02‏/04‏/2018

منهج الوسطية الإسلامية في فقه الواقع - القسم الثاني -


د. دحام إبراهيم الهسنياني

لقد تميّزت الأمّة الإسلامية بخاصية منفردة لم تكن لأمة من الأمم السابقة، وهي ميزة الوسطية، التي جعلها الله (سبحانه وتعالى) خصيصة لأمة محمد (صلى الله عليه وسلم)، في القرآن الكريم، في قوله (سبحانه وتعالى): )وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أمةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا(([1])
ولفظ (وسط) يعبّر عن معنى جديد في الأديان، وخلق سام في الدين الإسلامي([2])، لأن من أهم خصائص التجربة الإسلامية في التاريخ هي: (الوسطية)، وهي الحقيقة التي تتجسد فيها الأصالة، التي يتحتم على المجتمعات الإسلامية الاحتماء بها في صراعها ضد أعدائها الساعين إلى القضاء عليها.

وأما الوسطية، فهي خط تجميع لا تفريق، وخط بناء لا هدم، يحاول أن يجمع ما استطاع، ويقف في الوسط، ولا ينحاز لجانب. وصفة الوسطية في هذه الأمّة، هي ميزانها الدقيق، ومعيارها القويم، الذي يستوعب الحياة بمستجداتها، والناس بأفكارهم وأنماطهم الحياتية، وأسلوب تعايشهم، وتباين علاقاتهم، ليجعل منهم أمة واحدة؛ إطارها العام الإسلام، بما يحويه من رأفة ورحمة وعفو وتسامح، مستوحى من قول الله (سبحانه وتعالى): )وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ(([3])، والنبي محمد (صلى الله عليه وسلم) يقول: (إنما أنا رحمة مهداة)([4]).
ولم يرسله ليكون سببًا لشقائهم، وهلاكهم، وبعدهم عن الحق، فأنى لهذه الغاية السامية السامقة أن تؤتي أكلها من خلالنا، كما استوت على سوقها من خلال طليعة هذه الأمّة، ورواد فكرها، وجهابذتها، الذين فهموا الإسلام، وعملوا له على أساس شموليته وعظمته واعتداله، لنصل معًا، وبجهود متكاتفة ومتكاملة، لأداء الأمانة على أتم وجه وأحسنه وأكمله وأعدله، لنكون خير من عمل على أسلمة العصـر بوعي وفهم واقتدار، لا عصرنة الإسلام بتفريط وتخلف وانحلال، فلا يمكن بحال أن يشكل الإفراط والغلو ميزانًا عادلاً، ولا التفريط والإخلال معيارًا صادقًا، فالأصل في الميزان أن تستوي كفتاه، ليؤدي وظيفته بأمانة ونزاهة وإتقان.. والإسلام دين الواقع، كما أنه دين الوسطية، وقد بيّن العلماء وأصحاب الشأن منهج الوسطية الإسلامية في فقه الواقع، ويمكن توضيح هذه القضية بما يأتي:

1.       مفهوم فقه الواقع:
الفقه: العلم بالشيء، والفهم له. وغلب علم الدين، لسيادته وشرفه وفضله على سائر العلم، كما غلب النجم على الثرّيا. والفقه في الأصل: الفهم. يقال: أوتي فلان فقهاً في الدين، أي: فهماً فيه. قال الله (سبحانه وتعالى): ]لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ(([5])، أي ليكونوا علماء به. ودعا النبي (صلى الله عليه وسلم) لابن عباس (رضي الله عنه) فقال: (اللهم فقهه في الدين، وعلّمه التأويل)[6]، أي: فَهِّمْهُ تأويله ومعناه، فاستجاب الله دعاءه، وكان من أعلم الناس في زمانه بكتاب الله (سبحانه وتعالى)([7]). ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)([8]).
قال الشيخ (يوسف القرضاوي) في شرح هذا الحديث: "والمعنى: أن ينير الله بصيرته، فيتعمّق في فهم حقائق الدين وأسراره ومقاصده، ولا يقف عند ألفاظه وظواهره"([9]). وكل عالم بشيءٍ فهو فقيه، من ذلك قولهم: فلان ما يفقَهُ، وما ينقه، معناه: لا يعلم، ولا يفهم([10]).
معنى الواقع: العصـر الذي يعيش فيه الإنسان المسلم في فترة عمره، والوقائع هي الأحداث التي تحدث في عصـره. قال (سبحانه وتعالى): ]وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ(([11]). أيام الله هي الأيام التي أمر الله رسله بتذكير أممهم بها. وقال ابن عباس (رضي الله عنه): (أيام الله يعني: نعمه)([12]). وقال مقاتل: أيام الله: "بوقائع الله في الأمم السالفة، يقال: فلان عالم بأيام العرب، أي: بوقائعهم"([13]).
وفي هذا يقول (ابن القيم الجوزية): "والصواب: إن أيامه تعمّ النوعين، وهي وقائعه التي أوقعها بأعدائه، ونعمه التي ساقها إلى أوليائه. وسمّيت هذه النعم والنقم الكبار، المتحدث بها، (أياماً)، لأنها ظرف لها. تقول العرب: فلان عالم بأيام العرب، وأيام الناس، أي: بالوقائع التي كانت في تلك الأيام. فمعرفة هذه الأيام توجب للعبد استبصار العبر، وبحسب معرفته بها، تكون عبرته وعظته"([14]).
فواقع المسلم المعاصر، في أيامنا، هي الحياة التي يعايشها المسلم في المجتمع الذي تحيط به قوى عالمية، منها على سبيل المثال: اليهودية والصهيونية العالمية، الصليبية العالمية، المشركون من غير أهل الكتاب (البوذية، الشيوعية، الوثنية)، والمسلمون (على اختلاف مذاهبهم وأفكارهم). فكان لا بد للمسلم المعاصر من دراسة ومعرفة هذه القوى، سواء أكانت قوى ظاهرة أو خفية، ودراسة أفكار هذه القوى وأهدافها.
بعد تحليل ودراسة (فقه الواقع)، لا بد أن نشير إلى معنى فقه الواقع مركباً: قال الإمام (ابن القيم): "ولا يتمكن المفتي، ولا الحاكم، من الفتوى والحكم بالحق، إلا بنوعين من الفهم:
أحدها: فهم الواقع، والفقه فيه، واستنباط علم حقيقة ما وقع، بالقرائن والأمارات والعلامات، حتى يحيط به علماً.
الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به، في كتابه، أو على لسان رسوله، في هذا الواقع. ثم يطبق أحدهما على الآخر. فمن بذل جهده، واستفرغ وسْعه في ذلك، لم يعدم أجرين أو أجراً. فالعالم من يتوصل بمعرفة الواقع، والتفقه فيه، إلى معرفة حكم الله ورسوله"([15]).
ويقول الدكتور (يوسف القرضاوي): إن فقه الواقع "مبني على دراسة الواقع المعيش دراسة دقيقة مستوعبة لكل جوانب الموضوع، معتمدة على أصح المعلومات، وأدق البيانات والإحصائيات"([16]). ويقول في موضع آخر: "فقه الواقع: أي معرفة الواقع معرفة صحيحة دقيقة، معرفته على ما هو عليه، سواء كان لنا أم علينا، لا معرفته كما نتمنى أن يكون، كما يفعل ذلك كثيرون في تصوره وتصويره، فإن ذلك خداع للنفس، وتضليل للغير. والواقع الذي نريده: كل ما يحيط بنا في هذه الحياة، ويؤثر فينا إيجاباً أو سلباً، سواء واقعاً عالمياً أم إقليمياً أم محلياً أم شخصياً، واقعنا وواقع خصومنا على سواء"([17]).
ويقول الأستاذ (عمر عبيد حسنة): "فالنزول إلى الميدان، وإبصار الواقع الذي عليه الناس، ومعرفة مشكلاتهم، ومعاناتهم، واستطاعتهم، وما يعرض لهم، وما هي النصوص التي تتنزل عليهم في واقعهم، في مرحلة معينة، وما يؤجل من التكاليف لتوفير الاستطاعة، إنما هو فقه الواقع، وفهم الواقع إلى جانب فقه النص"([18]).
ويقول الدكتور (ناصر العمر)، في تعريفه لفقه الواقع: "هو علم يبحث في فقه الأحوال المعاصرة؛ من العوامل المؤثرة في المجتمعات، والقوى المهيمنة على الدول، والأفكار الموجهة لزعزعة العقيدة، والسبل المشـروعة لحماية الأمّة، ورقيّها، في الحاضر والمستقبل"([19]).
ويقول الشيخ (محمد إبراهيم الهسنياني) -رحمه الله-: (فقه الواقع هو علم من العلوم الفقهية المستجدة في الساحة الإسلامية، وهذه المستجدات والمسائل التي تطرأ على الساحة الإسلامية تحتاج الى فهم عميق ودقيق ودراسة المسألة من كل جوانبها، وإعطاء الحلول المناسبة لها، تماشياً مع روح الإسلام، بعيداً عن التعقيدات والافتراضات الفقهية، وبما يلائم واقعنا وما يحتاجه الناس"([20]).

2.       مراعاة التيار الوسطي للواقع:
ويمكن التنبيه على بعض أشياء، قد تغيب عن بعض الناس، إذا أردنا أن نطبق أحكام الشريعة في واقعنا المعاصر:
أولها: إن كثيراً من المشكلات التي نعانيها اليوم، ونشكو منها، ونختلف في وصف علاج إسلامي لها: قد لا تبرز أصلاً في ظل المجتمع الإسلامي الصحيح، لأن بروزها الآن ثمرة لأوضاع غير إسلامية، ونتيجة لمجتمع غير ملتزم بمنهج الإسلام كله، ونظام الإسلام كله. فإذا تغيّرت صفة المجتمع، وتغيّرت أوضاعه، بظهور المجتمع المسلم المتوازن المتكامل - بمقوماته وخصائصه وأوضاعه - تلاشت تلك المشكلات، أو انكمشت، ولم تعد تكوّن مشكلة حقيقية.
ثانيها: إن من الناس من يتصور أن كل ما في مجتمعنا الحالي مخالف للإسلام، وإن كل الأنظمة والقوانين والمؤسسات ستهدم وتبنى من جديد. وهذا ليس بتصور سليم. فأكثر الأنظمة والقوانين والمؤسسات القائمة ستبقى، ولكن بعد أن تنقّى من العناصر الغريبة المنافية للإسلام، وتطعّم بالعناصر الإسلامية الخالصة، وبهذا: تكتسب الشـرعية، وتستحق البقاء باسم الإسلام.
ثالثها: إن قيام نظام إسلامي في مجتمع، لا يعني تغيير كل ما يراد تغييره فيه، ما بين عشية وضحاها. فمن الناس من يتصور في المجال الاقتصادي مثلاً: أنه بمجرد انتصار الاتجاه الإسلامي، والعودة إلى تطبيق شريعة الله، لا يطلع صباح اليوم التالي، إلا وقد صدرت الأوامر بـإغلاق المصارف (البنوك) الربوية السائدة، وشركات التأمين، وتسـريح موظفيها، وفرض الحراسة على ممتلكاتها.. إلخ. تبعاً لهذا التصور يتوقعون زلزلة الاقتصاد، وتعطيل المصالح، واختفاء رؤوس الأموال، وغير ذلك من النتائج والآثار.
وهذا التصور إنما جاء نتيجة القصور في فهم المنهج الإسلامي في علاج الواقع الفاسد، وتغيير المنكر القائم، وبناء المجتمع الصالح([21]).

3.       مبادئ ثلاثة تراعى في تغيير الواقع:
معالم التيار الوسطي يراعي الواقع المعاش، ولا يغفل عنه: سواء في عرض الدعوة الإسلامية والخطاب الديني للمسلمين وغير المسلمين، بحيث يهتم بما ينفع عقولهم، وينير قلوبهم، ويحل مشاكلهم، ولا يسبح بهم في الماضي بعيداً عن الحاضر، ولا في المثاليات الحالمة بعيداً عن الواقع. وكذلك في تقديم الشريعة الإسلامية بدلاً من الأنظمة والقوانين الوضعية، أو في تقديم الحل الإسلامي بديلاً عن الحلول المستوردة من اليمين أو اليسار. فالفقيه الحق هو الذي يزاوج بين الواجب والواقع، فلا يعيش فيما يجب أن يكون، غافلاً عما هو كائن.
فهناك مبادئ ثلاثة، لا بد أن توضع في الاعتبار، عند الاتجاه إلى تطبيق النظام الإسلامي، وإقامة المجتمع المسلم المتكامل المنشود، وهي([22]):
أ) رعاية الضـرورات: هناك مبدأ (الضـرورات) التي اعترف بها الشـرع، وجعل لها أحكامها. وتقرّر ذلك في قواعد فقهية عامة، أصّلها علماؤنا في كتب (القواعد الفقهية)، وفي كتب (الأشباه والنظائر)، هي: (الضـرورات تبيح المحظورات – الضـرورة تقدر بقدرها - الحاجة قد تنزل منزلة الضرورة). ولهذا المبدأ أدلته الكثيرة من الشـرع، في باب الأطعمة، وغيره. وهو مبدأ مسلّم به، مجمع عليه. والضرورات الشرعية ليست كلها فردية، كما قد يتوهم. فللمجتمع ضروراته، كما للفرد ضروراته. فهناك ضرورات اقتصادية، وسياسية، وعسكرية، واجتماعية، لها أحكامها الاستثنائية، التي توجبها الشـريعة، مراعاة لمصالح البشر، التي هي أساس التشريع الإسلامي كله.
ب) ارتكاب أخفّ الضررين: مثل (مبدأ السكوت على المنكر): إذا ترتب على تغييره منكر أكبر منه، دفعاً لأعظم المفسدتين، وارتكاباً لأخفّ الضـررين. وبناء على هذا المبدأ، يقرّر الفقهاء طاعة الإمام الفاسق، إذا لم يمكن خلعه إلا بفتنة وفساد أكبر من فسقه. ومما يستدل به لهذا المبدأ: حديث النبي (صلى الله عليه وسلم) لعائشة: (لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية، لهدمت الكعبة، وبنيتها على قواعد إبراهيم)([23]). ومن ذلك إبقاؤه (صلى الله عليه وسلم) على المنافقين، وترك التعرّض لهم، مع علمه بنفاق بعضهم على التعيين، وتعليله ذلك بقوله: (معاذ الله أن يتحدّث الناس أني أقتل أصحابي)([24]).
جـ) مراعاة سنة التدرّج: المبدأ الثالث: هو مبدأ (التدرج) الحكيم، الذي نهجه الإسلام عند إنشاء مجتمعه الأول. فقد تدرّج بهم في فرض الفرائض، كالصلاة والصيام والجهاد، كما تدرّج بهم في تحريم المحرمات: كالخمر ونحوها. وعند تجدّد ظروف مماثلة لظروف قيام المجتمع الأول، أو قريبة منها: نستطيع الأخذ بهذه السنة الإلهية، سنة (التدرّج) إلى أن يأتي الأوان المناسب للحسم والقطع. وهو تدرّج في (التنفيذ)، وليس تدرّجاً في (التشـريع)، فإن التشـريع قد تم واكتمل باكتمال الدين، وإتمام النعمة، وانقطاع الوحي: ]الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا[([25]). وهذا هو اليسـر، وتلك هي الواقعية، في منهج الإسلام العظيم.
وإذا جئنا إلى واقعنا المعاصر وجدنا أن الواقع المعاصر يجعل الاهتمام بقضية الوسطية، والدعوة لها، ضرورة وفريضة، فريضة يوجبها الدين، وضرورة يحتمها الواقع: أما فريضة الدين، فالله (سبحانه وتعالى) جعل سمة هذه الأمّة أن تنهض بهذا الواجب. وأما ضرورة الواقع، فنحن نشهد أن الأمّة يتعاورها على الساحة الإسلامية في الداخل تياران مغاليان: تيار الغلو الديني، وتيار الغلو العلماني، الأول بدأ بالتكفير، وانتهى بالتفجير، فكفر المخالف، سواء في الفروع أو الاجتهادات أو ظنيات المسائل، وأخرجه من ملة الإسلام، وحين يخرجه من ملة الإسلام يترتب على ذلك أن يستحل دمه وماله وعرضه. ولهذا التيار مظاهر كثيرة، منها استعمال القوة دون استيفاء شروطها، ومتطلباتها، والقيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، دون التزام قواعده الشرعية، وآدابه المرعية، والتصدي للفتوى، مع الافتقار إلى أدواتها وضوابطها، وادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة، وإقصاء الآخر، حتى الذي ينطلق معه من ذات الأصول الشرعية ذاتها.. لا يقول اجتهادي صواب يحتمل الخطأ، وإنما إن لم تكن معي فأنت عدوي، ومن كان معي قديس، ومن ليس معي إبليس.
إن من معالم الوسطية الإسلامية، أنه يراعي الواقع المعيش، ولا يغفل عنه: سواء في عرض الدعوة الإسلامية والخطاب الديني للمسلمين وغير المسلمين، بحيث يهتم بما يقنع عقولهم، وينير قلوبهم، ويحل مشاكلهم، ولا يسبح بهم في الماضي بعيداً عن الحاضر، ولا في المثاليات بعيداً عن الواقع.
وكذلك في تقديم الشريعة الإسلامية، بدلاً من الأنظمة والقوانين الوضعية، أو في تقديم الحل الإسلامي بديلاً عن الحلول المستوردة من اليمين أو اليسار، فالفقيه الحق هو الذي يزاوج بين الواجب والواقع، فلا يعيش فيما يجب أن يكون، مغفلاً ما هو كائن([26]).
من واجب الدعاة، مراعاة الموقف والبلد في إزالة الشبهة، وأن لا يشتط في إيضاح ما هو معروف عند قومه، وفي بلده، بل يوازن كل ذلك بوجه الحق الآخر، وتوضيح جوانب الإنصاف، ويكشف ما خفي من السلبيات، حتى يساهم في إرجاع الحق، وفى توضيح المواقف. ومن فقه هذا التوازن ما عمله العالمان المحدثان: الليث بن سعد، وإسماعيل بن عياش، حيث "كان أهل مصر ينتقصون عثمان، حتى نشأ فيهم الليث بن سعد، فحدّثهم بفضائل عثمان، فكفّوا عن ذلك. وكان أهل حمص ينتقصون علياً، حتى نشأ فيهم إسماعيل بن عياش، فحدّثهم بفضائل علي، فكفّوا عن ذلك"([27]). وقال سفيان الثوري لعطاء بن مسلم: (إذا كنت بالشام فاذكر مناقب علي، وإذا كنت بالكوفة فاذكر مناقب أبي بكر وعمر)([28]).
وليحذر الدعاة والمصلحون من مسألة مهمة، وهي إبراز الحق الذي مع أهواء الناس، وكتم الحق الذي يخالف أهواء الناس، فيبرز من العلم ما كانت إشارته خضـراء، ويسكت عمّا كانت إشارته حمراء، لأن فى هذا إعانة للظلم، وتخليطاً للحق مع الباطل، وتشابكاً للرايات، فيكون الإفساد أكثر من الإصلاح، ويكون الداعية عوناً للباطل دون أن يدري، مع ذرائع فاسدة تفتح، ومصالح راجحة تفوت، ثم بعد انكشاف الفتن، ووضوح الحقائق، يفقد أهل الحق ثقة الناس بهم، إذ إن النصر لا يأتي إلا لمن ثبت على النهج المستقيم. وليحذر الداعية أشد الحذر من المداهنة، وقد قيل لأسامة بن زيد، ألا تكلم عثمان بن عفان (قال كلمته دون أن أفتح باباً أكون أول من فتحه، وما أنا بالذي أقول لرجل- بعد أن يكون أميراً على رجلين- إنك خير...)([29]).
وقال المهلب: (قال أسامة: قد كلمته سراً دون أن أفتح باباً، أي باب الإنكار على الأئمة علانية، خشية أن تفترق الكلمة، ثم عرفهم أنه لا يداهن أحداً، ولو كان أميراً، بل ينصح له فى السر جهده...)، وقال عياض: "وفيه ذم مداهنة الأمراء في الحق، وإظهار ما يبطن خلافه، كالمتملق بالباطل. فأشار أسامة إلى المداراة المحمودة، والمداهنة المذمومة، وضابط المداراة لا يكون فيها قدح فى الدين، والمداهنة المذمومة أن يكون فيها تزيين القبيح، وتصويب الباطل، ونحو ذلك..."([30]).
إن الفقه الحق لا بد أن يكون واقعياً، يعرف الواقع ولا يجهله، يلتفت إليه ولا يلتفت عنه، يُعمله ولا يهمله، يبني عليه ولا يبني في فراغ. ويتم ذلك على وجهين:
1)                  تحقيق المناط:
أي معرفة المحكوم فيه على حقيقته، ومعرفة ما يدخل فيه، وما لا يدخل فيه. وهذا يقتضـي المعرفة الجيدة بالواقع ومكوناته، وبالأشياء وأوصافها، وبالأفعال وأسبابها وآثارها.. إذ من دون هذا يمكن أن يقع تنزيل الأحكام على غير ما وضعت له، أو على أكثر ممّا وضعت له، أو على أقل ممّا ضعت له، ويمكن أن يقع تعطيل الحكم مع وجود محله ومناطه. وحين يغيب تحقيق المناط، نرى ناساً ينفّذون الحدود في غير موضعها، وآخرين يضعون القتال في غير موضعه، وغيرهم يضعون السلم في غير محله.
ولقد ذهب الإمام (الشاطبي) في تحقيق المناط مذهباً فذاً، وسمّاه (تحقيق المناط الخاص)، وهو الذي لا يكتفي المجتهد فيه بتحقيق المناط بصفة عامة وإجمالية، وتنزيل الأحكام والتكاليف على من هم داخلون تحت عموم مقتضياتها، وإنما ينظر في الحالات الفردية، ويقدر خصوصياتها، وما يليق بها، ويصلح لها في خصوصياتها تلك([31]).
فإذا كان تحقيق المناط العام يقتضـي معرفة الواقع في عمومه، ومعرفة الحالات في إجمالها، فإن تحقيق المناط الخاص يقتضي معرفة الواقع الخاص، ومقدار خصوصيته، وما تستوجبه تلك الخصوصية في ميزان الشـرع.
ومما يدخل في هذا الباب، مراعاة الإمكان، أي: تقدير ما يمكن وما لا يمكن، وتقدير حدود الإمكان فيما هو ممكن. ذلك أن التكليف الشرعي يدور مع القدرة والإمكان وجوداً وعدماً وقدراً. وإذا كان (الميسور لا يسقط بالمعسور)، فإن (المعسور لا يُلحق بالميسور). وتمييز ما هو مقدور مما ليس بمقدور، وما هو معسور مما هو ميسور، يحتاج إلى دراية بالواقع وأهله([32]).
والمقصود عندي هو أن الفقيه المجتهد، لكي يتمكن من تحقيق المناط، سواء في مستواه العام، أو في مستواه الخاص، لا بد له أن يكون عارفاً خبيراً بصيراً بالواقع الذي فيه يجتهد، وفيه يفتي، ولا بد له أن يستحضره، ويأخذه بعين الاعتبار، وهو يجتهد ويفتي.
2)                  اعتبار المآل:
ومعناه النظر فيما يمكن أن تؤول إليه الأفعال والتصرفات والتكاليف موضوع الاجتهاد والإفتاء والتوجيه، وإدخال ذلك في الحسبان عند الحكم والفتوى.
وإذا كان تحقيق المناط يقتضي معرفة ما هو واقع، فإن اعتبار المآل يقتضـي معرفة ما هو متوقع، أي ما ينتظر أن يصير واقعاً. ومعرفة ما هو متوقع لا تأتي إلا من خلال المعرفة الصحيحة والدقيقة بما هو واقع. ومن هنا، فإن معرفة المآل، واعتبار المآل، جزء من معرفة الواقع، وثمرة من ثمراته([33]).




([1]) سورة البقرة، الآية: 143.
([2]) لسان العرب، ابن منظور: 9/234، مادة: وسط.
([3]) سورة الأنبياء، الآية: 107.
([4]) رواه الحاكم في مستدركه: 1/91، رقم: (100) وقال: حديث صحيح، وأقرّه الذهبي. ورواه البيهقي في شعب الإيمان: 2/140، فصل في أسمائه (صلى الله عليه وسلم)، وابن عساكر: 5/401.
([5]) سورة التوبة، الآية: 122.
([6]) رواه البخاري في كتاب الوضوء، باب: وضع الماء عند الخلاء، ورواه أحمد في كتاب مسند بني هاشم، باب: مسند عبد الله بن عباس.
([7]) لسان العرب: 13/522. مادة (فقه).
([8]) رواه البخاري في كتاب العلم – باب العلم قبل القول والعمل، فتح الباري شرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني: 1/213، ورواه مسلم في كتاب الزكاة – باب النهي عن المسألة. شرح صحيح مسلم محي الدين يحيى بن شرف النووي: 7/133. سنن ابن ماجة: 1/80 في المقدمة، باب فضل العلماء والحث على طلب العلم.
([9]) أولويات الحركة الإسلامية: 29.
([10]) لسان العرب: 13/522.
([11]) سورة إبراهيم، الآية: 5.
([12]) الدر المنثور في التأويل بالمأثور: 6/32.
([13]) الجامع لأحكام القرآن: 9/342.
([14]) مدارج السالكين: 1/388.
([15]) أعلام الموقعين عن رب العالمين: 1/87.
([16]) أولويات الحركة الإسلامية: 30.
([17]) السنة مصدراً للمعرفة والحضارة، الدكتور يوسف القرضاوي: 228.
([18]) تقديمه لكتاب: فقه الواقع أصول وضوابط، أحمد بوعود: 43.
([19]) فقه الواقع: 10.
([20]) التأصيل الشرعي لفقه الواقع، الشيخ محمد الهسنياني: 10.
([21]) الصحوة الإسلامية من المراهقة إلى الرشد، القرضاوي: 271.
([22]) ينظر: بينات الحل الإسلامي للقرضاوي: 208 - 213.
([23]) رواه أحمد: 6/239، رقم (26071)، والبخاري: 2/574، رقم (1509) في العلم: باب ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس عنه فيقعوا في أشد منه، ومسلم: 2/969، رقم (1333) بَاب نَقْضِ الْكَعْبَةِ وَبِنَائِهَا، والنسائي: 5/216، رقم (2903) في مناسك الحج: باب بناء الكعبة. وابن ماجة 2955 في المناسك باب: الطواف بالحجر، والترمذي 875 في الحج باب ما جاء في كسر الكعبة، والنسائي: 5/215.
([24]) رواه أحمد: 3/353، رقم (14846)، ومسلم: 2/740، رقم (1063)، والطبراني: 2/185، رقم (1753). والنسائي في الكبرى: 5/31، رقم (8087)، وابن حبان: (4819).
([25]) سورة المائدة، الآية: 3.
([26]) الصحوة الإسلامية من المراهقة إلى الرشد، الدكتور يوسف القرضاوي: 270.
([27]) سير أعلام النبلاء: 8/148
([28]) المرجع نفسه: 7/260.
([29]) غوامض الأسماء المبهمة الواقعة في متون الأحاديث المسندة، خلف بن عبد الملك بن بشكوال: 2/863، عالم الكتب، ط1، 1407، بيروت.
([30]) فتح الباري: 13/52.
([31]) الموافقات في أصول الشريعة: 4/181.
([32]) الإبهاج في شرح المنهاج على منهاج الوصول إلى علم الأصول للقاضي البيضاوي، علي بن عبد الكافي السبكي: 1/110، دار الكتب العلمية – بيروت، ط1، 1424هـ ـ 2004م.
([33]) أعلام الموقعين: 3/5، والموافقات: 4/183.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق