05‏/07‏/2017

في الملتقى الفكري لـ(المنتدى العالمي للوسطية) - فرع كوردستان

تابع الملتقى وأعده للنشر: سرهد أحمد
  نظم المنتدى العالمي للوسطية/ فرع كوردستان يوم الاثنين 12/6/2017، الملتقى الفكري الرمضاني في العاصمة (أربيل).
ودعي كل من الدكتور (محسن عبد الحميد)، الأكاديمي والباحث الإسلامي، والدكتور (عماد الدين خليل) الأكاديمي والمؤرخ الإسلامي، لإلقاء محاضرتين في الندوة التي حضرها جمع غفير من الشخصيات الدعوية والسياسية والمهتمين بالفكر الإسلامي إلى جانب إعلاميين وصحفيين.
عقدت الندوة على قاعة (الشهيد فؤاد جلبـي)، في مبنى المركز االثاني لـ(الاتحاد الإسلامي الكوردستاني)، وأدارها الأستاذ (عمر إسماعيل) الباحث في الفكر الإسلامي، وعضو فرع كوردستان للمنتدى العالمي للوسطية.
وتأتي هذه الندوة ضمن سلسلة ندوات فكرية وعلمية ينظمها المنتدى العالمي للوسطية - فرع كوردستان، في عدد من مدن الإقليم، لعرض الطروحات الفكرية الهادفة لتشخيص مستجدات الواقع الحالي من منظور المنهج الاعتدالي والوسطي وكيفية التعامل معها. 
بداية ألقى الدكتور (محسن عبد الحميد) محاضرته، وهي بعنوان (القيم في القرآن)، ابتدأها قائلاً: "إن موضوع القيم في القرآن موضوع واسع ومتشعب وله خصوصية كبيرة جداً، وتختلف القيم الإسلامية النابعة من القرآن الكريم عن غيرها مما يعرف بالقيم في معتقدات دينية وفكرية شتى، على سبيل المثال: عندما كانت تحتل الولايات المتحدة الأمريكية بلداً ما، تعتبر ذلك وفق منظورها (قيماً حضارية). وبهذا الصدد يقول (جون ديوي) (John Dewey)، وهو فيلسوف وعالم نفس أمريكي، وزعيم من زعماء الفلسفة البراغماتية، عن هذه (القيم) بأنها (مصلحة)، ويضيف بأنه إذا لم تحقق هذه (القيم) شيئاً، فلا بد أن تتغير كل (25) عاماً إلى قيم جديدة.. إذاً، هذه هي (القيم) من المنظور الغربي (الأمريكي). وهذا يذكرنا بما عبّر عنه الشاعر العربي (أديب إسحاق)، في قوله: (قتل امرئٍ في غابةٍ جريمةٌ لا تُغتَفر وقتل شعبٍ آمنٍ مسأَلةٌ فيها نظر).. وأود هنا التذكير بأننا حين كنا طلاباً في كلية التربية ببغداد، خلال حقبة الخمسينيات، كان كتاب (التربية والديمقراطية والعلم) لـ(جون ديوي) منهجاً مقرراً ندرسه آنذاك"... "وبحسب مطالعاتي، يعني تعريف القيم: الميول والرغبات التي يفضلها المجتمع، وتعد سمات اجتماعية حميدة عند مجتمع من المجتمعات"... "أما (القرآن الكريم) فكله مبني على (القيم)، كما أن (القرآن الكريم) مبني على (الأسماء الحسنى). ليس هذا فحسب، بل (الكون) كله مبني على (الأسماء الحسنى)، وهي مصدر (القيم)، بل (القيم) نفسها!! فـ(الله) - جل شأنه- خلق هذا الكون، وبث في الإنسان، وبقية المخلوقات، أنصبة من (الأسماء الحسنى).. فبالنسبة لنصيب (الإنسان) من (الأسماء الحسنى)، يحدد الإمام (أبو حامد الغزالي) (رحمه الله) في مصنفه (المقصد الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى) نصيب كل عبد من هذه الأسماء، فيقول: نصيب العبد من هذا الاسم كذا وكذا.. هو أخذ بالحديث الذي رواه الإمام الترمذي في سننه  (عَن أبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله: إنَّ لله تِسْعَةً وتِسْعِينَ اسْماً، مِائَةً غيرَ وَاحِدَةٍ، مَنْ أَحْصَاها دَخَلَ الجَنَّة). طبعاً هنا المقصود الالتزام بأسماء الله الحسنى، قولاً وعملاً، وليس فقط العد والإحصاء... "والقيم في القرآن الكريم لا نهاية لها، لأن كل اسم من هذه الأسماء يحدث ظلالاً في الوجود، فيمكن الاستنباط من كل اسم ما نشاء من (القيم)، من الآن وحتى قيام الساعة.. مثلاً: (الحق)، و(المحبة)، و(العدالة)، و(الاتفاق)، و(الأخوة)، و(التفكر)، و(التواضع)، و(الثبات)، و(حسن الظن)، و(العطف)، و(الرأفة)، و(الرحمة)، وكذلك نقائضها.. طبعاً (الأسماء الحسنى) منحت لـ(الإنسان) في إطار بشريته، لأن كل تلك الصفات، من (رحمة)، و(عدل)، .. وإلخ، عند (الله)، لا يمكن قياسها بـ(الرحمة) و(العدل) لدى الإنسان"... وفي هذا المقام سأفصل أكثر في هذه المسألة، حتى لا يتهمنا حفظة النصوص، وأصحاب المذهب الظاهري، بالخروج عن الملة - والعياذ بالله -، فأقول: إن القيم المستنبطة من (أسماء الله الحسنى، وصفاته)، شاملة، أي تشمل كل زمان ومكان، لأن الحكمة من نزول (القرآن الكريم) هي ما عبّر عنه الصحابي (ربعي بن عامر)، في حواره مع (رستم)، بالقول: الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام"... "و(القيم) مؤيدة بـ(العقل المنطقي) وليس (العقل الفردي)، لأن (الإسلام) لا يتعامل مع (العقل الفردي).. فـ(العقل المنطقي) هو الحد المشترك بين العقول، كـ(الأوليات العقلية).. مثال على ذلك: أي شخص حين يمشي في الشارع، ويرى شخصاً ما يقتل شخصاً آخر، فسيستهجن هذا الفعل. هذا يعني أن (الرأفة) و(الرحمة) و(العطف) مشاعر فطرية، وهي كما قلنا (قيم) مستنبطة من (الأسماء الحسنى). فـ(الله) تعالى لم يحرم حتى الحيوانات من هذه القيم".. "ولـ(القيم) أيضاً أبعاد روحية، مثل: (الصلاة)، و(الصوم)، و(التقوى)، و(الخشية)، و(الرجاء)"... "ولها كذلك أبعاد اجتماعية، مثل: (الأخوة)، و(الدعوة إلى الخير)، و(التعاون)، و(المسؤولية الاجتماعية)، و(التواضع) "... "ولـ (القيم) بعد معرفي، مثل: (التعليم)، و(التعلم)، و(التفكر)"... "كما أن لها أبعاداً صحية، مثل: (الرعاية)، و(الاهتمام بصحة الجسم)"... "وهناك قيم التفاعل، مثل: (المحبة)، و(الأمل)"... "وقيم السلوك، مثل: (الإحسان)، و(الحلم)، و(الكرم)، و(الصدق)"... "وكل هذه القيم في القرآن متداخلة، ومترابطة، لا يمكن أن تفصل (قيماً) عن (قيم) أخرى. وأورد هنا مثالاً عن (الرأفة) و(الرحمة)، ضربها لنا (صلاح الدين الأيوبي)، أثناء تحرير (القدس) من قبضة الصليبيين، فعلى الرغم من أن الصليبيين قتلوا (70) ألفاً من المسلمين في (القدس)، بعد احتلالها، ولكن حين حررها (صلاح الدين)، لم يثأر، ولم ينساق إلى الانتقام، بل على العكس أعطى الأمان، وجمع بين الأسر.. هذه (القيم القرآنية) التي تحلى بها (صلاح الدين)، جعلته مثار إعجاب وتقدير المؤرخين والمستشرقين الأوربيين.. وهذه القيم لا تقبل التجزئة، بل هي وحدة واحدة تسري على المسلمين، وغيرهم" ... "لكن للأسف ظهر الأشقياء، في وقتنا الحاضر، وبددوا شمولية هذه القيم، وأقصد (داعش)، فهؤلاء فعلوا بـ(الموصل)، وغيرها، الأفاعيل - كما تعلمون-، والدكتور (عماد الدين خليل)، الجالس بجانبـي، شاهد حي على ما فعله هؤلاء الأشقياء، فقد عاش سنتين ونصف محاصراً في داخل الموصل، وكنا دائماً ندعوا له بالنجاة من براثن هؤلاء الأشقياء".
"أعود إلى حديثي عن (القيم القرآنية)، وهي (قيم) كبيرة وعظيمة، لأنها رحمة الله للوجود.. فـ(القرآن الكريم) كلمة الله الأخيرة في الوجود، ورحمة منه، لذلك بدأ بـ(بسم الله الرحمن الرحيم)، و(الحمد لله رب العالمين)، ولم يقل ربّ المسلمين، لذلك فتح المجال للحرية"..."ولـ(القيم القرآنية) خصائص، أولاً: أنها ربانية، مصدرها الله تعالى. ثانياً: هي قيم شاملة، تصلح للفرد والمجتمع، على حد سواء، وصلاح الفرد والمجتمع يتأتى من انتهاج سياسة رشيدة.. وعن هذا يقول (أبو الوفاء بن عقيل الحنبلي): "السياسة ما كان من الأفعال، بحيث يكون الناس أقرب إلى الصلاح، وأبعد عن الفساد، وإن لم يشرعه الرسول (صلى الله عليه وسلم)، ولا نزل به وحي.. بمعنى أن السياسة يجب أن تكون موافقة لـ(الشرع)، ولكن القول بأن لا سياسة إلا ما نطق به (الشرع)، فهذا خطأ، لأنه وردت من الخلفاء الراشدين، والصحابة، والتابعين، اجتهادات لم ترد بها نصوص ثابتة في كتاب الله وسنة نبيه، وإنما المجتهد يستنبط، وقد يتجاوز.. ومثال على ذلك: استرجاع (عمر بن الخطاب) ما عجز (بلال بن الحارث) عن عمارته، فقد جاء في الأثر أن (بلال بن الحارث المزني) أتى إلى (رسول الله صلى الله عليه وسلم) فاستقطعه أرضاً، فقطعها له طويلة عريضة. فلما ولي (عمر) (رضي الله عنه) قال له: (يا بلال، إنك استقطعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أرضاً طويلة عريضة، فقطعها لك، وإن رسول الله (عليه السلام) لم يكن يمنع شيئاً يسأله، وأنت لا تطيق ما في يديك، فقال: أجل. فقال: فانظر ما قويت عليه منها، فأمسكه، وما لم تطق، وما لم تقوى عليه، فادفعه إلينا نقسمه بين المسلمين. فقال: لا أفعل والله شيئاً أقطعنيه رسول الله. فقال عمر: والله لتفعلن. فأخذ منه ما عجز عن عمارته، فقسمه بين المسلمين). هذا هو الاجتهاد"...
"ومن خصائص (القيم القرآنية) أيضاً، خاصية (التوازن)، وهذه الخاصية لا يمكن لـ(المسلم) أن يتجاوزها أبداً، وواقعياً الإسلام لا يتعامل مع الفرضيات، (الإسلام) يتعامل مع الواقع المادي.. وعليه، فإذا قلت: إن (الشريعة الإسلامية)، أو( الفقه الإسلامي)، فقه مادي، فإنك لا تجافي الحقيقة، لكن عليك أن تتبع ذلك القول قولاً آخر، وهو إن الفقه مهتد بهداية (الله) سبحانه وتعالى، بمنهج القرآن"... "لذلك فإلمام المسلم بهذه القيم، واستعمالها، يجب أن يكون في إطار (أصول الشريعة، وقواعدها)، والنظر في (مآلات تنفيذ الأحكام الشرعية).. إذا لم نلتزم بها، لا يمكن أن نتحدث عن (الشريعة). فهذا الإمام (ابن القيم الجوزية)، الذي يعدونه شيخ السلفية، يقول في بداية مصنفه: (إعلام الموقعين): "ولا يتمكن المفتي، ولا الحاكم، من الفتوى، والحكم بالحق، إلا بنوعين من الفهم، أحدهما: فهْم الواقع والفقه فيه، واستنباط علم حقيقة ما وقع، بالقرائن، والأمارات، والعلامات، حتى يحيط به علماً. والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به، في كتابه، أو على لسان رسوله، في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر".. لذلك لما احتل الأمريكان العراق، وظهرت مجموعات مسلحة معلنة المقاومة، حذّرناهم من الانسياق وراء بعض الفتاوى السطحية، لأن مالآت عملهم ستعود بالضرر على أهل السنة في العراق.. فلا يمكن تطبيق ما ورد في (الشرع) حول مسألة الاحتلال، أو أي مسألة أخرى، مباشرة دون النظر إلى شبكة من العلاقات بين النصوص، وبين الأصول التي تحرك هذه النصوص، والقواعد التي تجمع بين الجزئيات والمقاصد والمآلات.. وفي هذا السياق يقول الإمام (الشاطـبـي): "إن الأعمال الشرعية ليست مقصودة لأنفسها، وإنما قصد بها أمور أخرى هي معانيها، وهي المصالح التي شرعت لأجلها". ولما جاءت النصوص الشرعية تمكّن لمبدأ جلب المصالح ودفع المفاسد، فالواجب التعامل مع النصوص وفق هذا الاعتبار، بحيث نحرص على حسن تفهم النصوص، والاجتهاد في تلمس جوانب المصلحة فيها، ومن ثم تطبيقها تطبيقاً يراعي هذا البعد المصلحي، والنظر الى مالآت التطبيق. وهذا كله اعتماداً على ما تقرّره النصوص، وتؤسس له، من معايير تضبط المفاهيم، وترشد إلى سبل التعامل مع المصالح والمفاسد.. والعلماء المجتهدون يجمعون على أنه في حال لم يحقق تطبيق نص إلى مصلحة (المسلمين)، فعلى الإمام، أو رئيس الدولة، إيقاف التطبيق"..
"ومن خصائص (القيم القرآنية) أنها إنسانية، فهي تستهدف الإنسان ذاته، عموم الإنسانية.. لذلك فقد ترك (الإسلام) للإنسان حرية المعتقد، أي يختار اعتناق الدين الذي يرتضيه، شريطة أن لا يتجاوز النظام العام في المجتمع، ولا يمكن لأحد أن يحاسبه على معتقده، فهذا الحساب مؤجل إلى يوم القيامة. قال تعالى: [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ]. وبهذا الصدد يقول شيخ الإسلام (ابن تيمية) (رحمه الله)، في (مجموع الفتاوى): "إنَّ التكفير له شروط وموانعُ، قد تنتفي في حقِّ المعيَّن، وإن تكفير المطلَق لا يستلزم تكفيرَ المُعَيَّن، إلاَّ إذا وُجِدَتِ الشروط، وانتفتِ الموانع". وحين يأتي شيخ الاسلام إلى مسألة (الجهاد – القتال) في سبيل الله، يؤكد إنه ليس موجهاً للقضاء على الكفر، لأن الذي يقول بأننا يجب أن نقضي على الكفر بالقتل وسفك الدماء، فذلك اصطدام مع قدر الله في الوجود. قال الله تعالى: [وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ]، [وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ]، [وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ]. انظر قوله تعالى: (وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ)، ولم يقل: سنعذبه، أو عذبوه، في الدنيا! وللأسف ظهرت فئات تدعي الجهاد وإقامة الدولة الإسلامية، مثل (داعش)، وهذا التنظيم يعتمد أدبيات وفتاوى كارثية، تبيح قتل الإنسان على معتقده، فهو يفتي بجواز قتل الأشخاص فقط لأنهم يعتنقون ديناً آخر، وحتى إن كان هؤلاء الأشخاص أناساً مسالمين ماكثين في بيوتهم، يوم يدخل ما يسمونه (الجيش الإسلامي) مدنهم. ومن هذه الكتب: (إعلام الأنام بميلاد دولة الإسلام)، كما أن هناك إصدار آخر لهذا التنظيم، بعنوان (إدارة التوحش)، حيث يضع خطة عمل لإدارة ما يسميه (مناطق التوحش)، التي تنتج عن فقدان سيطرة الحاكم على هذه المناطق، ليأتي المتطرفون ليسدوا هذا الفراغ. ويحدد المؤلف عدداً من الدول تصلح لإثارة التوحش فيها، اعتماداً على أسباب، منها: ضعف النظام الحاكم، وضعف قواته، وبخاصة المتمركزة على أطراف دولته، ووجود مد إسلامي جهادي - على حد زعمه - مبشر في هذه المناطق، وطبيعة الناس في هذه المناطق، إضافة إلى انتشار السلاح بأيدي الناس فيه.. وحين سقطت (الموصل) في قبضتهم، رأينا من على شاشات التلفاز كيف أن أحدهم كان يشهر خنجراً طويلاً ويصيح: جئناكم بالذبـح.. وأنا بصدد إصدار كتاب بعنوان: (منظومة آيات القتال في القرآن الكريم، وتطبيقاتها المعاصرة)، للرد على هؤلاء وأمثالهم ممن يدعون الجهاد.. للأسف أية كارثة جلبها هؤلاء على المسلمين. لقد حفروا قبراً يكفي لدفن الأمة الإسلامية فيها كاملة"...
"ومن خصائص القيم القرآنية أيضاً، أنها تنشئ حضارة إنسانية متوازنة، وسأترك هذا الموضوع ليتحدث بشأنه الدكتور (عماد الدين خليل)"...
"أيها الحضور الكريم، أقول وبالله التوفيق: إن (الأسماء الحسنى) تستظل الإنسانية جمعاء، والقيم المنبثقة منها تعد قانوناً فوقياً، ولا يمكن للبشرية أن ترتقي إلى مستوى (الأسماء الحسنى) بنسبة 100%، فإذا سلّمنا أن ذلك قد حصل بالفعل، فسيكون البشر حينها معصومين، وهذا لن يحدث. ولكن يمكن الاقتراب إلى مستويات كبيرة من كنه (الأسماء الحسنى)، وقيمها، وعليه سيكون البشر أقرب إلى (الله)، وما شرعه (عز وجل)، لأن سقف (الشريعة الإسلامية) عال. فحتى في زمن الرسول (صلى الله عليه وسلم) لم يكن الأفراد ملتزمين 100% بالشريعة، وأنا أقول بهذا، وقلته سابقاً، في عدة ندوات في خارج العراق.. فالمجتمع آنذاك، رغم وجوده في عصر النبوة والوحي، إلا أن أفراداً فيه كانوا يرتكبون المعاصي، وحتى أن بعضهم كان منافقاً، رغم مجاورته للرسول (صلى الله عليه وسلم)، وهناك أمثلة كثيرة على ذلك. وما رواه أبو عثمان النهدي عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ (رضي الله عنه): أَنَّ رَجُلاً أَصَابَ مِنَ امْرَأَةٍ قُبْلَةً، فَأَتَى النَّبِي (صلى الله عليه وسلم) فَأَخْبَرَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ [أَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ]، فَقَالَ الرَّجُلُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَلِي هَذَا؟ قَالَ: لِجَمِيعِ أُمَّتِي كُلِّهِمْ)، دليل على ارتكاب البعض للمعاصي، وهم في حالة من الضعف الإنساني. ويقول الله سبحانه تعالى: [ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ].. وكلما ابتعدنا زمنياً عن عصر الرسول (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ)، ودخلت أقوام وأمم شتى في الإسلام، كان الالتزام بالشريعة متراخياً.. قال النَّبِيِّ (صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ): (خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَجِيءُ أَقْوَامٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ، وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ).. وبالنسبة لعودة دولة الإسلام من جديد، فنحن مأمورون بالعمل لأجل هذا الهدف، وربما تقوم الساعة ولم يتحقق، المهم هو العمل لا انتظار النتيجة"...
"وبالعودة إلى إشراقات (أسماء الله الحسنى)، فوفق مطالعاتي، ومتابعاتي، لم أجد عالماً في العصر الحديث كـ(سعيد النورسي) فصّل في الحديث عن هذا الموضوع، فقد ألف ما يربو على (120) رسالة في الأسماء الحسنى.. وشهد الشيخ (محمد بخيت المطيعى)، مفتي الديار المصرية، لـ(النورسي) بالنباهة، عندما زار اسطنبول في عام 1908، ودار بينها حوار في مقهى قرب جامع (أيا صوفيا)، حيث سأل مفتى الديار المصرية (النورسي): (ما رأيك في الحرية الموجودة الآن في الدولة العثمانية؟ وماذا تقول في مدنية أوروبا؟ فأجابه سعيد النورسي: إن الدولة العثمانية حبلى بجنين أوروبا، وستلد يوماً ما. أما أوروبا، فهي حبلى بجنين الإسلام، وستلد يوماً ما).. ونحن في العراق، حين كنا ندعو لقراءة (رسائل النور)، انتقدنا البعض وقالوا لنا: أنتم تنتمون إلى مدرسة فكرية أخرى، كيف تطالعون تلك الرسائل؟! هذا الكلام مردود جملة وتفصيلاً، لأنه تمزيق لوحدة الأمة.. إننا قرأنا لكثير من الكتاب والمنظرين، ذوي مشارب فكرية شتى، ممن لا ينتمون إلى  التيار الإسلامي، كما قرأنا لمنظرين ماركسيين، وليبراليين، وغيرهم"... فلماذا الخوف من قراءة فكر يستلهم أسماء الله الحسنى.. 
"حقاً إن أسماء الله الحسنى لها قبسات وإشراقات تنفذ إلى الوجدان، فهي قد عدّلت مسار مفكرين كانوا من أشد المنكرين للغيب، فهذا (زكي نجيب محمود)، المتاثر بالفلسفة الوضعية المنطقية، ألف كتاباً بعنوان (موقف من الميتافيزيقا)، وأصدره سنة 1953، أنكر فيه الغيب وحقائقه المطلقة، حتى أنه تجاوز الفلاسفة الغربيين، الذين كانوا يستثنون الدين في مقولاتهم عما يسمونه خرافة الميتافيزيقا.. فهذا الفيلسوف المصري انقلب كيانه رأساً على عقب، حين قرأ كتاب الإمام الغزالي: (المقصد الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى)، وعدل عن آرائه السابقة، وأعلن التزامه. وكان يقول: إننا تأثرنا بالطروحات الغربية، ولم ننهل من قيمنا الإسلامية، وهي قيم يمكن أن نبني عليها ما يجعلنا نقيم نظاماً حضارياً متكاملاً، ونؤثر إيجاباً حتى في الحضارة الغربية نفسها. وأذكر أن أستاذاً جامعياً من بغداد قال لي بأنه رأى (زكي نجيب محمود) في الحج، وهو جالس أمام الكعبة المشرفة، وقد ناهز عمره الـ80 عاماً، وهو يذرف الدموع أسفاً على ما سلف من الأيام التي ربى فيها جيلاً من الشباب على الإلحاد. وأنا شخصياً تحاورت مع المؤرخ العراقي الكبير (صالح أحمد العلي)، بشأن  طروحاته السابقة المنكرة للغيب، والمروجة للإلحاد بين طلابه، فأجابني: من أين آتي بطلابي ثانية، وأعترف أمامهم بأني نادم على طروحاتي".
وختم الدكتور (محسن عبد الحميد) محاضرته قائلاً: "أوصيكم أيها الحضور الكريم أننا ننتمي إلى الدعوة الإسلامية الشاملة الواسعة، وكلنا أخوة في هذا الدين، ويجب أن لا تفرقنا العناوين والأسماء، ولا بد أن نربي الأجيال على القيم الإسلامية".
المشروع الحضاري الإسلامي
وبعدها ألقى الأكاديمي والمؤرخ الدكتور (عماد الدين خليل) محاضرته، وكانت بعنوان (المشروع الحضاري الإسلامي)، واستهلها قائلاً: "إن الظلمات التي تحيط بالأمة في اللحظات الراهنة تكاد تطبق عليها من كل مكان، وحتى لا نتقهقر إلى الوراء، ونلجأ إلى ردود الأفعال الخاطئة تجاه الأفعال الخاطئة، نبحث عن ممرات، عن حقنة من الأمل، لنعرف دورنا في هذا العالم، وهو دور مؤقت، قرآنياً ونبوياً. ولهذا اخترت موضوعي: (المشروع الحضاري) لأنه نوع من إعطاء الأمل لما يمكن أن يقدمه هذا الدين، ليس للمسلمين أنفسهم وحسب، وإنما للبشرية كافة، وهو دور كبير وعظيم"... "وقبل سنوات وجهت إليّ دعوة من إحدى المؤسسات الدعوية، لتأليف كتاب أجمع فيه المقولات الإيجابية للمستشرقين والمفكرين الغربيين بشأن الإسلام. وافقت على المشروع، وعملت عليه لسنوات طويلة، وخلالها طالعت العشرات من الكتب: كلمة، كلمة، وأنا انتزع من هذه الكتب الشهادات المنصفة لهؤلاء المفكرين والمستشرقين، بحقّ هذا الدين: قرآناً، ونبياً، وعقيدة، وشريعة، وعبادة، وانتشاراً في الأرض، وسلوكاً، وتنظيماً أسرياً، وواقعاً، ومستقبلاً، في سبع سياقات، ووجدت العجب العجاب، وتكدس لديّ كم كبير من النصوص التي جمعت فيها أقوال هؤلاء، كم كبير جداً، حتى أن الجهة التي كلفتني بالموضوع استحسنت أن اختصر، وأن أكتفي بكل شاهد من هؤلاء في (3) إلى (5) مقولات، وأترك الباقي، توخياً للايجاز المحمود، وانجاز ما هو مطلوب مني بسرعة"...
"أيها الحضور الكريم، نحن نعيش تجربتنا الإسلامية من الداخل فقط، ولهذا فقدنا القدرة على اكتشاف محطينا، لأننا اعتدنا على هذا الدين وتفاصيله الخصبة، والتي عشناها على مدى عشرات السنين. أما الذي يأتي من الخارج، فيسلط عليها الضوء بدقة، ويتفحص جوانب مدهشة، وقد تأخذه الدهشة لبعض حلقات هذا الدين، فيدلي برأيه حراً.. ولأننا نعرف أن المستشرقين كذبوا كثيراً، ونفثواً سمهم الزعاف ضد هذا الدين، ولكنهم أيضاً كانوا يقولون كلمة حق، متى اقتضت الظروف ذلك. ولهذا فما قالوه من شهادات منصفة بحق هذا الدين، لا يمكن أن يسعها مجلد واحد. وقد صدر الكتاب بعنوان: (قالوا عن الإسلام). وهذا الكتاب يقدم مجموعة من الشهادات المنصفة في حق الإسلام، وقرآنه الكريم، ونبيه العظيم، وتاريخه، وحضارته، ورجاله.. وهذه الشهادات صدرت عن أعلام، معظمهم من غير المسلمين، فيهم السياسي، والأديب، والشاعر، والعالم، والعسكري، والرجل، والمرأة"... "نحن في العصر الراهن، وعلى المدى المنظور، لا يمكن أن نقول بأن (الجهاد - القتال) يقودنا إلى تصدّر المشهد العالمي، لا يمكن أن يقول بهذا عاقل، فالجهاد مشروع حضاري، وليس فرضاً للهيمنة على العالم بقوة السلاح. أي أن نقتحم العالم، نقتحم البنيان الذاتي للعالم الغربي، من خلال مشروعنا الحضاري فقط. ويمكن أن نقطف ثماراً خصبة، ونحقق الكثير الكثير من أجل هذا الدين"...
"كنت في العاصمة الفرنسية (باريس)، سنة 2001، حدث وأن دعيت إلى دعوة عشاء مع المسؤول عن المنظمات الإسلامية في فرنسا كافة، فقال لي بالحرف الواحد: "لقد أدركنا الآن أن علينا أن نخترق البنية الغربية والعقل الغربي بالتنظيم على طريقة اللوبيات.. وهذه خطوة ذكية جداً، أن نلّم كل طاقاتنا، وكل تجمعاتنا، وأن نقضي على خلافاتنا، ونتوجه بخطاب واحد إلى رئيس الجمهورية، وأنا من سيقوم بتمثيل هذا التجمع المغاربي، الذي يبلغ أربعة ملايين مسلم في فرنسا، وأقول لرئيس الجمهورية: إن شئت منحناك أصواتنا في الانتخابات، في مقابل تحقيق مطالبنا، وإلا فسنعطيها لخصمك.. حين ذاك سيتغير الحال، وسيحقق المسلمون في الساحة الفرنسية الشيء الكثير"...
"قبل سنوات كنت في (ماليزيا)، والتقيت هنك بالداعية الإسلامي المصري (عبد الحليم الخفاجي)، والذي أسس في (ألمانيا) داراً للنشر، قدّم فيها أهم ترجمة للقرآن بالألمانية، حيث قال لي: إنه خلال أسابيع قلائل نفذت هذه النسخ من السوق، وقد أثرت كثيراً في قارئيه.. وحين التقيته كان يجلس معه سكرتير (الحزب الديمقراطي المسيحي) الحاكم في المانيا، والذي أعلن إسلامه.. حقاً لقد انتشر الإسلام بسرعة في المجتمعات الغربية.. قبل واقعة (11) أيلول الأسود، التي ربما خطط لها لتدمير هذا التوجه الإسلامي للانتشار في الساحة العالمية"...
"أيها الحضور، يتحتم علينا أن نفصل بين تاريخنا السياسي وتاريخنا الحضاري، تاريخنا السياسي متخم بالثقوب السوداء، بالقتل والصراع والمؤامرات ومحاولات تسلق المشروع الإسلامي للوصول إلى السلطة.. ورغم ذلك توجد مساحات بيضاء أيضاً في تاريخنا السياسي، وإذا ما قارناه بالتاريخ السياسي الغربي، لوجدنا أن الأخير متخم بأبشع صنوف الصراعات وحوادث القتل واندلاع الحروب، ويحوي شواهد إبادة قاسية لشعوب بكاملها"... "ولو ركزنا على تاريخنا الحضاري الإسلامي، لوجدناه مترعاً بالعطاء. يقول (روجيه غارودي)، المفكر االفرنسي المعروف، الذي كان ماركسياً، وتحول إلى المسيحية، ثم أعلن إسلامه فيما بعد، وعلى ما في طروحاته من أخطاء يؤاخذ عليها، يقول: إن مشكلة الغرب في اللحظات الراهنة، مشكلة كونية، ولا بد أن يكون الجواب كونياً، والإسلام هو الوحيد الذي يقدم هذا الجواب، لأن الإسلام ممكن أن يتحدث عن قضايا الوجود، والعالم، والمصير، وكل ما يتعلق بأمور الإنسان، في حياته الراهنة"...
"فالقرآن الكريم، والسنة النبوية، في ضوء ما قدماه لنا من إنجازات مترعة بالضوابط والأحكام التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، وسأعرضها في أربعة سياقات: (نشوء الحضارات)، (سقوط الدول وانهيار الحضارات)، (قضية نهاية التاريخ، التي هي من معطيات الحضارة الغربية)، (تاريخ تشكل الكون).. فحول هذه السياقات الأربعة، قدم لنا هذا الدين في كتاب الله وسنة رسوله، إجابات قاطعة علمية كثيرة، دحضت كل الخرافات والترهات، والظنون والأهواء، التي أحاطت بالعقل الغربي عن طريق فلاسفتهم، وخصوصاً بشأن التاريخ، في مسألة نشوء الحضارات، وسقوطها، وفكرة نهاية التاريخ، ومسألة البنية الكونية"...
"السياق الأول: نشوء الحضارات.. في الآيات 30 و39 من (سورة البقرة)، نجد عرضاً قرآنياً محكماً لنشوء الحضارة وتشكلها: [وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ].. منذ اللحظات الأولى قدّر لهذه البشرية أن تسفك دماء بعضها بعضاً، وسيقدّر لها أن تنشىء حضارات.. ولو واصلنا قراءة هذه الآيات القرآنية من (سورة البقرة)، لوجدنا كيف أن الأمور كلها سارت بإحكام، بإرسال إنسان إلى الكرة الأرضية - إن صح التعبير - لأداء مهمة حضارية. وخلق الله الانسان في أحسن تقويم، ليقوم بهذه المهمة العظيمة، والسؤال هنا: ماذا لو أن هذا الإنسان الذي خلقه الله، لم يكن محرر القدمين واليدين، هل كان باستطاعته إنشاء حضارة؟ لقد خلق الإنسان ليكون محرر القدمين، محرر الأصابع من الأظلاف، وغيرها، ويتميز بها عن الحيوانات الأخرى.. فالحيوانات لا تستطيع أن تنشئ حضارة، ولو امتد ذلك إلى ملايين السنين.. قال تعالى: [بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ]، والبنان هي الأصابع، فهذه أدنى جزء من أعضاء البدن الذي يتحرك في الاتجاهات كافة، وهو الذي بها ينشئ الحضارة، بضغطه على الأزرار، وغيرها.. وحتى لا يحس الانسان بالدونية تجاه الخلائق الأخرى، أمر الله تعالى من الملائكة بالسجود، تكريماً لهذا المخلوق الجديد: [فسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ].. وهنا لا بد من قدح الشرارة، كما يقول المؤرخ البريطاني (أرنولد توينبـي)، لإيجاد فرصة لصراع هذا الكائن الجديد مع قوة مضادة، من أجل تنمية قدراته على الفعل الحضاري، فبرز الشيطان قبالته: [فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ]، والإنسان عندما يجابه هذه القوة العاتية الخفية غير المنظورة، عليه أن يشمر عن ساعد الجد، وأن يواصل طريق المجابهة، وحين ذاك تتشكل نواة الحضارة، ونوعيتها.. وذلك بالتحدي والاستجابة، فالشيطان هو التحدي الأكبر لقدرات الإنسان على المجابهة والفاعلية، والوقوف أمام قوة الشر.. وعندما أغوى الشيطان آدم، صدر الأمر الإلهي بأن يهبط إلى الأرض: [قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا، فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ]، أو في الأرض، لأنه ليس بالضرورة أن يكون الهبوط من أعلى إلى أسفل، وإنما قد يكون الهبوط الأفقي - إن صح التعبير- .. الهبوط إلى الأرض هو تجربة قد أعطيت لآدم أن يمارس دوره في هذا العالم بتلقي كلمات الله، ما الذي حدث؟ حدث أن قال الله تعالى في هذه الآية: [اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْ‌ضِ مُسْتَقَرٌّ‌ وَمَتَاعٌ إِلَى حين]، وفي (سورة طه) تجد هذه الآيات [قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى]، بمعنى أن وجود الإنسان في هذا العالم هو وجود حضاري، لتلقي التعاليم القادمة من السماء، وبناء حياته على الأرض في ضوء هذه التعاليم، ومن لم يتلق هذه التعاليم، ويرفضها، فإن له المعيشة الضنك، والتي يحذرنا منها القرآن الكريم: [فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى* وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا].. وبهذا الصدد، أنا قرأت في سنة 2010  تقريراً جاء فيه أن 10% من الأمريكيين يعانون من داء الاكتئاب المركز، الذي يقودهم إلى تعاطي المسكرات، وربما إلى حالات الانتحار الفردي والجماعي.. وقرأت في السنة التي بعدها، إعلاناً صادراً عن دائرة بحوث يابانية، واليابان من أكثر دول العالم تقدماً، جاء فيه بأن الحكومة خصصت في سنة 2011 (30) مليار دولار لرصد حالات الاكتئاب والانتحار.. وهي مصداق للآية القرآنية التي تؤكد بأن الإنسان إذا تخلى عن الكلمات الآتية من السماء، وعن المنهج الإلهي الذي يوجهه التوجيه الحضاري المطلوب، فستتحول حياته ضيقاً وضنكاً".
"فيما يتعلق بـ(سقوط الدول وانهيار الحضارات)، نجد أن القرآن الكريم يؤشر ذلك: [أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ]، هذه الآية تتحدث عن نشوء الدول والامبراطوريات والحضارات الكبرى، لا تتحدث عن مرحلة اتساعها، لأن هذه لحظات من عمق الزمن، هناك حضارات أقصى ما عاشته (3) آلاف سنة، وهي لا تعد شيئاً قياساً إلى المنظور الإلهي للكون، والبعد الزمني للكون الذي لا يعد سوى دقائق معدودة.. ففي هذه الحالة عندما يقول القرآن الكريم: [أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا]، يختزل مرحلة امتداد الحضارات وانتشارها في الأرض، وينزل مباشرة إلى القضاء الإلهي على هذه الحضارات، الذي يزيلها من الوجود.. فالله جل شأنه هو الذي يحكم هذا العالم: [وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ]. فالمنطوق الإلهي يجعل الألف سنة مما نعدّ يوماً واحداً: [وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ]، وبالتالي ما نراه في هذه الدنيا من قيام حضارات، وسقوطها، وانتشار دول، وزوالها، وممارستها للقتل والتدمير ضد بعضها البعض، كل هذا لا يكون سوى لحظات من عمر الزمن الإلهي"... "وفيما يتعلق بمسألة نهاية التاريخ، طرح المفكر السياسي الأمريكي (فرانسيس فوكوياما) نظريته (نهاية التاريخ والإنسان الأخير)، التي تقول بأن التاريخ البشري قد بلغ قمة أوجه في التجربة الليبرالية الغربية، والولايات المتحدة الأمريكية هي من تقود هذه التجربة. وعلى الجانب الآخر ظهرت التجربة الماركسية بنظرية نهاية التاريخ، وذلك بتسلم طبقة (البروليتاريا) الحكم، وحينها سيتوقف التاريخ ويبلغ منتهاه عند هذه التجربة.. هذه مجرد ترهات، فلا سكون لحركة التاريخ: [إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ]، [إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا]، فالمعطيات القرآنية تؤكد أن لا نهاية للتاريخ، وفق ثلاثية سنن: (التدوال)، و(التدافع)، و(التغاير).. فسنة (التداول): [وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ]، وستدول الأيام، ولن تبقي على حضارة، ولا دولة، ولا أمة على وجه الأرض.. وسنة (التدافع): [وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ]، فلو توقف التدافع، لسكن التاريخ، وقاد ذلك إلى الفساد.. والقرآن الكريم يقول: لا فساد، لأن التدافع ماض إلى يوم القيامة.. وأما سنة التغاير والاختلاف، فالقرآن يقول: [وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ]، أي: خلقهم للتغاير والاختلاف في هذه الدنيا. وبناء على ما تقدم، أيهما أكثر علمية وانطباقاً على وقائع التاريخ وصيروته الأبدية التي لا تتوقف مطلقاً، وهذا من (القرآن الكريم) الذي [لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ]، وهذه الثلاثية المعجزة في التنوع التاريخي والصيرورة التاريخية"... "وحول كيفية نشأة الكون، ما تقوله الماركسية مجموعة من الترهات التي لا يمكن أن يسلم بها عقل إنسان.. تقول بأن الكون نشأ بجملة من التراكمات الكمية التي تتغير، بالصدفة، دون إرادة فوقية، إلى تراكمات نوعية.. يقول أحد الأدباء والنقاد الغربيين: لو أتينا بجذع شجرة، ووضعناها بانتظار أن يتغير هذا الجذع، ويتحول إلى منضدة مصقلوة الأطراف والسطح، وذات قوائم، ولو انتظرنا ملايين السنين فلن يتحول هذا الجذع إلى منضدة.. فكيف نسلم بهذه المقولة التي يبني عليها الماركسيون رؤيتهم لنشوء الكون، والمتغيرات التي حدثت فيه.. إن (القرآن الكريم) يصف لنا نشأة الكون، وصيرورته، وانتهاءه، بنفس الوقت، وتلك ثلاثية عجيبة، أولاً: (الانفجار الكوني): [أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا]، وهو خطاب إلى الكفار، وهم من سيكتشفونه، وهو الانفجار الذي مزق الكتلة الكونية الدخانية الأولى إلى أجرام وسدم ومجرات تسبح في الفضاء. ثانياً: (التمدد الكوني): [وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ]، وهذا ما أكده (أنشتاين) في النظرية النسبية المعروفة، وسماها بالمنحنيات الكونية التي تتمدد باستمرار. وثالثاً: نهاية البنية الكونية: [يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ].. بهذه الآيات الثلاثة يختصر القرآن الكريم نشأة الكون، بدون تمحولات وخرافات وأساطير وأباطيل الفكر الغربي.. وتكشف لنا الأيام كيف أن المعطيات العلمية في هذا الشأن تتطابق مع القرآن الكريم، وهو الحق المطلق".
السؤال هنا: ما الذي تم في تاريخنا الحضاري على مستوى الفعل الحضاري؟ الجواب هناك نقلات أساسية كبرى حققها هذا الدين، سبق أن تحدّثت عنها في كتابي: (حول إعادة تشكيل العقل المسلم)، وهي (النقلة التصورية)، التي نقلت الناس من ظلالات الوثنية، إلى عمق (التوحيد). و(النقلة المعرفية)، التي قدمت معرفة للعرب، ما كانوا يحصلون عشر أعشارها لولا هذا الدين، وقد أكد ذلك (موريس بوكاي) الطبيب والباحث الفرنسي المعروف، في كتابه بعنوان: (التوراة والأناجيل والقرآن الكريم بمقياس العلم الحديث)، حيث أكد بعد دراسة أجراها على مدار 20 عاماً، تطابق القرآن الكريم مع الكشوفات العلمية الحديثة، وقال قولته المشهورة: "إن القرآن فوق المستوي العلمي للعرب، وفوق المستوى العلمي للعالم، وفوق المستوى العلمي للعلماء في العصور اللاحقة، وفوق مستوانا العلمي المتقدم في عصر العلم والمعرفة في القرن العشرين، ولا يمكن أن يصدر هذا عن أميَّ، وهذا يدل على ثبوت نبوة محمد، وأنه نـبـي يوحى إليه".. نعم إن هذا الكتاب يأتي من قوة فوقية، من الله جل جلاله.. نقل العرب والمسلمين نقلة منهجية، علمهم كيف يفكرون تفكيراً وفق ثلاث أبعاد سننية تحتم عليهم إعمال العقل، وهي أولاً: السنن التاريخية، أي إن التاريخ لا يتحرك على غير هدى، وإنما وفق ضوابط وقوانين تصعد بها حضارات، وتنهار بها أخرى.. ثم سنن (البحث الحسي والتجريبي)، وهذا المنهج منح الله اكتشافه للمسلمين. وفي هذا المضمار يؤكد كبار الفلاسفة والمفكرين الغربيين، منهم (روبير) الفرنسي، و(سارتور) الأمريكي، إذ يؤكدان أن الحضارة الغربية مبينة في أساسها على مفاهيم (البحث الحسي المختبري) الذي قدمه العقل المسلم.. وثالثاً: سنة مثلث: التسخير، والاستخلاف، والاستعمار، بدلالته اللغوية الاصطلاحية: [هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا]، يعني أننا أمة سخر الله لنا هذا العالم، وقد استخلفنا عليه، لكي نبينه ونعمره. فهذا مثلث يقودنا إلى الفعل الحضاري، وأن نتقدم بالبشرية خطوات إلى الأمام، والله تعالى هيأ أسباب القيام بالفعل الحضاري من خلال تهيئته للأرض بالشكل والصورة التي عليها، وما يجري فيها من تفاعلات الجاذبية والمناخ والضوء والدوران، وهي تفاعلات تنتج عوامل العيش والبقاء من حرارة وبرودة ونهار وليل وغيرها، للإنسان ولبقية المخلوقات..
أيها الحضور الكريم، لقد كان لعصر الرسالة إنجازات كبيرة، فـ(الأمة) ألغت (القبيلة)، و(الدولة) ألغت (العشيرة)، و(التشريع) ألغى العرف والتقاليد، والمعرفة ألغت الجهل، والإنسان المنضبط النظيف الوضيء، أطاح بالبدوي المترب، الذي لا يغتسل ربما في العام مرة واحدة.. ويقول الشيخ (محمد الغزالي)، الداعية الإسلامي المعاصر: إن شقوق أقدام البدوي كانت تفقس فيها العقارب والحيات، فجاء الإسلام ليصنع منه إنساناً، فهذا الإنسان بوضوئه وبشاشته وتركيبه الروحي هو الإنسان المتمدن حقاً، وليس الإنسان الغربي الذي إن كان ذا بشرة نضرة، لكنه خرب من الداخل"... "فالفعل الحضاري الإسلامي قدم للبشرية (3) خدمات كبرى، هي: (حماية التراث البشري السابق على مجيء الإسلام)، و(النقل الجغرافي)، فقد عبر المسلمون شمال أفريقيا والبحر المتوسط، سواء في عصر الحروب الصليبية، وفتح القسطنطينية، أو الاستكشافات الجغرافية، وهذا النقل الجغرافي ساهم في صيانة التراث الإنساني. والخدمة الثالثة هي (الإضافة والإبداع)، فالمسلمون لم يتلقوا حضارتهم عن الغرب، وإنما أضافوا إليها قدرات مدهشة، جعلوا الكشف والابتكار في سياقات المعارف كافة، في الفيزياء والكيمياء والصيدلة والطب، والتاريخ والفلك والجغرافية.. يكفي أن العلامة (عبد الرحمن بن خلدون) هو من اكتشف قوانين الحركة التاريخية، أي إن التاريخ لا يتحرك على غير هدى، وإنما وفق ضوابط تقود الأمم والجماعات إلى الصعود وفق أسباب، والهبوط وفق أسباب أخرى.. وذكر ذلك في كتابه: (كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر)"، المشهور بـ(المقدمة)... "وعلى الجانب الآخر، نرى العقل الغربي يعاني اختلالات فكرية، ويعاني مفاهيمياً، وظهر ذلك جلياً في طروحات مفكري وفلاسفة الغرب، فالفرنسي (أوغست كونت)، الذي يعتبرونه فيلسوفاً اجتماعياً، تحكّمت عواطفه في طروحاته وكتاباته، وأتذكر كيف أن أساتذتنا في الجامعة صدعوا رؤوسنا بمقولات (كونت)، رغم أنه ناقض نفسه في عدة مسائل اجتماعية، عاش وقائعها شخصياً.. وكذلك الفيسلوف الألماني (هيغل)، الذي وقف مع ثورة عسكرية حدثت في (ألمانيا)، ضارباً عرض الحائط مواقف مدنية سابقة.. وأيضاً (لينين)، وكيف تراجع عن نظرية الكبت الجنسي، بعد أن رأى آثار الانحلال على المجتمع السوفيتي.. وكذلك (جان بول ساتر)، وكيف عدل عن طروحاته الوجودية السابقة، والتي نشرها في كتابه (الكينونة والعدم)، وأكد يقول: (أنا لست ذرة تائهة في هذا الكون، وإنما أنا مخلوق وجدت لغاية، من قبل قوة فوقية)، ونشر هذا الطرح الجديد في مجلة (الدوحة)، وترجم إلى العربية من قبل (أحمد جابر الأنصاري).. وقد وصف المفكر (عبد الوهاب المسيري)، في محاضرة حضرتها في (الإمارات) سنة (2001)، الحضارة الأمريكية التي عاشها، بأنها حضارة التسوق واللذة فقط".

"وختاماً، علينا نحن المسلمين أن نجد فرصة لاختراق الحياة الغربية، بعد أن نستعيد فعلنا الحضاري عبر الرؤية القرآنية المدهشة للمفاهيم الحضارية، والتي لم نتحدث سوى عن خطوطها العريضة فقط، وليكن الشباب أكثر اعتزازاً بحضارتهم وعقيدتهم، ويندفعون باتجاه العمل الجاد لتحقيق مفاهيم هذا الدين. وشكراً".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق