد، ولا مناقشة، عند (الألباني)، هو المقصود بالحديث التالي على أساس زمني بحت: "خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم".
ولا ندري على ماذا استند في كلامه هذا، وهو الذي أهمل السياسة جملةً وتفصيلاً، والتي كانت الشغل الشاغل للرعيل الأول، ومن تلاهم، ونادى بقولته المشهورة: "من السياسة ترك السياسة".
والسلفيون الناجون هم من ينتمون لهؤلاء السلف، وكل ما عداهم فلا.
في هذا الحيز الزمني حدثت أمور لا تحصى خارج العصمة المدعاة، كحادثة نزول الرماة في (معركة أحد)، وحادثة الأعرابي الذي اعترض على توزيع الغنائم، والرسول (صلى الله عليه وسلم) حاضر، وتحديد المهور الذي أراده (عمر) (رض) وانصاع لرأي المرأة، ومقتل (عثمان) (رض) على أيدي التابعين، ومنهم (محمد بن أبي بكر)، ومعاقبته ونفيه لـ(أبي ذر الغفاري) (رض)، ومقتل (علي) (رض) على أيدي الخوارج، وجلهم من التابعين، والخلاف بين (علي) و(معاوية)، وهم من الصحابة المقربين.
وكل هذه الامور لا تنتقص من جوهر الإسلام والمسلمين، لأن منهم من أخطأ وزاغ عن الحق، كقتلة عثمان وعلي (رضي الله عنهما)، ومنهم من اجتهد وأخطأ، والله تعالى يقول: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما}، ولم يقم بتسمية المؤمنين المتقاتلين بالكافرين والمارقين الذين يجب محاربتهم. ولكنها لا تصب في تيار العصمة مطلقاً.
وحتى هذا المفهوم غير ثابت عند (الألباني)، فهو يقول في مكان آخر "بأن السلف الصالح هم المهاجرون والأنصار، ومن تبعهم بإحسان، أي بأتقان في اتباعهم، بأن يعرف منهجهم، فلا يتبعهم عن جهل".
وبدون أن يفسر لنا ما هو منهج الاتباع، وهل هو ثابت أم متغير، في عالم شديد التعقيد، وكثير التغيير، بين ليلة وأخرى .
وشيخ محدثي العصر، كما يحلو لأنصار الألباني أن ينعتوه، يرجع فيقول: "فالسلفية تنتمي إلى هذا السلف"، ويضيف: وهذه ليست نسبة إلى شخص ولا إلى عشرات الأشخاص، بل هذه نسبة إلى العصمة ، ذلك لأن السلف الصالح يستحيل أن يجتمعوا على ضلالة وبخلاف ذلك الخلف، الخلف لم يأت في الشرع ثناء عليهم، بل جاء الذم في جماهيرهم، وذلك استناداً للحديث "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله، أو حتى تقوم الساعة "، ثم يعقب: وهذا الحديث خص المدح في آخر الزمان بطائفة، والطائفة هي الجماعة القليلة !!
والجماعة القليلة هي بالطبع جماعته، وباقي المسلمين إلى جهنم وبئس المصير. ويا ليته فسر لنا بعض أنواع الضلال، كالخروج على طاعة خليفة المسلمين، ومحاربته، وهل هي بمنزلة ممارسة بعض المسلمين لبعض العادات السيئة عن جهل.
وتأكيداً لهذه المسألة يقول الشيخ (الألباني): "بأنه إذا ما عرفنا هذا المعنى للسلفية، وأنها تنتمي إلى جماعة السلف الصالح، وأنهم العصمة فيما إذا تمسك المسلم بما كان عليه هؤلاء السلف الصالح، حينئذ يأتي الأمر الثاني، فكل مسلم يعرف حينذاك هذه الصلة، وما ترمي إليه من العصمة".
والتبريرات المتهافتة في هذا النص لا حصر لها، و إلا فما مضى بأن الخلف لم يأت في الشرع ثناء  عليهم، بل جاء الذم في جماهيرهم، فإذا كانت أفضال الصحابة لا يمكن نكرانها مطلقاً، ولكن أفضال الله عليهم أعظم، بأن جعلهم يعيشون مع رسوله (ص)، ويهتدون بهديه، ويسيرون على نوره.
وفي هذا السياق، ألم يكن (صلاح الدين الأيوبي) و(نور الدين زنكي) و(محمد الفاتح) من الخلف، ضمن مفاهيم السلفية، وعشرات أمثالهم من العلماء والعظماء، الذين رسموا خارطة الطريق الإسلامي.
و(الألباني) مهووس بالحديث المنسوب للرسول (صلى الله عليه وسلم) حول افتراق الأمة إلى ثلاثة وسبعين فرقة،  كلها في النار إلا واحدة، وقد أثبتت الدراسات التاريخية والفقهية ضعف الحديث، خصوصاً حول عدد الفرق عند اليهود والنصارى، ومعنى الفرقة في الديانات الثلاث المعنية في الحديث المذكور، وأنه مجرد مشابهات خيالية لا غير.
ولا ندري هل من الفرق الذاهبة للنار: المجتهدون في الإسلام، ومن تبعهم، كأبي حنيفة ومالك والشافعي، وغيرهم الكثير، وأئمة تصوف الزهد، كالجنيد البغدادي وعدي بن مسافر الأموي وعبدالقادر الكيلاني، وغيرهم المئات من عظماء العلماء والمفكرين !
و(الألباني) في نهجه المتشنج يتلاعب بالعواطف، فيستخدم التهديد والوعيد المبطنين، كعادته، ويصور لمخالفيه بأنهم خارج رحمة الله، فيستشهد بالآية الكريمة: {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا}، وهو استشهاد في غير موضعه بالنسبة للخلاف الفقهي المشروع بين المسلمين، ولا علاقة له بالاعتقاد بالعصمة من عدمها، والله تعالى سيحاسب كل من يستغل الآيات والاحاديث في غير مقاصدها حساباُ عسيراُ.
إن ديننا دين علم وعمل وإيمان وتجديد وحفاظ على ثوابت إيمانية لا جدال حولها، وليس دين مظاهر وقشور، نكتفي بها بإطالة اللحى، وتقصير السراويل، وحمل المسابح، وفرض أقسى الأحكام على فرائض الصوم والصلاة، وفي نفس الوقت نعادي جماهير المسلمين، ونترصد لهم كل مرصد، ونتعاون مع الظلمة عليهم، ونقول بأننا على سيرة السلف المعصوم.


ملاحظة: النصوص العائدة للشيخ الألباني مأخوذة من محاضراته وخطبه على موقع شبكة سحاب السلفية  www.sahab.net

هناك تعليق واحد:

  1. بخصوص حديث 73 فرقة فالشيخ البوطي شرحه شرحا ممتعا ... وذكر أن زيادة كلها في النار للترمذي . وعودوا الى شرحه .

    ردحذف