07‏/04‏/2017

التيسير واجتناب الغلوّ من مظاهر الوسطية الإسلامية (2-2)

د. دحام إبراهيم الهسنياني
منهج الوسطية في الرّخص الشرعيّة
أ‌-                    الرّخصة في اللغة والاصطلاح
الرخصة في اللغة: التيسير والتسهيل، أو اليسر والسهولة، والرخص ضد الغلاء، وفلان يترخص في الأمر، إذا لم يستقص. ويتعدّى بالهمزة والتضعيف([1]).
الرخصة في الاصطلاح: عرفها (البيضاوي) بأنّها: "الحكم الثابت على خلاف الدليل لعذر"([2])، وهي عبارة عمّا وسع للمكلّف في فعله لعذر، وعجز عنه مع قيام السبب المحرّم. أو (مَا أُرْخِصَ فِيهِ، مَعَ كَوْنِهِ حَرَامًا)([3])، كتناول الميتة عند الاضطرار، وسقوط أداء صيام رمضان عن المسافر. وهو المعنى الحقيقي للرّخصة. ويقابلها: العزيمة([4]).
والرّخصة قاعدة عظيمة من قواعد هذا الدين، حيث تشمل جميع أمور الدين، وجوانبه، في العقيدة والعبادة والمعاملة والعقوبات وغيرها. وهي منحة وصدقة من الله (عزَّ وجلّ) لعباده، كما قال عليه الصلاة والسلام: (صدقة تصدّق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته)([5]). ويمكن وصف الرخصة بأنها من أهم معالم اليسر في هذا الدين، وأن الله (عزَّ وجلّ) إنّما أجازها ليخفّف عن عباده وطأة بعض التكاليف، ويعذرهم عمّا لا يطيقونه، لذلك يستحب إتيان هذه المنحة، والعمل بها، في مواضع الجواز.
ب‌-                 العزيمة في اللغة والاصطلاح:
العزيمة لغة: القصد المؤكّد. يقال: عزمت على فعل كذا، أيْ قصدت إليه قصداً مؤكّداً([6]).. ومنه قوله (عزَّ وجلّ): ]فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا[([7]).
العزيمة اصطلاحا: هي الحكم الثابت وفق الدليل، أو على خلاف الدليل لغير عذر([8]). وفي ضوء هذا التعريف يعلم تنوّع العزيمة إلى نوعين:
الأوّل: أحكام ثابتة على وفق الدليل، مثل: إباحة الأكل والشرب وسائر الطيّبات، فإنّها تثبت على وفق الدليل الأصلي، إذ الأصل فيها الإباحة.
الثاني: أحكام ثابتة على خلاف الدليل، لغير عذر، مثل أحكام سائر التكاليف الشرعيّة، فإنها تثبت ابتداء على خلاف الدليل الأصليّ. إذ الأصل عدم التكليف، لكن بثبوتها ليس للعباد أعذار. وقد ذهب بعض الأصوليين إلى أنّها تشمل الأحكام الخمسة، على الوجه الآتي:
1- الإيجاب: كإيجاب الصيام، والحج، وغير ذلك من الواجبات.
2- الندب: مثل صلاة ركعتين قبل الظهر، وركعتين بعد صلاة المغرب.
3- التحريم: مثل تحريم السرقة، والزنا، وأكل أموال الناس بالباطل، وغيرها من المنهيّات.
4- الكراهة: مثل الصلاة في مرابض الإبل والغنم.
5- الإباحة: مثل إباحة الأكل والشرب، وغيرهما من كلّ ما خيّر الشارع فيه بين الفعل والترك([9]).
وقد شرع الإسلام الرّخص لرفع الضيق المؤدّي في الغالب إلى الحرج والمشقّة لفقدان المصالح الضرورية. ورفع الحرج مقصد من مقاصد الشريعة، وأصل من أصولها، فإنّ الشارع لم يكلّف الناس بالتكاليف والواجبات لإعناتهم، أو تحصيل المشقّة عليهم. وقد دلّ على ذلك القرآن والسنة، وانعقد الإجماع على ذلك.
فمن القرآن قوله (عزَّ وجلّ): ]مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ[([10]).
فمن خصائص التشريع في الإسلام: التيسير ورفع الحرج عن المكلّفين. وهذا التيسير روح يسري في جسم الشريعة كلّها، كما تسري العصارة في أغصان الشجرة الحيّة. وهذا التيسير مبنيّ على رعاية ضعف الإنسان، وكثرة أعبائه، وتعدّد مشاغله، وضغط الحياة ومتطلباتها عليه. وشارع هذا الدين رؤوف رحيم، لا يريد بعباده عنتاً ولا رهقاً، إنّما يريد لهم الخير والسعادة وصلاح الحال والمآل، في المعاش والمعاد.
يقول الشيخ (محمد الغزالي): الإسلام دين يقوم على التراحم، وحديثه عن الله ـ عزّ وجلّ ـ يشير إلى طبيعة رسالته، وصبغة تعاليمه، فهو يذكر عن الله ـ عزّ وجلّ ـ أنّ رحمته سبقتْ غضبه، ويعتبر الشرائع التي أنزلها على العباد أداة لإقرار الخير بينهم، ورفع الحرج عنهم: ]مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ، وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ[، ويقرّر أنّ الخصائص الأولى لرسالة الإسلام الأخيرة، هي تخليص الإنسانية من أعبائها التي أنقضت ظهرها، وأثقلت كاهلها، وحبستها عن الحركة الحرّة أعصاراً متطاولة. ثم يردّ إلى هذه الإنسانية اعتبارها المسلوب، ويحدّد وظيفة النبـيّ (صلى الله عليه وسلم) بين الناس بأنّه جاء إليهم يأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر، ويحلّ لهم الطيبات، ويحرّم عليهم الخبائث. وبهذه الكلمات القلائل، العميقة الدلالة، نظّف الإسلام حقيقة (التديّن) ممّا علق - ولا يزال عالقاً - بأفهام الكثيرين ـ للأسف البالغ ـ من أنّ التديّن يعني دائماً الحياة الجافّة، والمعيشة الهون، والزهادة البليدة، واليد التي لا تدرك قيمة المال، والنّفس التي لا تفقه معنى الجمال، والمسلك الذي يجعل البيت قبراً قبل القبر، والدّنيا فناء قبل الموت، والعمر حرماناً من كلّ استرواح ونعمة !!([11]).
كما أنّ هذا الدين لم يأت لطبقة خاصة، أو لإقليم محدود، أو لعصر معيّن، بل جاء عامّاً لكلّ النّاس، في كلّ الأرض، وفي كلّ الأزمان والأجيال. وإنّ نظاماً يتّسم بهذا التعميم، وهذه السعة، لا بدّ أنْ يتجّه إلى التيسير والتخفيف، ليتّسع لكلّ النّاس، وإنْ اختلف بهم المكان والزمان والحال.. وهذا ما يحسّه ويلمسه كلّ من عرف هذا الدين([12]).
وضرب القرآن مثالاً للرخصة، في قوله (عزَّ وجلّ): ]فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ[([13]).
وفي الرخص الشرعيّة، قال النبـيّ (صلى الله عليه وسلم): (إن الله يحبّ أن تؤتى رخصه، كما يكره أن تؤتى معصيته)([14]). وفي رواية: (كما يحبّ أن تؤتى عزائمه)([15]). وقوله (صلى الله عليه وسلم): (ما بال أقوام يرغبون عمّا رّخص لي فيه)([16]).
والناس مع الرّخص الشرعيّة طرفان ووسط:
الطرف الأوّل: من يتمادى في أخذ الرخصة، ويسترسل معها، حتى يخرج بها عن المقصود الشرعيّ.
الطرف الثاني: من يتشدّد في الورع، حتّى يترك الرّخص الشرعيّة، ويشدّد على نفسه.
الوسط: وهو الذي يعظّم أمر الله (عزَّ وجلَّ) ونهيه؛ فلا يعارضهما بترخّص جاف، ولا يعرّضهما لتشديد غال، ويزهد في رخص الله (عزَّ وجلَّ).
ويفصّل هذا الأمر الإمام (ابن القيّم)، فيقول: "فحقيقة التعظيم للأمر والنهي، أنْ لا يعارضا بترخُّص جاف، ولا يعرّضا لتشديد غال؛ فإنّ المقصود هو الصراط المستقيم الموصل إلى الله (عزَّ وجلَّ) بسالكه. وما أمَرَ الله (عزَّ وجلَّ) بأمر، إلا وللشيطان فيه نزغتان: إمّا تقصير وتفريط، وإمّا إفراطٌ وغُلُوٌّ، فلا يبالي بما ظفر من العبد من الخطيئتين، وإنْ وجد عنده حذرًا وجِدًّا، وتشميرًا ونهضة، وأيس أنْ يأخذه من هذا الباب؛ أمره بالاجتهاد الزائد، وسوَّل له أنْ هذا لا يكفيك، وهمّتك فوق هذا، وإذا غسل أحدهم يديه ووجهه ثلاث مرات، فاغسل أنت سبعاً، وإذا توضّأ للصلاة، فاغتسل أنت لها، ونحو ذلك من الإفراط والتعدِّي، فيحمله على الغلوِّ والمجاوزة، وتعدِّي الصراط المستقيم؛ كما يحمل الأوّل على التقصير دونه، وأن لا يقربه. وقد فُتِن بهذا أكثرُ الخلق، ولا يُنَجِّي من ذلك إلا علمٌ راسخٌ، وإيمان، وقوّة على محاربته، ولزوم الوسط، والله المستعان"([17]).وقال أيضًا: "ومن علامات تعظيم الأمر والنهي: أن لا يسترسل مع الرّخصة إلى حدّ يكون صاحبه جافياً، غير مستقيم على المنهج الوسط)([18]).
إن القرآن الكريم، والسنة النبوية، شرّعت ألواناً من الاستثناءات والإعفاءات والتسهيلات، في أحوال خاصّة، وهي تلك التي توجد للإنسان نوعاً من المشقّة تؤوده، وتثقل ظهره، وتقعد به عن مواصلة السير. فالسفر – مثلاً - تقتضيه مطالب الحياة التي جاء الدين بإقرارها، بل بتمجيدها والدعوة إليها([19]).كالسفر في طلب الرّزق: ]فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ[([20]). والسفر للحج إلى بيت الله (عزَّ وجلّ): ]وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجّ عَميِقٍ[([21]). والسفر لطلب العلم، وغير ذلك من الأغراض الدينية والدنيوية. والمرض - مثلاً - من ضرورات الحياة، وبلائها، الذي لا يكاد يسلم منه إنسان، بمقتضى النشأة الإنسانية، والتركيب البشري: ]لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ[([22]).
والجهاد من مطالب الحياة وضروراتها معاً، إذ الإسلام لم يشرّعه إلا دفاعاً عن النّفس، وتأميناً للدعوة، ودرءاً للفتنة، وإنقاذًا للمستضعفين، وتأديباً للناكثين.

نماذج من الرّخص
ويمكن بيان نماذج من الرخّص التي أباحتها الشريعة، بما يأتي:
1.      تناول المحرّمات حالة الاضطرار:
قال (عزَّ وجلّ): ]إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالْدَّمَ وَلَحْمَ الْخَنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ[([23])., وقال (عزَّ وجلّ):]إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ[([24]), وقال (عزَّ وجلّ): ]قُل لاّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ[([25]).
وفي السنة النبوية أحاديث كثيرة في الرّخص في حالات الضرورة، حفاظاً على النّفس من الهلاك. ومن هذه الأحاديث:
عن أبي واقد الليثي (رضي الله عنه) قال: (قلت: يا رسول الله إنّا بأرض تصيبنا مخمصة، فما يحلّ لنا من الميتة؟ فقال: إذا لم تصطبحوا، ولم تغتبقوا، ولم تحتفؤوا بها بقلاً، فشأنكم بها)([26]).
ومعنى الحديث: إذا لم تجدوا لبنية تصطبحونها، أو شراباً تغتبقونه، ولم تجدوا بعد ذلك بقلة تأكلونها، حلّت لكم الميتة. ومثال إباحة الميتة، وإنْ كان نادراً في عصرنا الحاضر، لكنه قد يحصل، ويعدّ رمزاً معبّراً لأحوال الضرورة المبيحة للمحظورات، فيقاس عليه ما هو في مثل حالة المضطرّ إليه([27]).
وروي أن رجلاً نزل بالحرة([28])، ومعه أهله وولده، فقال رجل: إنّ ناقة لي ضلّت، فإنْ وجدتها فأمسكها، فوجدها، فلم يجد صاحبها، فمرضت، فقالت امرأته: انحرها، فأبى، فنفقت([29]). فقالت: اسلخها حتى نقدر شحمها ولحمها ونأكله، فقال: حتى اسأل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فأتاه، فسأله، فقال: هل عندك غنى يغنيك؟ قال: لا، قال: فكلوه. قال فجاء صاحبها([30]) فأخبره الخبر، فقال: هلا كنت نحرتها، قال: استحيت منك)([31]).
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، كلّ ذلك دليل على يسر الإسلام، وسعته، ومرونته. وما أحوجنا في هذا الزمن، الذي ابتعد الناس فيه عن دينهم، أنْ نيسّر لهم أمور دينهم، نظراً لانشغال النّاس بالدّنيا، وضعف الإيمان في النفوس.
فإرادة الله التشريعيّة أنْ لا يُكلّف العبد بما لا يطيق. والتيسير هو من أهم خصائص الشريعة الإسلاميّة.. وما أجمل وأحسن ما قاله الشيخ (القرضاوي) في هذا المعنى: "ولأنْ كان التيسير مطلوباً في كلّ زمان، فإنّه في زماننا ألزم، وأكثر تطلّباً، نظراً لما نراه ونلمسه من رقّة الدين، وضعف اليقين، وغلبة الحياة الماديّة على النّاس، وعموم البلوى بكثير المنكرات، حتّى أصبحت كأنّها القاعدة في الحياة، وما عداها هو الشاذ، وأصبح القابض على دينه، كالقابض على الجمر. وكلّ هذا يقتضي التسهيل والتيسير، لهذا قرر الفقهاء: إنّ (المشقّة تجلب التيسير)([32]) وإنّ الأمر إذا ضاق اتّسع، وإنّ عموم البلوى من موجبات التخفيف"([33]).
2.      التيمّم بالتراب عند فقد الماء:
وفي (الطهارة) – التي هي شرط لصحة الصلاة - رخّص لمن يتعذّر عليه استعمال الماء، من مريض أو مسافر، أو نحوهما، أنْ يترك الوضوء إلى التيمّم بالصعيد الطيّب، من رمل أو تراب أو حجر أو نحوه، تيسيرًا من الله، ورحمة بعباده.
قال (عزَّ وجلّ): ]وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ[([34]).
وقد ذكر القرآن هذا الحكم أيضًا في (سورة النساء) قائلا: ]فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيِكُمْ[([35]). فهذا الدين يسر، وفي شرعيّة التيمّم يتجلّى معنى التيسير واضحاً: ]إِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا[. وهو التعقيب الموحي بالتيسير، وبالعطف على الضعف، وبالمسامحة في القصور، والمغفرة في التقصير..([36]).
وفي هذه الآيات يتبيّن للمسلم أنّ هذه الرّخص في العبادات، مظهر يتجلّى الله فيه بأسمائه: (العفوّ الغفور، الكريم، الرحيم، الذي يريد أن يطّهر عباده، ويتمّ عليهم النعمة)([37]).
وعَنْ جَابِرٍ (رضي الله عنه) قَالَ: خَرَجْنَا فِي سَفَرٍ، فَأَصَابَ رَجُلاً مِنَّا حَجَرٌ فَشَجَّهُ فِي رَأْسِهِ، ثُمَّ احْتَلَمَ، فَسَأَلَ أَصْحَابَهُ فَقَالَ: هَلْ تَجِدُونَ لِي رُخْصَةً فِي التَّيَمُّمِ؟ فَقَالُوا: مَا نَجِدُ لَكَ رُخْصَةً، وَأَنْتَ تَقْدِرُ عَلَى الْمَاءِ. فَاغْتَسَلَ، فَمَاتَ. فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى النبـيّ (صلى الله عليه وسلم)، أُخْبِرَ بِذَلِكَ، فَقَالَ: (قَتَلُوهُ قَتَلَهُمْ اللهُ!! أَلا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا، فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ. إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ، وَيَعْصِرَ - أَوْ يَعْصِبَ - عَلَى جُرْحِهِ خِرْقَةً، ثُمَّ يَمْسَحَ عَلَيْهَا، وَيَغْسِلَ سَائِرَ جَسَدِهِ)([38]). وهذا دليل على وسطيّة القرآن في العبادات.
3.      القصر والجمع في الصلاة:
جعل للمسافر في الصلاة القصر: يصلّي الرباعية – كالظهر والعصر والعشاء - ركعتين فقط. قال الله (عزَّ وجلّ): ]وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرض فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ[([39]). وعن يعلى بن أمية قال: قلت لعمر بن الخطب (رضي الله عنه): ]وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرض فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلاةِ[، فقد أمن النّاس؟ فقال عمر: عجبت ممّا عجبت منه، فسألت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن ذلك، فقال: (صدقة تصدّق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته)([40]).
ورخّص له في الجمع بين الصلاتين – الظهر مع العصر، والمغرب مع العشاء – فأجاز جمعها في وقت إحداهما، تقديماً أو تأخيرًا. كما رخّص للمريض أن يصلّي قاعدًا، أو مضطجعاً على جنبه، أو مستلقياً على ظهره، حسب استطاعته، وليس على المريض حرج. فعن أنس (رضي الله عنه) قال: (صلّيت الظهر مع النبـيّ (صلى الله عليه وسلم) بالمدينة أربعاً، والعصر بذي الحُليفة ركعتين)([41]).
وعن ابن عباس (رضي الله عنه) قال: (كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يجمع بين صلاة الظهر والعصر، إذا كان على ظهر سير، ويجمع بين المغرب والعشاء)([42]).
4.      صلاة الخوف:
وفي الجهاد شرع الله صلاة الحرب أو الخوف، وجعلها في الرباعيّة (ركعة واحدة) تيسيراً، وإعانة لهم على عدوهم، وعند التحام الصفوف، قبل الله منهم الصلاة كيف استطاعوا:]فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا[([43]). فلا يشترط فيها ركوع، ولا سجود، ولا استقبال قبلة.
ولم يكن النبـيّ (صلى الله عليه وسلم)، وأصحابه، يفرّقون بين الصلاة والجهاد، فتلك عمود الإسلام، وهذا ذروة سنامه، وقد فرض الله على المجاهدين أن يحملوا أسلحتهم، ويأخذوا حذرهم، وهم بين يديه خاشعون، ولربّهم مبتهلون مناجون: ]وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِن وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً[([44]).
5.      الإفطار للمسافر:
وفي صيام رمضان رخّص المولى (عزَّ وجلَّ) للمسافر في الإفطار، بل أوجبه عليه، إذا كان في صومه مشقّة ظاهرة عليه.. ففي الصحيح، عن جابر بن عبد الله (رضي الله عنه) قال: (كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في سفر، فرأى زحاماً ورجلاً قد ظلّ عليه، فقال: ما هذا؟ فقالوا: صائم، فقال: ليس من البرّ الصوم في السفر)([45]). وبذلك أثبت النبـيّ (صلى الله عليه وسلم) بكلّ صراحة: أن الصيام إذا أتعب صاحبه وأجهده، لا يجوز له صيام.
وكذلك رخّص للمريض بالفطر في رمضان، ويقضي هو والمسافر عدّة أيام آخر، قال (عزَّ وجلّ): ]شَهْرُ رَمَضَانَ الّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ[([46]).
وقال (صلى الله عليه وسلم): (ليس من البرّ الصيام في السفر)([47]). لذلك قال الإمام أحمد (رضي الله عنه): الفطر في السفر أفضل، وكره الصوم في السفر، ولو بلا مشقة، لأنّ النبـيّ (صلى الله عليه وسلم) قال عن الصائمين عام الفتح: (أولئك العصاة)([48])، ولقوله (صلى الله عليه وسلم) في الصحيحين: (ليس من البرّ الصوم في السفر).
وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي والثوري: الصوم في السفر أفضل لمن قوي عليه، والفطر أفضل لمن لم يقوَ على الصوم([49]).
ورخّص رسول الله (صلى الله عليه وسلم) للمجاهدين بالفطر في الصيام. عن ابن عباس (رضي الله عنه): (أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) خرج إلى مكة في رمضان، فصام، حتى إذا بلغ الكديد([50]) أفطر، فأفطر الناس)([51]).
عن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ (رضي الله عنه) قَالَ: سَافَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) إِلَى مَكّةَ وَنَحْنُ صِيَامٌ، فَنَزَلْنَا مَنْزلاً، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم): (إِنَّكُمْ قَدْ دَنَوْتُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ، وَالْفِطْرُ أَقْوَى لَكُمْ).فَكَانَتْ رُخْصَةً.. فَمِنَّا مَنْ صَامَ، وَمِنَّا مَنْ أَفْطَرَ، ثُمَّ نَزَلْنَا مَنْزِلاً آخَرَ فَقَالَ: (إِنَّكُمْ مُصَبِّحُو عَدُوِّكُمْ، وَالْفِطْرُ أَقْوَى لَكُمْ.. فَأَفْطِرُوا)([52]).
وعَنْ أَنَسٍ (رضي الله عنه) قَالَ: (كَانَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) فِي سَفَرٍ، فَصَامَ بَعْضٌ، وَأَفْطَرَ بَعْضٌ، فَتَحَزَّمَ الْمُفْطِرُونَ وَعَمِلُوا، وَضَعُفَ الصُّوَّامُ عَنْ بَعْضِ الْعَمَلِ، فَقَالَ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فِي ذَلِكَ: (ذَهَبَ الْمُفْطِرُونَ الْيَوْمَ بِالأَجْرِ))([53]).

الغلوّ ومظاهر التطرّف
الغلوّ لغة: تدور الأحرف الأصلية لهذه الكلمة، ومشتقاتها، على معنى واحد يدلّ على مجاوزة الحدّ والقدر. والغلوّ هو كلّ ما زاد عن المشروع، وقد عرَّفه أهل اللغة بأنَّه مجاوزة الحدّ، فقال ابن فارس: "غلوّ: الغين واللام والحرف المعتلّ أصل صحيح يدلّ على ارتفاع ومجاوزة قدر، يُقال: غلا السّعر يغلو غلاء، وذلك ارتفاعه، وغلا الرَّجل في الأمر غلوًّا، إذا جاوز حدَّه، وغلا بسهمه غلوًّا إذا رمى بسهمه أقصى غايته"([54]).
وقال الجوهريُّ: "وغلا في الأمر يغلو غلوًّا، أيْ جاوز فيه الحدّ"([55]).
وقال الفيروز آبادي: "غلا غلاء، فهو غالٍ وغَلِيّ، ضد الرخص... وغلا في الأمر غلوّاً: جاوز حدّه"([56]).
وقال في (لسان العرب): ".... وغلا في الدّين والأمر يغلو غلوًّا: جاوز حدَّه. وأصل الغلاء: الارتفاع ومجاوزة القدر في كلّ شيء... يقال: غاليت صداق المرأة، أيْ أغليته. وقال بعضهم: غلوْتَ في الأمر غلوًّا وغلانية وغلانيًا، إذا جاوزت فيه الحدّ وأفرطّت فيه. وغلا السّهم نفسه: ارتفع في ذهابه وجاوز المدى، وكلّه من الارتفاع والتَّجاوز. ويقال للشيء إذا ارتفع: قد غلا، وغلا النَّبت: ارتفع وعظم)([57]).
هذا معنى الغلوّ في اللغة، وقد ورد في القرآن الكريم آيتان فيهما النَّهي عن الغلوّ بلفظه الصَّريح، قال(عزَّ وجلّ) في (سورة النساء): )يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللّهِ إِلاّ الْحَقَّ(([58]).
قال الطبري: "يقول: لا تجاوزوا الحقّ في دينكم فَتُفْرِطُوا فيه، وأصل الغلو في كل شيء مجاوزة حدّه الذي هو حدّه، يقال منه في الدّين: قد غلا فهو يغلو غلوًّا"([59]).
وممّا سبق يتبيّن أنّ الغلوّ في سائر استعمالاته يدلّ على "الارتفاع والزيادة ومجاوزة الأصل الطبيعي، أو الحدّ المعتاد".
والغلو اصطلاحاً: قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "الغلوّ: مجاوزة الحدّ، بأن يزاد في الشيء في حمده، أو ذمّه، على ما يستحقّه، ونحو ذلك)([60]).
وعرف الحافظ ابن حجر الغلوّ بأنّه: "المبالغة في الشيء، والتشديد فيه، بتجاوز الحدّ"([61]) وبمثل هذا التعريف عرفه الإمام الشاطبـي([62]).
وهذه التعاريف كلّها متقاربة، وتفيد أنّ الغلوّ هو: تجاوز الحدّ الشرعيّ بالزيادة.

الألفاظ ذات الصلة بالغلو
أ- التطرّف: ولغة هو تفعّل من الطرف، ومن قولهم للشمس إذا دنت للغروب: تطرّفتْ. ومن تجاوز حدّ الاعتدال وغلا، يصحّ لغويّاً تسميته بالمتطرّف. والتطرّف الوقوف في الطرف، والطرف بالتحريك: جانب الشيء، ويستعمل في الأجسام والأوقات وغيرها. وتطرّف: "جاوز حدّ الاعتدال، ولم يتوسّط"([63]).
واصطلاحا: مجاوزة حدّ الاعتدال. والعلاقة بين المعنيين اللغويّ والعرفيّ واضحة، فكلّ شيء له وسط وطرفان، فإذا جاوز الإنسان وسط شيء إلى أحد طرفيه، قيل له: تطرّف في هذا الشيء، أو: تطرّف في كذا. وعلى ذلك فالتطرّف يصدق على التسيّب، كما يصدق على الغلوّ، وينتظم في سلكه الإفراط، ومجاوزة الحدّ. والتفريط والتقصير على حدّ سواء؛ لأن في كلّ منهما جنوحاً إلى الطرف، وبعداً عن الجادة والوسط. والغلوّ هو التعبير الشرعيّ الصحيح عن التطرّف، حيث لم يرد الأخير في النصوص الشرعيّة، وإنْ كانت كلمة التطرّف معروفة في اللغة، ومعناها: الوقوف في الطرف بعيداً عن الوسط. وأصله في الحسيّات، كالتطرّف في الوقوف، أو الجلوس، أو المشي. ثمّ انتقل إلى المعنويّات كالتطرّف في الدين، أو الفكر، أو السلوك([64]).
أ‌-                   التنطّع: وهو مأخوذ من النطع، وهو الغار الأعلى في الفم، الذي يظهر عندما يتعمّق الإنسان ويتشدّق، ثم استعمل في كل تعمّق، سواء أكان في القول أم الفعل([65]).. وقال (صلى الله عليه وسلم): (هلك المتنطّعون، هلك المتنطعون، هلك المتنطعون)([66])، قالها ثلاثاً.
والمتنطّعون: هم المتعمّقون، المتشدّدون في غير موضع التشديد، وهم غلاة السلوك الديني. قال النووي: هلك المتنطّعون: أيْ المتعمّقون المغالون المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم([67]).
وكلمة (هلك) تحتمل أحد تفسيرين، إمّا دعاء بأن يهلك الله أهل التنطّع، أو إخبار من النبـيّ بأن عاقبة التنطّع تكون هلاكاً، وكلا التفسيرين يدلّان على الذّم.
والحديث ظاهره خبر عن حال المتنطّعين، إلا أنّه في معنى النهي عن التنطع. وهو دليل على أن التوسّط والاعتدال في الأمور هو سبيل النجاة من الهلاك؛ فإنّه إذ ذمّ التنطّع، وهو المغالاة والمجافاة، وتجاوز الحدّ في الأقوال والأفعال، فقد دلّ على أن المطلوب هو التوسّط المعتدل.
وقيل: المتنطّعون هم الغالون في عبادتهم، بحيث يخرج عن قوانين الشريعة، ويسترسل على الشيطان في الوسوسة. ولا ريب أنّ التنطّع والتعمّق والغلوّ في الدين يدفع إلى التشديد في الأمور الصغيرة، والضيق بكلّ مخالف له، على حين تكون السماحة واليسر من أسباب التقارب والوفاق([68]).
وكان عبد الله بن مسعود (رضي الله عنه) قد أوصى أن: (عليكم بالعلم، وإياكم والتبدّع، وإياكم والتنطّع، وإياكم والتعمّق... وعليكم بالعتيق)([69]).
وفي كلامه تهمة واضحة للغلوّ، أنّه تنطّع وتكلّف، وما هو باجتهاد. ولسنا نشقّ عن القلوب، ولكنّ ظاهر تاريخ الغلوّ يشهد لابن مسعود. ثمّ في كلامه إشارة إلى أن الوسطية هي العلم، وليست المغالاة، وان الوسطية هي ذات النسب الشريف العريق، حين دعاها بالأمر العتيق، أيْ المأثور عن قدماء الصحابة، عن النبـيّ (صلى الله عليه وسلم)، عن النبوات الأولى قبله ربّما. وأمّا التنطّع، فدخيل طارئ غريب، ليس بالمكافئ([70]).
ب- التشدّد: وهو دالّ على القوة والصلابة "فالشين والدال أصل يدلّ على قوة في الشيء"، والمشادّة المغالبة والمقاومة، والمشادّة في الشيء التشدّد فيه([71]).
وقال (صلى الله عليه وسلم): (لا تشدِّدوا على أنفسكم فيُشدِّد الله عليكم؛ فإنَّ قومًا شدَّدوا على أنفسهم فشدَّد الله عليهم، فتلك بقاياهم في الصَّوامع والدّيار)وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِم(([72])([73]).
قال الإمام (ابن القيّم) في تعليقه على هذا الحديث: "فنهى النبـيّ (صلى الله عليه وسلم) عن التشديد في الدين؛ وذلك بالزيادة على المشروع، وأخبر أن تشديد العبد على نفسه هو السبب لتشديد الله عليه؛ إمّا بالقَدَر وإمّا بالشرع؛ فالتشديد بالشرع: كما يشدّد على نفسه بالنذر الثقيل، فيلزمه الوفاء به، وبالقدر: كفعل أهل الوسواس؛ فإنهم شدّدوا على أنفسهم، فشدّد عليهم القدر، حتّى استحكم ذلك، وصار صفة لازمة لهم، فالفقه كلّ الفقه الاقتصاد في الدين، والاعتصام بالسنة"([74]).
د- العنف: العين والنون والفاء أصل صحيح يدلّ على خلاف الرفق. والعنيف: الشديد من القول والفعل.
قال (ابن منظور): العنف: الخرق بالأمر، وقلّة الرفق به، وهو ضدّ الرفق. عَنُفَ به وعليه يَعنُفُ عنفاً وعنافة، وأعنفه، وعنّفه تعنيفاً، وهوعنيف، إذا لم يكن رفيقاً في أمره. واعتنف الأمر: أخذه بعنف، والتعنيف: التعيير واللوم"([75]).
وفي الاصطلاح: هو الشدّة والقسوة، ضدّ الرفق([76]).
ومنهج الإسلام يقوم على الرفق واللين، لا على العنف والشدّة والغلظة .
وقد كان النبـيّ (صلى الله عليه وسلم) يستخدم القول الحكيم في دعوته إلى الله عز وجل، ومن ذلك ما روته عائشة رضي الله عنها قالت: «دخلَ رَهطٌ من اليهود على رسولٍ الله (صلى الله عليه وسلم) فقالوا: السَّامُ عليكم. قالت عائشة: ففهمتُها، فقلت: وعليكمُ السامُ واللعنة. قالت: فقال رسولُ الله (صلى الله عليه وسلم): مهلاً يا عائشة، إنّ الله يحبّ الرفق في الأمر كلّه. فقلتُ: يا رسولَ الله، أولم تَسمعْ ما قالوا؟ قال رسولُ الله (صلى الله عليه وسلم): قد قلتُ وعليكم)([77]).
ولا شيء يشينه العنف إذا دخله، مثل الدعوة إلى الله، فإنّها تحاول أنْ تدخل إلى أعماق الإنسان، لتجعل منه شخصاً ربّانيّاً في مفاهيمه ومشاعره وسلوكه، وتبدّل كيانه كلّه، وتنشئ منه خلقاً آخر، فكراً وشعوراً وإرادة، كما أنّها تهزّ كيان الجماعة هزّاً، لتغيّر عقائدها المتوارثة، وتقاليدها الراسخة، وأخلاقها المتعارفة، وأنظمتها السائدة..
وهذا كلّه لا يمكن أن يتمّ إلاّ بالحكمة وحسن التأتي للأمور، والمعرفة بطبيعة الإنسان وعناده، وجموده على القديم، وأنه أكثر شيء جدلاً، فلا بدّ من الترّفق في الدخول إلى عقله، والتسلّل إلى قلبه، حتى نلين من شدّته، ونكفكف من جموده، ونطامن من كبريائه.. وهذا ما قصّه علينا القرآن من مسالك الأنبياء والدعاة إلى الله من المؤمنين الصادقين، كما نرى في دعوة إبراهيم لأبيه وقومه، ودعوة شعيب لقومه، ودعوة موسى لفرعون، ودعوة مؤمن آل فرعون، ومؤمن سورة (يس)، وغيرهم من دعاة الحقّ والخير([78]).
وعن أبى الدرداء (رضي الله عنه) عن النبـيّ (صلى الله عليه وسلم) قال: (من أعطي حظّه من الرفق، فقد أعطي حظّه من الخير، ومن حرم حظّه من الرفق، فقد حرم حظّه من الخير)([79]).
وأيّ عقوبة أشدّ وأقسى من أن يحرم الإنسان الخير كلّ الخير؟!
وبالنظر إلى هذه الألفاظ، تجد تقارباً بينها وبين الغلوّ، فهي بمثابة أوصاف ومظاهر للغلو. وكلّها - ما عدا التطرّف - قد وردت في النصوص الشرعيّة في الكتاب والسنّة([80]).
وعن ابن عبّاس (رضي الله عنه) أن النبـيّ (صلى الله عليه وسلم) قال: (إيّاكم والغلوّ في الدين، فإنّما هلك من قبلكم بالغلوّ في الدين)([81]). والمراد بمن قبلنا: أهل الأديان السابقة، وخاصّة أهل الكتاب، وعلى الأخصّ: النصارى، وقد خاطبهم القرآن بقوله: )قل يا أهْل الكتابِ لا تغْلوا في دينكم غيْر الحقِّ ولا تتَّبِعوا أهواء قومٍ قدْ ضلُّوا مِنْ قبل وأضّلُّوا كثيراً وضلُّوا عن سواءٍ السّبيلَ(([82]). فنهانا أن نغلو كما غلوا، والسعيد من اتّعظ بغيره.
وسبب ورود الحديث ينبّهنا إلى أمر مهّم، وهو أن الغلوّ قد يبدأ بشيء صغير، ثم تتّسع دائرته، ويتطاير شرره، وذلك أن النبـيّ (صلى الله عليه وسلم) حين وصل (المزدلفة) في (حجّة الوداع) قال: لابن عباس (رضي الله عنه): هلمّ القط لي ـ أيْ حصيّات ليرمي بها في منى ـ قال: فلقطت له حصيّات من حصى الخذف - يعني حصى صغاراً ممّا يحذف به - فلمّا وضعهنّ في يده، قال: (نعم بأمثال هؤلاء، وإيّاكم والغلوّ في الدين، فإنّما هلك من كان قبلكم بالغلوّ في الدين). يعني: لا ينبغي أن يتنطّعوا فيقولوا: الرمي بكبار الحصى أبلغ من الصغار، فيدخل عليهم الغلوّ شيئاً فشيئاً، فلهذا حذّرهم([83]).
وقد قال أهل العلم في حجم الحصى الذي يرمى به، إنّه بين الحمّص والبندق، فما زاد على البندق فهذا إفراط، وما نقص عن الحمّص فهو تفريط، والعدل بين الإفراط والتفريط([84]).
وقال الإمام ابن تيمية: (قوله: (إيَّاكم والغلوّ في الدين) عام في جميع أنواع الغلوّ في الاعتقادات والأعمال، والغلوّ: مجاوزة الحدّ... والنصارى أكثر غلوًا في الاعتقاد والعمل من سائر الطوائف، وإيّاهم نهى الله عن الغلوّ في القرآن، بقوله (عزَّ وجلّ): )لا تغْلوا في دينِكُمَ(([85]))([86]).
والغلوّ في الدّين ليس وليد اليوم على الساحة الإسلاميّة، بل هو مغرق في القدم، له جذوره وتاريخه ودوافعه. فقد كانت بذرة التغالي بادئة في النمّو في العصر النبوي، وأشار النبـيّ (صلى الله عليه وسلم) إلى ذلك في قوله: (إِنّ من ضِئْضِئِ هذا قوماً يقرءون القرآن لا يُجاوز حناجرهم، يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أَهل الأَوثان)([87])، فكان الرجل المشار إليه في الحديث بذرة الخوارج، الذين استحلّوا دماء المسلمين وكفّروا أهل القبلة، وقاتلهم أمير المؤمنين علي (رضي الله عنه).. وإنّما ضلّ هؤلاء لعدم فهمهم القرآن الكريم، فهم وإنْ كانوا يقرءون إلا أنّ تلك القراءة عريّة عن الفهم الصحيح، فلذلك كانوا يأخذون آيات نزلت في الكفّار فيحملونها على أهل القبلة، فيكفّرونهم. كما قال عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - في الخوارج: (إنّهم انطلقوا إلى آيات نزلت في الكفّار فجعلوها على المؤمنين)([88]).
وما دام هؤلاء كفّروا مجتمعهم، فإنّ هذا يقضي باستحلال دمائهم، وهذا الذي كان، كما أخبر بذلك المصطفى (صلى الله عليه وسلم)، فكان من أعلام نبوّته. قال أبو قلابة: (ما ابتدع رجل بدعة إلا استحلّ السيف)([89])، وهذه عامّة المبتدعة الغالبة، والعلامة التي يشترك فيها جمهرتهم. ولله درّ شيخ الإسلام ابن تيمية حين يقول: (طريقة أهل البدع يجمعون بين الجهل والظلم، فيبتدعون بدعة مخالفة للكتاب والسنة وإجماع الصحابة، ويكفّرون من خالفهم في بدعهم)([90]).
وقال ابن القيم: (ما أمر الله (عزَّ وجلّ) بأمر إلا وللشيطان فيه نزعتان: إمّا إلى تفريط وإضاعة، وإمّا إلى إفراط وغلوّ. ودين الله وسط بين الجافي عنه والغالي فيه، كالوادي بين جبلين، والهدى بين ضلالتين، والوسط بين طرفين ذميمين، فكما أن الجافي عن الأمر مضيّع له، فالغالي فيه مضيّع له، هذا بتقصيره عن الحدّ، وهذا بتجاوزه الحدّ)([91]).
وهذا النصّ كالشرح لقول الإمام الحسن البصري: (سننكم والله الذي لا إله إلا هو بينهما، بين الغالي والجافي)([92]). وهو نحو قول مطرف بن عبد الله: (خير الأمور أوسطها: الحسنة بين السيئتين، وشرّ الأمور الحقحقة)([93]). فالإسلام منهج وسط ومتوازن في كلّ شيء: في التصوّر والاعتقاد والتعبّد والتنسّك والأخلاق والسلوك والمعاملة والتشريع، وينهى عن الغلوّ والتطرّف.
       ومعنى التوازن بينها أنْ لا تهمل المادة لحساب الروح، ولا الروح لحساب المادة، ولا يضخّم الفرد فيطغى على المجتمع، ولا المجتمع فيطغى على الفرد، وإنما يعطي لكلّ جانب حقّه بالقسط، بلا غلوّ ولا تقصير، ويطالبه بواجبه في غير طغيان ولا إخسار.. كما قال (عزَّ وجلّ):)أَلا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ، وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ(([94]).
ولكن يجب علينا أن نفهم فهما صحيحاً ما معنى التطرّف الديني؟ وما المقصود به الآن؟ ومتى يكون المرء متطرّفاً دينيّاً؟ فكلمة (التطرّف الديني) أصبحت تشغل بال الغيورين على هذه الأمّة، وما يدّبر لها من مكائد الأعداء، خاصة من صنع أعداء الإسلام، الذين يعمدون إلى بعض المظاهر الشاذّة، فيضعونها تحت المجاهر، ويوجّهون إليها الأنظار، ويغرون بها الحكام والمتنفّذين، بهدف إيجاد حالة من الرعب والإرهاب الفكري، لشلّ حركة الدعوة إلى الله، والتشكيك بوسائلها. وأصبحت هي كلمة حقّ أُريد بها باطل. ويعدّون مجرّد الالتزام بأوامر الله ونواهيه، تطرّفاً دينيّاً، ويسمّونها (الراديكاليّة)([95]). وكثير ممّن غزته الأفكار والتقاليد الأجنبيّة، يرى الذين يتمسّكون بآداب الإسلام، في المأكل والمشرب والملبس والزينة ونحوها، غاية في التطرّف والتعصب. وهناك من يعدّ إطلاق اللحية من الفتى، أو التزام الحجاب من الفتاة، تطرّفاً في الدين.
ب‌-         الإرهاب
الإرهاب في اللغة: (رَهِبَ بالكسر يَرْهَبُ رَهْبَةً ورُهْبًا بالضمّ، ورَهَبًَا، بالتحريك، أيْ: خافَ... وأَرْهَبَهُ ورَهَّبَهُ واسْتَرْهَبَهُ: أخافه وأفزعه)([96]).
الإرهاب في الإسلام: فرّق الإسلام بين إرهاب أعداء الدّين والملّة، وبين إرهاب وإفزاع المسلمين؛ فحثّ أمّة الإسلام على إرهاب أعدائها. قال الله (عزَّ وجلّ): )وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ(([97]).
أمّا إخافة المسلمين، أو المعاهدين من أهل الكتاب، ونشر الفوضى والخوف في ديار المسلمين، فهذا ما سمّاه الإسلام إفسادًا في الأرض، ورتّب له حدًّا، فقال (عزَّ وجلّ): )إِنَّمَا جَزَاءُ الّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلّبُوا أَوْ تُقَطّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ(([98]).
ومن هذا المنطلق لا بدّ لنا أن نفرّق في التسمية، وأنْ نسمّي الأمور بأسمائها الشرعيّة، فما يحدث في البلدان الإسلامية من قتل وتفجير وتدمير، هو في الواقع إفساد في الأرض، وليس إرهابًا.. والهدف من ذلك هو ألا يسحبنا أعداؤنا للخلط بين هذين الأمرين، فَيُطلقُ على الجهاد إرهاباً، ويبدأ المسلمون - ولو بعد أجيال- يتصوّرون ذلك حقيقة، فيتخلَّون عن الجهاد وإرهاب الأعداء، فيتمكّن أعداء الإسلام من بلادهم وخيراتهم أكثر ممّا هو عليه الحال اليوم.
فالإرهاب – في مفهومه الحديث- ليس فلسفة ولا حركة، وإنّما أسلوب أو طريقة لغرض تحقيق طموح سياسي لجماعة منعزلة ومحبطة، تدرك أنْ لا أمل لها في الوصول إلى ما تريده إلا عن طريق تخويف الأغلبيّة، ومؤسساتها، عن طريق إشاعة الرعب والتضليل([99]).
إن مفهوم الإرهاب يمثّل لنا تحديّاً أكثر من الإرهاب نفسه، حيث حرص زعماء العرب والمسلمين الوقوف في وجه كلّ ما هو إرهاب أو إرهابي بالمفهوم الغربي، ممّا جعل حدّة الخلاف واسعة بين الشعوب الإسلامية وحكّامها، وساعد على تقرب الحكّام للغرب والحرص على مرضاتهم. فالإرهاب "يعني التخويف والإفزاع، وأن (الإرهابي) هو الذي يُحدث الخوف والفزع عند الآخرين"([100]).

نماذج من الغلوّ في العبادة:

الاعتدال مطلوب حتّى في العبادات، فلا ينبغي للمسلم أن يرهق نفسه، أو يؤذي جسده. وتعذيب الجسد، وتحميله ما لا يطيق، ليس من مناهج الإسلام ووسائله لبلوغ الكمال المنشود. إذ ليس من لوازم هذا الكمال، أو مقتضياته، فعل ذلك. وليس من مقاصد الإسلام تعذيب الجسد، لا قصد الغايات، ولا قصد الوسائل، ومن ظنّ ذلك فهو واهم، فإنّ مثاليّة الإسلام يمكن بلوغها بنهج معتدل، وسير مريح، وإنّ الخروج عن هذا النهج يضعف الجسد، ويقعد به عن أداء الفرائض، فضلاً عن النوافل.. ومن خرج عن هذا النهج، وجب ردّه إليه. جاء في الحديث أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) رأى رجلا قائماً في الشمس، فسأل عنه فقالوا: يا رسول الله إنّه نذر أنْ يقوم في الشمس، ولا يقعد، ولا يستظلّ، ولا يتكلّم، ويصوم. فقال عليه الصلاة والسلام: (مروه، فليتكلّم، وليقعد، وليتمّ صومه)([101]).
فالصوم مطلوب، ولكن الوقوف في الشمس، حيث يمكن الوقوف في الظلّ، غير مطلوب ولا معنى فيه، وكذلك الصمت الدائم طيلة النهار لا داعي له ولا فائدة فيه. وسرّ المسألة أن الجسد مركب الروح، وليس من الحكمة خرق المركب أو إضعافه، والجسد مستقر الروح ومسكنها، وليس من المصلحة تخريبه، ولا من الكمال المنشود هضمه حقّه، وأنّ الروح هي الأخرى لها حقّ في الراحة والاستجمام، لا يجوز التفريط فيه.. وفي وصيّة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لعثمان بن مظعون (رضي الله عنه): (فإنّ لأهلك عليك حقّاً، وإنّ لضيفك عليك حقّاً، فصم وأفطر، وصل ونم)([102]).
وحرمان الإنسان نفسه أو جسده من الطيّبات والمتع الحلال، ليس من منهاج الإسلام في بلوغ الكمال، وإنّما منهاجه في الاعتدال.. فإذا وجد الإنسان، أو تيسّر له، شيء من الطيّبات، بطريق الحلال، أخذه وتناوله، ولا يقدح ذلك في تعلّقه بمثاليّة الإسلام، وإذا لم يجده، لم يأس عليه.. وهكذا كان يفعل رسول الله (صلى الله عليه وسلم).. وفي كتاب الله: ]يَاأَيُّهَا الّذِينَ آَمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلّ اللّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ، وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللهَ الّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ[([103]). فالمطلوب لبلوغ الكمال تقوى الله، وليس تحريم الطيبات وحرمان الجسد أو النفس منها.
"ومع هذا فقد يسوغ، أو يندب، أو يجب، أخذ الإنسان نفسه بالشدّة وخشونة العيش، ورضاه بالضيق، إذا كان ذلك لغرض مشروع أو مقصد نبيل أو لسبب مقبول، كما لو كان المسلم في مقام القدوة، أو بسبب إيثار الغير على نفسه، أو بسبب امتناعه عمّا لا يجوز له، فتعرّض إلى ما ذكرنا. وعلى هذا الأساس يجب أن نفهم سيرة أسلافنا الصالحين، وما روي عنهم من أخذ نفوسهم بالشدّة، وامتناعهم عن كثير من طيبات العيش ونعومته"([104]).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (دخل عليَّ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وعندي امرأة، فقال: (من هذه؟) فقلت: امرأة لا تنام تُصلي. قال: (عليكم من العمل ما تطيقون؛ فوالله لا يملّ الله حتى تملّوا)، وكان أحبّ الدّين إليه ما داوم عليه صاحبه)([105]).وهذا توجيه نبوي كريم نحو الاعتدال والتوسط.
ولنستمع الآن إلى تعليق الإمام (النووي) النافع حول هذا الحديث، حيث يقول: "فيه دليل على الحثّ على الاقتصاد في العبادة واجتناب التعمّـق، وليس الحديث مختصّاً بالصـلاة، بل هو عـام في جميـع أعمال البـر... وفي هذا الحديث كمال شفقته (صلى الله عليه وسلم) ورأفته بأمّته؛ لأنه أرشدهم إلى ما يصلحهم، وهو ما يمكنهم الدوام عليه بلا مشقّة ولا ضرر، فتكون النفس أنشط والقلب منشرحًا، فتتم العبادة...)([106]).
ويلاحظ في النماذج السابقة التحذير من الغلوّ والإفراط، وأنه قد ينتهي بصاحبه إلى الانقطاع والتوقّف، أو الزيادة على ما لم يشرعه الله (عزَّ وجلَّ)، وبالتالي يصبح مردوداً على صاحبه.
من مظاهر الغلوّ والتطرّف
إن مظاهر التطرّف كثيرة، منها:
1.                التعصّب للرأي وعدم الاعتراف بالرأي الآخر
وذلك في الأمور الاجتهادية والأمور المحتملة، وكثيراً ما يجعل الأمور الاجتهادية أموراً مقطوعة ويقينية ليس فيها إلاّ قول واحد، وهو قوله: (ولا رأي إلاّ رأيه)، ويقيناً أن هناك من يحاول أن يفرض رأيه بالقوّة، ويزداد الأمر خطورة حين يراد فرض الرأي على الآخرين بالعصا الغليظة، وهنا قد لا تكون العصا الغليظة من حديد أو خشب، فهناك الاتهام بالابتداع أو بالاستهتار بالدين أو بالكفر والمروق.
إن هذا الإرهاب الفكري أشدّ تخويفاً وتهديداً من الإرهاب الحسيّ، وكذلك جمود الشخص على فهمه جموداً لا يسمح له برؤية واضحة لمصالح الخلق، ولا مقاصد الشرع، ولا ظروف العصر، ولا يفتح نافذة للحوار مع الآخرين، وموازنة ما عنده بما عندهم، والأخذ بما يراه بعد ذلك أنصع برهاناً، وأرجح ميزاناً.
فهذا التعصّب المقيت الذي يثبت المرء فيه نفسه، وينفي كل من عداه، هو الذي نراه من دلائل التطرّف حقّاً، فالمتطرّف كأنما يقول لك: (من حقّي أن أتكلّم.. ومن واجبك أن تسمع.. ومن حقّي أن أقود.. ومن واجبك أن تتّبع.. رأيي صواب لا يحتمل الخطأ، ورأيك خطأ لا يحتمل الصواب).. وبهذا لا يمكن أن يلتقي بغيره أبداً، لأن اللقاء يمكن ويسهل في منتصف الطريق ووسطه، وهو لا يعرف الوسط ولا يعترف به، فهو مع الناس كالمشرق والمغرب، لا تقترب من أحدهما إلا بمقدار ما تبتعد عن الآخر([107]).
1.                إلزام جمهور النَّاس، بما لم يلزمهم الله به.
كالتزام التشديد دائماً، مع قيام موجبات التيسير، وإلزام الآخرين به، حيث لم يلزمهم الله به.. فلا ينبغي لمسلم أن يرفض التيسير في وقت الحرج، وأن يرفض الرخصة التي رخصها الله، ويلزم جانب التشدّد، إذ لا مانع أن يأخذ المرء لنفسه بالأشدّ في بعض المسائل، وبالأثقل في بعض الأحوال، تورّعاً واحتياطاً، ولكنْ لا ينبغي أن يكون هذا ديدنه دائماً، وفي كلّ حال، بحيث يحتاج إلى التيسير فيأباه، وتأتيه الرخصة فيرفضها، مع قوله (صلى الله عليه وسلم): (يسّروا ولا تعسّروا، وبشّروا ولا تنفّروا)([108]).
وقد يقبل من المسلم أن يشدّد على نفسه، ويعمل بالعزائم، ويدع الرّخص والتيسيرات في الدين، ولكنّ الذي لا يقبل منه بحال أن يلزم بذلك جمهور الناس، وإنْ جلب عليهم الحرج في دينهم، والعنت في دنياهم، مع أنْ أبرز أوصاف الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) أنه ((وَيُحِلُّ لَهُمُ الطّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ[([109]).
ولهذا كان النبـيّ (صلى الله عليه وسلم) أطول الناس صلاة، إذا صلّى لنفسه، حتى إنه كان يقوم بالليل فيطيل القيام حتى تتفطّر أو تتورّم قدماه عليه الصلاة والسلام، ولكنّه كان أخف الناس صلاة إذا صلّى بالناس، مراعياً ظروفهم وتفاوتهم في الاحتمال. يقول عليه الصلاة والسلام: (إذا صلّى أحدكم بالنّاس فليخفّف، فإن فيهم الضعيف والسقيم والكبير، وإذا صلّى أحدكم لنفسه فليطوّل ما يشاء)([110]).
ومن التشديد على الناس محاسبتهم على النوافل والسنن كأنها فرائض، وعلى المكروهات كأنها محرّمات، والمفروض ألاّ نلزم الناس إلاّ بما ألزمهم الله (عزَّ وجلّ) به جزماً، وما زاد على ذلك فهم مخيّرون فيه، إنْ شاءوا فعلوا، وإنْ شاءوا تركوا. وحسبنا هنا حديث طلحة بن عبيد الله (رضي الله عنه) في الصحيح، في قصة ذلك الأعرابي الذي سأل النبـيّ (صلى الله عليه وسلم)، عمّا عليه من فرائض، فأخبره بالصلوات الخمس وبالزكاة، وبصوم رمضان، فقال: هل عليّ غيرها؟ فقال لا، إلاّ أنْ تطوّع، فلما أدبر الرجل قال: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص. فقال النبـيّ (صلى الله عليه وسلم): (أفلح إنْ صدق، أو: دخل الجنة إنْ صدق)([111]).
2.                التشديد في غير محلّه.
ولمّا كان التشدّد أحد أهم مظاهر الغلوّ في الدين، فإنّه يكون أعظم إذا كان في غير زمانه ومكانه، كأن يكون في غير دار الإسلام وبلاده الأصليّة، أو مع قوم حديثي عهد بإسلام، أو حديثي عهد بتوبة، فهؤلاء ينبغي التساهل معهم في المسائل الفرعيّة، والأمور الخلافيّة، والتركيز معهم على الكليّات قبل الجزئيّات، والأصول قبل الفروع، وتصحيح عقائدهم أوّلاً، فإذا اطمأنّ إليها، دعاهم إلى أركان الإسلام، ثم إلى شعب الإيمان، ثمّ إلى مقامات الإحسان([112]).
وعن ابن عباس (رضي الله عنه) أن النبـيّ (صلى الله عليه وسلم) بعث معاذاً (رضي الله عنه) إلى اليمن، قال له: (إنّك ستأتي قوماً أهل كتاب([113]) فادعهم إلى شهادة أنْ لا إله إلا الله، وأنّي رسول الله، فإنْ هم أطاعوك لذلك، فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإنْ هم أطاعوك لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم، وترّد على فقرائهم...)([114]).
فالرسول(صلى الله عليه وسلم) يكلّف معاذاً بالدعوة إلى الإسلام، ويرشده إلى منهج التدرّج في التنفيذ والتطبيق، ويرسم أمامه الهدف الأوّل في تقرير الإيمان الصحيح بالشهادتين، وترسيخ أصوله في النفوس، فإنْ تحقّق ذلك كلّفهم بالفريضة المتعلّقة بأموالهم، لتؤخذ من أغنيائهم وتردّ على فقرائهم، وتحقّق المواساة فيما بينهم..
وانظر كيف أمره(صلى الله عليه وسلم) أن يتدرّج في دعوتهم، ففي هذا الحديث إرشاد من النبـيّ (صلى الله عليه وسلم) للدعاة إلى الله بالتدرّج والبدء بالأهمّ فالمهم، فالدعوة تكون بترسيخ الإيمان بالله تعالى ورسوله، إيماناً يثبت في القلوب ويهيمن على الأفكار والسلوك، فيبدأ بالأساس، وهو الشهادتان: الشهادة لله بالوحدانية، ولمحمد (صلى الله عليه وسلم) بالرسالة، ثمّ تكون الدعوة بعد ذلك إلى تطبيق أركان الإسلام العملية، التي ترسّخ هذا الإيمان وتنمّيه، ثم يأتي بعد ذلك الأمر بالواجبات، والنهي عن المحرّمات، فيتقبّل الناس تكاليف الإسلام، التي قد تكون مخالفة لهوى النفس؛ لأنّ قلوبهم قد عمرت بالإيمان واليقين قبل ذلك.
1.                الغلظة والخشونة
إن من مظاهر الغلوّ والتشدد في الدين: الغلظة في التعامل، والخشونة في الأسلوب، والفظاظة في الدعوة، خلافاً لهداية الله (عزَّ وجلّ)، وهدي رسوله (صلى الله عليه وسلم). فالله (عزَّ وجلّ) يأمرنا أن ندعو إلى الله بالحكمة لا بالحماقة، وبالموعظة الحسنة، لا بالعبارة الخشنة، وأن نجادل بالتي هي أحسن: )ادْع إلى سبيلِ ربِّك بالحكمة والموعِظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسنَ[([115]).
ومن تأمّل الآية الكريمة وجد أنها لا تكتفي بالأمر بالجدال بالطريقة الحسنة، بل أمرت بالتي هي أحسن، فإذا كان هناك طريقتان للحوار والمناقشة، إحداهما: حسنة، والأخرى أحسن منها، وجب على المسلم أن يجادل بالتي هي أحسن، جذباً للقلوب النافرة، وتقريبا للأنفس المتباعدة.
ووصف رسوله (صلى الله عليه وسلم) بقوله: )لقدْ جاءكُمْ رسولٌ منْ أنفسِكم عزيزٌ عليه ما عنِتُّم حريصٌ عليكم بالمؤمِنين رؤوفٌ رحيم[([116]).
ولم يقل: جاءكم رسول منكم، ولكن قال: «من أنفسكم»، وهي أشدّ حساسية، وأعمق صلة، وأدلّ على نوع الوشيجة التي تربطهم به، فهو بضعة من أنفسهم، تتصل بهم صلة النفس بالنفس، وهي أعمق وأحسّ.. «عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ»..يشقّ عليه عنتكم ومشقتكم.. «حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ»..لا يلقي بكم في المهالك، ولا يدفع بكم إلى المهاوي.. فإذا هو كلّفكم الجهاد، وركوب الصعاب، فما ذلك من هوان بكم عليه، ولا بقسوة في قلبه وغلظة، إنّما هي الرحمة في صورة من صورها. الرحمة بكم من الذلّ والهوان، والرحمة بكم من الذنب والخطيئة، والحرص عليكم أنْ يكون لكم شرف حمل الدعوة، وحظّ رضوان الله، والجنّة التي وعد المتقون([117]).
يقول (المراغي) في تفسير هذه الآية: لما أمر الله رسوله، في هذه السورة، أنْ يبلّغ الخلق تكاليف شاقّة، يعسر تحملها إلا على من خصّ بوجوه التوفيق والكرامة، ختمها بما يوجب تحملّهم تلك التكاليف.. فبيّن أنّ هذا الرسول منهم، فما يحصل له من عزّ وشرف فهو عائد إليهم، إلى أنّه يشقّ عليه ضررهم، وتعظم رغبته في إيصال خيري الدنيا والآخرة إليهم، فهو كالطبيب المشفق، والأب الرحيم، عليهم، والطبيب الحاذق ربما أقدم على علاج يصعب تحمّله، والأب الرحيم ربما ركن إلى ضروب من التأديب يشقّ على النفس احتمالها([118]).
وخاطب رسوله مبيّناً علاقته بأصحابه: )فَبِما رحمةٍ مِنَ الله لِنْت لهمْ ولوْ كُنْت فظًّا غلِيظ القلْبِ لانْفضُّوا مِنْ حولك[([119]).
أمّا في مجال الدعوة، فلا مكان للعنف والخشونة، وفي الأثر: (من أمر بمعروف، فليكنْ أمره بمعروف)([120]).
وقال (صلى الله عليه وسلم): (ما دخل الرفق في شيء إلاّ زانه، ولا دخل العنف في شيءٍ إلاّ شانه)([121]). ولا شيء يشينه العنف، إذا دخله، مثل الدعوة إلى الله، فإنها تحاول أن تدخل إلى أعماق الإنسان، لتجعل منه شخصاً ربانيّاً في مفاهيمه ومشاعره وسلوكه، وتبدلّ كيانه كلّه وتنشئ منه خلقاً آخر، فكراً وشعوراً وإرادة، كما أنّها تهزّ كيان الجماعة هزّاً، لتغيّر عقائدها المتوارثة، وتقاليدها الراسخة، وأخلاقها المتعارفة، وأنظمتها السائدة([122]).
وللأسف الشديد نجد بعض شباب الإسلام يتحاورون ويتعاملون بالغلظة مع الناس، لا يفرّقون في ذلك بين كبير وصغير، ولا بين من له حرمه خاصّة، كالأب والأمّ، ومن ليس كذلك. ولا بين من له حقّ التوقير والتكريم، كالعالم والفقيه والمعلم والمربيّ، ومن ليس كذلك. ولا يفرّقون بين من هو معذور، ومن ليس كذلك، ومن هو جاهل، ومن يعادي الإسلام عن عمد وعلم وبصيرة([123]).
3.                سوء الظنّ بالنّاس
ومن مظاهر الغلوّ والتشدّد، ولوازمه، سوء الظنّ بالنّاس، والنظر إليهم من خلال منظار أسـود، يخفي حسناتهم، على حين يضخّم سيئاتهم. فالأصل عند المتطرّف هو الاتهام، والأصل في الاتهام الإدانة، خلافاً لما تقرّره الشرائع والقوانين: (إنّ المتهم بريء حتى تثبت إدانته). تجد الغلاة دائماً يسارعون إلى سوء الظنّ والاتهام لأدنى سبب، قلّما يلتمسون المعاذير للآخرين، بل يفتّشون عن العيوب، ويتقمّمون الأخطاء، ليضربوا بها الطبل، ويجعلوا من الخطأ خطيئة، ومن الخطيئة كفراً!!
وإذا كان هناك قول أو فعل يحتمل وجهين: وجه خير وهداية، ووجه شرّ وغواية، رجّحوا احتمال الشرّ على احتمال الخير، خلافاً لما أثر عن علماء الأمّة من أنّ الأصل حمل حال المسلم على الصلاح، والعمل على تصحيح أقواله وتصرفاته بقدر الإمكان. وقد كان بعض السلف يقول: إنّي لألتمس لأخي المعاذير من عذر إلى سبعين، ثم أقول: لعلّ له عذراً آخر لا أعرفه!
ولا يقتصر سوء الظنّ عن هؤلاء على العامّة، بل يتعدّى إلى الخاصّة، وخاصّة الخاصّة، فإذا أفتى فقيه بفتوى فيها تيسير على خلق الله، ورفع الحرج عنهم، فهو في نظرهم متهاون في الدين.
ولم يقف الاتهام عند الأحياء، بل انتقل إلى الأموات، الذين لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم، فلم يدعوا شخصية من الشخصيات المرموقة، إلاّ صوّبوا إليها سهام الاتهام،كأئمة المذاهب المتّبعة، فهم على مالهم من فضل ومكانة لدى الأمّة، في كافة عصورها، لم يسلموا من ألسنتهم، وسوء ظنّهم: فهذا ماسونيّ، وذلك جهميّ، وذاك مبتدع، وآخر معتزلي.
وقال ابن مسعود: (الهلاك في اثنتين: العجب والقنوط، وذلك أنّ السعادة لا تدرك إلاّ بالسعي والطلب، والمعجب بنفسه لا يسعى لأنّه قد وصل، والقانط لا يسعى لأنه لا فائدة للسعي في نظره)([124]).
إنّ تكفير المسلمين مسألة خطيرة، والكفر نقيض الإيمان، وهو الجحود، ومنه قوله (عزَّ وجلّ): )وَقَالُوا إِنَّا بِكُلّ كَافِرُونَ(([125])، أيْ: جاحدون، وهو بهذا لا يخرج عن المعنى اللغوي، لأنّ الكافر يستر قلبه ويغطّيه بكفره.
قال ابن عابدين في حاشيته: الكفر شرعاً: تكذيبه (صلى الله عليه وسلم) في شيء ممّا جاء به ممّا هو معلوم من الدّين بالضرورة.
ونسبة أهل الكفر إلى كفرهم لا شيء فيه، أمّا نسبة المسلم إلى الكفر، فإنه يدور بين حكمين:
أحدهما: التحريم، وذلك إذا كان المسلم باقياً على إسلامه، ولم يقم دليل على كفره. لقوله(عزَّ وجلّ): )يَا أَيُّهَا الّذِينَ آَمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا(([126])، ولقوله(صلى الله عليه وسلم): (من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فهوالمسلم، له ما لنا، وعليه ما علينا)([127])، وحذّر النبـي (صلى الله عليه وسلم) من الاتهام بالكفر بقوله: (إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما، فإنْ كان كما قال، وإلاّ رجعت  عليه)([128]).
ثانيهما: الوجوب، وذلك في حقّ من صدر عنه ما يكفّره، مّمن له صلاحية إصدار الحكم، كالإفتاء والقضاء، لمصلحة شرعية معتبرة تترتّب على الحكم بتكفيره.
فلا بد للمسلمين من انتهاج المنهج الوسطي، وأنْ لا ينظر المسلم للناس بعيداً عن هذا المنهج، ولا يتجاوز حدود الشرع والدين في حكمه على الناس، لأنّ تكفير المسلم بغير حقّ، إهدار لقيمة العدل، كما أنّه يؤدّي إلى تمزيق المجتمعات، وبذر الخلاف بين الناس، ويثير الفوضى في المجتمع، ويفتح الباب أمام الجهّال ليعيثوا فساداً بين الناس، وأنّه يعني إغلاق باب الرجاء، وفتح باب اليأس والقنوط، وربّما التمادي في المعصية.

4.                النظرة المثالية للمجتمع
إنّ من مظاهر الغلوّ أن ينظر المرء إلى المجتمع وأفراده نظرة مثالية، وإنّه ينبغي أنْ يكون خالياً من المعاصي، ويسوده الحبّ والمودّة والطاعة.. وهذه نظرة مثالية، وغلوّ في التصوّر، وبعد عن الواقع.. وقد كانت المعاصي والذنوب في كل الأمم، وفي أتباع الرسل، فهي فيمن دونهم من باب أولى.. وكلّ ابن آدم خطاء، كما قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (ولو لم يذنب البشر لخلق الله بشراً يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم([129])..)([130])،كما ورد في الحديث.
إنّ خير القرون، وهو قرن الرسول (صلى الله عليه وسلم)، لم يكن خالياً من المعاصي، سواء كانت من الكبائر أم من الصغائر، وكذلك لتبيان بشريّة الصحابة، وأنّ في عهدهم مَنْ قتل وسرق وزنى وشرب الخمر، كما يدلّ ذلك على أن حدوث المعاصي والذنوب في القرون التالية أكبر، ولا يخرجها ذلك عن الإسلام، فلا يجوز لأحد أن يصفها بأنها أمّة قد ارتدّت، أو أنّها عصر جاهلية كجاهلية ما قبل الإسلام.
فالوسطية الإسلامية ترفض لأمّتها، وأفرادها، تلك المظاهر، وتحذّر منها أشد التحذير، وتدعو إلى معاني العدل والاعتدال والاستقامة والتوازن واحترام الآخر، التي يدعو إليها الإسلام، وتدعو إلى نبذ صور العنف والقسوة والغضب والانتقام والإرهاب. فهي وسطيّة في التصوّر والاعتقاد، لا تغلو في التجرّد الروحي، ولا الارتكاس المادي([131]).
وسطيّة تدعو إلى الالتزام بالمبادئ لا تفريط ولا إفراط.
وسطيّة تدعو إلى نبذ التطرّف بكل أشكاله، والتمسّك بالقيم الأخلاقيّة والجماليّة.
وسطيّة تدعو إلى الوحدة والائتلاف، وتكوين أمّة وسط، بغضّ النظر عن اختلاف الألوان والألسنة، وبعد المسافات، بهدف سامٍ موّحد مشترك.
وسطية تقوم على توحيد الله (عزَّ وجلّ) في ربوبيّته وألوهيّته وأسمائه وصفاته، وأيّ انحراف أو غلوّ هو من باب التطرّف.
وسطيّة تقوم على المنهج الإلهي، والجمع بين المادة والروح، والقضاء والقدر، والدّنيا والآخرة، والإنسانية والعلوم، والفرد والجماعة، والأسرة والمجتمع، والحقوق والمسؤولية، والتوازن فيما بينها، بلا إفراط ولا تفريط، ولا ترجيح جانب من الجوانب دون الآخر. وأمّا العزلة والانفراد، أو الانهماك في ملذات الدنيا، واتّباع الهوى، فكلّ ذلك من التطرّف.
وسطيّة تدعو إلى التيسير في أمور الدّين، وإلى التسامح والرفق، وتحارب التطرّف والتشدّد بجميع صوره، وترى الجهل بمبادئ الإسلام، وتأويل النصوص بالهوى، والاستبداد بالرأي، والابتداع، والعصبيّة، وسوء الظن بالآخرين، والحسد، والحقد، كلّها، خروجاً وانحرافاً عن وسطيّة الإسلام، وذاك هو التطرّف بعينه. وهو حال الجهلة من عوامّ الناس، وكذلك الحال بالنسبة للعلمانيين المعجبين بحضارة الغرب([132]).
وسطيّة تنبّه الناس أنّها ليست تحارب التطرّف الديني فحسب، بل تحارب أيضاً التطرّف في الأفكار والأمور الأخرى، لأنّ مثل هذا النوع من التطرّف قد أحدث كثيراً من المشكلات السياسية والاجتماعية والاقتصادية في العالم الإسلامي. فعلى سبيل المثال: التغريب هو النوع المثالي من أشكال التطرّف، فكثير من الغربيين، أو من دعاة التغريب، يعدّون مقاومة الثقافات الخليعة، وأساليب الحياة الساقطة، في العالم الإسلامي، انتهاكاً لحقوق الإنسان، وتدخّلاً في حرّية الآخرين، وهذه مؤامرة وكيد على الإسلام، وفي الحقيقة هؤلاء هم المتطرّفون أنفسهم، وفعلهم هذا هو التطرّف عينه.
وسطيّة تحارب الإرهاب بكل صوره وأشكاله، والهيمنة وسياسة القوة.. وتؤكّد الوسطيّة بأن أوّل ما يقدّمه الإسلام للبشرية هو الأمن والسلام.. فأيّ حركة تمارس الإرهاب، أو تناصره، باسم الإسلام، تخالف رسالة الإسلام من حيث المبدأ والأساس. فكلّ ما يؤذي أو يهدّد أمن الناس وأموالهم وحرّية عقيدتهم وكرامتهم، سواء صدر ذلك من الفرد، أو المنظمة، أو الدولة، كلّها من التطرّف والإرهاب.. وأنّ الوسطيّة الإسلامية تحارب الإرهاب والتطرّف بأشكاله وصوره كافة([133]).
لقد عاش رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وأصحابه الكرام y، عاملين بمنهج الوحي على أفضل وجه وأعدله، وقدّموا لنا صورة مثالية فريدة في تنفيذ منهج الله بتوازنه واعتداله ووسطيته، وشموله وواقعيته وكماله.
وبذلك نالوا شرف خيريّة هذه الأمة. قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (خير أمّتي قرني، ثمّ الذين يلونهم، ثمّ الذين يلونهم)([134]). إلا أنّه قد وقعت بعض المواقف الفردية المعدودة من بعض الصحابة تشير إلى الاتجاه إلى سبيل الغلوّ، والتشدّد في الدين، عن حرص صادق للازدياد من الخير، ولكن الرسول الكريم والمربي العظيم (صلى الله عليه وسلم) كان له بالمرصاد، فردّهم عن هذا السبيل، وقوّم هذا العوج، وصحّح نظرتهم، وأرشدهم إلى سبيل الاعتدال والخير القويم، فاستجابوا وأطاعوا.. وكلّ ذلك كان بأسلوب حكيم.
فالداعية إلى الله (عزَّ وجلّ)، المخلص لدينه، الصادق مع ربه، هو الذي يجمع ولا يفرّق، ويجعل حديث الرسول (صلى الله عليه وسلم) (يسّروا ولا تعسّروا) نصب عينيه. فإنّ من منهج الداعية التيسير لا التعسي،ر كما أرشدنا إلى ذلك الداعية الأوّل رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، لمّا بعث دعاة الإسلام إلى الأمصار يدعون الناس إلى دين الله بالحكمة والموعظة الحسنة.
إنّ الذي يتجاهل منهج التيسير والمسامحة في الإسلام يولد لديه قصور في فهم هذا الدين، لأنّه لم يفهم هذا الدين كما أراده الله (عزَّ وجلّ) لعباده، وكما بيّنه لهم رسوله (صلى الله عليه وسلم).. وهذا الفهم الخاطئ، مع مرور الزمن، يمتدّ ليغوص في مجمل أمور الدين ومجالاته، فلا يتوقف عند بعض العبادات أو أحكام معينة، وإنما يتغلغل إلى الداخل حتى يتولّد لدى صاحبه تصورات وأفكار بعيدة عن روح هذا الدين، ويدعو الناس إليها، ويحسب أنه يحسن صنعًا.

الهوامش:




([1]) المصباح المنير: 1/304. مادة (رخص)، والقاموس المحيط: 2/304. مادة (رخص).
([2]) منهاج الوصول إلى علم الأصول: 1/87.
([3]) المستصفى للغزالي: 194.
([4]) مظاهر الوسطية في التشريع الإسلامي، محمد مسعد ياقوت: 25.
([5]) رواه أحمد: 1/25، رقم (174) كتاب مسند العشرة المبشرين بالجنة، باب مسند عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)، ومسلم: 1/478، رقم (686) كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، بَاب: صلاةِ الْمُسَافِرِينَ وَقَصْرِهَا، والترمذي: 5/227، كتاب تفسير القرآن عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، باب ومن سورة النساء، وأبو داود: 2/3، رقم (1199) بَاب: صلاةِ الْمُسَافِرِ، والنسائي: 3/116، رقم (1433) باب تقصير الصلاة في السفر، وابن ماجة: 1/339، رقم (1065) بَاب تَقْصِيرِ الصَّلاةِ فِي السَّفَرِ، وابن خزيمة: 2/71، رقم (945)، وابن حبان: 6/450، رقم (2741).
([6]) القاموس المحيط: 4/151 ولسان العرب: 12/399، مادة (رخص).
([7]) سورة طه، الآية: 115.
([8]) الإبهاج في شرح المنهاج على منهاج الوصول إلى علم الأصول: 8.
([9]) موسوعة هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون: الأصول: 1/20. المكتبة الشاملة، الإصدار الثالث.
([10]) سورة المائدة، الآية: 6.
([11])الإسلام والمناهج الاشتراكية: 65.
([12])مدخل لمعرفة الإسلام: 82.
([13]) سورة المائدة، الآية: 3.
([14]) رواه أحمد عن ابن عمر: 2/108، برقم 5600، وابن خزيمة (950)، وابن حبان (2742). ورواته ثقات. وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده قوي.
([15]) رواه الطبراني في المعجم الأوسط، برقم 8263 وصحيح ابن حبان. وإسناده قوي أيضًا. إسناده: صحيح، وحسنه المنذري في (الترغيب والترهيب). وأخرجه الطبراني في (الكبير) (11880)، وأبو نعيم في (الحلية): 8/276 وأخرجه عبد الرزاق (20569) فصل: صلاة السفر، وبرقم "3560" في فضل: صوم المسافر. قال المناوي في "فيض القدير: 2/292- 293: (إن أمر الله I في الرخصة والعزيمة واحد، فليس الأمر بالوضوء أولى من التيمم في محلّه، ولا الإتمام أولى من القصر في محلّه، فيطلب فعل الرخص في مواضعها، والعزائم كذلك. ونقل عن ابن تيمية قوله: ولهذا الحديث وما أشبهه كان النبـي (صلى الله عليه وسلم) يكره مشابهة أهل الكتاب فيما عليهم من الآصار والأغلال، ويزجر أصحابه عن التبتّل والترّهب).
([16]) رواه أحمد: 25521، ومسلم، بَاب عِلْمِهِ (صلى الله عليه وسلم) بِاللهِ I وَشِدَّةِ خَشْيَتِهِ: 4/1829 (2356).
([17]) مدارج السالكين: 2/51.
([18]) الوابل الصيّب: 29.
([19]) الوسطية في القرآن للصلابي: 401.
([20]) سورة الملك، الآية: 15.
([21]) سورة الحج، الآية: 27.
([22]) سورة البلد، الآية: 4.
([23]) سورة النحل، الآية: 115.
([24]) سورة البقرة، الآية: 173.
([25]) سورة الأنعام، الآية: 145.
([26]) رواه أحمد في كتاب مسند الأنصار (20893) باب حديث أبي واقد الليثي. تعليق: شعيب الأرناؤوط: حديث حسن بطرقه وشواهده. والطبراني في معجمه الكبير: 3/252 (3316).
([27]) نظرية الضرورة الشرعية، د.وهبة الزحيلي: 57 وما بعدها.
([28]) الحرّة: اسم منطقة قرب المدينة المنورة.
([29]) أي: ماتت.
([30]) أي: أحبّ صاحب الناقة.
([31]) رواه أحمد: 5/87ـ88، كتاب مسند البصريين، باب حديث جابر بن سمرة. وأبو داود: 3/358 رقم (3816)، كتاب الأطعمة، باب في المضطر إلى الميتة.
([32]) قاعدة: (المشقة تجلب التيسير)، عدّها العلماء واحدة من خمس قواعد بني عليها الفقه، ودارت عليها الأحكام، ويتخرّج عليها جميع رخص الشرع وتخفيفاته، ومعناها: أن المشقة المعتبرة في التكليف، تكون سبباً شرعياً في جلب التيسير بتسهيل الحكم الشرعي والتخفيف منه على نحو ما، فإذا كان الحكم الأصلي محرجاً أو معنتاً، انفتح باب الرخصة إلى غاية اندفاع الإحراج والإعنات، فإذا ما اندفع ذلك، عاد الحكم إلى أصله بزوال موجب الترخّص.
([33]) الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف: 212.
([34]) سورة المائدة، الآية: 6.
([35]) سورة النساء، الآية: 43.
([36]) في ظلال القرآن: 2/669.
([37])الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف: 212.
([38]) رواه أحمد: 4/203، وأبو داود: 1/93، رقم (336)، والدار قطني: 1/189، والسنن الكبرى للبيهقي: 1/226،
([39]) سورة النساء، الآية: 101.
([40]) رواه أحمد: 1/25، رقم (174) كتاب مسند العشرة المبشّرين بالجنّة، باب مسند عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)، ومسلم: 1/478، رقم (686) كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، بَاب: صلاةِ الْمُسَافِرِينَ وَقَصْرِهَا، والترمذي: 5/227، كتاب تفسير القرآن عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، باب ومن سورة النساء، وأبو داود: 2/3، رقم (1199) بَاب: صلاةِ الْمُسَافِرِ، والنسائي: 3/116، رقم (1433) باب تقصير الصلاة في السفر، وابن ماجة: 1/339، رقم (1065) بَاب تَقْصِيرِ الصَّلاةِ فِي السَّفَرِ، وابن خزيمة: 2/71، رقم (945)، وابن حبان: 6/450، رقم (2741).
([41]) رواه البخاري كتاب الحج باب من بات بذي الحليفة حتى أصبح. فتح الباري: 3/519. ومسلم كتاب: صلاة المسافرين وقصرها – باب: صلاة المسافرين وقصرها. سنن الترمذي: 2/431 كتاب الجمعة عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) باب ما جاء في التقصير في السفر. سنن أبي داود: 2/156 كتاب المناسك – باب في وقت الإحرام. ورواه أحمد كتاب مسند المكثرين – باب مسند أنس بن مالك (رضي الله عنه).
([42]) رواه أحمد كتاب مسند المكثرين من الصحابة، مسند عبد الله بن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه). ومالك كتاب النداء للصلاة – باب الجمع بين الصلاتين في الحضر والسفر. والبخاري كتاب تقصير الصلاة، باب يصلّي المغرب ثلاثاً في السفر. فتح الباري: 2/728. ورواه مسلم كتاب: صلاة المسافرين، باب جواز الجمع بين الصلاتين في السفر. شرح صحيح مسلم: 5/220. وسنن النسائي: 1/287 كتاب المواقيت، باب الذي يجمع فيه المسافر بين المغرب والعشاء ورواه الدارمي كتاب الصلاة، باب الجمع بين الصلاتين.
([43]) سورة البقرة، الآية: 239.
([44]) سورة النساء، الآية 102.
([45]) رواه أحمد: 3/299، والبخاري كتاب الصوم، باب ليس من البرّ الصوم في السفر: 2/292 رقم (1946)، ومسلم "1115" في الصيام: باب جواز الصوم والفطر في رمضان للمسافر في غير معصية، وأبو داود "2407" في الصوم: باب اختيار الفطر، والنسائي: 4/177 في الصوم.
([46]) سورة البقرة، الآية: 185.
([47]) رواه أحمد كتاب مسند المكثرين من الصحابة – باب مسند جابر بن عبد الله (رضي الله عنه)، والبخاري كتاب الصوم، باب قول النبـي لمن ضلّل عليه واشتدّ الحر، فتح الباري: 4/229، ورواه مسلم كتاب الصيام –باب جواز الصوم والفطر في رمضان للمسافر، والنسائي: 4/174 كتاب الصيام – باب ما يكره في الصيام في السفر. وأبو داود: 2/328 كتاب الصوم – باب اختيار الفطر. وابن ماجة: 1/532 كتاب الصيام – باب ما جاء في الإفطار في السفر.
([48]) رواه مسلم: 3/141، بَاب جَوَازِ الصَّوْمِ وَالْفِطْرِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ لِلْمُسَافِرِ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ، والترمذي (710) بَاب مَا جَاءَ فِي كَرَاهِيَةِ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ، والنسائي: 4/177، ذِكْرُ اسْمِ الرَّجُلِ، وابن خزيمة (2019).
([49]) الفقه الإسلامي وأدلته للدكتور وهبة الزحيلي: 3/1696.
([50]) الكديد: منطقة ما بين عسفان وقديد في طريق مكة.
([51]) رواه البخاري، كتاب الصوم، باب إذا: أم أياماً من رمضان ثم سافر: 2/292 رقم (1944). ومالك في الموطأ" 1/294 في الصيام: باب ما جاء في الصيام في السفر، والبيهقي: 4/240.
([52]) رواه مسلم، بَاب أَجْرِ الْمُفْطِرِ فِي السَّفَرِ إِذَا تَوَلّى الْعَمَلَ، رقم (1888).
([53]) رواه البخاري في: 56 كتاب الجهاد والسير: 18 باب فضل الخدمة في الغزو، ومسلم، بَاب أَجْرِ الْمُفْطِرِ فِي السَّفَرِ إِذَا تَوَلّى الْعَمَلَ، 1887، والنسائي: 4/182، وابن حبان: 8/325، رقم (3559).
([54]) معجم مقاييس اللغة مادة (غلوّ): 4/387.
([55]) الصحاح مادة (غلا): 6/2448.
([56]) القاموس المحيط، مادة: غلا.
([57]) لسان العرب، مادة: «غلا».
([58]) سورة النساء، الآية: 171.
([59]) تفسير الطبري: 6/34.
([60]) اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم: 1/289.
([61]) فتح الباري: 13/278.
([62]) الاعتصام: 304.
([63]) المعجم الوسيط: 2/555، مادة طرف.
([64]) الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف: 23.
([65]) النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير الجزري: 5/74.
([66]) رواه أحمد: 1/386، رقم (3655)، ومسلم: 4/2055، رقم (2670) بَاب هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ، وأبو داود: 4/201، رقم (4608) بَاب فِي لُزُومِ السُّنَّةِ.
([67]) شرح صحيح مسلم للنووي، كتاب العلم، باب النهي عن اتّباع متشابه القرآن: 16/220.
([68]) الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرّق المذموم: 64.
([69]) رواه الطبراني في المعجم الكبير: 9/189، رقم: (7875)، والدارمي في سننه: 1/ 66 حديث رقم: (143)، والفقيه والمتفقّه للخطيب البغدادي: 25.
([70]) أصول الافتاء والاجتهاد التطبيقي، الأستاذ محمد أحمد الراشد: 3/160.
([71]) أساس البلاغة للزمخشري، مادة شدد. والصحاح في اللغة، للجوهري: 1/349، مادة (شدا).
([72]) سورة الحديد، الآية: 27.
([73]) رواه أبو داود: 4/276، رقم (4904)، وأبو يعلى: 6/365، رقم (3694)، قال الهيثمى: 6/256: رجاله رجال الصحيح.
([74]) مدارج السالكين: 2/56.
([75]) لسان العرب، ج9 ص257، 258 .
([76]) النهاية لابن الأثير: مادة عنف .
([77]) رواه البخاري "6024" في الأدب: باب الرفق في الأمر كلّه، ومسلم "2165" في السلام: باب النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام.
([78]) الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرّف: 29.
([79]) رواه الترمذي، كتاب: البر والصلة، باب: ما جاء في الرفق، حديث رقم: 2013 .
([80]) ومن الألفاظ ذات الصلة: الأصولية fundamentalism: وهي في (معجم ويستر). مصلطح أطلق على حركة احتجاج مسيحية ظهرت في القرن العشرين، تؤكد على ضرورة التفسير الحرفي للكتاب المقدس كأساس للحياة الدينية الصحيحة. وقد حاول كثير من المغرضين البحث عن أوجه الشبه بين هذه الفئات النصرانية ودعاة الإسلام أو بعضهم، لينقلوا إليهم هذا المصطلح وهو مصطلح غربي له ظروفه وملابساته. فأحياناً يطلق لفظ التطرّف وأحياناً الأصولية، وأحياناً الإرهاب، دون الإجماع على تحديد مفاهيم هذه المصطلحات الثلاثة، والأولى بالمسلم الرجوع إلى المصطلح الشرعي وهو الغلو ومجاوزة الحد في السلوك أو الاعتقاد أو العبادة. وإذا كان التطرف هو الميل إلى أحد الطرفين، فهو ضد الوسطية والاعتدال، وهو ميل إما إلى غلو وإما ميل إلى تساهل وإلغاء. (الموسوعة العربية العالمية: 1/232، كلمة: الأصولية).
([81])رواه أحمد: 1/347، رقم(3248)، والنسائي: 5/268، رقم (3057)، وابن ماجة: 2/1008، رقم (3029)، والطبراني: 18/289، رقم (742)، والحاكم: 1/637، رقم(1711) وقال: صحيح على شرط الشيخين. قال شاكر: إسناده صحيح، ونقل المناوي في الفيض: 3/126 عن ابن تيمية قوله: هذا إسناد صحيح على شرط مسلم. والبيهقي: 5/127، رقم (9317). وابن أبي شيبة: 3/248، وابن حبّان: 9/183، رقم (3871).
([82]) سورة المائدة، الآية: 77.
([83]) من أراد الاستزادة والبسط في موضوع الغلوّ، وما يتصل به، فعليه بمراجعة الكتب المؤلّفة في الموضوع مثل كتاب: (ظاهرة الغلوّ في التكفير) للقرضاوي، وكتاب السامرائي: (التكفير: جذوره، أسبابه مبرراته) وكتاب البهنساوي: (الحكم وقضية تكفير المسلم).. وغير ذلك.
([84]) ينظر: فقه السنة للسيد سابق: 1/501.
([85]) سورة النساء، الآية: 171.
([86]) اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم: 106.
([87]) رواه البخاري: 2/52، كتاب استتابة المرتدين: باب قتل الخوارج والملحدين، ومسلم: 1/740، رقم (1063) في الزكاة: باب ذكر الخوارج وصفاتهم.
([88]) رواه البخاري تعليقاً في: 2/51، كتاب استتابة المرتدين: باب قتل الخوارج والملحدين، ووصله الطبري في تفسيره بإسناد صحيح، وانظر أيضاً فتح الباري: 1/282.
([89]) رواه الدارمي: 1/44 رقم (100) المقدمة: باب اتّباع السنة.
([90]) الرد على البكري: 2/255.
([91]) مدارج السالكين: 2/496.
([92]) رواه الدارمي: 1/63 رقم (222) المقدمة: باب في كراهية أخذ الرأي.
([93]) المحجّة في سير الدلجة: 18.
([94]) سورة الرحمن، الآيتان: 8-9.
([95]) الراديكاليّة أو التطرّف: فلسفة سياسية تؤكّد الحاجة للبحث عن مظاهر الجور والظلم في المجتمع واجتثاثها. ومصدر كلمة الراديكالية، ينبع من الكلمة اللاتينية Radis، وتعني الجذر أو الأصل. فالراديكاليون يبحثون عما يعتبرونه جذور الأخطاء الاقتصادية والسياسية والاجتماعية في المجتمع، ويطالبون بالتغييرات الفورية لإزالتها. ويختلف معنى كلمة راديكالي من بلد لآخر، ومن وقت لآخر. (الموسوعة العربية العالمية: 2/45، مفردات كلمة التطرف).
([96]) لسان العرب، مادة رهب.
([97]) سورة الأنفال، الآية: 60.
([98]) سورة المائدة، الآية: 33.
([99]) نظرة في مفهوم الإرهاب، د. عبد الرحمن بن سليمان المطرودي: 17.
([100]) الإرهاب، الأسباب والعلاج، د. عصام بن هاشم الجفري: 6.
([101]) رواه البخاري، كتاب الأيمان والنذور، باب النذر فيما لا يملك وفي معصية، (6704)، وأبو داود (3300) باب من رأَى عليه كفّارة إذا كان في معصية، وابن ماجة (2136) باب من خلط في نذره طاعة بمعصية.
([102]) رواه أحمد: 6/268، رقم (26351) وأبو داود: 2/48، رقم (1369) باب ما يؤمر به من القصد في الصلاة.
([103]) سورة المائدة، الآيتان: 87ـ88.
([104]) أصول الدعوة، الدكتور عبد الكريم زيدان: 125.
([105]) رواه البخاري، كتاب الجمعة، باب ما يكره من التشديد في العبادة، (1151)، ومسلم، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، (785)، واللفظ له.
([106]) شرح صحيح مسلم: 6/71.
([107]) الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرّف، د. يوسف القرضاوي.
([108]) رواه البخاري، كتاب الآداب، باب يسّروا ولا تعسّروا. ومسلم: 3/1586، رقم (1733) في الأمر بالتيسير وترك التنفير.
([109]) سورة الأعراف، الآية: 156.
([110]) رواه البخاري "703" في الأذان: باب إذا صلّى لنفسه  فليطوّل ما شاء، ومسلم "467" في الصلاة: باب أمر الأئمة بتخفيف الصلاة في تمام.
([111]) رواه البخاري: 1/18، بَاب وُجُوبِ صَوْمِ رَمَضَانَ، ومسلم في الإيمان، باب: بيان الصلوات التي هي أحد أركان الإسلام، رقم: 11.
([112]) الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف: 40.
([113])لأن اليمن كان أقام بها جماعة من اليهود، فدخل كثير من أهل اليمن في دينهم، وتعلّموا منهم، فأرشده النبـي (صلى الله عليه وسلم) إلى ذلك حتى يتأهب و يختار من الأساليب ما يناسب حالهم، لأن مخاطبة العالم ليست كمخاطبة الجاهل، وهم أهل كتاب يجيدون الجدل فينبغي إتقان أسلوب الجدل.
([114]) رواه البخاري: 2/505، في كتاب الزكاة، باب أخذ الصدقة من الأغنياء وترد في الفقراء حيث كانوا، برقم: (1425)، ومسلم: 1/38، في كتاب الإيمان، باب: الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام.
([115]) سورة آل عمران، الآية: 159.
([116]) سورة التوبة، الآية: 128.
([117]) في ظلال القرآن: 3/1743.
([118]) تفسير المراغي: 11/54.
([119]) سورة النحل، الآية: 125.
([120]) رواه الديلمي: 3/585، رقم (5833). والبيهقي في شعب الإيمان: 6/99، رقم (7603).
([121]) رواه أحمد: 6/85، ومسلم (2594) في البر والصلة، وأبو داود (2478) في الجهاد، والبخاري في الأدب المفرد (469).
([122]) الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرّف، د. يوسف القرضاوي.
([123]) يقول الشيخ يوسف القرضاوي: (.. أنصح الشباب: أن يتخلّوا عن التشدّد والغلو، ويلزموا جانب الاعتدال والتيسير، وخصوصاً مع عموم الناس الذين لا يطيقون ما يطيقه الخواص من أهل الورع والتقوى، ولا بأس بأن يأخذ المسلم في مسألة أو جملة مسائل بالأحوط والأسلم، ولكن إذا ترك دائما الأيسر، واتّبع دائماً الأحوط، أصبح الدين في النهاية "مجموعة أحوطيات" لا تمثّل إلا الشدّة والعسر، والله يريد بعباده السعة واليسر). الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف: 154.
([124]) مختصر منهاج القاصدين: 234.
([125]) سورة القصص، الآية: 48.
([126]) سورة النساء، الآية: 94.
([127]) رواه أحمد: 3/199، والبخاري: 1/108، باب فضل استقبال القبلة يستقبل بأَطراف رجليه. وأبو داود (2641)، والترمذي (2608)، والنسائي: 7/76، باب صفة المسلم.
([128]) رواه البخاري: 3/32 في كتاب الأدب برقم (6104) باب من كفّر أَخاه بغير تأْويل فهو كما قال، ومسلم: 1/56 في كتاب الإيمان برقم (60).
([129])فهو سبحانه لكمال محبته لأسمائه وصفاته، اقتضى حمدُه وحكمتُه أن يخلُق خلقاً يُظْهِرُ فيهم أحكامَها وآثارَها: فلمحبته للعفو، خلق من يَحْسُنُ العفوُ عنه. ولمحبته للمغفرة، خلق من يَغْفِرُ له ويحلم عنه، ويصبر عليه ولا يعاجله. ولمحبته لعدله وحكمته، خلق من يُظْهِرُ فيهم عدله وحكمته. ولمحبته للجود والإحسان والبر، خَلَقَ من يعاملُه بالإساءة والعصيان، وهو سبحانه يعاملُه بالمغفرة والإحسان، فلولا خَلْقُ من يجري على أيديهم أنواع المعاصي والمخالفات، لفاتت هذه الحِكَمُ والمصالح وأضعافُها وأضعافُ أضعافِها، فتبارك الله رب العالمين، وأحكم الحاكمين، ذو الحكمة البالغة، والنِّعَمِ السَّابغة، الذي وصلت حكمته إلى حيث وصلت قدرته، وله في كل شيء حكمة باهرة، كما أن له فيه قدرة قاهرة وهدايات، إنما ذكرنا منه قطرة من بحر، وإلا فعقول البشر أعجز وأضعف وأقصر من أن تحيطَ بكمالِ حكمته في شيء من خلقه.
([130]) رواه مسلم في صحيحه في كتاب التوبة، باب سقوط الذنوب بالاستغفار من حديث أبي هريرة (رضي الله عنه). وأحمد في مسنده: 2/309 حديث رقم: 8068،والطبراني في معجمه الأوسط: 2/ 123 حديث رقم: 1454.
([131]) في ظلال القرآن لسيد قطب: 1/125.
([132]) أمّا العلمانيون من بني جِلدتنا فإنهم لا يرون شيئاً في الإسلام يمكن أن يطلق عليه اعتدالاً، فالإسلام والتطرّف لديهم مترادفان أبداً. ونقول لهم ولأمثالهم: كلّ ما عدا الإسلام هو تطرّف وشطط ومروق من الفطرة، وأمّا أنْ يعمد بعض أفراد المسلمين إلى المغالاة في تفسير بعض أحكام الدين، فذلك ليس تطرّفاً بالمعنى الصحيح، وإنما هو قصور في الفهم، فقصور الفهم لدى المسلم كالعالِم إذا كان عاجزاً، كلاهما قد يسيء إلى هذا الدين من حيث يدري أو لا يدري. ورحم الله الشهيد عبد القادر عودة عندما كتب: :ضاع الإسلام بين جهل أبنائه وعجز علمائه". (مجلة البيان، العدد 63 ذو القعدة - 1413هـ، مايو - 1993م، (السنة: 7)، مقال التطرف الديني، عبارة يُراد منها الإساءة إلى عقيدتنا، سليم عبد الرحمن الزغل).
([133]) وسطية الإسلام صالح حبيب الله: 12.
([134]) رواه البخاري، كتاب فضائل أصحاب النبـي (صلى الله عليه وسلم) باب فضل أصحاب النبـي (صلى الله عليه وسلم)، رقم (2600)، ومسلم (211) في فضائل الصحابة: باب فضل الصحابة، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق