02‏/04‏/2018

مملكة الله على الأرض


د. سعد سعيد الديو جي
جاء الأنبياء كلهم لتطبيق شرع الله، وتعبيد الطريق نحو التوحيد، و نبذ الشـرك، وتنقية النفوس من الحسد والبغضاء والقسوة والظلم، ونشـر المحبة والأخوة، والتسليم لله رب العالمين ولحكمه، وفي هذا  يقول تعالى: {إن الدين عند الله الإسلام}19 آل عمران.
وكما يقول المطران (عبد الأحد داؤد)، والذي أسلم عن قناعة تامة، بعد قراءاته العميقة للعهدين القديم والجديد، قبل أكثر من مئة عام، وفي كتابه الشهير (محمد في الكتاب المقدس): فإن الإسلام لا يعني إلا السلام، فالإسلام ليس إلا دين الله، وإنه أيضاً مملكته الدنيوية، وفيه سمو عال للبشر، من خلال بشـرية الأنبياء، وهو تكريم عظيم. ويؤكد (داؤد)، في كتابه آنف الذكر، بأن محمداً (ص) هو الذي ختمت به الرسالات، وإنه هو الذي بشر به كل الأنبياء لإرساء هذه المملكة،
ومن خلال نصوص وجمل واضحة أراد الأحبار والكتبة إخفاءها بكل السبل، ولم يفلحوا.
ومن هذه الفكرة، فإننا سننظر للأمر من زاوية أخرى، حيث ارتبطت فكرة تأسيس مملكة الله على الأرض، في التوراة، ارتباطاً دموياً ووحشياً بظهور (مخلص موعود)، أو (مسيح)، من نسل داؤد (ع) يعيد أمجاداً مزيفة نبتت داخل العقلية اليهودية، وينتقم انتقاماً رهيباً من أعداء اليهود، ثم يؤسس هذه المملكة في صهيون، ويبني هيكلاً للإله (يهوه)، حيث يسكن معهم إلى أبد الآبدين، حيث "تنفجر المياه في البداية، وتتدفق الجداول في الصحراء، ويتحول السـراب إلى واحة، والأرض الظمأى إلى جداول .... ويرجع إليها مفديو الرب، ويقبلون إلى صهيون مترنمين، يكلل رؤوسهم فرح أبدي، وتغمرهم الغبطة والسرور، و يهرب الحزن والأنين للأبد. 7-9، 36 أشعيا".
فمسيح اليهود المنتظر لا شأن لـه ببقية الأمم إلا بالقدر الذي ينتقم منها، فيقول الرب - على لسان منتظره الموعود -: "انتظروني لأني عزمت في اليوم الذي أقوم فيه كشاهد أن أجمع الأمم، وأحشد الممالك، لأسكب عليهم سخطي واحتدام غضبي ..... في ذلك اليوم لن يلحقكم العار من جراء ما ارتكبتم من أعمال تمردتم بها علي ..... إن الرب ملك إسرائيل في وسطك، فلا تخشى شراً فيما بعد. 8-16، 3 صفنيا".
و كما ترى فهذه المملكة الموعودة لا علاقة لها بنشر الفضيلة والسلام.
رفض اليهود عيسى المسيح (ع) كمنقذ من الضلال والفساد، لأنهم لم يفهموا مملكة الله من خلال أسفارهم إلا كونها تأتي بعد الانتقام من أعداء بني إسرائيل، ولهم وحدهم، كما رأينا في النصوص أعلاه.
و من المعلوم أن المسيحية ولدت في رحم اليهودية، واستقت منها معظم أصولها، ومنها فكرة المخلص المنتظر، ومملكة آخر الأيام، ولكن ببعض الاختلافات، مع بعض الرتوش الخرافية، والخيالات الرهيبة، وأفكار سوداوية لا مثيل لها، تتوافق مع فكرة المسيح الإله.
ودعوة الانتقام لها جذوروها الواضحة في الأناجيل، فالمسيح - حسب الأناجيل – يقول: "ما جئت لأرسي سلاماً، بل سيفاً. فإني جئت لأجعل الإنسان على خلاف مع أبيه، والبنت مع أمها، و الكنة مع حماتها، وهكذا يصير أعداء الإنسان أهل بيته. 35 ، 10متى"، وفي مكان آخر يقول: "فإن هذه الأيام أيام انتقام، يتم فيها كل ما قد كتب. 22،21 لوقا".
والمسيح الذي حاول اليهود صلبه، هو الذي سيرجع ليؤسس المملكة الألفية السعيدة قبل يوم الدينونة، وهو إله، وابن إله، ولكن يسبق نزوله ظهور شخص اسمه (الأمين الصادق) "عيناه كلهيب النار، وثوبه مغموس بالدم، ويخرج من فمه سيف حاد ليضرب به الأمم، ويحكمهم بعصا من حديد، ويدوسهم في معصـرة شدة غضب الله، القادر على كل شيء. 12-16، رؤيا يوحنا".
إن هذه الأفكار لا وجود لها مطلقاً في القرآن الكريم، ومبدأ الانتقام لا وجود له في أحداث الساعة، التي لا يسبقها تأسيس مملكة سعيدة مثالية، على غرار ما في اليهودية والمسيحية، ولكنه موجود بالقدر الذي يعاقب الله به المجرمين والقتلة والأشرار والذين يستكبرون على الناس ويستعبدونهم، في أي زمان ومكان، وليس لأسباب قومية، أو لانتماءات عرقية. ولذلك يرد المبدأ في هذا السياق، كقوله تعالى: {وَإِن كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ، فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ} 78-79 الحجر.
واسم الإسلام لا ارتباط له باسم شخص، أو اسم إله، كما عند معظم الأديان، ولا تعني الكلمة حرفياً إلا السلام، والاستسلام للخالق (جل شأنه)، وهو يشمل كل من اتبع شرع الله: {وأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُون} 187 النحل، حيث لا يعني السلم إلا السلام والاستسلام لله.
فالله تعالى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق، لا لينتقم ويدمّر، ولكن رحمة للعالمين: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} 107 الأنبياء، وكما يقول (داؤد) - رحمه الله -: "فإن هذا السلام هو السلام الروحي، وهو عبارة عن طمأنينة في القلب، وراحة في الضمير، يمنحه الله تفضلاً ونعمة لأولئك المؤمنين القلائل الذين لهم قدم صدق عنده في التقوى والحياة الروحية". ويجعل العفو عند المقدرة من خير الأمور: {وإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} 14 التغابن، وقوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} 199 الأعراف. وإن كان لا بد من العقوبة، فهو يقول: {وإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرين} 126 النحل. ولهذا تبدأ صلاة المسلم بالحمد والثناء لله رب العالمين، وتنتهي بكلمات السلام.
إن تأسيس مملكة الله على الأرض، بمقاييس على الطريقة التوراتية والإنجيلية، يخالف تماماً المبدأ القراني الذي يشير لقيام الساعة والناس بين مؤمن وكافر، فلن يكون هنالك أناس مثاليون بالكامل، كما لن يكون هناك عصاة بالكامل، وهذه سنة الله في خلقه بالاختلاف: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} 118 هود، و هي قاعدة لا شذوذ عنها إلى أن تقوم الساعة.
إن أصغر مملكة مثالية تنعم بالسلام، هي التي ينشئها المسلم بداخله، ومن مجاميعها ينشأ مجتمع ينعم بالسلام، ولكنه لن يكون مثالياً أبداً. وهذه هي مملكة الله على الأرض.
وأما المملكة المثالية، فهي بعد قيام الساعة، في جنات النعيم: {َونزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ}43 الأعراف.
ومملكة الله الصغيرة الفردية، يستطيع المسلم تكوينها حتى خارج المجتمع المسلم، ويكون بها قدوة ومثالاً لغيره، خصوصاً عندما يضع سيرة الرسول (ص) نصب عينيه.
هذه هي رسالة الإسلام بإرساء مملكة الله، ولذلك فلم يعد هنالك حاجة لأشخاص معينين لإكمال رسالة الإسلام التي جاء بها محمد (ص): {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}3 المائدة، ولا حاجة لأشخاص لينتقموا من هذا وذاك، فكل الناس حسابهم عند الله. وإذا أيقنّا بمبدأ الاختلاف، فالحلول موجودة، والرسالة محفوظة، والدين مصان. وبذلك، كان وسيبقى محمد (صلى الله عليه وسلم) هو المنتظر الموعود لكل الأمم، ورسالته هي خاتم الرسالات، فمن تبعه كان من مملكته، ومن عصاه خرج من رحمة الله، وعلى الله حسابه، وفق شرعه.
و قد أراد عيسى (ع) تبليغ هذا الأمر لليهود، ولكنهم لم يفهموه؛ علواً واستكباراً: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَٰذَا سِحْرٌ مُّبِين} 6 الصف.
و يؤكد المرحوم (داؤد) بأن مملكة الله على الأرض عبارة عن مجتمع قوي من المؤمنين، مسلحين بالإيمان، وكما لا يعتدون على أحد، فإنهم لا يقبلون الذل والخنوع من قبل أعداء الله ودعاة الفساد والرذيلة والمستكبرين. فمملكة الله على الأرض قد أرساها محمد (صلى الله عليه وسلم)، وهو القدوة في كل شيء، لأنه كان معصوماً، ولا يوجد بعده أي شخص معصوم حتى يصحح مسار الحياة والدين، وإنّ وضع الأمر بالإطار السياسي للمسلمين فقط، يعد خطأ فادحاً، تأثر به المسلمون من الإسرائيليات. والله من وراء القصد.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق