عبد الباقي يوسف
يقول الله تعالى (عزّ شأنه): [قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ
كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُواْ
يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ
عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ] سورة الأنعام، الآية 31.
التحذير الإلهي هنا لأهل العِناد والاستكبار: أن اعلموا
أنه: [قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ] الخسارة الجسيمة التي لا
تعويض لها، وأنكم سوف تُمنَون بذات الخسارة إنْ سلكتم نهجهم.
الإنساني، يستحلّون أعراض، وأموال، ودماء الناس، يبثّون الفتن، يُطلقون الإشاعات، فكلّ ما فيهم أذى في أذى.
[حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمُ السَّاعَةُ] ساعة الحِساب يوم
القيامة [بَغْتَةً] فجأة، وفي ذروة هول هذه المباغتة التي ستضعهم في مواجهة
أعمالهم: [قَالُواْ يَا حَسْرَتَنَا].. الحسرة هنا بمعنى الندم الشديد على عدم فعل
عمل من باب الاستهتار، وكان بالمستطاع فعله، فيتحوّل الندم إلى حسرة في القلب.
فالحسرة تنتج عن التفريط، والذي يكون قادراً على
التفريط، يكون قادراً على عدم التفريط، لكنه يجنح إلى التفريط استهتاراً ولا
مبالاةً [قَالُواْ يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا].. أيْ في
حياتنا.. والتفريط هنا بشرع الله، فلم يكونوا وقّافين عند حدود الله تعالى، بل
كانوا معتدين على هذه الحدود.. وللتفريط فروع، مثل التفريط بالصحة، فيستهلك المرء
صحته بالأهواء.. والتفريط بالمال، فيبذّر ماله دون طائل.. وفي العلاقات
الاجتماعية، فيفسد كلّ علاقاته مع الآخرين.. والتفريط بالسمعة، فيسيء إلى سمعته
بالمجون.. ولكلّ تلك الفروع عواقبها وآثارها على الإنسان.. لكن التفريط الأكبر
يكون في الدين.
[وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ
أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ]، وهذا مشهد تصويري يحفّز مخيّلتك على التصوّر استناداً
إلى إخبار الله.. والأوزار، جمع وز، وهو الذنب، فكما أن أهل الجنة تحملهم صالحات
أعمالهم إلى درجات الجنّة، لأنهم كانوا يحملون، ويتحمّلون مشقّة الطاعات،
والإحسان، والإنفاق في سبيل الله، بكلّ ما يستطيعون من طاقات الصبر، وكظم الغيظ..
فهذه الأعمال الصالحة، حان وقتها الآن كي تكافئهم بأمر الله، فيجنوا الحصيلة..
فكذلك أهل النّار، يمضون في أفواج، [وَهُمْ] يرزحون تحت أثقال [أَوْزَارَهُمْ]
التي يحملونها [عَلَى ظُهُورِهِمْ] إلى دركات النار.
من هنا يمكنك معرفة أن الوزر، هو الذنب الثقيل، وكان
يمكن أن تكون كلمة الذنب بدلاً عن الوزر، لكن جاء الوز، لثقل الذنب وعظمته.
وفي الآية التي تليها، يقول تعالى: [وَمَا الْحَيَاةُ
الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ
يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ] سورة الأنعام، الآية 32.
بَيّن الحقّ سبحانه وتعالى بأن [الْحَيَاةُ الدُّنْيَا]
هي [لَعِبٌ وَلَهْوٌ] مقارنة بالدار [الآخِرَة] التي هي [خَيْرٌ] من لعب الدنيا
ولهوها [لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ].. واللعب مهما طال أمده، فلا بدّ أن ينتهي، ومهما
طال أمد اللهو بإنسان، فلا بدّ له من نهاية.. ولذلك فعلى الإنسان أن لا يعقد الآمال
الكبرى على أمر زائل، بل يتّخذ من حياته الدنيا وسيلة لفعل الخير، والعمل الصالح..
وهنا إخبار من الله تعالى ذكره للناس جميعاً بأن الدار [الآخِرَةُ ] هي [خَيْرٌ
لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ] من [الْحَيَاةُ الدُّنْيَا] التي ما هي [إِلاَّ لَعِبٌ
وَلَهْوٌ] قياساً بالخير الذي يكون في الدار [الآخِرَةُ ]، [أَفَلاَ تَعْقِلُونَ]
حتى تكونوا متّقين، كي تبلغوا خير الدار
[الآخِرَة]، ولا تعقدوا كل أمانيكم على خير ناقص وزائل.
فنحن ضمن أجواء الذين يتعلّقون كلّ التعلّق بـ
[الْحَيَاةُ الدُّنْيَا]، ويقولون: [إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا
نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ]، فجاء بيان الله: [إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ] ردّاً على
قولهم: [إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا
الدُّنْيَا]، وبيانه: [وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ]، ردّاً
على قولهم: [وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ].. وفي كلّ ذلك: [أَفَلاَ تَعْقِلُونَ]
دعوة من الله (جلّ شأنه) بأن يعقلوا هذه الحقيقة، ويتركوا عِنادهم، ويتّقوا قبل أن
يفوت الأوان، ويصبحوا مِن مِلّة أولئك الذين: [يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى
ظُهُورِهِمْ]، وأنّ الله (عزّ وجل) يدعوهم إلى عدم ذلك، بل يعقلوا، ويعملوا
الحسنات، فتحملهم حسناتهم إلى جنات النعيم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق