أ. د. كونراد هيرشلر
مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية - جامعة لندن
ترجمة: أ. د. ناصر عبد الرزاق الملا جاسم
كلية الآداب - جامعة الموصل
تقدّم
هذه المقالة نظرات في مفهوم الـ(كتاب) في العصور الوسطى بين القرنين (5هـ/11م –
بداية 10هـ/16م). فهي تناقش، استناداً إلى فهرس لمكتبة دمشقية تعود إلى القرن
السابع الهجري/ القرن
الثالث عشر الميلادي، الكيفية التي واجه فيها المعاصرون
آنذاك، التحدي المتمثّل بتحديد ما هو المقصود بالكتاب. ويقودنا التركيز على القسم
المتعلّق بالمخطوطات المركبّة (أيْ: المجاميع) إلى مسألة أن صاحب هذا الفهرس
التوثيقي قد استخدم تعريفين للكتاب لا يمكن التوفيق بينهما البتّة: الكتاب بوصفه
وحدة نصيّة قائمة بذاتها (متّخذاً من العنوان معياراً رئيساً)، والكتاب وفقاً
لشكله المادي. وتوضّح عمليات الفهرسة التي التجأ إليها هذا الكاتب، الطبيعة
الفضفاضة لما كان يعرف بالـ(كتاب) في المرحلة الزمنية الوسيطة، التي تنحصر بين
حقبة التكوين الإسلامي (القرون: من الأوّل إلى الرابع للهجرة/ السابع إلى العاشر للميلاد) والعصور الحديثة.
في زمننا
هذا الذي فَقَدَ فيه الكتاب، بوصفه كياناً مادياً ذا نصّ ثابت، مكانته لصالح الملفّات
الرقميّة ذات التنسيقات النصيّة الأكثر مرونة، يبدو لزاماً علينا أن نشرح ما هو
مفهوم (الكتاب) في زمن ثقافة المخطوط، التي تنتمي لمرحلة ما قبل الطباعة([1]).
فقد كان وجود تعريف موحّد للكتاب في العصر الوسيط أمراً بعيد المنال، مثل أيّ
محاولة للإمساك بالدخان، كما يقول المثل([2]).
تتناول
المناقشة الحاليّة مثالاً محدّداً، هو (فهرست) يعود إلى التاريخ الوسيط، ننطلق منه
لمعالجة إشكالية مفهوم الكتاب العربي. وتأتي عملية اختيار العصر الوسيط، في سياق
التقسيمات الزمنيّة التي وضعها البحث العلمي الحديث للتاريخ الثقافي الإسلامي،
الذي حدّد - كما هو الحال في العديد من المجالات الأخرى - مرحلتين تقليديتين
للدراسات التاريخية للشرق الأوسط، هي: المرحلة التكوينيّة للإسلام، وتمتدّ حتّى
القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي، ومرحلة العصر الحديث، التي تبدأ بالقرن
التاسع عشر وتمتدّ حتى الآن. أمّا المرحلة الوسيطة، التي تقع بين المرحلتين
السابقتين، فقد ظلّت مهملة في معظم المناقشات التي تناولت تطوّر الكتاب العربي بين
المرحلتين (الكلاسيكية) و(الحديثة). ونتيجة لذلك، لم تحرص الدراسات المرجعيّة،
التي تناولت مفهوم الكتاب في البلاد الإسلامية، كثيراً، على الحديث عن القرون بين
الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي/ والعاشر الهجري / السادس عشر الميلادي([3]).
لقد ركّزت المناقشات التي عرّجت على المرحلة الوسطى، مثل كتاب (بيدرسن): (الكتاب
العربي)، وكتاب (روزنثال): (عن صنع الكتب: لا نهاية لذلك)، على مرحلة
التكوين، وطبّقت – بثقة - مفهوماً واحداً للكتاب لمرحلة امتدّت لنحو ثمانية قرون
(من القرن الثاني الهجري/ الثامن الميلادي، إلى القرن الثامن الهجري/ الخامس عشر
الميلادي)([4]).
إن
دراسات من قبيل تلك التي قدّمها كل من (طونتر)، و(توراوا)، و(تواتي)، على سبيل
المثال، إذا اكتفينا بذكر الأحدث فقط، ناقشت بالتفصيل التطوّر التدريجي لـ(الثقافة
الكتابية) - وفق مصطلح توراوا - فيما يخصّ القرون الإسلامية الأولى، ولا سيّما في
تداخلها مع العمليات الشفاهية والسمعية([5]).
وكتاب (شولر) ذو أهميّة خاصة للمناقشة الحالية، لطالما أنه أبرز الطبيعة الفضفاضة
للنصوص أثناء المرحلة التكوينية، وذلك عن طريق التمييز بين الـ hypomnema، أو الكناش،
والدفاتر، والسجلات المكتوبة، التي لم تكن مخطوطات مستقلّة، من جهة، وبين الكتب
ومخطوطات الكتب الفعلية syngramma التي تتوخّى التداول العام([6]).
وعلى
النحو نفسه، كان لهذه المناقشات التي تناولت الأنماط المختلفة للنصوص المكتوبة
خلال العصور الإسلامية الأولى، ما يناظرها في الأبحاث التي درست الاستقدام
التدريجي للطباعة في البلدان الناطقة بالعربية، منذ القرن الثامن عشر فصاعداً. وقد
أثار التغيّر في الشكل الماديّ للكتاب، تأمّلات بشأن ماهيّة الكتاب المخطوط([7]).
من
النظرة الأولى يتّضح أنّ مسألة ماهيّة الكتاب في العصور الوسطى لم تكن قد أثارت أيّ
تساؤل آنذاك، لأنّ مصطلح الكتاب -
كما استخدمه المعاصرون - يدلّ بالنتيجة - أنّى ورد - على الكلمة المكتوبة. ومع
ذلك، إذا انتقلنا إلى سرديات تلك العصور، سنرى أن هناك مجموعة متنوّعة من المفاهيم
للدلالة على أنماط النصوص المختلفة. وهذه المفاهيم لا تنسجم بسهولة مع الفهم
المتعارف عليه للكتاب. وعلى سبيل المثال، استخدم المؤلّفون في وصف الكتب المندرجة
ضمن مجاميع، تعابير من قبيل: كتاب، أو: جزء، أو: مجلّد.
والمصطلحان الآخران ليسا فقط وصف لمجلّد، أو لقسم من كتاب أطول، ولكن يمكن أيضاً
أنْ يشيرا إلى كرّاسة منفصلة (أحياناً تجلّد لوحدها)، أو تكون واحدة من عدّة
كراريس وردت في مجلّد واحد لا يجمع بينها جامع([8]).
هذا التمايز، لا سيّما في ثقافة لديها نماذج متنوّعة ومتوارثة من النصوص، يثير
عدداً من الأسئلة فيما يتعلّق بوضع المخطوط بوصفه كتاب، أو كرّاس، أو مجلّد. أو ما
هي طبيعة الحدّ الفاصل بين الكتاب القصير والجزء؟ وكيف تعامل المعاصرون مع
المجاميع التي يمكن أن تحتوي على أيّ شيء يتراوح بين المقتطفات الموجزة و(الكتب)
المكتملة؟ إلى أيّ مدى نظر المعاصرون إلى الأعمال ذات المجلّدات المتعددة،
والعنوان الواحد، بوصفها كتاباً واحداً؟
من أجل
تناول هذه الأسئلة، تتّجه المناقشة التالية إلى فهرس لمجموعات من الكتب، إذ يوفّر
رؤى فريدة من نوعها تجاه مواقف المعاصرين، وفهمهم لما كان عليه الكتاب. الفهرس
المكتشف مؤخّراً هو لمكتبة وقفيّة محليّة من مكتبات دمشق، وهو أقدم فهرس كامل
معروف لمكتبة عربيّة، وبالتالي سيمثّل مدخلاً مناسباً تماماً لموضوعنا([9]).
يوثّق
هذا الفهرس المكتبة الصغيرة للتربة الأشرفيّة، التي تقع بالقرب من المكان الذي وسّد
(صلاح الدين) في المدينة، إلى الشمال من الجامع الأموي([10]).
فقد أوقف الحاكم الأيوبي الملك الأشرف بن العادل (ت 635ه/1237م) هذه المدرسة، أمّا
المكتبة فهي وقف لأحد أفراد علية القوم من أهل العلم([11]).
ليس هناك
تاريخ معيّن لتكوين هذه المكتبة، ولكن الأدلّة الداخلية، ولا سيّما عدم وجود كتاب
يعود إلى تاريخ لاحق، يشير إلى أن اكتمال الكتب قد جاء بعد فترة وجيزة من تأسيسها،
في منتصف القرن السابع الهجري / الثالث عشر الميلادي. ويتّسم هذا (الفهرس) بالروعة،
لأنه - في المقام الأوّل - لا يشير إلى واحدة من المكتبات المرموقة الواسعة التي
أسّسها أحد أفراد البيت الأيوبيّ الحاكم.. بدلاً من ذلك، إنه يعطي نظرة عن مكتبة
صغيرة نسبياً في مؤسسة متواضعة إلى حدّ ما، مثلها مثل عشرات غيرها في مدينة مثل (دمشق).
ولكونها مجرّد مكتبة عاديّة، اكتفى بذكرها كاتب معاصر واحد فحسب([12]).
وعلى النقيض من (مكتبة الصولي)، والتي تحدّث عنها المؤرّخون، وغاب عنا فهرسها·، تأتي معلوماتنا عن مجموعة الكتب هذه بصورة
معكوسة تماماً (أيْ: ضاع ذكرها، وبقي فهرسها).
حدّد
صاحب الفهرس هدفه بشكل لا لبس فيه في العنوان: (فهرس كتب الخزانة الأشرفية)([13]).
وهو يتبنّى طريقة منظّمة جداً لترتيب المداخل، التي يمضي بها على امتداد أوراق
الفهرس، أو على الأقلّ يبدو أنه قام بذلك. المستوى التنظيمي الأوّل لعملية الفهرسة،
هو الترتيب الألفبائي للعناوين من الألف
إلى الياء. وتحت كلّ حرف هناك مستوىً ثان من التنظيم، قائم على تقسيم فرعي
لكلّ مدخل، حسب الحجم، إلى نوعين: (عادي) و(صِغار). وتمّ اتّباع هذا التمييز، لأنه
يعكس الترتيب على الرفوف حسب الشكل. وثمّة شواهد معاصرة من المكتبات تظهر بوضوح أنّ
الرفوف نظّمت وفقاً لحجم المخطوط([14])·. وهناك مستوى تنظيمي ثالث، يتفرّع عن هذه
التقسيمات الستة والخمسين (الحروف الثماني والعشرين بتقسيمين حسب الحجم)، يأتي حسب
الموضوع.
بالنسبة
لهذا المستوى الثالث، يقدّم كاتب الفهرس خمسة عشر فئة مواضيعيّة؛ على سبيل المثال:
الفئة الثالثة هي للشريعة الإسلاميّة، والتاريخ هو الفئة الخامسة، والعاشرة تصنّف
للصيدلة والدواء. وهكذا، فإنّ من المحتمل أن يكون لكلّ مدخل ثلاث درجات للتصنيف
حسب: الحرف / الحجم / الموضوع. ومثال ذلك أنّ الرمز أ / ص/3 يرمز إلى كتاب يبدأ
بحرف الألف، وهو صغير الحجم، وفي تخصّص الشريعة الإسلامية.
يقدّم
هكذا ترتيب للفهرس فهماً غير معقّد لما يقصد بالكتاب، فهو عنوان مدخل خاص به. ومع
إنّ الكثير من هذه العناوين تتألّف من عدّة مجلّدات، إلا أن ذلك لم يؤخذ بنظر
الاعتبار في تصنيف الكتب في المكتبة. في الأجزاء الأولى من الفهرس يتمّ تبنّي
ترقيم معيّن، يقوم على وضع رقم معيّن بعد العديد من المداخل، للدلالة على عدد المجلّدات.
ثم تمّ التخلّي عن هذا النظام بعد الأوراق الأولى، ودون تنبيه. وبالنتيجة، كان
التعريف الضمني للكتاب في هذا المشروع، أنّه: نصّ بمجمله يمتلك عنواناً محدّداً،
بغضّ النظر عمّا إذا كان يتألّف من مجلّد واحد، أو عدة مجلّدات. ووفقاً لذلك، عزم
كاتب الفهرس على إعطاء مدخل إضافي لكلّ نسخة إضافية من العنوان نفسه. على سبيل
المثال، تحت حرف (أ) يعدّد (الأذكياء) لابن الجوزي / نسخة ثانية، (الأمثال
والأحكام) للماوردي / نسخة ثانية/ نسخة ثالثة([15]).
لكنه يتخلّى بعد بضع ورقات عن هذه الطريقة، لأنّ النسخ المتعدّدة، ولا سيّما فيما
يخصّ الأعمال الشعرية، يمكن أن تصل إلى أكثر من خمسة عشر نسخة للعنوان الواحد، ممّا
يجعل منهجه مرهقاً جداً، فيختصر، بدلاً من ذلك، التعريف بالقول: "شعر سلامة
بن جندل خمسة عشر نسخة"([16]).
ومع ذلك،
أوجد نظام الفهرسة الذي بين أيدينا، القائم على عنوان واحد لكلّ نصّ، تحدّيات
جوهرية أكبر مما يبدو عليه ضمناً.. فهناك حالتان في هذا الفهرس تؤدّيان إلى انفراط
عقد الطريقة التي اتبعها انفراطاً تاماً، وذلك عندما حاول المفهرس استيعاب أعمال
لا يمكن أن تدمج تماماً ضمن تعريفه الذي يستند إلى المحتوى: الحالة الأولى، هي في
الحرف (ميم)، عندما تناول المفهرس المجلّدات المركبّة (أيْ: المجاميع).
والحالة الثانية، هي في الجزء الأخير من الفهرس الذي أفرده للمخطوطات، التي أطلق
عليها تسمية (المخاريم).. ففي كلتا الحالتين أصبحت وظيفة هذين القسمين أكثر
تعقيداً من مجرّد فرز وتجميع المخطوطات، التي كانت إمّا بصيغة مجاميع، أو مخاريم
غير مكتملة.. فقد وجدنا أيضاً مخطوطات أخرى لـ(المجاميع)، وكذلك لـ(المخاريم)، موزّعة
في مواضع أخرى من الفهرس، ورتّبت وفق المستويات الثلاثة المشار إليها سابقاً.. لقد
أدرج الكاتب - على سبيل المثال- مجموعة من الخطب تحت الحرف (خاء)، وعدداً من
المجاميع الشعرية تحت حرف (الشين)، رغم أنه في الحالة الأخيرة وضعها في نهاية
القسم الخاص بالحرف، بما يؤشّر - مرّة
أخرى - عدم يقينه من المكان الذي ينبغي أن يوردها فيه([17]).
وفضلاً
عن ذلك، أدرجت بعض المجاميع تحت الحرف (ميم)، لكنها صُنّفت خارج القسم المخصّص لها
(أيْ: قسم المجاميع).. فالمدخل الخاص بكتاب يحمل عنوان (مجموعة المشكلات الفقهية)،
على سبيل المثال، تمّ وضعه في خانة الحرف ميم، وفي قسم (الحجم العادي)، وضمن الفئة
الثالثة (الشريعة الإسلامية)([18]).
وثمّة مدخل آخر، يتمثّل بعمل لـ(جالينوس) عن الفصد، صنّف تحت المجلّدات ذات الحجم
العادي، في الفئة العاشرة (الصيدلة / الطب)([19]).
لذا، فإنّ قسمي المجاميع والمخاريم ليسا ببساطة التصنيفين الرسميين، حيث توضع
تحتهما كلّ المخطوطات التي تعرّف بوصفها مجاميع أو مخاريم. لا، بل إنهما يتضمّنان
أيضاً أعمالاً استعصى، بطريقة أو بأخرى، إدراجها في تصنيف الأقسام الثلاثة الرئيسة
للفهرس (أيْ: الحرف، الحجم، التخصّص). ومن الناحية العددية، يحتلّ قسما المجاميع
والمخاريم الجزء الأكبر من الفهرس، إذ يشغل القسم الأول (المجاميع) أكثر من عشرة
صفحات، من بين ثمان وأربعين صفحة، هي صفحات الفهرس، بينما استغرقت المخاريم ست
صفحات. وبعبارة أخرى: إنّ نحو ثلث الفهرسة يتملّص فيه صاحب الدليل من استخدام
التعريف الذي يستند إلى محتوى الكتاب([20] ).
واستنتاجي
هو أن اليقين الأوّلي للكاتب، فيما يتعلق بمشروع إنتاج فهرس لـ (كتب) هذه المكتبة،
قد تعثّر عندما جابهته مجموعات الكتب. وكان استحداثه أقساماً خاصة بالمجاميع
وبالمخاريم، محاولات يائسة لترويض مواد يصعب عملياً وضعها في قائمة منظّمة مرتكزة
على تعريف ثابت للكتاب. لتوضيح هذه النقطة سوف أقصر حديثي على القسم الخاص
بالمجاميع، الذي يمثّل بمجموعه 172 مدخلاً، وبما يزيد على 500 عنوان: السمة الأولى
لهذا القسم، هو أنه لم يحدّد صراحة أنه قسم واحد، على النقيض من جميع الأقسام
الأخرى لهذا الفهرس. لقد بدأ الكاتب عمله في الفهرس حسب تسلسل الحروف، وإذا وردت
مجاميع أو مخاريم كان يضمّنها بصورة منتظمة ضمن الحروف وفقاً لفهرسه، لكنّه وعند
نقطة معينة، بدأ فجأة يقتصر على إيراد مداخل خاصة بالمجاميع فقط دون غيرها، ودون
أن ينبّه إلى ذلك بوضوح، وبأيّ طريقة، بما يجعلني أتصوّر أنها تمثّل بداية قسم
المجاميع([21]).
وتختلف نهاية هذا (القسم) فقط من خلال حقيقة أنه يعود عندما يصل إلى حرف الـ(نون)،
إلى طريقته القياسية التقليدية التي سار عليها في بداية الفهرس. واللافت أن هذا
الانقسام في نظام الفهرسة، ينعكس أيضاً في أسلوب ترتيب مخطوطة الفهرس، وكذلك في
طبيعة الخط: فالأجزاء السابقة من الفهرس (أيْ التي سبقت فقرة المجاميع)، كتبت بخط
أنيق للغاية، مقروء بسهولة، مع عناوين واضحة للتقسيمات، فضلاً عن ترك مسافات
مناسبة تفصل بين المداخل.. ومن الواضح أن الكاتب بذل عناية فائقة لفهرسة هذه
المجموعة في شكل نصّي مناسب.. لكنّه عندما يصل إلى قسم المجاميع، يطرأ تحوّل في
طريقة الكتابة، إذ يصبح متسرّعاً في الكتابة، وتغيب عناوينه، وتتقلّص المسافات
المتباعدة، ويبيت النصّ أكثر كثافة وتزاحماً، وتتداخل الكلمات مع بعضها البعض..
ولكن مع بداية الحرف (نون)، تعود الكتابة والنصوص إلى وضوحها السابق، وربّما يعبّر
ذلك عن ارتياح الكاتب لعودته إلى شواطئ أكثر أمناً.
إن تضمين
هذا القسم المخصّص للمجاميع، لمخطوطات تحدّت منطق الفهرسة، القائم على التعامل مع الكتب
بوصفها كيان نصّي بذاته، له عناوين أكثر وضوحاً أو أقلّ، يتجلّى أيضاً في
تضاؤل الترتيب وفق المستوى المواضيعي. فبعد أن التزم المفهرس، كما هي العادة،
بالترتيب وفق الفئات الخمس عشرة الأولى من المخطوطات العادية الحجم ضمن الحرف (ميم)،
تحوّل - كما هو الحال مع جميع الحروف الأخرى - إلى المجموعات الصغيرة الحجم
للمكتبة. ومع ذلك، فقد أخذ الترتيب السابق (تحت هذا الحرف) بالاضمحلال تدريجيّاً
مع هيمنة المجاميع بصورة متزايدة. ففي الفئة الثالثة، المخصّصة عموماً للشريعة
الإسلامية، نجد الآن عناوين لا صلة لها بهذه الفئة، كتلك التي تتعلق بمجال الشعر،
من قبيل: أسئلة للمتنبـي فيما يتعلّق بشعره، ومختارات من كتاب ابن المعتز: طبقات
الشعراء، والشعر للشاعر الإسلامي ذو الرّمّة([22]).
أمّا الفئة الخامسة - إذا استشهدنا بمثالٍ ثان - التي تتضمّن عادة أعمالاً تاريخيّة،
فنجد تحت الحرف نفسه (الميم)، مواداً مثل: مجموع الشعر والأخبار لشاعر مجهول([23]).
وقد حاول الكاتب - على الأقلّ – ضمان
بعض الصلة بين فئتي التاريخ والشعر، من خلال إيراد أشعار المديح التي تخصّ مختلف
الحكام الأيوبيين.
لكن،
وبعد هذه المحاولات للحفاظ على التنظيم المتّبع، خارت جهوده، ففي الصفحات العشر
التي تشكّل قسم المجاميع، اكتفى بإيراد ثلاثة فئات: (السابعة، الثامنة والتاسعة).
وفي هذا تناقض حاد مع الأقسام المعيارية للفهرس، حيث تتضمّن الصفحة الواحدة ما يصل
- بسهولة - إلى عشرين أو أكثر من الفئات.
وكان
الكاتب غير متيقن بشكل واضح من الاستراتيجية الأمثل للتعامل مع هذه المجاميع. فهو
لم يفرد لها قسماً واضحاً ومستقلاً خارج تقسيمه الأبجدي، بما يكسبها هويّة خاصّة
بها، ولم يكن بمقدوره دمجها، بالمقابل، في نظام الفهرسة القائمة. بدلاً من ذلك، اختار
المضيّ في تنظيمه المخطّط له، والذي بات في هذه المرحلة محض وهم، والعمل - بالتالي
- على الالتفاف على التحدّي الذي يشكّله عدم تجانس المواد التي بين أيديه.
عناوين
الفئات الثلاث: (السابعة، الثامنة، التاسعة)، التي تندرج تحتها المواد في هذا
القسم، ليس لها إلا صلة واهية بالمحتوى الفعلي للمخطوطات المتضمّنة. وهذا أيضاً
تناقض تامّ مع بقية الفهرست، حيث أنّ الصلة بين الموضوع والعنوان عموماً على تقارب
معقول. وفضلاً عن ذلك، في هذا القسم تخلّى المفهرس عن نظامه القائم على فرز
المخطوطات وفقاً للحجم. فمن غير المرجّح بتاتاً أن تكون جميع المداخل المدرجة على
هذه الصفحات، هي من الحجم الصغير، كما يزعم الفهرس.
وقد مثّلت
هذه المجاميع، إذا قورنت بالنصّ الطبيعيّ الواحد ذي العنوان الفرد، تحديات كبيرة
حقاً. على سبيل المثال، في إطار الفئة التاسعة، حيث كنّا نتوقع عادة إدراج مخطوطات
تخصّ الفلك / التنجيم، وتفسير الأحلام، هناك مخطوطة مجموع تشمل، من بين أمور أخرى،
الأعمال التالية: (1) قصيدة ابن دريد (ت 321ه/933م) عن الكلمات التي تنتهي
بالألف(2). رسالة في اللحن، منسوبة لابن جنّي (ت 392ه/1002م)(3). رسالة في الحديث،
لابن شاهين (ت 385ه/995م)(4). رسالة عن صلوات التراويح في رمضان(5). رسالة في
العروض(6). مجموعة ابن فارس (ت 395ه/1004م). مجموعة من الأحاجي القانونية، التي
تبنى على معنى نادر للكلمة(7). مجموعة مختارة من مقاطع من العمل نفسه(8). أخبار
تاريخية(9). مؤلّف للزجّاج (ت 311/923) في فقه اللغة والمعاجم عن المصطلحات
العربية عن تشريح الإنسان(10). رسالة للرمّاني (ت 384/994) النكت في إعجاز
القرآن(11). خمس أمالي للأحاديث، من قبل أبي طاهر السلفي (ت 576/1180)([24]).
ومع أن المفهرس قد استوعب بالفئات الخمسة عشر، التي اعتمدها، مختلف الموضوعات، إلا
أن الطبيعة المركّبة للمجاميع أفشلته تماماً.
وتصبح
هذه المجموعة الشاملة من المواد، التي كان الكاتب قد جمعها في هذا القسم، أكثر
وضوحاً بكثير عندما نرجع إلى عدد من المجاميع: ففضلاً عن شعر ما قبل الإسلام،
والشعر الإسلامي المبكّر، وكذلك الأعمال اللغوية (وهما القسمان المفضلان بدرجة
كبيرة لدى مؤسّس المكتبة الأشرفيّة، مقارنة بجميع الأقسام)، نجد هناك - على سبيل
المثال - وصايا علي بن أبي طالب لابنه الحسين، ووصايا الملك الساساني أردشير لذريّته
/ ابنه سابور، ورسالة للخوارزمي من القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي/ في
تصنيف العلوم، ومقال عن ضرب الرمل، ورسالة يونانيّة طبيّة عن الموت، ومجموع عن
التمائم والتعويذات، ومقال عن مزايا الخيول، وفقرات مختارة عن الفقه، تليها قصيدة
عن عدد من الآيات والمواعظ القرآنية والشعر، باللغة الفارسية، ورسالة في الدواء من
القرن الرابع / العاشر الميلادي/ كتبها الرازي الطبيب، وشعر للغلمانيات لأبي نواس،
وكتاب عبد الله بن المقفّع في مرايا الأمراء([25]).
وكانت
مشكلة مفهرس المخطوطات أنه بدا واثقاً بأن ما يقدّمه هو (فهرست لكتب المكتبة
الأشرفيّة)، وأنّ الترتيب الذي تبنّاه في كتابه استند إلى فهم فحواه: أنّ الكتاب
هو وحدة نصيّة يمكن تصنيفها وفقاً لعنوان محدّد.. وفي البداية، كانت هذه الطريقة
مناسبة تماماً، وكما رأينا لم يكن يعنيه في البداية فيما إذا كان الكتاب في مجلّد
واحد، أو من عدة مجلّدات. ثم تخلّى بعد الصفحات الأولى عن توثيق أعداد المجلّدات،
لكن ذلك لم يكن تغييراً كبيراً بحيث يقوّض ترتيب الفهرست الأساسي، أو التعريف
المتضمّن للكتاب. وكانت أهميّة الشكل الخارجي للمخطوط تتمثّل فقط عند تناول موضوع
حجمها، فأصبح ذلك بمثابة المستوى الثاني في ترتيب الفهرس. ومسألة الحجم غير وثيقة
الصلة بمناقشتنا.
ومع ذلك،
فإن هذا التنظيم المبسّط، القائم على تعريف الكتاب استناداً إلى نصّه، ضرب عرض
الحائط مع مضيّ المؤلف في فهرسه، إذ كان من المتعذّر تطبيقه على نحو ثلث الفهرس.
لقد أصبح الترتيب الألفبائي غير ذي نفع عند هذه النقطة، لأنه لا يتيح لمستخدمي
الفهرس الوصول إلى نصوص معينة. أمّا التقسيم حسب الفئات المواضيعية، فمن المستحيل
تطبيقه على هذه المواد. وحتى التقسيم القائم على التمييز بين العادي/ الصغير توقّف
في منتصف الطريق. وقد تبنّى الكاتب تعريفاً جديداً للـ(كتاب)، يستند إلى الشكل
الماديّ. وبعبارة أخرى: كرّس مدخلاً مستقلاً لكلّ مجموعة أوراق مرزومة معاً، بغضّ
النظر عن العناوين المتضمّنة في المجلّد المرزوم، أو موضوعاته. هذا التحوّل إلى
التعريف حسب الشكل، واضح أيضاً في حيرة الكاتب عندما يقطع وصفه لمحتويات المجلد
بجملة مختصرة، هي: "وغيرها (النصوص) أيضاً"([26]).
ومن الواضح، أن همّه الأساسي في هذا القسم هو الشكل الماديّ للكتاب، وأنّه تمكّن
بالتالي من الالتفاف على المعضلة الشاقّة المتمثّلة بالتصنيف حسب المحتوى، وهو
النهج الذي سيكون غير مقبول لو التزمه في
الأقسام الأخرى من الفهرس.
لقد سمح
هذا التحوّل في التعريف للمفهرس، بالحفاظ على مشروعه بإعداد فهرس منتظم، مدخلاً
بعد مدخل. في الأساس، هذا المزج بين التعريف القائم على المحتوى، وذلك القائم على
الشكل، أمر لا يمكن الدفاع عنه.. ويمكن القول إنّ تغيّر أسلوب الكتابة، وطريقة
ترتيب الفقرات، إنّما يعكس شعور الكاتب نفسه بعدم الارتياح تجاه الحلّ الذي قدّمه.
ومع ذلك، فقد كان حلاً مفيداً لتسوية مصاولة هذا الكاتب، من أجل العثور على نظام
يعتمده لتصنيف مجموعة من (الكتب) لا يجمعها تعريف واحد. لم يكن الكاتب قادراً على
الإمساك بالدخان، لكنّه كان قادراً - على الأقلّ - على استخدام مراوغة التعريف
لفائدته الخاصة، وللحفاظ على وهم نظام فهرسة موحّد، لمواد غير متجانسة وجدها على
الرفوف.
الإرث
الرئيس لهذا الكاتب من القرن السابع/ القرن الثالث عشر/ وممارساته في الفهرسة،
تتمثّل بتذكيرنا بأن مصطلح (الكتاب) كان أبعد ما يكون عن امتلاكه تعريفاً ثابتاً.
وهذا الأمر لا يقتصر على الفترة التكوينية (القرون: الأوّل إلى الخامس) فحسب، ولكن
أيضاً يشمل القرون اللاحقة. ومع أن مصطلح الكتاب لا يمكن أن يعني الشيء نفسه لجميع
النّاس، إلا أنّه كان من الممكن أن يعني - على الأقلّ - أشياء مختلفة تماماً
لأولئك الذين يتعاملون مع الكلمة المكتوبة، في هذه المرحلة من مراحل ثقافة المخطوط
العربي.
الهوامش:
([2]) تتضمن إشارة المؤلف (كونراد) الأصليّة إلى تشبيه (مارتن
لوثر) لـ(ايرازموس) بأنه شخص مثل ثعبان البحر لا أحد يستطيع القبض عليه. وقد
استأذنت المؤلف في استبدال هذا التشبيه بالتشبيه أعلاه، لأنّه يؤدّي الغرض نفسه (
المترجم).
B. Messick, The Calligraphic
State and M. Kunt ‘Reading Elite, Elite Reading’.
([10]) فهرس الخزانة القطبية الأشرفية، فاتح 5433، اسطنبول،
المكتبة السليمانية، الأوراق، 246v-270r . ذكر هذا الفهرس باختصار في كتاب
(صلاح الدين المنجد): قواعد فهرسة المخطوطات العربية (20-21)، ويشار أيضاً:
A. Gacek, ‘Some Remarks’, 173
R.
Şeşen, Salahaddin'den Baybars'a, 336
وأنا أعمل
على تحقيق هذه المخطوطة، مع ترجمتها والتعليق عليها.
الذهبـي،
تاريخ الإسلام، م47 (للسنوات 641-650) الصفحات: 149-50.
· يقول (ياقوت الحمويّ) في وصف
(مكتبة الصولي): "كان لأبي بكر الصوليّ خزانة أفردها لما جمع من الكتب
المختلفة، رتّبها فيها أجمل ترتيب". ياقوت الحموي، إرشاد الأريب إلى معرفة
الأديب، تحقيق: إحسان عباس (بيروت: دار الغرب الإسلامي، 1993)، ج6، ص 2677.
· ما يقصده مؤلف البحث (كونراد هيرشلر) هو الصورة التي
وردت في مخطوط باريس لمقامات الحريري، في المقامة الثانية، أيْ المقامة الحلوانية،
وهي لمكتبة بصريّة. وقد ارفقتُ الصورة المذكورة في نهاية البحث (المترجم).
([25]) نفسه، الورقة 260يسار: وصية علي بن ابي طالب لولده
الحسين رضي الله عنهما، الورقة 261: يمين عهد أردشير،261 يمين: مفاتيح العلوم، 261
يسار: سرّ الصناعة في الرّمل، الورقة 262 يمين: علامات الموت، الورقة 262 يمين:
مجموع عُوَذ وحُروز، الورقة 262 يمين: مجموع فيه الخيل وفضلها، الورقة، 263 يمين:
مجموع بعض مختار فقه وقصائد في أدب آي القرآن ومواعظ، الورقة 263 يمين /264 يمين:
أشعار بالأعجمي، الورقة 263 يمين: مجموع للرازي إبدال الأدوية[...
] الورقة 163 يسار: خمريات
أبي نواس، الورقة 264 يمين: أدب الوزراء.
شكرا جزيلا على النشر ،، مجلتكم النافذة الرصينة التي نطل بها على العالم الاكاديمي
ردحذف