قراءة: أ.
د. عماد الدين خليل
لا يتصوّرنّ أحد أنّ الحديث عن
(حقوق الإنسان)، أو الكتابة فيها، محاولة لاهثة للحاق بادّعاءات الغرب في هذا
الشأن، وكأننا نقول لهم: ها نحن ذا ـ أيضاً ـ نملك في عقيدتنا وشريعتنا الكثير
الكثير مما يؤكّد حقوق الإنسان ويحميها من الابتزاز، مثلما أنّكم تملكون.
ولا يتصوّرن أحد أن الحديث عن
(حقوق الإنسان)، أو الكتابة فيها، نوع من الدفاع عن الذات في مواجهة هجمات
الغربيين الماكرة في العصر الحديث، على الإسلام والمسلمين، في أنهم يضيّقون الخناق
على حقوق الإنسان، وربما يفترسونها!!
فشريعتنا الإسلامية، بمقاصدها
العليّا، سبق وأنْ أكّدت هذه الحقوق بتفاصيلها كاملة، قبل أن يدّعيها الغربيون
بمئات السنين، وقبل أن يصوغوها في البيان المعروف للأمم المتحدة.
والذي يقرأ هذا الكتاب: (مقاصد
الشريعة الإسلامية أساس حقوق الإنسان) للأخ الباحث الدكتور (دحّام إبراهيم
الهسنياني)، الذي تقدّم به لـ(جامعة كراتشي الإسلامية) في (باكستان)، ونال شهادة
الماجستير بدرجة (الامتياز)... تؤكّد لنا هذا بما لا يدع مجالاً للنقاش.
إنه ينطلق في بحثه من نقطة الارتكاز
الأساسية في شريعة الإسلام، ألا وهي مقاصدها العليا، التي استهدفت ـ أولاً وأخيراً
ـ مصلحة الإنسان، وتمكينه من أداء مهمّته الاستخلافيّة العمرانيّة في العالم الذي
سُخّر له ابتداء، وطلب منه أن ينمّيه ويعمّره، بحكم الآية الكريمة: ]هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنْ الأرض وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا[([1]).
وبمجرد إلقاء نظرة سريعة على
أبواب الكتاب وفصوله ومباحثه، يتبيّن للمرء الجهد الكبير الذي بذله الباحث في
إنجازه. فهو بقدرته الملحوظة على استقصاء كلّ مفردات الموضوع، وبتنظيم هذه
المفردات وفق خطة بحث محكمة في تسلسلها، وترابطها المنطقي، وهو في القائمة الخصبة
من المصادر والمراجع التي اعتمدها في بناء بحثه، وفي الاستنتاجات الغنيّة، التي أكّدت
حضوره الشخصي في جهده هذا، قدّم عملاً لا يستحق في التقييم الأكاديمي أقلّ من درجة
الامتياز التي حصل عليها.
إنه يتابع في الباب الأوّل
المعنون بـ (مقاصد الشريعة الإسلامية المنطلق الحقيقي لحقوق الإنسان) جملة من
الموضوعات المهمّة: كالمنظور المقاصدي، والحاجة إلى معرفة مقاصد الشريعة، ومقاصد
الشريعة وحقوق الإنسان، وحقوق الإنسان والكرامة الإنسانية، وتاريخ حقوق الإنسان.
ويقف في بابه الثاني عند الضرورات
الخمس وحفظها لحقوق الإنسان: حفظ الدين، والنفس، والعقل (الذي هو مناط التكريم
والتفضيل للإنسان)، والنسل والعرض، والمال.
فأيّ شيء يبقى بعد هذه الإحاطة
التي عالجت بها شريعة الإسلام قضيّة حقوق الإنسان، فيما يتفوّق بما لا يقبل قياساً
على كلّ ادّعاءات الغربيين، ووثائقهم، ومعطياتهم بهذا الخصوص؟
بل إنّ هناك ما هو أدعى للدهشة
والتقييم.. ذلك أنّ الإسلام من بين كلّ المذاهب والدعاوى الأخرى، سعى بالجدّ
الصارم، إلى حماية حقوق الإنسان (الغائب).. سواء كان غائباً عن (الآخر)، أو غائباً
عن الحياة الدنيا.. فهو في الحالتين يعرف كيف يحميه، ويحفظ حقوقه النفسية والمادية
على السواء..
وإلاّ فأيّ دين أو مذهب في العالم،
يحمي ظهر الإنسان من كلّ محاولات الاختراق التي لا يملك القدرة على حماية حقّه في
الدفاع عن نفسه إزاءها.. إن الحرب التي يعلنها الإسلام على الغيبة والحسد والظن
السيّئ، لهي حالة نادرة في تاريخ العقائد والمذاهب والأديان، يتفرّد بها هذا
الدين، ويضيف بها إلى منظومة حقوق الإنسان المتعارف عليها مفردات لا تكاد تمسّها
المذاهب الوضعية من قريب أو بعيد.. وبموازاة هذا، كلّ صنوف الابتزاز والظلم التي
يمكن أن تلحق الإنسان، وجهاً لوجه، أو من وراء ظهره، والتي يشهر الإسلام الحرب
عليها بلا هوادة.. والدائرة تتسع، والمجال يضيق عن سرد مفرداتها، التي تتضاءل
إزاءها دعاوى المذاهب الوضعية بخصوص حقوق الإنسان.
ففي هذا الدين تمضي حماية هذه
الحقوق إلى ما وراء الموت.. ويجد الموتى أنفسهم ـ إذا صحّ التعبير ـ إزاء شبكة من
التشريعات التي (تحميهم) من كل صنوف الغدر والأذى والابتزاز، بل والمتاجرة الرخيصة
بأعضائهم، فضلاً عن إحاطتهم بكل صيغ التقدير والاحترام.
ويكفي أن نتذكّر كيف أنّ نظم
الميراث في الإسلام، هي نوع من حماية حقّ الميّت بعد وفاته، وأنّ يوم الحساب، حيث
تقام الموازين القسط لإنصاف المظلومين، والقصاص من الطواغيت والظالمين، هي حماية
أخرى لهذا الحقّ، الذي يمنح الوعد الصادق للموتى بالمحكمة العادلة، التي تردّ الحق
الضائع في الدنيا إلى أصحابه الحقيقيين.
وصدق الله العظيم القائل في محكم
كتابه:]الْيَوْمَ
أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ
الإسلام دِينًا[([2])..
وبارك الله في الأخ الأستاذ (دحّام)، الذي أتقن العمل في إعداد هذا الكتاب، ملبيّاً
نداء المعلم الكبير (صلى الله عليه وسلم): (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن
يتقنه)([3]).
الهوامش:
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق