01‏/03‏/2015

(جبران).. لون بهي في أسفار قوس قزح

عبد المجيد إبراهيم قاسم
(جبران) صاحب الكلمات التي غدت ناياً تعلقّت بها أفراح البسطاء وأحزانهم، كلماتٌ تأوَّهت بجمرها القلوب، وهي في غاية الفرح، كلمات رسمت محطة لقاء تركت ابتسامة، ومحطة وداع رسمت دمعة، ومحطةٌ نقشت اللحظات، ودوّنت الذكرى، كلمات تنقلت في حدائق النفوس.. لتلفح الحنين، وتوقد مشاعل الحياة. (جبران خليل جبران).. الذي سعى إلى الإفصاح عن أحاسيسه، التي غاصت عميقاً في نفسه، وهو المدرك لتلك الأحاسيس بالكلمة، وإن كانت عصيَّة، معتمداً في ذلك على مجموعة أدواته، التي استخدمها بحرفية عالية.
ولد (جبران) في بلدة (بشرّي)، الغافية على سفح جبل الأرز في (لبنان)، من أسرة فقيرة، في سنة (1300 هـ 1883م)، في يوم عاصف من أيام الشتاء الجبلي القارس. والده (خليل جبران). والدته
(كاملة رحمة)، كانت تعمل في الخياطة. تعلّم مبادئ القراءة العربية والسريانية، والمبادئ الأولية للعلوم، في مدرسة راهب القرية، وهو ابن الخامسة. كان ملتصقاً كثيراً بأمه، التي تركت في شخصيته بصمات عميقة، والتي اكتشفت فيه فطرة الإبداع والميل إلى التأمل. وكانت طبيعة (جبران) هادئة، كان قريباً للحزن، محبَّاً للوحدة، تأثر في طفولته بالطبيعة الساحرة لمسقط رأسه (بشرّي)، التي أوقدت وجدانه، وكان للعيون والشلالات والجبال والوديان؛ وللحياة البسيطة الوديعة، تأثيراً كبيراً عليه، وعلى إبداعه.
جبران
هاجرت عائلته تحت تأثير الظروف الصعبة إلى (بوسطن) في (أمريكا)، عام 1895، واستقرت فيها، ثم أُرسل (جبران) ثانيةً ليتمَّ تعليمه في (مدرسة الحكمة) في (لبنان)، ويدرس اللغة العربية وآدابها سنة 1898، حيث بدأت ملامح النبوغ والذكاء تظهر عليه، وقد عُرف في تلك المرحلة بالتفوق والاجتهاد، وازدادت مدارات إبداعه اتساعاً، وأخذت مواهبه بالنضوج والتبلور. تعرَّف (جبران) على (يوسف الحويك)، وأصدرا معاً (مجلة المنارة)، وكانا يحرِّرانها سويَّة، فيما وضع (جبران) رسومها وحده. ثم عاد إلى (بوسطن) سنة 1902، بعد أن بلغه خبر وفاة أخته (سلطانه)، ثم تَبعها أخوه (بطرس) بمرض السل، وبعد أشهر توقف قلب والدته عن الخفقان.
أصدر (جبران) كتابه الأول (الموسيقا)، عام 1905، ثم أتبعه بـ(عرائس المروج)، عام 1906، الذي نشره له (أمين غريب)، صاحب جريدة (المهاجر) العربية في (نيويورك). ثم بدأ نتاجه الأدبي يتدفّق، فكان (الأرواح المتمرِّدة) سنة 1908، ثم (الأجنحة المتكسِّرة) سنة 1912، ثم (دمعة وابتسامة) في 1914، الذي ضمُّ مجموعة مقالاته الـ 56 التي نشرها في (المهاجر)، والتي كان يكتبها في زاوية منتظمة
من كتب جبران
بعنوان (أفكار)، ثم استبدلها بـ (دمعة وابتسامة). ثم أصدر (جبران) (المواكب)، عام 1919، القصيدة التي اعتمد فيها القافية والوزن، و(العواصف)، في 1920، بالعربية، وفي عام 1923 نشرت له (مكتبة العرب) في (مصر) كتاب (البدائع والطرائف).
تعرَّف على (مي زيادة)، التي شجعته على الكتابة، وظلا يتبادلان الرسائل فترة طويلة، دون أن يلتقيا، إلا أن شعور كليهما بقرب الآخر كان دافعاً لعلاقة الحبّ التي جمعت بينهما. وكان (جبران) قد أتقن الإنجليزية بفضل (ماري هاسكل)، فأصدر باللغة الإنجليزية كتبه: (المجنون) عام 1918، الذي استخدم فيه الرمزية والسخرية، و(السابق) الذي تميز بالتعابير البسيطة عام 1920، و(النبـي) -رائعة (جبران) التي تفيض بجمالية الصور، وحلاوة الإيقاع في المنطق- عام 1923، والتي تُرجمت إلى أكثر من أربعين لغة، و(رمل وزبد) الذي استخدم فيه المثل، بما يعنيه من اختصار للفِكر، عام 1926، و(يسوع ابن الإنسان) عام 1928، الذي ينظر فيه (جبران) للسـيد المسيح على أنه إنسان بلغ أسمى مراتب الإنسانية، و (آلهة الأرض) عام 1931، ثم صدر له (التائه) عام 1932، و(حديقـة النبـي) 1933، أي بعد وفاته، ودون أن يكمل (جنة النبـي) الجزء الثاني منه. وفي (النبـي)، المؤلَّف من (ستة وعشرين) فصلاً، يبوح خلالها بمجموعة من المواعظ، في كلِّ ما يتصل بالإنسان، من: الولادة والحب، والحزن والفرح، والجريمة والعقاب، والصلاة والصداقة، إلى الحرية والموت. يقول في بعض فصوله:                                   
- "من يقيّد سلوكه وتصرّفه بقيود الفلسفة والتقليد، إنما يحبس طائر نفسه ليغرِّد في قفص من حديد، لأن أنشودة الحرية لا يمكن أن تخرج من بين القضبان".
- "الروح السيدة في الأرض لا تنام بطمأنينة وسلام على تموجات الرياح، حتى تشاهد بعينيها أن الصغير فيكم قد نال، كالكبير بينكم، كل ما هو في حاجة إليه". 
- "الحياة هي التي تعطي للحياة، وأنت الفخور بأنه قد صدر العطاء منك، لست بالحقيقة سوى شاهد بسيط على عطائك".
برزت الطبيعة بسحرها كعنصر أساسي في كتاباته ولوحاته، فهي الجنة التي ليس فيها حزن ولا ألم ولا ظلم، وكان من غنَّت كلماته للصباح، والذي طالما فقدت دوحة روحه من أوراقها في المغيب.. كان مولعاً بمناجاة الطبيعة، وباستخدام عناصرها في كتاباته، فنراه يقول:
- "عندما يأتي الربيع ليلتقي حبيبته في الكروم، ستذوب الثلوج في الحقيقة، وتجري سواقي تنشد النهر في الوادي، وتحمل الكؤوس لسقيا أشجار الآس، وكذلك هو شأن الثلج في قلبك، فإنه سيذوب عندما يأتي ربيعك، وكذلك يجري سرّك سواقي تنشد نهر حياتك في الوادي، وسيلفُّ النهر سرَّك، ويحمله إلى الخضم الكبير". (حديقة النبـي)
استطاع (جبران)، صاحب الحسّ الإنساني العميق، أن يسمو فوق اعتبارات الجنس والدين، فيقول: "أنت أخي، وأنا أحبك.. أحبك ساجداً في جامعك، وراكعاً في هيكلك، أو مصلياً في كنيستك، أحبك لأنّي رأيتك ضعيفاً أمام الأقوياء، وفقيراً محتاجاً أمام صروح الأغنياء الطامعين، لذلك بكيت من أجلك، ومن وراء دموعي رأيتك ذراعيّ العدل؛ وهو يبتسم لك، ويستهزأ بمضطهديك.. أنت أخي، وأنا أحبك". 
لم يصرف (جبران) انشغاله بالأدب والرسم عن الاهتمام بقضايا وطنه السياسية، فقد كان وطنياً صادقاً، ينتهز كل مناسبة لمساعدة أبناء وطنه بعمله، وماله، وقلمه، ولم يعش بعيداً بحسّه وفكره عن بني قومه، وما كانت تعانيه بلاده من ظلمةٍ وضعفٍ وتخلّف.
عمل (جبران) على التجديد في اللغة، وعلى تطوير أدواتها، فاللغة هي التي تختار ألفاظها لكل زمان، حتى تتناسب وروح العصر وتساير تطوراته. ويعتبر (جبران) أن اللغة "مظهر من مظاهر الابتكار في مجموع الأمة، فإذا هجعت قوة الابتكار، توقفت اللغة عن مسيرها، وفي الوقوف التقهقر، وفي التوقف الموت والاندثار". كان صادقاً في الدعوة لتحرُّر اللغة العربية من الشوائب، وفي محاربة الجمود والركود والتقليد، وثار على الأشكال القديمة، والأوزان الموروثة، في الأساليب والألفاظ والتعابير. فهو القائل: "إن اللغات تتبع مثل كلِّ شيء، سنة البقاء للأنسب".
وقد استطاع أن يصنع للغته جناحين تحلِّق بكتاباته عالياً في سماء الإبداع، لأنها انطلقت لتلامس قاع النفس البشرية بعذوبة وسلاسة، وتُترجم معاناة الإنسانية وطموحاتها. يقول (جبران): "ولكم أن تسكبوا لغتكم بعضاً في مسامع بعض، ليسرّ ويعجب بعضكم ببعض، ولي أن أستودع لغتي عصفات الريح وأمواج البحر، فللريح آذان أشد غيرة على لغتي من آذانكم، وللبحر قلب أربأ بها من قلوبكم، ولكم أن تلتقطوا ما يتناثر خرقاً من أثواب لغتكم، ولي أن أمزِّق بيدي كل عتيق بال، وأطرح على جانب الطريق كل ما يعيق مسيري نحو قمة الجبل".
توفي (جبران) في سنة (1349 هـ 1931 م) في (نيويورك)، وهو في قمّة مجده الأدبي، وعن عمرٍ يناهر /48/ عاما، ثم نُقل رفاته بعد أربعة أشهر إلى (لبنان)، ودُفن في (مار سركيس)، قرب (بشرّي)، التي كانت مرتعاً لصباه، ليعود إلى حيث بدأ، ولتنتهي رحلة مبدع، سكن القلوب، وهزَّ المشاعر، مبدعاً في الألم، كما في الحب، وليخلِّد اسمه على دروب  الأجيال كاتباً، يُضرم في الكلمات نار الإبداع، بكل ما تحمله الكلمة من معنى، ويحلّق كسحابة من نور، يجتاز برد الصمت، يختصر صحراء المسافات، كناسك يتسلق جدران الألم، ليُهدي للآخرين أبهى ترانيم البقاء.
يقول (جبران خليل جبران):
- "الموت لا يغير شيئاً سوى الأقنعة التي تغطي وجوهنا، والذي يغنّي أغنية للريح سيظلُ أيضاً يغنيها للأفلاك الدائرة".
- "ها هي ذي جزيرة مولدنا، لقد لفظتنا الأرض هنا أغنيةً ولغزاً: أغنية تتسامى إلى السماء، ولغزاً تحاربه الأرض، وأيّ شيءٍ هناك بين الأرض والسماء يُقلُّ الأغنية، ويحلّ اللغز، سوى هوانا". 
- "الحياة أقدم جميع الكائنات الحية، حتى الجَمال تجنح قبل أن يولد الجميل على الأرض، والحقيقة منذ كانت حقيقة عُرفت ووجُد من تفوه بها، الحياة عميقة وسامية ونائية غامضة، وإنها مع ذلك قريبة، وإن كان نظركم الواسع لا يستطيع أن يبلغ إلا أقدامها". (حديقة النبـي).

 المراجع:
1. جبران خليل جبران، (الأعمال الكاملة- المؤلفات العربية) تأليف: نزار بريك هنيدي، مؤسسة علاء الدين للطباعة والتوزيع، ط1/ 2002.
2. بحث بعنوان: جبران واللغة العربية، للأستاذ أحمد الخوص. 

السـيرة الذاتيـة
-  عبد المجيد إبراهيم قاسم
-  مواليد مدينة الحسكة بسوريا، عام 1973
-  حاصل على الإجازة فـي التربية.
-  يعمل فـي التعليم.
-  يكتب الشعر منذ عام 1992، صدر له مجموعة شعرية بعنوان "حنين في الذاكرة"  عام 2003، وله أكثر من مخطوط شعري.
-  يكتب المقالة الأدبية، وله دراسات عدَّة تتعلَّق بثقافة وأدب الأطفال.
-  عمل في بعض مجلات الأطفال العربية.
-  مدير مكتب مجلة (عالم الصحة) الشهرية؛ التي تعنى بالثقافة الصحية لعام 2007
-  حاصل على بعض الجوائز الأدبية والصحافية.
-  ينشرُ في عدد من الدوّريات والمواقع الإلكترونية الثقافية العربية والكورديّة.  
-  عضو (اتحاد الكتّاب الكُورد).
-  عضو مؤسِّس في (تجمع المعلِّمين الكورد في سوريا).


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق