03‏/10‏/2017

جدلية العلاقة بين الدين والسياسة..!

سعد الزيباري
الصراع بين البُعد الديني والسياسي قد تفَجَّر إبَّان الاجتياح الأمريكي لمنطقةِ الشرق الأوسط، وانبثاق ما يُسمَّى بـ(الحرب على الإرهاب)، تلك الحرب التي عُرِّفت بأنها "كفاحٌ مِنْ أجلِ الحداثة والعَلمانيَّة والتعدديَّة والديمقراطيَّة والتنمية الاقتصاديَّة الحقيقيَّة". والمثير للجدل أنّ هذهِ الحرب الشّامِلة قدِ اقتصرَ على ما يُسمّى بـ"الإرهاب الإسلاميّ" على الرّغم مِنْ أنّ (80%) من هذا الإرهاب، سيختفي – حسب توصيفِ د. عبد الوهاب المسيري – إذا انسحبتِ القوَّاتِ الأجنبيّة من البلدانِ العربيّة والإسلاميّة، وتوقّفت عَنْ دَعْمِ الإرهاب ماديّاً أو معنويّاً، وإن (20%) مما بقيَ مِنْ هذا العنف سيزولُ أيضاً، إذا ما توقّفتِ الأنظمةُ الحاكمة عن ممارسةِ الاستبداد السياسي بحقِّ المعارضة السياسيَّة..! فهذا العنف الذي قد نراهُ هنا أو هناك - بتعبيرِ فهمي هويدي - هو مِنْ إفرازاتِ الظلمِ السياسي أكثر من كونه إفرازاً للإسلام السياسي. وأن هناك قوى دوليَّة وراء تشويهِ صُورة الإسلام،
حتى أنه "لم تَعُدْ صورةُ الإسلام في العالَم مرتبطةً بالرحمةِ والعَدْلِ والإحسانِ والمساواةِ والخيرِ والأَمَل، وإنما أصبحتْ مرتبطةً بالرُّعْبِ والخَوْفِ والتفجيرِ والإرهاب".
هذه الحربُ الكاسِحة على الإرهاب قد توسَّلت لتحقيق أهدافها بوسائِلَ مُتعدِّدة، سياسيَّة، ودينيَّة، واقتصاديَّة، ففي المجال السياسيّ دَعَتْ إلى أهميةِ (التحوُّل الديمقراطي) من خلال تغيير الأنظمة غير المرغوب فيها، وفي المجال الديني أكّدت ضرورةَ (تجديد الخطاب الديني) بما يتناسبُ والمتغيّرات المعاصرة، وتحديث الإسلام بما يوافق العَلمانيَّة الغربيّة، والترويج لإسلام حداثيِّ ليبراليِّ مُعَلْمَنْ، من خلال تسويقِ خطاب اعتدالي تحت ذريعةِ تجسير الهُوة بين العالم العربي والإسلاميّ والعالم الغربي والأوروبي. أمَّا في المجال الثقافي فقد تمثلَ في (تغييرِ مناهج التعليم) بما يتوافق مع القيم الليبراليَّة على امتدادِ جغرافية العالم العربي والإسلامي. فالولايات المتحدة - التي قادت هذه الحملة الفكريَّة والعسكريَّة - كانت قد خطّطت منذ عقود لتجريد المسلمين من كُلِّ وسائلِ المقاومة والتحدِّي، من خلال ترسانتها الإعلاميَّة الجبَّارة، مما أسقطَ الكثيرَ من النخبِ الفكريَّة والسياسيَّة صرعى تلك التوجهات التي ساقها منظِّرو سياسة العالم الجديد باستراتيجياتٍ علميَّة أكاديميَّة بحتة، حتى إن الكثير من الإسلاميين أنفسهم مِمّنْ كانوا يُمارسون العملَ السياسي بضوابِط إسلاميَّة، قد وقعُوا أُسارى تلك الأفكار الوافدة، حتى إنهم قاموا بتنظير هذه التوجهات الدخيلة فكريَّاً وفلسفيَّاً، دون أن يَشعرُوا أنهم مُوَجَّهون مِنْ قِبَلِ منظومةٍ غير مرئية، ومُنَمَّطون أَيديولوجيَّاً، ولكأنهم أدوات يُحَرِّكُها المتلاعبون بالعقول، أو أنهم بيادق شطرنج يَتَلاعَبُ بها المتنفِّذون، فليس لهم البتة دورٌ في هذه اللعبة السياسيَّة الشاملة. ومن هنا، فإن هذا الفصل العنصري المشحُون بالضدية ما هو إلّا استراتيجية غربيّة وافِدة، ولم تكن البتة تعبيراً عن حاجةٍ قوميَّة، أو وطنيَّة، ولا حتَّى سياسيَّة، وهؤلاء الذين نراهُم يتحمَّسُون لهذا الفصام النكد سيتراجعون يوماً ما، ويندمون على تلك الطفولة الفكريَّة التي كانوا يعيشونها تحت غيبة الوعي، وانشطار المعرفة، وفقدان المعنى، على غرار رواد النهضة العَلمانيَّة في مصر، الذين تراجعوا أخيراً، وكتبوا عن تجاربهم الفاشلة، رغم العديد والعديد مِنَ الحملات التي جَرَّدُوها ضِدَّ الدين والسياسة، والفصل بينهما، ورغم امتلاكهم لأدوات السلطة هناك، ولكن تلك التجارِب التي توسَّلت بالعَلمانية قد أثبتت فشلها للعالم أجمع، لأنها أدَّت إلى الاستتباع السياسي، والاستلحاق الحضاري، والركود الاقتصادي، ولم يكن لهؤلاء الرموز الفكريَّة والأدبيَّة من بُدٍّ إلّا العودة إلى دينهم وهُويتهم وتراثهم..!
ولا جرمَ أنّ الدعوة إلى هذا الفصل بين الدعوي والسياسي، أو الديني والزمنيّ أصبحت ظاهرةً طالتِ الكثير من الحركاتِ الإسلاميَّة ذات التوجهات السياسيَّة، فظهرت نخبٌ فكريَّة سياسيَّة تؤكِّدُ ضرورةَ فصل الدعوة عن الحزب، والبُعْدِ عن تسييس الدّين، وتديين السياسة، كما تؤكِّدُ بإلحاح ضرورة توافر جناحينِ للحزبِ: جناحٌ يعملُ وفق آليات وبرامج سياسيَّة بحتة، لا عَلاقة له بالدعوة، وبالمناسبات الإسلاميَّة، ولا يخاطبُ العاطفة، والمشاعر الدينيَّة، وليس له تماسٌ مباشر مع الجماهير الإسلاميَّة، بحجةِ تخليصِ العمل السياسيِّ من الفكر الذي يعملُ مِنْ أجلِ أسلمةِ المجتمع، وجناحٌ يتوسَّلُ إلى الوسائل الدعويَّة والخيريَّة، ويتوجَّه إلى الجماهيرِ أساساً، ويحتكّ معها من خلال القنوات المرئية والمسموعة والمقروءة، فالاتِّجاه المتحمِّس للأيديولوجيا السياسية يتذرَّعُ بالقول: إن هذا النوع من العمل السياسي الإسلاميِّ الذي كان مُناسباً للقرن الماضي، لا يُناسب هذا القرن، وأنه: لا سياسة في الدعوة، ولا دعوة في السياسة، لأن السياسة - برأيه - هي "فن ممارسة الممكن"، وفنُّ ممارسة الممكن، يخضعُ لظروفٍ وآلياتٍ قد تتصادمُ مع جوهر الدين..! مع أنّ الأصل هو الجمعُ بينهما، وفي ذلك قال: أحمد الريسوني: "مَنْ تسيّس ولم يتديّن فقد تَعَلْمَنَ، ومَنْ تديّن ولم يتسيّس فقد ترهْبَنَ، ومَنْ جمعَ بينهما فقد تمكّن". وإذا كان الهدفُ هو فصلُ الدعوة عن الحزب السياسي، والإبقاء على القيم العليا للدين فقط، كالحريَّة، والعدالة، وضمان حقوق الإنسان، فإنَّ الدعوة إلى هذه القيم ليستْ من أهداف الإسلام وحدَهُ، فالمسيحيَّة أيضاً، وقبلها اليهوديَّة قد دَعَتا إليها..!
وهكذا يتوسَّلُ هذا الاتِّجاه - في شرعنة هذه التوجهات - باستخدامِ استراتيجيَّات المحاججة والاستدلال، والعبث بالدوال، وهو يدعو لتحقيق هذا الهدف إلى احتذاء تجربة إصلاحيّة نيوليبرالية كالّتي يمثلها "حزب العدالة والتنمية" التركي، ذلك الحزب السياسيِّ الذي تخلّى عن اليافطة الإسلاميَّة، واستخدامِ الشعارات والبرامج الدينيّة، وأصبحَ يقبلُ بالمبادئ العَلمانيَّة بمعناها الأوروبي، ويحولُ دون ربط الدين بالسياسة، وتحكمُه كوادر قياديّة من مشاربَ سياسية متعدِّدة، ليبرالية، ومحافظة، وراديكالية..! ومن هنا فإن تجرِبة "حزب العدالة والتنمية" على الرّغم من كونها تمثِّل ظاهرةً استثنائيةً في تاريخِ الحركات الإسلاميَّة، إلّا أنّ لها خصوصيَّةً فكريَّة وسياسيّة واضحة، لذا، فلا غَرْوَ أنْ يقع الإسلاميّون على اختلافاتٍ واضِحة في التجرِبة السياسيّة التركيّة مع غيرها من التجارِب السياسيّة الإسلاميّة إذا عقدوا مقارناتٍ بينهما. وعلى الرّغم من هذه المآخذ التي قد تقدح بمسيرةِ هذه الحركة السياسيَّة الرائدة في هذا المجال، إلّا أنّ لها مواقفَ إسلاميَّة مُشرّفة كانت - ولا زالت - محلَّ تقديرِ الجميع في داخِل تركيا وخارجها.
إنّ احتذاءَ التجارِب السياسيَّة مع إهدار الخصوصيَّات المحليَّة قد يُعَرِّض العملَ الإسلاميّ لمشكلاتٍ جوهريَّة، نظراً لاختلاف الواقع السياسي الذي تنتمي إليه هذه الحركات، فالاستراتيجيَّات التي تكون صالحةً لـ"حزب العدالة والتنمية"، قد تكون غير مجدية للحزب الإسلامي العراقي، مثلاً، لأن لكُلِّ حيِّزٍ جغرافي خصوصيتَه السياسيَّة المستقلة، حتى ولو كان في نطاق دولةٍ واحدة، فكيف مع اختلاف الدول وتفارق البيئات..! إذاً، يا ترى ما هي السبل الكفيلة لاحتذاء تجربة العدالة والتنمية؟! ألا ينبغي أن نراعي الفوارق الموجودة بين النسق التركي والنسق العربي أو الكردي؟! ألا نلحظ أن الرموز السياسيَّة لحزب العدالة والتنمية هم مِنَ المهندسين والمهنيين ورجال الأعمال، وأن المؤهلات العلميَّة عندهم هي أسبق مِنَ المراتب الحزبيَّة؟! ترى أين نحنُ مِنَ هذه الشروط الموضوعيَّة؟! وإذا كانت السياسة مطلُوبة للإنسان في الدعوة الفردية، فهي أكثر طلباً للدعوة الجماعيَّة؟! أليست الدعوة أيضاً بحاجةٍ إلى تنظيراتٍ سياسيَّة، حتى تؤتي أكلها؟! ومَنْ قال إن الدعوة محصورةٌ في الخطاب الوعظي؟! ومتى أصبحت السياسة حكراً على فئةٍ دون غيرها؟! ومن أعطى هذه الجهة دون الأخرى تفويضاً لتمثيل السياسة؟! وهل غابَ عنّا أنّ السياسةَ هي فنُّ الممكن، وهي ليست قواعِد نحويَّة تُحْفَظ، ولا إجراءات هندسيَّة تُطبَّق، وليست حكراً على أحد..! وهل هناك غرابة البتة في أن يمارس الدعاة السياسة، أو ينهض السياسيون بالعمل الدعوي؟! وربما هناك إجاباتٌ غير موضوعيَّة عن مثلِ هذه التساؤلات الجوهريّة، إلا أنها ستكون مُنطلقاتٍ لعملٍ سياسيّ جديد على الساحة السياسيَّة، وبموازاة هذا التيار السياسيِّ الخالِص، هناك تيارٌ ثالث يدعو إلى أن يكون لهذا الحزب السياسي تيارٌ اجتماعي جماهيريِّ يدعمُ المشروع السياسي للحزب ويؤيِّده، دون أن يكون جزءاً فيه، مثلما نجدُ في تركيا جماعة (فتح الله كولن) وهي حركة دعويّة خالِصة - على الرّغم من الملاحظاتٍ الّتي سُجّلت عليها -، كانت تؤيِّدُ - في أوقاتٍ سابقة - حزبَ (العدالة والتنمية) ذا التوجُّه السياسي الخالص، وهذه القوَّة الدعوية كانت تضاهي جماهيريَّاً - قبل الفصام السياسي والعزل الاجتماعيّ - حزبَ العدالة والتنمية، ومثّلتْ قوَّةً دينيَّةً، واجتماعيَّة، واقتصاديَّة كبيرة فرضتْ نفسَها وبقوَّة على المجتمع التركي، إلاّ أنّها دفعتِ الثمنَ غالياً بعدَ اتِّهامِها بالتواطؤ مع قادةِ الانقلابِ الفاشِل في تركيا. وبالرّغم من وجاهةِ هذا الطرح منطقيَّاً، إلا أنه عمليَّاً قد يكون من المستحيلات، إذ كيف السبيل إلى بناء قوَّة دينيَّة واجتماعيَّة على غِرار قوَّة (فتح الله كولن)، ذلك الرّجل الذي وقفَ خلفَهُ جيشٌ من حُفّاظِ القرآن، والأكاديميين، ورجالاتِ الأعمال من أصحابِ الملايين، فضلاً عن توافره على العديدِ مِنَ المدارس والكليَّات والمؤسسات الخيريَّة والخدميَّة، فكانت حركته - في يومٍ من الأيّام - دولةً داخِل دولة..! في حين أن الحزب عندنا لا يكاد يسدُّ رمقه، نظراً لشحةِ موارده الاقتصاديَّة، وضآلة استثماراته الماليَّة..! فكيف السبيلُ إذاً، إلى منافسة هذه القوَّة المترامية الأطراف؟! وما هي وجوه الشبه بيننا وبينها حتى نقوم بعقد مثل هذه المقارنات؟!
ومن النظريّات المطروحة في هذا المجال "نظريّة التمييز لا الفصل" الّتي طرحَها الدكتور سعدالدين العثماني - القيادي البارز في حزب العدالة والتنمية المغربي -، في كتابه "الدين والسياسة تمييز لا فصل". وتؤكِّدُ هذهِ النظريّة "أنّ العَلاقةَ بينَ الدّين والسياسة ليستْ عَلاقة فَصْل، لأنّ الدّينَ حاضِرٌ في السّياسةِ - بشكلٍ مِنَ الأشكال - في جميعِ الثقافاتِ والحضاراتِ والمجتمعات، بما فيها المجتمعات الغربيّة اليوم، ولكنّها في الوقتِ نفسِه ليستْ علاقة وَصْل تام، لأنّ الفعلَ السياسيَّ هو دنيويٌّ في الإسلامِ بامتياز، فهو بشريّ اجتهاديّ تقديري، بالرّغمِ مِنْ كونِه مِنْ حيثُ العمُوم يخضعُ لمبادئ الدّين وأحكامِه". وهذهِ النظريّة "قد تمّ تطبيقُها فعلاً في المغرب، حيثُ التّمييز بين العملِ الدعويّ والعملِ السياسيّ. فـ"حركةُ التوحيد والإصلاح" هي حركةٌ للدّعوةِ والتربية وغيرِها مِنَ الأعمالِ النضاليّة والمجتمعيّة، غير أنّها لا تمارِسُ العملَ السياسيَّ، وتسند الأمر إلى هيئةٍ مُختلِفة هي "حزب العدالة والتنمية"، ذات استقلاليّة تامّة عنِ الحركة، ولكُلِّ واحدةٍ مِنَ الهيئتَيْنِ مسؤولُوها وبرامِجُها ومؤسّساتُها المستقلّة عنِ المؤسّساتِ الأُخرى". والدّين - حسب هذهِ الرؤية - هو ما كان مطلُوباً (لمصالِح الآخرة)، أي ما هُو مُطلَق مِنْ تعاليمَ وأحكامٍ في الدّين، بينما أحكامُ السّياسةِ تدخلُ ضمنَ ما هُو مطلُوب (لمصالِح الدُّنيا)، فهي ليستْ ديناً بالمعنى الأوّل، أي ليستْ وحياً ولا أحكاماً مُطلقة، لكنّها دينٌ بالمعنى الثانِي، أي خاضِعةٌ لرؤيةِ الدّينِ العامّة للإنسانِ وللمجتمع، ومُلتزمة بمبادئه وأخلاقهِ وإطارِه العام". ولا جرمَ أنّ "هذا الفهمَ، وإنْ كان يثيرُ الخِلافَ داخِل الحقلِ الإسلاميّ، فإنّهُ يؤسِّسُ إلى فهمٍ مرِن، يستوعِب العَلاقة الحركيّة والمتجدِّدة بينَ الدّين والسّياسة، ويؤدِّي إلى الوعي بالتمايُز بينهما، دون أنْ يتطوّر ذلِكَ إلى تنابُذ وتنافُر. ويُمكن أنْ يَنتُجَ عن هذا النّمطِ مِنَ العَلاقةِ – الّتي قد تختلِفُ مِنْ مُجتمعٍ مُسلِم لآخر - إعادة تأسيس العَلاقةِ بينَ الدعويّ والسياسيّ داخِل الحركةِ الإسلاميّة، بما يزيدُ مِنْ عطائِها الفكريّ والحضاريّ، وكسبها السياسيّ والاجتماعيّ، ثراءً وتجذراً". فهذه الرؤية السياسيّة قد حدّدتِ العَلاقة بين الدينيّ والسياسيّ، فالدينُ – بحسبِ هذا الاتّجاه – إنّما ينهضُ بتوجيهِ العمل السياسي توجيهاً مقاصديّاً، ويسهمُ في ضبط أدائِه العملي بما يتوافق مع روح الشريعة، ومن هنا فإنّ الدّينَ – عندَ أصحاب هذه النظريّة – يمثِّل منظومةً مِنَ "المبادئ المُوجّهة، ويُجسِّدُ روحاً دافقة دافعة.. أمّا الممارسة السياسية فهي مستقلّة عن أيِّ سلطة تحكمُ باسم الدين أو السلطة الدينية، فليس من حقِّ الدولة إذاً – وَفْقاً لهذا المنظُور – فرض النظام الدينيّ على المجتمع بالقوّة".
وهناك توجُّهٌ آخر يؤكِّدُ ضرورةَ الإبقاء على ترابُط الحزب والدعوة في المجال السياسيّ، دون تطرفٍ أُحاديِّ الجانِب، لأن السياسة - عنده - هي بمثابة الرئة التي لا تتنفّسُ بوحدها، فالحزب جسمٌ والدعوة روحها، وعليه فالدعوة ينبغي أن تسيرَ جنباً إلى جنب مع الحزب السياسي؛ لأن الدعوة هي بمثابة البوصلة التي تُوجِّه الأداء السياسي، وتعمل على ضبط السياسيين، لذا فهما يسيران كخطين متوازيين، ويمثلان عنصرين يُتمِّم أحدهما الآخر، وبينهما تواصل وتواشج وتزاوج، ولا يوجد هناك مجال للتفاصل والتنافر والتنابذ. فما الغريب إذاً، أن يكون السياسي داعياً والداعي سياسياً؟! فالدعاة على مرِّ التاريخ كانوا سياسيين والعكسُ صحيح، ومن هنا فنحن نريد سياسيين متدينين يُمارسون العمل السياسي وَفْق أُسسٍ إسلاميَّة أصيلة، وفي حدود أوامر الله ونواهيه، لأنه ليس هناك في ديننا وجود للنظام الكنسي والكهنوتي، وليس هناك رجال للدين ورجال للسياسة، ولا نقول: "ما لله لله وما لقيصر لقيصر"، وإنما كلّنا لله جلّ وعلا، قال تعالى: [ألا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْر](الأعراف: 54)، ومن هذا المنطلق فإنّ العملَ على تدشين عملية التفاصُل هذه بين الحزب والدعوة في الحياة السياسيَّة الراهنة، إنما هو من ثمار العَلمانيَّة الغربيَّة، التي تُجرِّد حملتها لتنحية الدين عن السياسة، حتى ينفردَ العَلمانيُّون بتسيير شؤون الحياة، ومِنْ ثَمَّ مُحاصرة الدعاة بين جُدران المساجد والجوامِع. فإذا ما قُمنا بتدشين عملية التفاصُل بين السياسي والدعوي فهذا يعني أن هناك استراتيجياتٍ مرحليةً أُخرى ستلحق مثل هذه الخطابات..! ومن هنا كان على الحركات السياسيَّة الإسلاميَّة "مراعاة الجانب الرُّوحيِّ والدعوي في الممارسة الإسلاميَّة، والحؤول دون طغيان الجانب التَّسْيِيسي على الجانب التَّأْنِيسيّ الذي يحكمُ الظَّاهرة الدينية عموماً".
وفي الوقتِ الذي نجدُ فيه - هُنا وهناك - العديدَ من التوجهات التي تدعو إلى ضرورة التفاصل بين الدين والسياسة، أو بكلمة أدق الدعوة والحزب، نجد في معظم الدول الأوروبية - وإلى حدِّ الآن - أحزاب "مسيحيَّة – ديمقراطيَّة" تستوحي الكثير من أفكارها وتوجهاتها من الدين المسيحي، "وتسعى إلى تطبيق المبادئ المسيحيَّة في السياسة العامَّة، وقد ظهرتْ في أوروبا في القرن التاسع عشر، تحت تأثير التعاليم الاجتماعيَّة الكاثوليكيَّة، وأنها لا تزالُ مؤثرةً في أوروبا وأمريكا اللاتينية"، وهذه "الأحزاب المسيحيَّة في أوروبا الغربيَّة - وبدرجة أقلّ في أميركا اللاتينيَّة - تمثل أنموذجاً واضِحاً للحزب المعتدل دينياً، والملتزم بقواعد اللعبة الديمقراطية". ونظرة عابرة إلى مبادئ هذه الأحزاب تكشفُ لنا بوضوح أثر الفكر المسيحي في أدائها السياسي، فالحزب الديمقراطي المسيحي الألماني، المشارك في الائتلاف الحاكم، وترأسه السيدة (أنجيلا ميركل)، يُعَرِّف نفسه بأنه حزبٌ "يملكُ مفهوماً سياسياً قائماً على الديانة، والقيم المسيحيَّة، وعلى مسؤولية الفرد أمام الله"، أمَّا الحزب الديمقراطي المسيحي الفرنسي، فهو كذلك يؤمن بالقيم المسيحيَّة، ويعارضُ الشذوذ الجنسي، والقتل الرحيم، والإجهاض، في حين أن الحزب الديمقراطي المسيحي الأسترالي، هو الآخر يؤمن بالحريَّة في التصويت على القوانين، ولكن في إطار توجيهات الله، ويسعى لدعم القيم المسيحيَّة وتعزيزها، ومُوالاة الأسرة، والطفل، كما يسعى إلى ضمانِ أنْ تكون جميع التشريعات متّفقة مع الكتاب المقدّس، وهناك الحزب الديمقراطي المسيحي الإيطالي الذي توسَّل بالمبادئ المسيحيَّة، حتى أنه حكم إيطاليا لما يقرب من نصف قرن‏. والسؤال الذي ينهضُ هنا ترى: أليست هذه الأحزاب - على امتداد الفضاء الأوروبي - هي أحزابٌ "دينيَّة"، أو هي على الأقل ذاتُ "مرجعيَّةٍ دينيَّة". فإلى متى النظرُ بعينِ الريبة والشك إلى الأحزاب الإسلاميَّة، والنظرُ بعين الرضا والاحترام إلى الأحزاب المسيحيَّة..؟!
وبالرّغم من كُلِّ ما قيل ويُقال عن هذه الظاهرة، فهي جديرة برصدها ومتابعتها، ومعرفة محرِّكاتها، وأسبابها ودواعيها، وأهم العناصر التي تقف وراءها، فهي قبل كُلَّ شيء تعبيرٌ عن ذلك التغيير الذي طرأ اليوم على النِشَاط السياسي الإسلامي، بعد ذلك الحِراك الذي تفجَّر في عُمْقِ ذلك الكمُون السياسيّ، فكان بحق لحظة ميلاد قاسية تمخّضت في واقعنا المعاش، فضلاً عن كونه تقليداً للتيارات الإسلاميَّة التي تحوَّلت إلى أحزاب سياسيَّة وطنيَّة أو تنمويَّة. ولكأني بهذه التوجهات، وقد أصبح التاريخ يُعيد نفسه، حيث لم تتغيَّر إلا الأسماء والمسمّيات، فبينما كان الشيوعيون والليبراليُّون يُطلقون في حقبةِ الستينيَّات والسبعينيَّات وما بعدها مِنَ القرن الماضي، مقولة (فصل الدين عن السياسة)، ودعوات فصل (الدين عن الدولة) كما عوّدتنا الاسطوانات العَلمانية المشروخة لاحقاً، فإننا نسمعُ هذه المقولة نفسَها ولكن من أفواهِ الإسلاميين أنفسِهم.. فهذه المقولة الجاهزة تعبِّر اليوم عن نفسها وبقوَّة، ولكنها اليوم - كما نرى - تأتي من لدن الأحزاب الإسلاميّة، بعدما كانت سلعة يساريَّة - ماركسيَّة بامتياز، ومن هنا فإنّ هذه التوجهات ليست من بناتِ أفكار اليوم، وإنما هي مطارحاتٌ تفتَّقت عن سياقاتٍ ومناخاتٍ فكريَّة وسياسيَّة سبقت لحظتنا التاريخيَّة! ولذا من حقنا أن نقول: إن هذا التوجه الذي نراهُ اليومَ في بعضِ الأدبيات - هنا أو هناك – إنما هو تعبيرٌ عن رؤية جديدة في المجال السياسي الإسلاميّ.
ولا بُدَّ لنا في هذا السّياق "من التمييز بين المنظور السياسي والنظام السياسي كمصطلحاتٍ فلسفيّة فكريّة لا تنتمي إلى قاموس المصطلحات الشرعيّة، وهذا يوجب علينا أن نبحث عن مفهومها بين المفكرين السياسيين وليس بين الفقهاء، قبل أن نعطي حكمنا الشرعي فيها حتى لا يقعَ الخلل بين الحكم والتصوّر، فغايتنا محاكمة المفاهيم وليس المسمّيات، فالمنظور السياسي هو شبكةٌ من القيم السياسية الهادية والمقاصد الراشدة والغايات التي تحدِّد الرؤية السياسية في الإسلام". وما نلحظهُ من استقراءِ نصُوص التشريع الإسلامي هو: "إجمال المتغير وتفصيل الثابت! فما كان متغيّراً بتغيّر الزمان والمكان جاء بالشريعة مُجْمَلاً، كالشأنِ السياسي، مثلاً، أمّا ما كان ثابتاً فجاء مُفَصَّلاً منتهى التفصيل؛ مثل: الصلاة والزكاة، وقضايا الزواج والطلاق ومسائل الميراث، فإنها مواضيع منصوص عليها ومُفَصّلة غاية التفصيل، ومبيّنة غاية البيان، وهذا من عظمة الشريعة، وصلاحِها لكُلِّ زمانٍ ومكان، واستيعابها للثوابت والمتغيّرات".
ونظرة دقيقة في نصُوص الوحي – القرآن والسنة – تطلعنا على منظومةِ القيم السياسية الهادية؛ كالشورى والعدل وأداء الأمانة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا تتناولُ وسائلَ تطبيقيّة جاهزة، ولا أدوات تنفيذية مُحدّدة، من قبيل كيفيّة اختيار الحاكم، وما هي مدة ولايته؟ ومَنْ يختارُه، وكيف نحاسِبَ تصرفاته؟ وكيف نفصلُ بين السلطات؟ وكيف ننظم عمل المعارضة السياسية؟ وآلياتِ الأمر بالمعروف السياسي والنهي عن المنكر السياسي؟ من هنا نخلص إلى قضية وهي: أنه لا يوجد جدول عمل محدّد للنظام السياسي الإسلاميّ بالمعنى الفلسفي للنظام، بينما هناك منظور وتصوّر سياسي، وقيم سياسية هادية وضابطة للفعل السياسي الإنساني، وهذه القيم السياسيّة عندما تتحوّل إلى نظام مؤسساتي، فإنّها تتحوّل إلى نظامٍ سياسي". ومن هُنا فإنّ "مأسسةَ القيم السياسية التي جاء بها الإسلام هو جهد بشريّ محض موكُولٌ لاجتهاد البشر بحسب ظروف الزمان والمكان، ولا يجوز أن نقدِّس الوسائل - بشكلٍ من الأشكال - بسبب قِدمها، أو بسبب انتمائِها للسلف. فلو كان السلف في عصرنا لغيّروا الكثيرَ منها تحت ضغطِ الواقِع وحاجاتهِ المتجدِّدة، لذا، فإن شرعيّة أيّ وسيلة وآلية ومؤسسة تكمُن في قدرتها على تحقيق المقاصد والغايات التي جاءت بها الشريعةُ الإسلاميّة".

ومن هُنا فإن "اختزالَ الإسلامِ في السياسة فقط - حسب توصيف د.محمد عمارة - والاهتمام بالدولة وامتلاكها، والثورة، والقفزِ على الحكم، هو خطيئة فكريَّة، لأن السياسةَ عند أهلِ السنة الذين يمثلون (90%) من الأُمَّة الإسلاميَّة، هي مِنَ الفروع، وليستْ من أُمّاتِ العقائِد، والحركةُ الإصلاحيَّة - كظاهرة - كانت تُركِّز على إعادةِ صياغةِ النفس الإنسانيَّة بالإسلام كمنهجِ الرسول (صلى الله عليه وسلم) الذي بدأ به في مكّة، لأنه عندما يُعَاد صياغة الإنسان بالأصول الإسلاميَّة، تأتي الفروع، وتأتي السياسة، وغيرها، فأولويَّة الأصُول لا بُدَّ أن تَسْبِقَ الفرُوع، وأولويَّة الأُمَّة لا بُدَّ أن تَسْبِقَ الدولة، وهذا واضِحٌ في فكرِ الحركةِ الإصلاحيَّة وضُوحاً شديداً".

هناك تعليق واحد: