02‏/04‏/2018

التعددية السياسية والحزبية من منظور إسلامي -القسم الثاني-


سالم الحاج 
الموقف من التعددية السياسية والحزبية في الفكر الإسلامي المعاصر:
إن استقراء موقع التعددية والحزبية في الفكر السياسي الإسلامي، يحتاج - ولا شك - إلى البحث في ذلك عند الجماعات الإسلامية، والمفكرين الإسلاميين المعاصرين، ذلك أن هذه المصطلحات لم تعرف، ولم يتم تداولها، إلا في العصر الحديث، وتحديداً في الربع الأخير من القرن العشرين.. ومع أنه يصعب تحديد بدايات استعمال هذا المصطلح – كما ذكرنا سابقاً- إلا أنه من المؤكد أنه مصطلح حديث الاستعمال جداً، لا ذكر له في كتابات الجيل الأول، ولا الثاني، ولا الثالث، من رجالات النهضة والإصلاح الإسلامي([1]).
وقد تباينت مواقف الإسلاميين من قضية (التعددية السياسية والحزبية)، واختلفوا فيما بينهم إلى فريقين: فريق يرفضها، وفريق يؤمن ويقرّ بها.. ولذلك، فإننا سنعرض في البداية لأدلة الفريق الرافض لها، ثم ندرج بعدها ردود الفريق الثاني عليها، وذلك فيما يلي:

أولاً: أدلة الفريق الرافض للتعددية السياسية والحزبية:

يرى هذا الاتجاه أن التعددية الحزبية والسياسية أمر مذموم في الإسلام، لأنه يؤدي إلى تفرّق الأمّة، ولأن المسلمين لم يعرفوه في تاريخهم، ولم يدعوا له، وإنما هو من جملة ما نقل إلى المسلمين من تجارب الغرب..
ويستند هذا الفريق على جملة من الأدلة في رفضه لها، ومنها:   
1-         إن نظام (التعددية السياسية والحزبية) إنما يفترض قيام أحزاب سياسية متنافسة فيما بينها.. وبما أن الإسلام لم يعرف الأحزاب السياسية في تاريخه، وأنّ ذكر (الأحزاب) لم يأت في القرآن الكريم إلا مقترناً بالذم([2])، "وفي المقابل لم يشر إلى جماعة المسلمين بتعبير (الأحزاب) قطّ، وإنما أشير إليهم بصيغة المفرد على أنهم (حزب الله)، وذلك في موضعين اثنين في القرآن الكريم. فدلّ ذلك على أن المذهبية الإسلامية لا تتسع إلا لحزب واحد فقط هو حزب الله، أما (الأحزاب) فهي تعبير يتّسع لجميع الفرق والنحل الخارجة عن جماعة المسلمين"([3]).
2-         الافتراق والاختلاف أكبر مظاهر الأحزاب السياسية، بل هو بنيانها.. وقد نهى الإسلام، في القرآن والسنة، عن التفريق في الدين، والتشرذم، والتنازع.. "وإذا كان هذا حال الافتراق في نظر الشريعة، وهو مظهر من مظاهر الأحزاب السياسية، فماذا يكون حال الأحزاب السياسية نفسها؟ هذا ما لا يحتاج إلى بيان"([4]). ولذلك فإن الدعوة إلى (التعددية الحزبية) تكون مخالفة للكتاب والسنة، بما تحدثه من انشقاق وتفرّق بين المسلمين([5]).
3-         إن معقد الولاء والبراء هو الإسلام لا غير، وقد تواترت في ذلك النصوص الصحيحة، ومنها: قوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}المائدة/55 . وقوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ}التوبة/71.
والحزب "إنْ جعل الإسلام أساس الولاء والبراء، فلا حاجة لإقامة أحزاب، وإنْ جعله أمراً آخر غير الإسلام، فإن ذلك يكون أمراً جاهلياً، وأمور الجاهلية كلها لا تصلح لأن يكون شيء منها أساساً لإقامة حزب سياسي"([6]).
4-         نظام (التعددية الحزبية) إنما يقوم على أساس التنافس من أجل الإمارة والوصول إلى الحكم، وهو أمر مذموم في الإسلام.. فهناك الكثير من الأدلة الشرعية التي تنهى عن التنافس في طلب الإمارة، وتتوعد من يفعل ذلك بالخذلان وسوء العاقبة([7])، ومنها: ما رواه البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري (رضي الله عنه) قال: (دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم أنا ورجلان من قومي، فقال أحد الرجلين: أمّرنا يا رسول الله، وقال الآخر مثله. فقال: إنّا لا نولّي هذا من سأله، ولا من حرص عليه)([8]). ومنها ما رواه البخاري، وغيره، عن أبي هريرة (رضي الله عنه) عن النبي (صلى الله عليه وسلم): (قال إنكم ستحرصون على الإمارة، وستكون ندامة يوم القيامة، فنعم المرضعة، وبئست الفاطمة)([9]).
5-         ويقترب من النقطة السابقة، الأدلة التي تنهى عن تزكية النفس والطعن في الآخرين، ومن أمثلتها: قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً}[النساء: 49]. وقوله تعالى: {فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى}[النجم: 32]. وقوله: {وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ}[الحجرات: 11].. ومن المعلوم أن الحملات الانتخابية، وحملات التنافس الحزبي بين مرشحي الأحزاب، إنما تقوم على تزكية النفس، والقدح في الآخرين، ولا يخرج ذلك أن يكون إما بحق أو بباطل، فإن كان بحق فهو غيبة، وإن كان بباطل فهو بهتان([10]).
6-         ومن جهة أخرى، فإن نظام (التعددية الحزبية) – كما ذكرنا – إنما يقوم على أساس التنافس في طلب السلطة والولاية، فالسعي للوصول إلى الحكم هو مفرق الطرق بين الأحزاب السياسية وبين غيرها.. فكيف نقول بمشروعية مثل هذا النظام الذي يصادم الأصول الشرعية التي تنادي بطاعة الأئمة - في غير معصية بالطبع-، وتنهى عن منازعتهم، وتحرّم الخروج عليهم([11]).
7-         إن (التحزّب) لا يخرج أن يكون قائماً: إمّا على أصول كلية بدعية، تخالف الأصول الثابتة بالكتاب والسنة، وهو تحزّب الفرق الضالة، المحرّم بالإجماع، وأهله خارجون عن السنة والجماعة، داخلون في الفرقة والضلالة.. وإمّا أن يكون تحزّباً على اجتهادات فروعية، وخلافات فقهية، والأصل فيه المنع، "لأن الواجب فيها أن تردّ إلى الله ورسوله، كما قال تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}[النساء: 59]، فإن اجتمعت الكلمة فَبِها ونعمتْ، وإلا فالتغافر والتراحم، الذي لا يجتمع شيء منه مع التحزّب بحال من الأحوال"([12]).. وإمّا أن يكون تحزّباً على أمور تتعلّق بالحكمة والتدبير، مما تركته الشريعة عفواً للأمّة، وهذا النوع "رغم قبوله - بطبيعة الحال - لتفاوت الآراء، وتعدّد الاجتهادات، إلا أنه لا يجوز أن يتحزّب الناس على أساسه، وتتفرّق كلمتهم بسببه، بل يتعيّن النزول في النهاية على رأي الجماعة، والالتزام لها بالطاعة"([13]).
8-         التعددية السياسية، والحزبية، تعني - فيما تعنيه- تبادل السلطة بين الأطراف المتنافسة، وهذا أمر لم يعهد عند المسلمين، حيث إن المعروف من عمل الصحابة، والمسلمين من بعدهم، أن (الخليفة) إذا عقدت له (البيعة)، "فهو باق في منصبه، ما لم يتغيّر حاله: بنقص في بدنه، أو جرح في عدالته، أو ردّة عن الإسلام بالكلية"([14]).
9-         لا توجد سوابق تاريخية عند المسلمين، فلم يعرف المسلمون مثل هذا النظام، فكان ذلك كالإجماع من الأمّة على تركه.. وأمّا ما حدث في التاريخ الإسلامي من انشقاق بعض الفرق عن جماعة المسلمين، فتلك ظواهر مرضية اعترت الجسم الإسلامي في فترة من الفترات.. وهي بالتالي لا تصلح دليلاً على مشروعية مثل هذا التشرذم والتفرّق، وقد صحّ في هذه الفرق قول النبي (صلى الله عليه وسلم): (إن هذه الأمّة ستفترق على ثلاث وسبعين: ثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة، وهي الجماعة)([15]).
10-       إن تعدد الأحزاب الذي يمكن أن ينشأ في المجتمعات الإسلامية، لا يمكن فصله عن الدين.. ومن هنا، فإن الفارق بين المواقف السياسية الممتزجة بالدين، وبين المواقف السياسية العلمانية المبنية على مجرد الرأي والمصلحة، هو فارق كبير.. "فإن الدين لا يسمح بالتهاون في الموقف المبني عليه، ولا بالتنازل عنه، بل يثير نزعات التحمّس والثبات عليه... ولذلك يتسارع المسلمون إلى الاقتتال عندما يقع بينهم مثل هذا الخلاف"([16])، على عكس المواقف السياسية المفصولة عن الدين، "فإنها تخلو من هذا الحماس، ومن تلك الغيرة، التي يبعثها البعد الديني في المواقف السياسية الممتزجة بالدين"([17]). "والخلاصة أن التعدد عندنا لا بد أن يفضي إلى الهرج والفتن، والتعدد عند القوم لا يفضي إلى ذلك، لانعدام الغيرة الدينية في مواقفهم السياسية. فالقياس إذن مع الفارق"([18]).
11-       لقد فشلت التجارب الحزبية المعاصرة في أغلب البلاد الإسلامية، و"كانت في الجملة وبالاً على الأمّة، وجرثومة تنخر في كيانها، وفرجات اخترقت الأمّة من خلالها، وتهارجت صفوفها بسببها"([19])... ولذلك فلا معنى للدعوة إلى تعددية الأحزاب في ظل هذا الواقع !.
هذه أهم الأدلة التي استند إليها الفريق الأول في معارضتهم للتعددية الحزبية والسياسية.. وقد أوردناها باختصار شديد، خشية الإطالة، وقد ردّ الفريق الثاني عليها، داعياً إلى الاتعاظ من تجارب الماضي – البعيد والقريب -، والسير في طريق تأصيل (التعددية السياسية والحزبية)..
ثانياً: أدلة الفريق القائل بمشروعية (التعددية السياسية والحزبية)
أشرنا فيما سبق إلى أن تيار رفض العمل السياسي، وتحريم تشكيل الأحزاب، بين الإسلاميين، أصبح ضعيفاً، ويكاد يكون شيئاً من الماضي، ذلك أنه اتجاه يسقط في مقولة العلمانية: مقولة الفصل بين الدين والسياسة، كما يقول (راشد الغنوشي)([20]).
أمّا (التعددية السياسية والحزبية)، فإنه وإنْ كان التعامل معها يجري – وحتى وقت قريب- "بنوع من الحساسية والحرج والتحفظ"([21])، ولكن الدعوة إليها، والإيمان بها، أصبح اليوم يشكّل التيار الغالب في الحركات الإسلامية...
 وقد اعتمد هذا الفريق، القائل بمشروعية (التعددية السياسية والحزبية)، على عدد من المرتكزات والأدلة، نوردها فيما يلي:

1-                 السياسة الشرعية:
يقول (ابن عقيل): "السياسة ما كان فعلاً يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح، وأبعد عن الفساد، وإنْ لم يضعه الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا نزل به وحي"([22]). وينقل عن الإمام (القرافي) قوله: "واعلم أن التوسعة على الحكام في الأحكام السياسية ليس مخالفاً للشرع"([23]). وقد اشتهر قول الإمام (ابن القيم) في كتابه (الطرق الحكمية): "فلا يقال: إن السياسة العادلة مخالفة لما نطق به الشرع، بل هي موافقة لما جاء به، بل هي جزء من أجزائه، ونحن نسميها سياسة تبعاً لمصطلحكم، وإنما هي عدل الله ورسوله، ظهر بهذه الأمارات والعلامات"([24]).
 فهذه النصوص كلها تؤكد أن تدبير شؤون الحكم، وتنظيم العلاقات بين السلطات العامة في الدولة، وبينها وبين الناس، وتمكينهم من ممارسة حقوقهم، كل ذلك من (السياسة الشرعية) التي لا يشترط فيها أن تكون على مثال سابق، "بل الذي يشترط هو ألا تخرج عن قوانين الشريعة الكلية، وحدودها العامة، وأن تتحقق بها المصلحة، ويرفع بها الحرج"([25])..
 ووجود الأحزاب السياسية، وتعدّدها، هو من هذا الباب، وخاصة في ظل واقع مجتمعاتنا، وواقع السلطات الحاكمة فيها، حيث تمس الحاجة إلى وجود "رقابة شعبية منظمة، تأطر هؤلاء الحكام على الحق أطراً ، وتردهم إلى الجادة إذا شردوا، وتتبنى مطالب الأمّة، وتضع البرامج السياسية القادرة على استصلاح الأحوال، والنهوض بالبلاد والعباد، وتدفع إلى التنفيذ، من خلال إطار سلمي مشروع يتفق عليه الكافة"([26]).

2-                 الأصل في العقود والمعاملات الإباحة، حتى يأتي ما يدلّ على التحريم:
وهذا هو أحد الرأيين في هذه المسألة، وهو الذي انتصر له عدد كبير من أهل العلم، منهم شيخ الإسلام (ابن تيمية) في (الفتاوى)، وغيره، "وهو الأليق بمقاصد الشرع، والأقوم بمصالح المكلفين"، كما يقول (د. صلاح الصاوي)([27]).. ولما كانت الإجراءات اللازمة لتنفيذ سياسة الدولة هي من باب العاديات والعقود، كان الأصل فيها الحل، حتى يأتي ما يدل على التحريم، ومن ذلك ( التعددية السياسية والحزبية )، فهي وسيلة أو آلية لتحقيق مصالح الأمّة، وحفظها من جور الاستبداد، فطالما لم يوجد في أصولها وإجراءاتها ما يخالف الشرع، فالأصل فيها الحل، "وعلى مدّعي المنع إقامة الدليل"([28]).
ولا يصح الاحتجاج هنا بتجاوزات حدثت في التطبيقات، سواء هنا أو في أيّ مكان، "لأننا نتحدّث عن صياغة إسلامية لهذه التعددية، تبحث عن الإيجابيات فتنمّيها، وعن السلبيات فتنقّيها، وتؤكّد على الثوابت فلا مساس بها"([29])، "فالحديث هنا عن القيمة ذاتها، وليس عن أسلوب بعينة من أساليب ممارستها، طبّق هنا أو هناك"([30]).



3-                 ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب:
وهذه قاعدة أصولية معتبرة، فلو أردنا تطبيقها في موضوعنا هذا لقلنا: إن هناك العديد من المصالح أو المبادئ التي دعا إليها الإسلام، يتوقف وجودها، أو لا يتم تحقيقها بشكل متكامل وجيّد، إلا في ظل نظام التعددية السياسية والحزبية، ومن ذلك (الشورى).. "فمجال عمل الشورى، في باب السياسة والحكم، يتمثّل في عملية انتقال السلطة، والرقابة عليها، وفي كلا الأمرين تلعب التعددية السياسية دوراً هاماً في حسن القيام بهذه الأمور على وجهها المنشود"([31]). "وإذا كانت الشورى لا تتحقق، في أرشد تطبيقاتها، وأكثرها فعالية، في واقعنا المعاصر، إلا من خلال التعددية السياسية، فقد امتهد القول بشرعية هذه التعددية، بل بوجوبها، بناء على قاعدة مالا يتم الواجب إلا به فهو واجب، إذ الوسائل تأخذ حكم المقاصد: حلاً، وحرمة"([32]). وليس القول هنا: "أن التعددية هي الصورة الوحيدة لتحقيق الشورى، حتى يثور الاعتراض، وإنما كانت الدعوى أن التعددية هي أرشد، أو من أرشد، تطبيقات مبدأ الشورى في عملية انتقال السلطة في واقعنا المعاصر.."([33])..
" فالشورى - قاعدة الأساس في النظام السياسي الإسلامي - لا تتحقق بالصورة المرجوة إلا في ظلّ هذه التعددية، والتعاون على البر والتقوى يقود إلى التعددية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذا ما أريد لهما ألا يتحول إلى فوضى، فإن التعددية تضمن لها الفاعلية، وعمق التأثير"([34]).
أما (الرقابة) على السلطة، فهو حقّ أصيل للأمة، "وهو مبنيّ على أنها صاحبة الحق في السلطة ابتداء، وقد فوّضت أئمتها في القيام بتبعاتها في إطار (ما كان لله طاعة، وللمسلمين مصلحة)، ويبقى لها حق، بل عليها واجب الرقابة"([35])... ولا شك أن إقامة مثل هذا الواجب لن تتحقق، في صورته المجدية والعملية، إلا إذا تجاوز الجهود الفردية، "وقد انتهت التجارب السياسية المعاصرة إلى أن الأحزاب أكثر فعالية، وأعمق أثراً، وأجدى، في باب التغيير، واستصلاح الأحوال، من المعارضات الفردية المتناثرة، لا سيّما وأن المتأمّل في أحاديث الحسبة، يجد صيغة الخطاب فيها تتوجه إلى المجموع، لا إلى الآحاد"([36]).

4-                 قاعدة الذرائع والنظر إلى المآلات:
وهذه أيضاً من القواعد الأصولية المعتبرة، "والأصل في اعتبار الذرائع هو النظر إلى مآلات الأفعال.. فقد يكون الشيء مشروعاً، ولكن يمنع باعتبار مآله، وقد يكون غير مشروع، ويترخص فيه باعتبار مآله"([37])، و"لقد تمهّد من استقراء النصوص الشرعية، أن الاستقرار السياسي في الدولة الإسلامية، ومنع فتنة الخروج المسلح على الأئمة، أحد مقاصد الشريعة في هذا الباب، حتى أنها أوجبت الصبر على أئمة الجور، والتزام الطاعة لهم في غير معصية، وإن جلدوا الأبشار، وأخذوا الأموال، مراعاة لهذا المقصود"([38]). ومعلوم أن الخلاف والفتنة قد وقع في هذه الأمّة من قبل، وسيظل يقع، لأن من طبيعة المجتمعات الإنسانية الاختلاف في الرؤى والمصالح، والتضارب في الاجتهادات، فإذا كان الأمر كذلك، كان حقاً علينا أن نفكر في (التعددية السياسية، والحزبية) باعتبارها حلاً يقي مجتمعاتنا خطر مثل هذه الفتن، و"إذا أمكن التوصّل إلى صيغة تتيح للمعارضة شرعية الوجود، وشرعية العمل، وشرعية المشاركة في الحكم، على وجه من الوجوه، أليس هذا من جنس تحقيق مقصود الشارع في قطيع الذريعة إلى الفتن، وإشاعة الاستقرار في دار الإسلام"([39]).
أما الحديث عن المفاسد التي تصاحب (التعددية)، كالحديث عن التمزّق والانقسام الذي تزرعه، أو عن التنافس على السلطة والمصالح، أو غير ذلك، فهي دعوة إلى "مصادرة الرأي الآخر بحجّة اتّقاء الفرقة... وهي دعوة لإهدار مصلحة محقّقة تحسبّاً لمفسدة محتملة، وهو ما لا يقول به عقل أو نقل"، كما يقول فهمي هويدي([40])..
 ثم ألا ينظر هؤلاء الذين يتحدّثون عن مفاسد التعددية إلى "المفاسد التي تترتّب على المعارضة السرية التي تولد وتنمو في السراديب، ثم تنفجر فجأة في صور انقلابات عسكرية وثورات شعبية"([41])، وهي البديل الطبيعي إذا غابت التعددية السياسية والحزبية! وقد "علّمنا التاريخ، وتجارب الأمم، وواقع المسلمين، أن تقويم اعوجاج الحاكم ليس بالأمر السهل، وبالخطب اليسير"([42])، كما يقول د. يوسف القرضاوي، وخاصة في ظل (الدولة الحديثة)، التي تحتكر لنفسها كل مصادر القوة، فلا بد إذن من "تنظيم هذا الأمر، لتقويم عوج الحكام بطريق غير سلّ السيوف، وشهر السلاح"([43])..
 نعم، إن الموازنة بين المفاسد المتوهّمة، أو حتى المحققّة، الناجمة عن التعددية السياسية والحزبية، وبين المصالح التي تتحقّق بها من إتاحة الفرصة للخبرات أن تثري العمل السياسي، فضلاً عن تعميق الوعي السياسي لدى العامة، وصيانة الحريات، ومنع التسلط، وإشاعة الاستقرار.. كل ذلك يدفعنا إلى المناداة بمثل هذه الآليات والحلول.. "ألسنا نرى في الواقع أن الدول التي تطبّق هذا النظام هي أبعد الدول عن الثورات المسلحة والانقلابات العسكرية، بما أطلقوه من حرية المعارضة، وحرية التعبير، وحق المعارضة في المشاركة في الحكم، إنْ حازت تأييد الأغلبية"([44])..
" والخلاصة أن التعددية ذريعة إلى منع الاستبداد من ناحية، وإلى منع الاضطرابات، والثورات المسلحة، من ناحية أخرى.. والوسائل أو الذرائع تأخذ حكم المقاصد أو الغايات، حلاً وحرمة"([45])..  فهل يبقى شك بعد هذا في انتفاء الحرمة عن (التعددية الحزبية)؟!

5-                 صيانة الحقوق والحريات العامة:
إن صيانة الحقوق والحريات العامة هي من مقاصد الشرع الأساسية، وقد استخلف الله سبحانه وتعالى الإنسان في الأرض، وسخر له ما في الكون جميعاً، وجعل مدار مقاصد الشريعة على رعاية مصالح الإنسان، وصيانة حقوقه (في حفظ الدين والنفس والعقل والنسب والمال). ولقد رفع الإسلام هذه الحقوق إلى مرتبة الحرمات: قال صلى الله عليه وسلم: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا)([46]).
ولما كان مقصود الشارع في حماية هذه الحقوق والحريات لا يتأتى إلا بإنشاء هذه التكتلات الشعبية، التي تحمي الفرد من عسف السلطة، وجور الحكام، إذ – كما سبق أن قلنا – إن الفرد الأعزل لا قبل له بالوقوف أمام جبروت السلطة، كان من الواجب الصيرورة إلى القول بجواز، بل وجوب نظام التعددية السياسية والحزبية.. "ونحن لا نزعم أن التعددية هي الإطار الأوحد الذي لا يتصور غيره لصيانة هذه الحقوق والحرمات العامة، ولكنها من آكد هذه الأطر، وأكثرها فعالية، وأعمقها أثراً، وهي اللغة التي يفهمها ولاة الأمر في هذا العصر، وتعارفت عليها الأنظمة السياسية في مختلف البلاد"([47]).

6-                 السوابق التاريخية:
 يقول (د. محمد عمارة): "إذا كان التمايز في التنظيم الحزبي، على النحو الذي نفهمه اليوم من مصطلح (الحزب)، هو من ثمرات التطور في الحياة الفكرية والسياسية – وهو تطور تتمايز فيه الحضارات والمجتمعات – فإن التجربة السياسية الأولى قد شهدت من (المؤسسات) ما يشبه التمايز التنظيمي – ولا نقول الحزبي – على نحو من الانحاء"([48]). ثم يسمّي من هذه المؤسسات: (هيئة المهاجرين الأولين)، و(هيئة النقباء الإثني عشر)، وغيرها..
ويرى (د. يوسف القرضاوي) أن تعدّد الأحزاب في مجال السياسة، أشبه شيء بتعدّد المذاهب في مجال الفقه، فالمذهب الفقهي أشبه بـ (حزب فكري) التقى أصحابه على مجموعة من الأصول، "ومثل ذلك الحزب: إنه مذهب في السياسة، له فلسفته، وأصوله، ومناهجه، المستمدة أساساً من الإسلام الرحب"([49]).. ويرى الدكتور (القرضاوي) أن (الخوارج) كانوا (حزباً)، وكانوا يمثّلون (المعارضة المسلحة)، ومع ذلك فإن (الإمام علي) (رض) لم يلغ وجودهم، ولم يأمر بمطاردتهم وملاحقتهم، حتى لا يبقى لهم أثر، بل قال لهم في صراحة وجلاء: لكم علينا ثلاث: ألا نمنعكم مساجد الله، ولا نحرمكم من الفيء، ما دامت أيديكم في أيدينا، ولا نبدأكم بقتال"([50]).
ويذهب (د. محمد رضا محرم)، هو الآخر، في كتابه (تحديث العقل السياسي الإسلامي)، إلى أنه ثمة تيارات سياسية، وجماعات، تكوّنت منذ عهود الإسلام الأولى، فهو يرى أن (فتنة عثمان) أفرزت ( خمسة ) تيارات سياسية – فكرية، في مجتمع المسلمين، وأن هذه التيارات تطوّرت فيما بعد لتأخذ صيغة تكاد تكون دينية بحتة، "وقد ورثنا - نحن المسلمون المعاصرون - من هذه التيارات طبعاتها الدينية فقط، وأدمنّا التعامل معها، حتى إن الكثيرين منّا لا يزالون يخدعون عن الجوهر السياسي لها، بالمظهر الديني الذي بقي عنها"([51]).
 فهو يرى - إذن -، مع الكثيرين غيره، أن المسلمين قد عرفوا - منذ وقت مبكر- الجماعات والأحزاب السياسية – وإن لم يطلقوا عليها هذه الأسماء -، وقد كانت هذه الجماعات والفرق تمزج الديني بالسياسي، بصورة طبيعية، "لأنه في إطار الثقافة الإسلامية، التي لم يتمايز فيها الديني من السياسي، نشأت الفرق الكلامية، والمذاهب الفقهية، والطرق الصوفية – في الغالب – بدوافع وأهداف وأبعاد سياسية"([52]).
 فهذه السوابق التاريخية - إذن - تؤكد أن الحضارة الإسلامية قد عرفت (التعددية) حتى في المجال السياسي، فضلاً عن إقرارها في مجال (الكون) و(الإنسان) و(المجتمعات)([53])..
أما الذين يرون أن هذه (التعددية) كانت "مرضاً انتاب جسد الأمّة، ولم يكن ظاهرة صحية يحتج بها"([54])، ويستدلون على ذلك بمثل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ}[الأنعام: 159]. وبالقول بـ "إنه لم يكن ثمة فرق في عهده (صلى الله عليه وسلم) حتى قامت الفتنة بين علي ومعاوية (رض)"([55]).. فمن المؤكد أن هؤلاء قد خلطوا بين أصل الظاهرة، ووجودها في مجتمع المسلمين، وبين (الفتن) التي رافقت ظهور هذه (الفرق)، أو الأفكار الابتداعية التي كانت تحملها فرق أخرى.. وقد رأينا كيف كان موقف الإمام علي (رض)  – وهو يمثّل قمّة السلطة الإسلامية يومذاك – مع (الخوارج)، ونرى كيف يلغي هؤلاء وجودهم بجرّة قلم؟!.. وفي الحقيقة، فإن "المشكلة ليست في وجود (التعددية)، ولكنها في مدى قبول الفرد للآخر، أو الجماعة للأخرى، ومدى التسامح الذي يبديه كل فرد، أو كل جماعة، تجاه الآخرين"([56]).. 
فليست المسألة في أفكار هؤلاء، أو (بدعهم)، أو (الفتن) التي رافقت ظهورهم، ولكنها في كيفية التعامل معهم: هل نقبلهم ضمن النظام العام للدولة، فهي إذن (التعددية) التي ندعو إليها؟ أم نمحقهم، ونطمس آثارهم؟! وهي الدكتاتورية والطغيان الذي يبرأ منه الإسلام، والتي لم يؤسس لها (الإمام علي) (رض) حتى مع أعتى خصومه، وإنما يروّج لها بعض الكتاب المعاصرين.
ثم إن (الفرق) و(المذاهب) الإسلامية، ليست من (التفرقة في الدين)، هكذا على الإطلاق، ولم يتحدّث عنها المسلمون هكذا، كما أن عدم ظهورها في عهد النبي (صلى الله عليه وسلم) لا يعدّ مبرّراً لسلبها الحياة، فيما لو ظهرت بعده، لأن هذا ممّا يدخل في باب (السياسة الشرعية)، وهو باب معلوم من أبواب الفقه السياسي، وقد سبق الحديث فيه([57]).

7-                 البدائل المعاصرة:
من الواضح أن رفض نظام (التعددية السياسية، والحزبية)، يعني ارتضاء بديله.. فما هو البديل؟
إنه الأنظمة التسلطية التي تحتكر لنفسها كل شيء.. وقد جرّبنا مثل هذه الأنظمة في تاريخنا القديم والمعاصر، فماذا فعلت بنا؟.. "لقد وقف الفرد في بلادنا أعزل أمام جبروت الحكام، ولم يسمع في بلادنا إلاّ صوت واحد، وهو صوت الزعيم الملهم"([58]).. "أمّا ما يحدث في بلاد المشركين: حيث التعددية، وما يصحبها من شرعية المعارضة، وكفالة الحريات، وتداول السلطة بين الأحزاب، فقد علم به القاصي والداني، وأصبح حديث الركبان"([59])، وهو ما يقول عنه (الشيخ محمد الغزالي) بأنه "من خصائص الديمقراطية الحديثة"([60])، التي يرى أنها "نظرة تقترب كثيراً من تعاليم الخلافة الراشدة"([61]).
 ثم إنه "إذا كان للتعددية مثالبها، فللأحادية مثالبها كذلك، إلا أن المثالب الكامنة في الأحادية أدهى وأمر. وإذا كان لنا أن نختار، فإن مبنى الشريعة تحقيق أكمل المصلحتين بتفويت أدناهما، ودفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما"([62]).

وبعد:
فإن المؤيدين لنظام (التعددية السياسية، والحزبية) يرون أن "الاجتماع على الخير، والتعاون على البر، والتعاقد على ذلك، من الأمور المشروعة في ذاتها ابتداء، فإذا أضيف إلى ذلك: إسباغ المشروعية عليه من أولي الأمر، واستيعابه ضمن المنظومة السياسية القائمة، فقد تأكّدت مشروعيته، وانتفت عنه كل شبهة"([63]). بل إنهم يرون "إن في الانتظام بذلك الحزب، أو تلك الجماعة، كمال الالتزام بجماعة المسلمين، وإمامهم. ولأن في الاجتماع على الدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تعاون على البر والتقوى، وأداء لوظيفة الأمّة المسلمة، التي هي علامة الخيرية فيها، ودليل وجود الموالاة والمودة بينها"([64]).
ويرى دعاة التعددية السياسية، والحزبية، أيضاً: أن "دعوة الناس إلى دعم هذه الاجتهادات، ومؤازرة أصحابها، لوضعها موضع التنفيذ، أمر مشروع في ذاته، فهو من جنس الدعوة إلى عموم الخير، وكافة المسائل الاجتهادية. ولا يزال أهل العلم يبلّغون الناس ما يعتقدون، ويدعونهم إليه، ويحثّونهم عليه"([65])، فإذا "أضيف إلى ذلك: مباركة أولي الأمر لهذا المسلك، وإتاحتهم للأمّة حرّية النقد والتعبير عن الرأي، وإسباغ الشرعية على المعارضة السياسية، ما دامت تدور في فلك الأصول الشرعية المعتبرة"([66])، فإن ذلك ممّا يعزّز أهمية هذا الأمر، وضرورته، لسلم المجتمع، واستقراره، ...
"وأمّا طلب الولاية، فرغم أنه مكروه، لما صحّ من النصوص في ذمّه، ولما يؤدّي إليه التنافس على طلبها من التحاسد، وفساد ذات البين، في الغالب، إلا أن هذه الكراهة يمكن تقييدها بمن طلب الولاية لمصلحة نفسه، أما إذا كان لمصلحة الدين، والقيام بمصالح المسلمين.. فذلك مشروع، وقد يرتفع إلى درجة الواجبات، باعتبار أن ما لا يتم الواجب إلاّ به فهو واجب"([67]). وطلب الإمارة ليس مذموماً بإطلاق، "لا سيما إذا كان طالبها أهلاً لها، ولا يوجد من هو أكفأ منه"([68]).
ثم "إن من قصور الفهم، ومن الورع الأحمق، ترك المفسدين يتولّون الوظائف في الدولة المسلمة، ويفسدون في البلاد، وأهل الأمانة والعدل مكتوفوا الأيدي، متزهّدون، متورّعون، خوفاً من مسؤولية الإمارة، بالرغم من الحاجة إليهم"([69])، بل إن "من أنكر المنكر القول: بوجوب سدّ الطريق على الأحزاب السياسية المسلمة، إذا أرادت تسلّم السلطة في الدولة التي لا يحكمها التشريع الإسلامي... بل إن القعود عن نصرة الأحزاب السياسية المسلمة الساعية لذلك، قعود عن الحق، وتخلّف عن التعاون على البر والتقوى"([70]).
وأمّا شبهة منازعة الأئمة في ذلك، فإن البعض يردّها بالقول: إن ميدان التنافس في نظام التعددية الحزبية، يمكن تنظيمه بحيث لا يشمل منصب (الخليفة، أو رئيس الدولة)، وبالتالي لا يعد الأمر "منازعة لأصل السلطة، وإنما تنافس سلمي مشروع على طلب ولاية من ولايات الدولة الإسلامية"([71]).
ويذهب الدكتور (القرضاوي) وجهة أخرى في ردّ هذه الشبهة، عندما ينفي عن (الدولة الإسلامية) صفة (العصمة والقداسة)، "وأكبر خطأ أن تظن الدولة، أو يظن بعض الموالين لها: أن الحق معها وحدها، والصواب دائماً في جانبها، وأن من خالفها فهو على خطأ، بل على باطل"([72]  "وإذا انتفت العصمة والقداسة، فكل الناس بشر، لا يؤمَنْ أن تغرّهم الحياة الدنيا، ويغرّهم الله بالغرور، فيستبدوا، ويظلموا، وأشد أنواع الاستبداد خطراً ما كان باسم الدين، فإذا لم توضع الضوابط، وتهيأ السبل، لمنعه من الوقوع، وإزالته إذا وقع، حاق الضرر بالأمّة، وأصاب شرره الدين أيضاً"([73]).
   وأمّا شبهة تشرذم الأمة، وتفكّك وحدتها، فإن "التعدّد لا يعني بالضرورة التفرّق، كما أن بعض الاختلاف ليس ممقوتاً، مثل الاختلاف في الرأي نتيجة الاختلاف في الاجتهاد، ولهذا اختلف الصحابة في مسائل فروعية كثيرة، ولم يضرّهم ذلك شيئاً"([74]). "وإذا كانت الأمّة قد قبلت بتعدّد المذاهب الفقهية، ولم تعتبر ذلك تشرذماً في الأمّة، فلم لا تقبل بتعدّد المذاهب السياسية لمصلحة الأمّة، ولا تعتبره تشقيقاً للأمة؟"([75]).
صحيح أن "التحزّب على أصول كلية بدعية، لا يصلح أساساً للعمل السياسي في الدولة الإسلامية، لأن مثل هذا التحزّب يفارق به أصحابه جماعة المسلمين"([76])، ولكن من قال إن الاختلاف في المسائل الاجتهادية، ومجالات الشورى، هو غير مشروع، أو غير مطلوب؟! وقد علمنا "إقرار العلماء والفقهاء، قديماً و حديثاً، بالفرق والمذهب الإسلامية، على قاعدة شرعية وحقّ الاجتهاد في الإسلام"([77])..
ثم إن "التزام الطاعة لأولي الأمر – في النهاية – لا يمنع من أن بعض هذه الاجتهادات أولى من بعض، وأن بعضها قد يحقّق المصالح العامة، وبعضها قد يفتح على الأمّة أبواباً من المفاسد ينبغي السعي لإغلاقها، وإن كان أصحابها معذورون مأجورون، فالتغافر أمر، والسعي لإنقاذ الاجتهاد الصحيح، من خلال الوسائل المشروعة، أمر آخر"([78]).
"والأصل أن الإطار الذي يحكم نظرة كل فريق إلى الآخر، في هذه الدائرة، هو المقولة المأثورة عن الأئمة: (ما نحن عليه صواب يحتمل الخطأ، وما عليه غيرنا خطأ يحتمل الصواب)، وأن هذه المسائل لا علاقة لها بكفر، ولا بإيمان، ولا يقدح بها في دين المخالف، أو عدالته"([79])، فهو مأجور على كلا الحالين، سواء أصاب أو أخطأ..
 وأما شبهة أن (التعددية) مبدأ مستورد، وأن من الواجب أن يكون لنا استقلالنا الفكري والسياسي، فلا نتبع سنن غيرنا شبراً بشبر، وذراعاً بذراع... فمن المعلوم أن الذي حذرنا منه، هو: "التقليد الأعمى لغيرنا، بحيث نغدو مجرد ذيول تَتبع ولا تُتبع، وتمضي خلف غيرها في كل شيء (حتى لو دخلوا حجر ضب لدخلتموه)، كما صور ذلك الحديث النبوي الصحيح"([80]). "أمّا الاقتباس منهم، فيما عدا ذلك، ممّا هو من شؤون الحياة المتطورة، فلا حرج فيه، ولا جناح على من فعله، والحكمة ضالة المؤمن، أنى وجدها فهو أحق الناس بها"([81]).
"ومن الشبهات التي أثيرت كذلك: ما قيل من أن وجود أحزاب داخل الدولة الإسلامية يقسّم ولاء الفرد بين حزبه الذي ينتمي إليه، ودولته التي بايعها على السمع والطاعة والنصرة والمعونة. وهذا صحيح إذا كان الفرد يتخذ موقف المعارضة للدولة في كل شيء، والتأييد لحزبه في كل شيء. وهذا ما لا نقول به"([82]). "وانتماء الفرد المسلم إلى قبيلة، أو إقليم، أو جمعية، أو اتحاد، أو حزب، لا ينافي انتماءه للدولة، وولاءه لها. فإن هذه الولاءات والانتماءات كلها مشدودة إلى أصل واحد هو الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين"([83]).
 هذه إذن هي أهم الأدلة والردود التي يقدمها الفريق الثاني للدفاع عن تبنّيه لنظام التعددية السياسية، والحزبية.. ويهمنا قبل أن نختم هذا الحديث أن ننقل هذا المقطع للشيخ الدكتور (يوسف القرضاوي)، يتحدث فيه عن (التعددية التي ندعو إليها)، فيقول: "وعندما نجيز مبدأ التعدد الحزبي داخل الدولة الإسلامية، فليس معناه أن تتعدد الأحزاب والتجمعات، بتعدد أشخاص معنيين، يختلفون على أغراض ذاتية، أو مصالح شخصية، فهذا حزب فلان، وذاك حزب علان، وآخر حزب هيّان بن بيّان، جمعوا الناس على ذواتهم، وأداروهم في أفلاكهم. ومثل ذلك: التعدّد المبنيّ على أساس عنصري، أو إقليمي، أو طبقي، أو غير ذلك من إفرازات العصبية، التي يبرأ منها الإسلام. إنما التعدّد المشروع هو: تعدّد الأفكار، والمناهج، والسياسات، يطرحها كل فريق مؤيدة بالحجج والأسانيد، فيناصرها من يؤمن بها، ولا يرى الإصلاح إلا من خلالها، ويرفضها من يرى الصلاح أو الأصلح في خلافها ... فإذا انتصرت فئة من هذه الفئات، وأصبحت مقاليد السلطة بيدها، فهل تلغي الفئات الأخرى من الوجود، وتهيل على أفكارها التراب، لمجرد أنها صاحبة السلطان؟ هل الاستيلاء على السلطة هو الذي يعطي الأفكار حق البقاء؟ والحرمان من السلطة يقضي عليها بالفناء؟ إن النظر الصحيح يقول: لا، فمن حق كل فكرة أن تعبّر عن نفسها، ما دام معها اعتبار وجيه يسندها، ولها أنصار يؤيدونها"([84]).
وأخيراً، فقد كان ما سبق عرضاً موجزاً لأهم الأدلة والشبهات التي يقول بها الفريق الذي يقف معارضاً للتعددية السياسية والحزبية، ثم ردود الفريق الثاني المؤيد لها عليها..
 بقي أن نشير إلى أن الفريق المؤيد للتعددية السياسية والحزبية ليس فريقاً واحداً، وإنما هو ينقسم – بعد الاتفاق على إقرارها – إلى ثلاثة اتجاهات:
الأول، فريق يقول بأنها تعددية إسلامية حصراً .
الثاني، فريق يقول إنها تعددية إسلامية مشروطة .
أما الثالث، فيقول إنها تعددية مطلقةr




([1]) انظر في تفصيل هذه الأجيال: الحريات العامة في الدولة الإسلامية، راشد الغنوشي، مصدر سابق، ص251-252؛ حيث يرى إن " الشيخ (محمد بن عبد الوهاب، وليّ الله الدهلوي، السنوسي، المهدي)، هم الجيل الأول، وإن (الأفغاني، ومحمد عبده، ورشيد رضا، والكواكبي) يمثّلون أبرز رجالات الجيل الثاني، في حين يرى أن الجيل الثالث "هو جيل النصف الثاني من القرن الهجري المنصرم، أو النصف الأول من القرن العشرين، وأبرزهم: عبد الحميد بن باديس، حسن البنا، والمودودي"..
([2]) الفكر الإسلامي قراءات ومراجعات، زكي الميلاد، مصدر سابق، ص17، وص21.
([3]) التعددية السياسية في الدولة الإسلامية، د. صلاح الصاوي، دار الإعلام الدولي، القاهرة، ط1، 1992م. ص42.
([4]) حكم المعارضة وإقامة الأحزاب السياسية، أحمد العوضي، مصدر سابق، ص33.
([5]) التعددية السياسية في الدولة الإسلامية، د. صلاح الصاوي، مصدر سابق ، ص43.
([6]) حكم المعارضة وإقامة الأحزاب السياسية، أحمد العوضي، مصدر سابق، ص34.
([7]) التعددية السياسية في الدولة الإسلامية، د. صلاح الصاوي، مصدر سابق، ص44. وانظر أيضاً: حكم المعارضة وإقامة الأحزاب السياسية في الإسلام، أحمد العوضي، (م . س) ص36.
([8]) صحيح البخاري، الإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري الجعفي، دار الفيحاء- دمشق، دار السلام- الرياض، ط2، 1999، كتاب الأحكام، باب ما يكره من الحرص على الإمارة، رقم الحديث7149، ص 1230.
([9]) المصدر السابق، كتاب الأحكام، باب ما يكره من الحرص على الإمارة، رقم الحديث 7148، ص1230.
([10]) التعددية السياسية في الدولة الإسلامية، د. صلاح الصاوي، مصدر سابق، ص45.
([11]) المصدر السابق، د. صلاح الصاوي، ص45-46. انظر أيضاً: حكم المعارضة وإقامة الأحزاب، أحمد العوضي، (م . س)، ص47.
([12]) المصدر السابق، د. صلاح الصاوي، ص47.
([13]) المصدر السابق، ص47.
([14]) المصدر السابق، ص47. وانظر أيضاً: حكم المعارضة وإقامة الأحزاب، أحمد العوضي، (م. س)، ص35.
([15]) رواه أبو داود (4597) والحاكم (443) وصححه. وصححه الألباني في (سلسلة الأحاديث الصحيحة)، والحديث عنده برقم (204).
([16]) التعددية السياسية في الدولة الإسلامية، د. صلاح الصاوي، (م . س)، ص48.
([17]) المصدر السابق، ص48.
([18]) المصدر السابق، د. صلاح الصاوي، ص48.
([19]) المصدر السابق، ص48.
([20]) الحريات العامة في الدولة الإسلامية، راشد الغنوشي، مصدر سابق، ص286.
([21]) الفكر الإسلامي قراءات ومراجعات، زكي الميلاد، مصدر سابق، ص12.
([22]) الفراسة، الإمام شمس الدين أبو عبد الله مُحمّد بن أبي بكر بن أيّوب بن سعد بن حريز الزرعي الدمشقيّ، الملقب بابن قيم الجوزية (691 - 751 هـ)، تحقيق: صلاح أحمد السامرائي، مكتبة القدس، بغداد، 1986، (د.ط)، ص14.
([23]) المصدر السابق، ص15.
([24]) الطرق الحكمية في السياسة الشرعية، الإمام ابن قيم الجوزية، تحقيق: أحمد الزعبي، دار الأرقم بن أبي الأرقم، بيروت، ط1، 1999، ص 40.
([25]) التعددية السياسة في الدولة الإسلامية، د. صلاح الصاوي، مصدر سابق، ص75 .
([26]) المصدر السابق، ص 75.
([27]) المصدر السابق، ص75.
([28]) المصدر السابق، ص76.
([29]) المصدر السابق، ص76.
([30]) المصدر السابق، ص76.
([31]) المصدر السابق، ص77.
([32]) المصدر السابق، ص78.
([33]) المصدر السابق، ص78.
([34]) مقال التعددية والمعارضة في الإسلام لفهمي هويدي، مجلة العربي، العدد (354)، مايو 1988م، المنشور ضمن كتاب (مجلة العربي) رقم (45) المعنون بـ (رؤى إسلامية معاصرة)، والمطبوع سنة (2001)، ص118.
([35]) التعددية السياسية في الدولة الإسلامية: د. صلاح الصاوي. مصدر سابق، ص79.
([36]) التعددية السياسية في الدولة الإسلامية: د. صلاح الصاوي. مصدر سابق، ص80. ويقول (د. يوسف القرضاوي) في كتابه (من فقه الدولة في الإسلام): "إذا أردنا أن يكون لفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر معناها وقوتها وأثرها في عصرنا، فلا يكفي أن تظل فريضة فردية محدودة الأثر، محدودة القدرة، ولا بد من تطوير صورتها، بحيث تقوم بها قوة تقدر على أن تأمر وتنهى، وتنذر وتحذر، وأن تقول عندما تؤمر بمعصية: لا سمع ولا طاعة، وأن تؤلب القوى السياسية على السلطة إذا طغت، فتسقطها بغير العنف والدم" ص149.
([37]) التعددية السياسية في الدولة الإسلامية: د. صلاح الصاوي. مصدر سابق، ص81.
([38]) المصدر السابق، ص 82.
([39]) المصدر السابق، ص 84.
([40]) رؤى إسلامية معاصرة، كتاب العربي، مصدر سابق، ص119.
([41]) التعددية السياسية في الدولة الإسلامية، د. صلاح الصاوي، مصدر سابق، ص84.
([42]) من فقه الدولة في الإسلام، د. يوسف القرضاوي،  (م . س)، ص149.
([43]) المصدر السابق، ص 149.
([44]) التعددية السياسية في الدولة الإسلامية، د. صلاح الصاوي، مصدر سابق، ص84.
([45]) المصدر السابق، ص 85.
([46]) متفق  عليه.
([47]) التعددية السياسية، د. صلاح الصاوي، مصدر سابق، ص86.
([48]) معركة المصطلحات بين الغرب والإسلام، د. محمد عمارة، مصدر سابق، ص130.
([49]) من فقه الدولة في الإسلام، د. يوسف القرضاوي، (م . س)، ص151 . 
([50]) المصدر السابق، ص157. ويرى (د. عصام البشير) أن الخوارج يمثلون "أول معارضة سياسية" في الإسلام. انظر: مجلة (المجتمع) الكويتية، العدد (1231) الصادر في 24/12/1996، ص 30 ، حوار مع المفكر الإسلامي د. عصام البشير.
([51]) التعددية السياسية، د. صلاح الصاوي، مصدر سابق، ص87-88.
([52]) الحريات العامة في الدولة الإسلامية، راشد الغنوشي، مصدر سابق، ص250. وانظر كذلك: الفكر الإسلامي قراءات ومراجعات، زكي الميلاد، مصدر سابق، 22-24، حيث يورد آراء للشيخ (محمد مهدي شمس الدين)، والشيخ (أحمد الشامي) – وهو وزير سابق للشؤون الإسلامية في اليمن -، والدكتور (محمد ضياء الدين الريس)، والشيخ (محمد أبو زهرة)، تذهب كلها في اتجاه تأكيد معرفة المسلمين للتنظيمات السياسية منذ عصورهم المبكرة.
([53]) التعددية: الرؤية الإسلامية والتحديات الغربية، د محمد عمارة، مصدر سابق ص 6-14.
([54]) كما يقول (د. مصطفى كمال وصفي)، فيما ينقله عنه (د. صلاح الصاوي)، انظر: التعددية السياسية في الدولة الإسلامية، (م. س)، ص92 .
([55]) المصدر السابق، ص92.
([56]) مقال: الحركات الإسلامية في الفكر السياسي الإسلامي المعاصر، محمد فريد حجاب، مجلة (منبر الحوار)، عدد عام 1991 ، ص46.
([57]) انظر فقرة (السياسة الشرعية)، فيما سبق من البحث.
([58]) التعددية السياسية، د. صلاح الصاوي، مصدر سابق، ص93. بل إن بعض الكتاب يذهب إلى أن "التعسف السياسي، الذي كان غالب الخلفاء المسلمين يمارسونه ضد الأمة المسلمة"، هو الذي أدى إلى عدم ظهور الأحزاب السياسية المنظمة في الدولة الإسلامية، وهو الذي أدى بالتالي إلى انعدام "الحاجة لا ستنباط الأحكام الفقهية التي تعالج هذا الجانب السياسي في الدولة الإسلامية". انظر: حكم المعارضة وإقامة الأحزاب السياسية في الإسلام، أحمد العوضي، مصدر سابق، 45.
([59]) المصدر السابق، ص 93.
([60]) الحركات الإسلامية والديمقراطية، مجموعة كتّاب، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط1، 1999.ص73.
([61]) المصدر السابق نفسه، ص73.
([62]) التعددية السياسية، د. صلاح الصاوي، مصدر سابق، ص94 .
([63]) المصدر السابق، ص 94.
([64]) حكم المعارضة وإقامة الأحزاب السياسية في الإسلام، أحمد العوضي، (م. س)، ص39.
([65]) التعددية السياسية، د. صلاح الصاوي، (م. س)، ص95.
([66]) المصدر السابق، ص 95.
([67]) المصدر السابق، ص95.
([68]) حكم المعارضة وإقامة الأحزاب السياسية ..، أحمد العوضي، مصدر سابق، ص51.
([69]) المصدر السابق، ص 54.
([70]) المصدر السابق، ص 54.
([71]) التعددية السياسية، د. صلاح الصاوي، مصدر سابق، ص95. وانظر كذلك: حكم المعارضة..، أحمد العوضي، مصدر سابق، ص36-37.
([72]) من فقه الدولة في الإسلام، يوسف القرضاوي، مصدر سابق، ص150 .
([73]) المصدر السابق، ص150.
([74]) المصدر السابق، ص153.
([75]) التعددية السياسية، صلاح الصاوي، مصدر سابق، ص96.
([76]) المصدر السابق، ص62.
([77]) الفكر الإسلامي قراءات ومراجعات، زكي الميلاد، مصدر سابق، ص27.
([78]) التعددية السياسية، صلاح الصاوي، مصدر سابق، ص62.
([79]) المصدر السابق، ص68.
([80]) من فقه الدولة في الإسلام، يوسف القرضاوي، مصدر سابق، ص155.
([81]) المصدر السابق، ص 155.
([82]) المصدر السابق، ص 156.
([83]) المصدر السابق، ص 156.
([84]) المصدر السابق، ص 151.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق