07‏/04‏/2017

الجذور التاريخية لنوروز عند الكورد

أ. د. فرست مرعي
في 27 أيار/مايس 1979م نشر الكاتب الكوردي العراقي (آزاد عبدالحميد) مقالة في مجلة (التربية الإسلامية) البغدادية، في عددها الثاني عشر، السنة الحادية عشر، بعنوان: (عيد نوروز.. بدعة محدثة)، ذكر فيها أن الاحتفال بهذه المناسبة هو بمثابة إحياء للدين المجوسي، والكورد قد تخلّصوا من المجوسية إلى غير رجعة عندما وصلهم الإسلام الحنيف. وقد تصدّى له الكاتب اليساري (إبراهيم باجلان) بمقال نشر في جريدة (العراق)، بعددها(1022)، في 9/7/1979، موسوماً بـ(نوروز بين الحقائق والأباطيل)، مبيّناً بأن السيد (آزاد): "قد طرح جملة آراء وأفكار بعيدة عن روح نوروز وجوهره، فبدءأً من العنوان الذي يجرح مشاعر أبناء شعبنا الكوردي، ينبغي أن نعلم بأن مثل هذه الآراء تعطي مردوداً عكسياً، حيث يعتبر نوروز مفخرة من مفاخره القومية، ومأثرة تاريخية بوجه الظلم والطغيان".
وقد أوضح (إبراهيم باجلان) بأن (النوروز) عيد قومي، "ولا يتعارض مع أعيادنا الوطنية والدينية، بل يلتقي مع المباديء الخيّرة في معاداة الشر والظلم ومناصرة المظلومين، بعكس ما يذكره بعض علماء الدين الإسلامي من أدلّة شرعية وفقهية بأن مناسبة الاحتفال بـ(نوروز) يمثّل طقوساً مجوسية قديمة، لأن الكورد يوقدون النيران في احتفالاتهم". والمجوس – كما هو معلوم – يعتبرون عبدة النار، وفق الإسلام والمسيحية.
وكان من أبرز المنتقدين أيضاً الدكتور (حسين قاسم العزيز)، وهو أكاديمي كوردي شيعي، ذا ميول ماركسية، أخذ شهادة الدكتوراه من (جامعة موسكو)، وحاول تدبيج مقالة، أو بالأحرى بحث، حول تاريخ النوروز عند الكورد، ونشره في مجلة (المجمع العلمي العراقي- الهيئة الكوردية-)، العدد السابع، التي كانت تصدر في بغداد، سنة 1981م، بعنوان ( نوروزيات)، حاول فيها الإيحاء بأن عدداً لا بأس به من الخلفاء المسلمين كانوا يحتفلون بالنوروز، ويتقبّلون الهدايا من رعاياهم بهذه المناسبة.
ومن جانب آخر، فقد نشر كتاب كورد آخرون ردوداً أخرى على الأستاذ (آزاد عبدالحميد)، وهم أيضاً محسوبون على الاتجاه القومي واليساري، التي كان سوقها رائجاً في حقبة السبعينيات من القرن العشرين - ولا زال -؛ غير أنهم تحولوا من الاتجاه اليساري والماركسي، إلى الليبرالية والاشتراكية الديمقراطية، بعد نفوق تجارة الماركسية في الاتحاد السوفياتي السابق.
والنيروز: معرّب كلمة النوروز، التي تعني في اللغتين الفارسية والكوردية: اليوم الجديد، وهي مركّبة من لفظين: أولهما (ني) بكسر النون، أيْ: الجديد، وثانيهما (روز)، أيْ: اليوم. إذاً فكلمة النيروز في اللغتين الفارسية والكوردية تأتي بمعنى (اليوم الجديد). وأمّا اصطلاحاً، فتعني: عيد رأس السنة الفارسية (=الإيرانية)، الذي يقع في اليوم الأول من شهر فروردين(31 يوماً من21 مارس/ آذار إلى 20 إبريل/ نيسان)، وذلك عندما تكون الشمس في برج الحمل، وهو البرج الأول من البروج الاثني عشر في الفلك، حيث يتساوى الليل والنهار، وفي تلك الأيام تهبّ رياح الدبور أو الغرب. و(فروردين) في اللغة البهلوية هو فرفرتنFARVARTIN ، وهي كلمة مأخوذة من الفارسية القديمة: فرفرتينام   FRVARTINAM، وهي على ما يبدو جمع مؤنث لكلمة: فرفرتيFARVARTI   في حالة الإضافة، وجمعها بمعنى: الآلهة المطهّرون.
وفروردين أيضاً اسم ملاك من خزنة الجنّة، ويختص بتدبير الأمور والمصالح التي تقع في هذا الشهر. وكان الفرس يحتفلون ويعيّدون فيه، بناء على القاعدة السائدة عندهم، وهي أنه من الواجب الاحتفال بكل يوم يحمل نفس اسم الشهر الذي يقع فيه.. ومن الأمور الطيّبة في هذا اليوم، افتتاح جباية الخراج، ، وزمن تولية العمال، وارتداء الملابس الجديدة، وتذكية بيوت النيران، ورشّ الناس بعضهم بعضاً بالماء.
وهذا التقويم هو ما يعرف بالتقويم الجلالي، نسبة إلى السلطان (جلال الدين ملكشاه بن ألب أرسلان السلجوقي)، الذي اتّخذه في سنة 472هـ/1079م. والفرق بينه وبين التقويم الفارسي القديم، المعروف بتقويم يزدجرد(=آخر ملك فارسي ساساني)، أن أيام النسيء في التقويم الأخير تلحق بشهر (آبان)، وهو الشهر الثامن من السنة الشمسية الفارسية، وتكون فيه الشمس في برج العقرب (30 يوماً من 23 اكتوبر/ تشرين الأوّل إلى 21 نوفمبر/ تشرين الثاني، ويقال له أيضاً: (آبانماه)، وهو الشهر الثاني من شهور الخريف، واسم ملاك موكل بالماء وتدبير الأمور والمصالح في شهر آبان ويوم آبان).
ومهما يكن من أمر، فقد كان للدين الزرادشتي تأثير على مظاهر الحياة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية للإيرانيين القدماء، فأعيادهم (= الكونهبارات) كان الباعث على اتخاذها في أغلب الأحوال دينياً؛ فإن لم يكن الأمر كذلك كانت الطقوس الدينية هي المظهر الغالب على هذه الأعياد.. وقد استمرت المهرجانات بعيد النيروز تقام في إيران منذ بداية العصر العباسي الثاني، حيث كان التأثير الفارسي واضحاً في صبغ مظاهر الحياة الثقافية والاجتماعية، واستمرت بوتيرة متصاعدة في العصور الصفوية (1501-1736م)، والأفشارية (1736-1748م)، والزندية (1748-1796م)، والقاجارية (1796-1925م)، وإلى التاريخ المعاصر، حيث بلغت ذروتها في أيام الشاه رضا بهلوي (1925- 1941م)، ونجله: الشاه  محمد رضا بهلوي (1941-1979م)، بتأثير ودعم المثقفين القوميين الفرس، الذين كانوا يحاولون إحياء الأعياد المجوسية (= الزرادشتية)، وبعث التاريخ الإيراني القديم قبل الإسلام (= الدولة الأخمينية، والدولة الساسانية)، حيث تقرّر منح العطلة الرسمية أسبوعاً كاملاً للدوائر الحكومية، إضافة إلى أسبوعين للمدارس والجامعات؛ بعكس عطلتي عيد الفطر والأضحى، حيث خصّص لكل منهما يوم واحد فقط.. واستمرت الوتيرة في عهد (الجمهورية الإسلامية الإيرانية) على نفس السياق.
ويعدّ الشاعرالكوردي العراقي الحاج (محمود توفيق حمزة) (= بيره ميرد -1867-1950م)، من أهالي مدينة السليمانية، شرق كوردستان الجنوبية، والقادم من مدينة (استنبول)، التي قضى فيها حوالي ربع قرن من عمره، أوّل المساهمين في هذا التغيير، فضلاً عن إلمامه بهذه المناسبة سابقاً، أثناء دراسته في احدى الكتاتيب عند الملا (حسين كوجة) في السليمانية، حيث كان الأخير يطلب، قبل حلول اليوم الأوّل من الربيع، من طلبته إحضار عيدية نوروز، فكنّا ( = بيره ميرد) نتوسّل من أمهاتنا وآبائنا أن يلبّوا مطلبنا، وبعد أن كانوا يدخلون الفرح إلى قلوبنا، نأخذ معنا ما كنّا قد حصلنا عليه، لنسلّمه إلى الملا (= الشيخ) الذي كان يأخذ من الحصيلة نصيبه، ثم يصحبنا إلى جامع الشيخ (عبدالرحمن الشيخ أبو بكر) في مدينة السليمانية، والذي كان معروفاً بجمال خطّه، فكان يكتب لنا (نوروز نامه- رسالة نوروز)، ونبدأ بقراءته وحفظه، ثم يعطي الملا أمره بتعطيل الدراسة بمناسبة نوروز، حيث نقضي نهارنا خارج المدينة بالألعاب الشعبية، ونعود قبيل الغروب لنغنّي (نوروزنامه)، ونحن نتجوّل في أزقّة المدينة.. هذا ما حصل في الربع الأخير من القرن التاسع عشر في مدينة السليمانية. وقد أصبح النشيد الذي ردّده (بيره ميرد)، بمثابة النشيد القومي الكوردي في نوروز إلى الوقت الحاضر..
ويذكر السياسي والكاتب الكوردي: (بتليسي كوردي) (= ممدوح سليم)، في مقالة له بمجلة (زين)، التي كانت جمعية التعالي والترقي الكوردية العثمانية (= تأسست عام 1908م) تصدرها في مدينة (استانبول) عام1918م، أن المنظمة الأخيرة قد ابتكرت الاحتفال بالنوروز في نهاية عام1910م، وسطت على الأسطورة التي تزعم أن الحدّاد (كاوه) حرّر الشعب، وانتصر على الملك الأسطوري زهاك (= الضحاك)، وعلى  أساس هذه الأسطورة قرّرت النخبة القومية الكوردية إعلان النوروز عيداً قومياً كورديّاً، وهذه الاحتفالات والمراسيم كانت إلى ذلك الوقت جزءاً من التقليد الفارسي، كما هو معروف.
وهكذا تمّ إعلان (كاوه) منقذاً للأمّة، وصار رمزاً لمقاومة الظلم والطغيان. واستعاد الأخوان: (جلادت أمين عالي بدرخان)، و(كاميران بدرخان)، هذه الأسطورة الفارسية بين عامي 1930 و1940م، من خلال مجلة (هوار- النداء)، التي صدرت في دمشق عام 1932م، بالحروف اللاتينية، بدعم من الاستعمار الفرنسي، من أجل تأكيد الأصل الآري للكورد، في مواجهة  نظريات العلماء الأتراك، التي تؤكّد أن الكورد من الشعوب الطورانية.
ومع ذلك، فإن ظاهرة المدّ القومي التي اجتاحت المنطقة في بداية القرن العشرين، حملت بعض القوميين الكورد على إضفاء طابع قومي وسياسي على عيد النيروز، وجعله عيداً قومياً للشعب الكوردي، باعتباره أحد شعوب المنظومة الآريّة، ابتداءً من ثلاثينيات القرن العشرين، خصوصاً بعد أن تولى الشاه (رضا بهلوي) مقاليد الحكم في إيران، اعتباراً من سنة 1925م، حيث حاول بعث العنصر الآري من جديد في الهضبة الإيرانية، بعد أن تولى الترك (الصفويون والأفشاريون والقاجاريون) مقاليد الحكم لقرون عديدة في إيران، ابتداءً من سنة 1502م لغاية 1925م؛ لذلك تمّ الطلب من القنصلية الإيرانية في مدينة السليمانية، بإحياء هذه الطقوس في نفوس الشعب الكوردي، باعتباره جزءاً من المنظومة الآرية (=الهندو إيرانية)، عن طريق الدعم المادي: المتمثّل في الملابس الكوردية وغيرها من مستلزمات الاحتفال، والمعنوي: عن طريق نشر الكتب والمنشورات التي تمجّد هذه المناسبة، خاصة بعد ظهور بعض المجلات الصادرة باللغة الكوردية في محافظة السليمانية، أمثال : كلافيز(= نجمة الشِعرى)، وزين(= الحياة)، وغيرها.
لذلك بدأ الشاعر (بيره ميرد) يحتفل في بداية عقد الثلاثينيات من القرن العشرين، في كلّ عام، في عصر اليوم الذي يسبق النيروز (20 آذار/مارس)، على تلة (مامه ياره- سيوان)، الواقعة شرقيّ مدينة السليمانية، بإشعال النار، وإعطائها بعداً قومياً.
وهكذا اصبح اسم (بيره ميرد) مقترناً بالنوروز، إذ اعتاد على إقامة ذلك الاحتفال سنوياً حتى مماته؛ إلا في السنوات التي كانت السلطات الملكية العراقية تمنع إقامة احتفال نوروز، فقد كان هناك متصرّفون (= محافظون) يعتبرون إقامة حفل نوروز تظاهرة ضد السلطة، أو يتّهمون القائمين به بإحياء المجوسيّة، وغيرها من الاتهامات. وغالبية هؤلاء كانت من العرب والتركمان، وقد برز في هذا المجال: (الحاج رمضان باشا الموصلي)، و(مجيد يعقوب الكركوكي). فيما كان هناك متصرّفون آخرون، غالبيتهم من الكورد، يشجّعون الشاعر على إقامة الاحتفالات، ويدعمونه ماديّاً أيضاً، منهم: (صالح زكي صاحبقران، بهاء الدين نوري، معروف جياووك، الشيخ مصطفى القره داغي)، وآخرون.

وقد ورد في جريدة (طلاويذ)، العدد الرابع، السنة الخامسة، في نيسان عام 1944م: أن الطلبة الكورد في (بغداد) أقاموا في 22 آذار 1944 اجتماعاً حافلاً على شرف نوروز)، شارك في الكثير من الوجهاء الكورد، والشباب المثقف.
وفي 22 آذار 1945 جرى الاحتفال بهذه المناسبة على قاعة الملك فيصل، التي سميّت فبما بعد بقاعة الشعب، حضره المثقفون والطلبة الكورد، وتحديداً الشيوعيون منهم، حيث استطاعوا استغلال بعض الإمكانات في الثغرات القانونية التي كانت تمنع الاحتفال بهذا، وعلى السياق نفسه فقد جرى الاحتفال بالمناسبة، ودمج النضال السري بالنضال العلني.
وعلى السياق نفسه، فقد جرى الاحتفال بهذه المناسبة في 21 آذار عام 1946 في بغداد، في قاعة الملك فيصل، حضره عدد كبير من الكورد، بالإضافة إلى عدد من الوزراء وعقيلاتهم،  وألقى (مكرّم الطالباني) كلمة باللغة الكوردية بهذه المناسبة، تلاه (صالح رشدي)، حيث شرح فيها معنى كلمة (نوروز) باللغة العربية. ةتجدر الإشارة إلى أن حزب (رزطارى كورد) هو الذي أشرف على هذه المناسبة.
ولأوّل مرة في عام 1946م،  بادر طلبة ثانوية السليمانية، بدعم من الحزبين: الديمقراطي الكوردي (= الكوردستاني)، والشيوعي العراقي، لإقامة حفل خطابي في قاعة المدرسة، حضره كبار الشعراء الكورد، منهم: بيره ميرد، فائق بيكه س، هاوري، شيخ سلام، وآخرون، وقرأوا كلمات وقصائد، نثراً وشعراً، في الحفل. وفي الليل طاف الطلبة في شوارع المدينة، وهم يحملون المشاعل المضيئة، ويهتفون بحياة الكورد وكوردستان. وكان مدير الثانوية: الأستاذ (وديع فتح الله ميرزا)، يصاحب الطلبة حتى لا يصيبهم الأذى من قبل السلطات المحليّة.
وفي السنوات التي كانت الأنظمة المتعاقبة تمنع إقامة حفل نوروز، كان الشباب يكتبون، بالنّار، على صدر جبل (كويزة)، المطلّ على مدينة السليمانية من الشمال: (نوروز).. و (عاشت كوردستان).
وأقامت لجنة نوروز حفلاً بهذه المناسبة، في مدينة (أربيل)، في 14/ 6/ 1948م، واتهمت المناوئين بعرقلة الاحتفال بهذه المناسبة، بأنهم "مأجوري الاستعمار، الذين يريدون كبت المشاعر القومية الكوردية".
وفي بداية قيام الحركة الكوردية بقيادة (الملا مصطفى البارزاني)، في 11 أيلول/ سبتمبر، ضد الحكومة العراقية، بدأ كورد منطقة بهدينان (= محافظة دهوك وأطرافها)، بإشعال النيران فوق قمم الجبال العالية، تيمّناً بمناسبة نوروز، اعتباراً من سنة 1962م.
وعندما كان القتال يتوقّف، وتبدأ المفوضات بين الجانبين: الحكومي العراقي والكوردي، كانت قيادة الحركة الكوردية تطلب من الحكومة العراقية الاعتراف بالنيروز (= النوروز) كعيد قومي للشعب الكوردي، وهذا ما حصل فعلاً في اتفاقيّة 11آذار/ مارس من سنة 1970م.

ولكن بعد انتفاضة آذار/ مارس 1991م، التي قام بها الشيعة والكورد ضد النظام العراقي، وصلت عطلة النوروز إلى أربعة أيام، كعطلة رسمية للنوروز، في حكومة إقليم كوردستان العراق، للأيام (20 و21 و 22 و 23 آذار)، من كلّ سنة، وحوالي أسبوعين لطلاب الجامعات والمعاهد والمدارس الثانوية والابتدائية.. وكانت الحجّة هي قول النخبة الكوردية: "إذا كانت إيران تدّعي الإسلام، واسمها (جمهورية إيران الإسلامية)، وتحتفل بالنيروز، وعطلتها أطول من عطلتنا، ونحن أصحاب اتجاه قومي علماني، فلماذا لا نزيد من عطلتنا كي تضاهي عدد أيام العطلة في إيران الإسلامية، ونحن مثلهم أمّة تنتمي إلى الأمّة الآريّة – الهندو إيرانيّة".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق