صالح شيخو الهسنياني
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1)
وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ
بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)
﴾.
مقدمة:
يقول السعدي: "في هذه السورة الكريمة، بشارة وأمر لرسوله عند حصولها، وإشارة وتنبيه على ما يترتب على ذلك.
فالبشارة
هي البشارة بنصـر الله لرسوله، وفتحه مكة، ودخول الناس في دين الله أفواجًا، بحيث
يكون كثير منهم من أهله وأنصاره، بعد أن كانوا من أعدائه، وقد وقع هذا المبشر به.
وأما الأمر بعد حصول النصر والفتح، فأمر رسوله أن يشكر ربه على ذلك، ويسبح بحمده
ويستغفره. وأما الإشارة، فإن في ذلك إشارتين: إشارة لأن يستمر النصـر لهذا الدين،
ويزداد عند حصول التسبيح بحمد الله واستغفاره من رسوله، فإن هذا من الشكر، والله
يقول: ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ﴾ [إبراهيم: 7] وقد وجد ذلك في زمن
الخلفاء الراشدين، وبعدهم في هذه الأمة لم يزل نصـر الله مستمرًا، حتى وصل الإسلام
إلى ما لم يصل إليه دين من الأديان، ودخل فيه ما لم يدخل في غيره، حتى حدث من
الأمة من مخالفة أمر الله ما حدث، فابتلاهم الله بتفرق الكلمة، وتشتت الأمر، فحصل
ما حصل.
ومع هذا فلهذه الأمة، وهذا الدين، من رحمة الله
ولطفه، ما لا يخطر بالبال، أو يدور في الخيال.
وأما
الإشارة الثانية، فهي الإشارة إلى أن أجل رسول الله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ) قد قرب ودنا، ووجه ذلك أن عمره عمر فاضل أقسم الله به. وقد عهد أن
الأمور الفاضلة تختم بالاستغفار، كالصلاة والحج، وغير ذلك. فأمر الله لرسوله
بالحمد والاستغفار في هذه الحال، إشارة إلى أن أجله قد انتهى، فليستعد ويتهيأ
للقاء ربه، ويختم عمره بأفضل ما يجده - صلوات الله وسلامه عليه-"([1]).
يقول سيد قطب: "هذه السورة الصغيرة.. كما
تحمل البشرى لرسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بنصـر الله والفتح،
ودخول الناس في دين الله أفواجاً، وكما توجهه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
حين يتحقق نصـر الله، وفتحه، واجتماع الناس على دينه، إلى التوجه إلى ربه بالتسبيح
والحمد والاستغفار..
كما تحمل
إلى الرسول (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) البشرى والتوجيه.. تكشف في الوقت
ذاته عن طبيعة هذه العقيدة، وحقيقة هذا المنهج، ومدى ما يريد أن يبلغ بالبشـرية من
الرفعة والكرامة والتجرد والخلوص، والانطلاق والتحرر.. هذه القمة السامقة الوضيئة،
التي لم تبلغها البشـرية قط إلا في ظل الإسلام. ولا يمكن أن تبلغها إلا وهي تلبي
هذا الهدف العلوي الكريم"([2]).
عدد
آياتها وكلماتها:
السورة
مدنية، وعدد آياتها ثلاث، وليس في القرآن آية على الحاءِ غير الفتح. وعدد كلماتها
تسع عشـرة كلمة.
أسماؤها:
سُمّيت سورة النَّصـر؛ لقوله: ﴿إِذَا
جَآءَ نَصْرُ الله﴾، وسورة التَّوديع، لما فيه من بيان نعي المصطفى (صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، ﴿إِذَا جَآءَ﴾ لمبتدئها([3]).
ترتيب
السورة في المصحف:
(سورة الكافرون- 109، سورة النصر -110،
سورة المسد -111).
مناسبتها
لما قبلها:
في
سورة (الكافرون) حسم الأمر وانتهى، بقوله تعالى: ﴿لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ .
وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ﴾ أي أصبحنا فريقين. فريق يعبد الله تعالى
وحده، وفريق يعبد الأصنام والأوثان. إذن، هناك صدامات ومواجهات بين الفريقين إلى
يوم القيامة، تنتهي بقوله تعالى: ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾، التي تبيّن أن
الصراع مستمر إلى يوم القيامة. وهنا تأتي سورة (النصـر) ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ
اللَّهِ وَالْفَتْحُ﴾ لتحسم الصراع والظفر لصالح الموحدين.
مناسبتها
لما بعدها:
لما انتصـر
المؤمنون في (سورة النصـر)، على الكافرين في (سورة الكافرون)، وقابلوا النصـر
بالتسبيح والاستغفار، بيّن في (سورة المسد) ما سيؤول إليه مصير هؤلاء الكافرين يوم
القيامة، والذي يشابه ما آل إليه مصير أبو لهب الذي ﴿سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ
لَهَبٍ﴾، والذي كان لا يريد أن يدخل أحد هذا الدين، أو أن ينتصر محمد وأتباعه..
ترتيب
النزول:
(سورة
التوبة - 113، سورة النصر -114).
وقت نزولها:
عَنِ البَرَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ:
آخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ كَامِلَةً بَرَاءَةٌ، وَآخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ خَاتِمَةُ
سُورَةِ النِّسَاءِ ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الكَلاَلَةِ﴾
[النساء: 176]([4]).
عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ
عُتْبَةَ، قَالَ: قَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ: يَا ابْنَ عُتْبَةَ، أَتَعْلَمُ آخِرَ
سُورَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ نَزَلَتْ؟، قُلْتُ: نَعَمْ ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ
وَالْفَتْحُ﴾ [النصر: 1]، قَالَ: صَدَقْتَ([5]).
عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا،
قَالَ: أُنْزِلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ﴾
عَلَى رَسُولِ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فِي وَسَطِ أَيَّامِ
التَّشْرِيقِ، وَعَرَفَ أَنَّهُ الْوَدَاعُ، فَأَمَرَ بِرَاحِلَتِهِ الْقَصْوَاءِ
فَرُحِّلَتْ لَهُ فَرَكِبَ، فَوَقَفَ بِالْعَقَبَةِ، وَاجْتَمَعَ النَّاسُ،
فَقَالَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ"، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ فِي خُطْبَتِهِ([6]).
وقيل:
نزلت بمنى في حجة الوداع، فتعد مدنية. وهي آخر ما نزل من سور القرآن([7]).
قال القرطبي:
"اختلف في آخر آية أنزلت. فقيل ما قال البراء. وقال ابن عباس: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ [المائدة:
2]، وقيل: ﴿قُلْ لَا
أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ﴾ [الأنعام: 145]. والجمع: أن يقال: إن آية الكلالة آخر
ما نزل من آيات المواريث، وآخر آية أنزلت في حصر المحرمات: ﴿قُلْ لَا أَجِدُ... ﴾، والظاهر أن آخر الآيات نزولاً: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾؛ لأن الكمال لما حصل لم يبق بعده ما يزاد ، والله أعلم.
وأما قوله: "آخِرُ
سُورَةٍ نَزَلَتْ بَرَاءَةٌ"؛ فقد فسـَّر مراده بقوله في الرواية الأخرى:
"أنزلت كاملة"، ومع ذلك: فقد قيل: إن آخر سورة نزلت: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ﴾ [النصـر:
1].
وقد اختلف في وقت نزولها على أقوال: أشبهها قول ابن عمر:
إنها نزلت في حجَّة الوداع، ثم نزلت بعدها: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾، فعاش بعدها ثمانين يومًا، ثم نزلت بعدها آية الكلالة،
فعاش بعدها خمسين يومًا، ثم نزل بعدها: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ﴾ [التوبة: 128]، فعاش بعدها خمسة وثلاثين يومًا، ثم نزلت
بعدها: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ﴾ [البقرة:
281]، فعاش بعدها إحدى وعشرين يومًا. وقال مقاتل: سبعة أيام.
والله أعلم")[8](.
يقول ابن عاشور: "ويحتمل، على قول القائلين بأنها
نزلت عقب غزوة حنين، أن يكون الفتح قد مضى، ويكون التعليق على مجموع فتح مكة،
ومجيء نصـر من الله آخر، ودخول الناس في الإسلام، وذلك بما فتح عليه بعد ذلك،
ودخول العرب كلهم في الإسلام سنة الوفود"([9]).
يقول عبد
الكريم الخطيب: "إن هذه السورة نزلت قبل فتح مكة، وفي أشد مواقف النبي حرجاً
وضيقاً، وهو في مواجهة أهل الشرك والضلال، فكانت مدداً من أمداد السماء، وزاداً من
عند الله، يتزود به النبي وأصحابه، فيما امتحنوا به في أنفسهم وأموالهم"([10]).
موضوعها:
الإيذان
بقرب وفاته (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، وحثه على لزوم التسبيح بحمد الله،
واستغفاره.
عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ
وَالْفَتْحُ﴾، دَعَا رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)
فَاطِمَةَ، فَقَالَ: (إِنَّهُ قَدْ نُعِيَتْ إِلَيَّ نَفْسِي)، فَبَكَتْ،
فَقَالَ: (لَا تَبْكِينَ، فَإِنَّكِ لَأَوَّلُ أَهْلِي لَاحِقٌ بِي)،
فَضَحِكَتْ. فَرَآهَا بَعْضُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)،
فَقَالَتْ لَهَا: رأَيْنَاكِ بَكَيْتِ، ثُمَّ ضَحِكْتِ. فَقَالَتْ: إِنَّهُ قَالَ
لِي: (نُعِيَتْ إِلَيَّ نَفْسِي) فَبَكَيْتُ، فَقَالَ: (لَا تَبْكِي،
فَإِنَّكِ أَوَّلُ أَهْلِي لَاحِقٌ بِي)، فَضَحِكْتُ([11]).
عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا)، قَالَ: كَانَ عُمَرُ يُدْخِلُنِي مَعَ
أَشْيَاخِ بَدْرٍ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لِمَ تُدْخِلُ هَذَا الفَتَى مَعَنَا
وَلَنَا أَبْنَاءٌ مِثْلُهُ؟ فَقَالَ: "إِنَّهُ مِمَّنْ قَدْ
عَلِمْتُمْ"، قَالَ: فَدَعَاهُمْ ذَاتَ يَوْمٍ، وَدَعَانِي مَعَهُمْ، قَالَ:
وَمَا رُئِيتُهُ دَعَانِي يَوْمَئِذٍ إِلَّا لِيُرِيَهُمْ مِنِّي، فَقَالَ: مَا
تَقُولُونَ فِي ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالفَتْحُ . وَرَأَيْتَ النَّاسَ
يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا﴾ حَتَّى خَتَمَ السُّورَةَ، فَقَالَ
بَعْضُهُمْ: أُمِرْنَا أَنْ نَحْمَدَ اللَّهَ، وَنَسْتَغْفِرَهُ، إِذَا نُصِـرْنَا،
وَفُتِحَ عَلَيْنَا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لاَ نَدْرِي، أَوْ لَمْ يَقُلْ
بَعْضُهُمْ شَيْئًا. فَقَالَ لِي: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، أَكَذَاكَ تَقُولُ؟ قُلْتُ:
لاَ، قَالَ: فَمَا تَقُولُ؟ قُلْتُ: هُوَ أَجَلُ رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَعْلَمَهُ اللَّهُ لَهُ: ﴿إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ
وَالفَتْحُ﴾ فَتْحُ مَكَّةَ، فَذَاكَ عَلاَمَةُ أَجَلِكَ: ﴿فَسَبِّحْ
بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا﴾. قَالَ عُمَرُ:
"مَا أَعْلَمُ مِنْهَا إِلَّا مَا تَعْلَمُ"([12]).
قال ابن كثير: "وأما ما فسـر به ابن عباس،
وعمر - رضي الله عنهما - من أن هذه السورة نعي فيها إلى رسول الله (صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) نفسه الكريمة: واعلم أنك إذا فتحت مكة ـ وهي قريتك التي
أخرجتك- ودخل الناس في دين الله أفواجاً، فقد فرغ شغلنا بك في الدنيا، فتهيأ
للقدوم علينا، والوفود إلينا، فالآخرة خير لك من الدنيا، ولسوف يعطيك ربك فترضى،
ولهذا قال: ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ
تَوَّاباً﴾"([13]).
عَنْ عَمْرِو بْنِ سَلَمَةَ، قَالَ: كُنَّا
بِمَاءٍ مَمَرَّ النَّاسِ [يوم الفتح]، وَكَانَ يَمُرُّ بِنَا الرُّكْبَانُ
فَنَسْأَلُهُمْ: مَا لِلنَّاسِ، مَا لِلنَّاسِ؟ مَا هَذَا الرَّجُلُ؟
فَيَقُولُونَ: يَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُ، أَوْحَى إِلَيْهِ، أَوْ:
أَوْحَى اللَّهُ بِكَذَا، فَكُنْتُ أَحْفَظُ ذَلِكَ الكَلاَمَ، وَكَأَنَّمَا
يُقَرُّ فِي صَدْرِي، وَكَانَتِ العَرَبُ تَلَوَّمُ([14])
بِإِسْلاَمِهِمُ الفَتْحَ، فَيَقُولُونَ: اتْرُكُوهُ وَقَوْمَهُ، فَإِنَّهُ إِنْ
ظَهَرَ عَلَيْهِمْ فَهُوَ نَبِيٌّ صَادِقٌ. فَلَمَّا كَانَتْ وَقْعَةُ أَهْلِ
الفَتْحِ، بَادَرَ كُلُّ قَوْمٍ بِإِسْلاَمِهِمْ([15]).
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ ﴿إِذَا
جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ﴾ [النصـر: 1] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ، قَالَ:
نُعِيَتْ لِرَسُولِ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) نَفْسُهُ حِينَ
أُنْزِلَتْ، فَأَخَذَ فِي أَشَدِّ مَا كَانَ اجْتِهَادًا فِي أَمْرِ الْآخِرَةِ.
وَقَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) بَعْدَ ذَلِكَ: (جَاءَ
الْفَتْحُ، وَجَاءَ نَصْرُ اللهِ، وَجَاءَ أَهْلُ الْيَمَنِ)، فَقَالَ رَجُلٌ:
يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا أَهْلُ الْيَمَنِ؟، قَالَ: (قَوْمٌ رَقِيقَةٌ
قُلُوبُهُمْ، لَيِّنَةٌ قُلُوبُهُمُ، الْإِيمَانُ يَمَانٌ، وَالْحِكْمَةُ
يَمَانِيَةٌ، وَالْفِقْهُ يَمَانٌ)([16]).
والمغفرة:
هي ستر الذنب عن الخلق، والتجاوز عن عقوبته.
عَنْ
صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ الْمَازِنِيِّ، قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا أَمْشـِي مَعَ ابْنِ
عُمَرَ، آخِذٌ بِيَدِهِ، إِذْ عَرَضَ رَجُلٌ فَقَالَ: كَيْفَ سَمِعْتَ رَسُولَ
اللهِ (صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فِي النَّجْوَى؟
فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، يَقُولُ: (إِنَّ اللهَ يُدْنِي الْمُؤْمِنَ،
فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ وَيَسْترُهُ: فَيَقُولُ: أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟
أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ أَيْ رَبِّ، حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ
بِذُنوبِهِ، وَرَأَى فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ هَلَكَ، قَالَ: سَتَرْتُهَا عَليْكَ فِي
الدُّنْيَا، وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ، فَيُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ.
وَأَمَّا الْكَافِرُ، وَالْمُنَافِقُونَ، فَيَقُولُ الأَشْهَادُ: ﴿هؤُلاَءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ
لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ [هود: 18])([17]).
النَّجْوَى: إسرار الحديث([18]).
كَنَفَهُ: يقال: كَنَفَهُ الله، أي: رعاه وحفظه. وهو في حفظ الله وكَنَفِه، أي: حِرْزِه([19]).
وقيل: يستره. وقيل: يرحمه ويلطف به. والكَنَف: الجانب والناحية. وهذا تمثيل لجعله
تحت ظل رحمته يوم القيامة([20]).
قال الكرماني:
الكنف الجانب والساتر والعون، يقال: كنفت الرجل أي: صنته وحطته وأعنته. وقال
الطيبي: كنفه حفظه وستره من أهل الموقف، وصونه عن الخزي والتفضيح، مستعار من كنف
الطائر، وهو جناحه، يصون به نفسه، ويستر به بيضه فيحفظه([21]).
قوله تعالى: ﴿فَسَبِّحْ﴾
التَّسْبِيحُ:
تنزيه الله تعالى. وأصله: المرّ السـّريع في عبادة الله تعالى. وجعلَ ذلك في فعل
الخير، كما جعل الإبعاد في الشّـرّ، فقيل: أبعده الله. وجعل التَّسْبِيحُ عامّاً
في العبادات؛ قولاً كان، أو فعلاً، أو نيّة([22]).
أصل
التسبيح: التنزيه والتقديس والتبرئة من النقائص. فمعنى سبحان الله: تنزيه الله.
وقيل
معناه: التسرع إليه والخفة في طاعته.
وقيل
معناه: السرعة إلى هذه اللفظة. وقد يطلق التسبيح على غيره من أنواع الذكر مجازاً،
كالتحميد والتمجيد وغيرهما. وقد يطلق على صلاة التطوع والنافلة. ويقال أيضاً للذكر،
ولصلاة النافلة: سبحة. وإنما خصت النافلة بالسبحة، وإن شاركتها الفريضة في معنى
التسبيح، لأن التسبيحات في الفرائض نوافل، فقيل لصلاة النافلة سبحة، لأنها نافلة
كالتسبيحات والأذكار في أنها غير واجبة([23]).
سُبْحان:
كلمة تنزيه وتقديس، أو تعجّب. ولا تقال إلاّ لله تعالى. سبحانَ الله: أنزّه الله
عن كلّ سُوء([24]).
قوله
تعالى: ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ﴾
يعني:
فسبح ربك، وعظّمه، بحمده وشكره، على ما أنجز لك من وعده. فإنك حينئذ لاحق به،
وذائق ما ذاق مَنْ قبلك من رُسله من الموت([25]).
عَنْ
عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: مَا صَلَّى النَّبِيُّ (صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) صَلاَةً بَعْدَ أَنْ نَزَلَتْ عَلَيْهِ: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْـرُ
اللَّهِ وَالفَتْحُ﴾ [النصر: 1] إِلَّا يَقُولُ فِيهَا: (سُبْحَانَكَ
رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي)([26]).
عن
عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يُكْثِرُ
أَنْ يَقُولَ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا
وَبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، يَتَأَوَلُ الْقُرْآنَ([27]).
قال النووي: "معنى
يتأول القرآن: يعمل ما أمر به في قول الله عز وجل: ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ
وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا﴾[النصر: 3]. وكان (صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يقول هذا الكلام البديع في الجزالة، المستوفي ما أمر به في
الآية، وكان يأتي به في الركوع والسجود، لأن حالة الصلاة أفضل من غيرها، فكان
يختارها لأداء هذا الواجب الذي أمر به، ليكون أكمل. فسبحان الله معناه براءة وتنزيهاً
له من كل نقص وصفة للمحدث. قالوا: وقوله وبحمدك، أي وبحمدك سبحتك، ومعناه: بتوفيقك
لي، وهدايتك وفضلك علي سبّحتك، لا بحولي وقوتي. ففيه شكر الله تعالى على هذه
النعمة، والاعتراف بها، والتفويض إلى الله تعالى، وأن كل الأفعال له، والله أعلم.
وفي قوله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): (أستغفرك وأتوب إليك)، حجة
أنه يجوز، بل يستحب، أن يقول: أستغفرك وأتوب إليك"([28]).
عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ
(صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ قَبْلَ مَوْتِهِ: (سُبْحَانَ
اللهِ وَبِحَمْدِهِ، أَسْتَغْفِرُ اللهَ، وَأَتُوبُ إِلَيْهِ) قَالَتْ:
وَكَانَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَهُ. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّكَ تَدْعُو
بِدُعَاءٍ لَمْ تَكُنْ تَدْعُو بِهِ قَبْلَ الْيَوْمِ، فَقَالَ: (إِنَّ رَبِّي
عَزَّ وَجَلَّ أَخْبَرَنِي أَنِّي سَأَرَى عَلَمًا فِي أُمَّتِي، وَأَنِّي إِذَا
رَأَيْتُ ذَلِكَ الْعَلَمَ أَنْ أُسَبِّحَ بِحَمْدِهِ وَأَسْتَغْفِرَهُ، فَقَدْ
رَأَيْتُ ذَلِكَ): ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ، وَرَأَيْتَ
النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا﴾([29]).
معاني الكلمات:
قوله
تعالى:
﴿نَصْـرُ﴾:
النصـر:
العون، مأخوذ من قولهم: قد نصـر الغيث الأرض: إذا أعان على نباتها، من قحطها. ثم
قيل: المراد بهذا النصـر نصـر الرسول على قريش (الطبري). وقيل: نصـره على من قاتله
من الكفار، فإن عاقبة النصـر كانت له([30]).
قوله
تعالى:
﴿الْفَتْحُ﴾:
الفتح هو
فتح مكة، عن الحسن ومجاهد وغيرهما. وقال ابن عباس، وسعيد بن جبير: هو فتح المدائن،
والقصور. وقيل: فتح سائر البلاد. وقيل: ما فتحه عليه من العلوم([31]).
فإنّه يحتمل النّصـرة والظّفر والحكم، وما يفتح الله تعالى من المعارف.
وقيل:
يوم إزالة الشّبهة بإقامة القيامة، وقيل: ما كانوا يَسْتَفْتِحُونَ من العذاب
ويطلبونه([32]).
قوله
تعالى:
﴿فِي دِينِ اللَّهِ﴾:
يعني
الإسلام، أضيف إلى لفظ الجلالة تشريفاً وتعظيماً.
قوله
تعالى:
﴿أَفْوَاجًا﴾:
جماعة من
الناس تأتي في وقت واحد. وقيل: الجماعة المارة المسـرعة، والجمع: أفواج([33]).
قوله تعالى: ﴿تَوَّاباً﴾:
اسم من أسماء الله الحسنى، ومعناه: الذي يتوب
على عباده، ويقبل توبتهم([34]).
الغَفْرُ: إلباس ما يصونه عن الدّنس، ومنه
قيل: اغْفِرْ ثوبك في الوعاء، واصبغ ثوبك، فإنّه أَغْفَرُ للوسخ. والغُفْرَانُ
والْمَغْفِرَةُ من الله، هو أن يصون العبد من أن يمسّه العذاب([35]).
الغفران
يَقْتَضِي إِسْقَاط الْعقَاب، وَإِسْقَاط الْعقَاب هُوَ إِيجَاب الثَّوَاب، فَلَا
يسْتَحق الغفران إِلَّا الْمُؤمن الْمُسْتَحق للثَّواب، وَلِهَذَا لَا يسْتَعْمل
إِلَّا فِي الله([36]).
قوله
تعالى:
﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ﴾:
الخطاب لرسول الله (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ)، يذكّره ربه بالنعمة والفضل عليه، وعلى سائر المؤمنين، والمعنى: إِذا
نصـرك الله يا محمد على أعدائك، وفتح عليك مكة أم القرى. قال المفسرون: الإِخبارُ
بفتح مكة قبل وقوعه، إخبارٌ بالغيب، فهو من أعلام النبوَّة([37]).
قال ابن
عباس: إن النصـر صلح الحديبية، وقيل: النصـر إسلام أهل اليمن([38]).
وصف النصـر
بالمجيء، يدل على أن النصـر كان كالمشتاق إلى محمد (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ)، وذلك لأن ذلك النصـر كان مستحقاً له بحكم الوعد، والنصـر لا يكون إلا
من الله. قال تعالى: ﴿وَمَا النَّصْـرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ [آل عمران:
126]، والمراد منه تعظيم حال تلك الصنعة، فكذا هاهنا. أو نصـر الله لأنه إجابة
لدعائهم: متى نصـر الله؟ فيقول هذا الذي سألتموه([39]).
وقد يكون جواب ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ﴾،
قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ
كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْـرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ
بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ﴾ [يوسف: 110].
وقوله
تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ
الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ
وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْـرُ
اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ [البقرة: 214].
قوله
تعالى:
﴿وَالْفَتْحُ﴾:
يعني
بالفتح فتح مكة، والطائف، ومدن الحجاز، وكثير من اليمن، وغيرهما من البلاد التي
فتحها رسول الله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)([40]).
يقول عبد الكريم الخطيب: "إذا ظرف شـرطيّ،
لما يستقبل من الزمان.. وهذا يعنى أن ما بعدها لم يتحقق بعد، وهو إذا كان وعداً من
الله سبحانه وتعالى، فإن تحققه أمر لا شك فيه، وهو واقع موقع اليقين من المؤمنين
قبل أن يتحقق.
ونصـر
الله والفتح، هو نصـر دين الله، بنصـر النبي والمؤمنين على المشركين، ومن اجتمعوا
معهم على حرب النبي والمؤمنين، والوقوف في وجه دين الله، الذي يدعو إليه رسول
الله.. والفتح، هو فتح مكة، التي كان مشركوها هم القوة المحركة لكل عدوان على
النبي والمؤمنين.. فإذا فتحت كان فتحها هو النصـر المبين، والفتح العظيم..
وهذا
يعنى أن هذه السورة، نزلت قبل فتح مكة، فكانت من أنباء الغيب، ومن البشـريات التي
بشـر بها النبي والمسلمون، في وسط هذا الصـراع الدائر بينه وبين المشـركين..
وتكاد
الأخبار التي يرويها المفسـرون، تجمع على أن هذه السورة كانت من أواخر ما نزل من
القرآن، وأنها نزلت بعد (سورة الفتح)، وقبيل وفاة النبي - صلوات الله وسلامه عليه -
بأيام، قيل عنها في أكثر الروايات أنها كانت ثمانين يوماً"([41]).
قوله
تعالى:
﴿وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا﴾
قال القرطبي: "أي العرب، وغيرهم. يدخلون
في دين الله أفواجاً، أي: جماعات: فوجاً بعد فوج. وذلك أنه لمّا فتحت مكة، قالت
العرب: أما إذا ظفر محمد بأهل الحرم، وقد كان الله أجارهم من أصحاب الفيل، فليس
لكم به طاقة. فكانوا يسلمون أفواجاً: أمة أمة. وقال عكرمة ومقاتل: أراد بالناس أهل
اليمن. وذلك أنه ورد من اليمن سبعمائة إنسان مؤمنين طائعين، بعضهم يؤذنون، وبعضهم
يقرءون القرآن، وبعضهم يهللون، فسـر النبي (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) لك،
وبكى عمر، وابن عباس"([42]).
قال ابن عبد البر في ترجمة أبو خراش الهذلي
الشاعر: "لم يبق عربي بعد حنين والطائف إلا أسلم، منهم من قدم على النبي
(صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، ومنهم من لم يقدم عليه، وقنع بما أتاه به وافد
قومه من الدين عن النبي (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)"([43]).
قال
ابن عاشور: "وإنما يراد عرب الحجاز، ونجد، واليمن، لأن من عرب الشام، والعراق،
من لم يدخلوا في الإسلام، وهم: تغلب، وغسان، في مشارف الشام، والشام. وكذلك لخم،
وكلب، من العراق، فهؤلاء كانوا نصارى، ولم يسلم من أسلم منهم إلا بعد فتح الشام،
والعراق، بعد رسول الله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، فلم يرهم رسول الله
(صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يدخلون في دين الله رؤية بصـرية. ويجوز أن يكون
الله أعلمه بذلك، إن جعلنا الرؤية علمية"([44]).
قوله
تعالى:
﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ﴾
أي إذا صليت، فأكثر من ذلك. وقيل: معنى سبح: صل.
عن ابن عباس: ﴿بِحَمْدِ رَبِّكَ﴾، أي حامداً له على ما آتاك من الظفر
والفتح. واستغفره، أي: سل الله الغفران. وقيل: ﴿فَسَبِّحْ﴾، المراد به:
التنزيه، أي نزهه عما لا يجوز عليه، مع شكرك له. واستغفره، أي: سل الله الغفران،
مع مداومة الذكر([45]).
قوله تعالى: ﴿فَسَبِّحْ
بِحَمْدِ رَبِّكَ﴾: أي فنزهه تعالى بكل ذكر يدل على التنزيه، حامداً له - جل
وعلا - زيادة في عبادته، والثناء عليه - سبحانه - لزيادة إنعامه عليك. فالتسبيح:
التنزيه، لا التلفظ بكلمة سبحان الله. والمعنى: الجمع بين تسبيحه تعالى، وهو
تنزيهه سبحانه عمّا لا يليق به من النقائص، وتحميده، وهو: إثبات ما يليق به تعالى
من المحامد له، لعظم ما أنعم سبحانه به عليه -عليه الصلاة والسلام-([46]).
قوله
تعالى:
﴿وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا﴾
قال ابن القيم: الاستغفار، إذا ذكر مفرداً يراد به التوبة، مع طلب المغفرة
من الله عز وجل، وهو محو الذنب، وإزالة أثره، ووقاية شـره. والستر لازم لهذا
المعنى، كما في قوله تعالى: فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً.[سورة نوح: 10]،
فالاستغفار بهذا المعنى يتضمن التوبة.
أما عند اقتران إحدى اللفظتين بالأخرى،
فالاستغفار: طلب وقاية شـر ما مضـى، والتوبة: الرجوع وطلب وقاية شـر ما يخافه في
المستقبل من سيئات أعماله، كما في قوله تعالى: وأن استغفروا ربكم ثم توبوا
إليه.[سورة هود: 4]([47]).
يقول ابن القيم: "الاستغفار نوعان: مفرد، ومقرون بالتوبة. فالمفرد: كقول
نوح -عليه السلام- لقومه: ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ
غَفَّارًا . يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا﴾ [نوح: 10-11]، وكقول صالح
(عليه السلام) لقومه: ﴿لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾
[النمل: 46]، وكقوله تعالى: ﴿وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ﴾ [البقرة: 199]، وقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ
وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾
[الأنفال: 33].
والمقرون كقوله تعالى: ﴿وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا
رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ
مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ﴾[هود: 3]، وقول هود (عليه السلام)
لقومه: ﴿وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ
السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا
تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ﴾[هود: 52]، وقول صالح (عليه السلام) لقومه: ﴿هُوَ
أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ
تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ﴾[هود:61]، وقول شعيب (عليه
السلام): ﴿وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ
وَدُودٌ ﴾ [هود: 90].
فالاستغفار المفرد كالتوبة، بل هو التوبة
بعينها، مع تضمنه طلب المغفرة من الله، وهو محو الذنب، وإزالة أثره، ووقاية شـره.
وحقيقتها: وقاية شـر الذنب.
وأما عند اقتران إحدى اللفظتين بالأخرى، فالاستغفار: طلب وقاية شـر ما مضـى،
والتوبة: الرجوع، وطلب وقاية شـر ما يخافه في المستقبل من سيئات أعماله.
فهاهنا ذنبان: ذنب قد مضـى، فالاستغفار منه:
طلب وقاية شـره. وذنب يخاف وقوعه، فالتوبة: العزم على أن لا يفعله. والرجوع إلى
الله يتناول النوعين: رجوع إليه، ليقيه شـر ما مضى، ورجوع إليه، ليقيه شـر ما
يستقبل من شـر نفسه وسيئات أعماله"([48]).
وقد ورد الاستغفار على ثلاثة أَوجهٍ:
الأَوّل: بمعنى الرّجوع عن الشـرك، والكفر:
﴿فَقُلْتُ استغفروا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً﴾[نوح: 10]، ﴿وَأَنِ
استغفروا رَبَّكُمْ﴾[هود: 3].
الثَّاني: بمعنى الصّلاة، كقوله تعالى: ﴿
وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ﴾[آل عمران: 17]، أَي المصلِّين.
الثالث: بمعنى طلب غفران الذنوب، كقوله
تعالى: ﴿واستغفر لِذَنبِكَ﴾[غافر: 55]، وقوله: ﴿استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ
تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ﴾[التوبة: 80]، وقوله تعالى: ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ
واستغفره﴾[النصر: 3]([49]).
وَالْأَصْل فِي الغَفْر: التَغْطِية، وَمِنْه
سمّي المِغْفَرُ، لِأَنَّهُ يَغفِر الرأسَ، أَي يلْبسهُ ويُغّطيه. قَالَ:
وَالْمَغْفِرَة من الذُّنُوب كَذَلِك أَيْضاً، إنّما هُوَ إلباس الله الناسَ
الغُفرانَ، وتغمّدهم بِهِ([50]).
والاستغفار: طلب المغفرة قولاً وفعلاً.
وقوله: ﴿استغفروا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً﴾[نوح: 10]، لم يؤْمَرُوا أَن
يسأَلوه ذلك باللسان فقط، بل به وبالفعل، فبدونه قول الكذَّابين([51]).
وقد كثر في القرآن
ذكرُ الاستغفار:
-
فتارةً يؤمر به،
كقوله سبحانه وتعالى: ﴿وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ﴾[البقرة: 199]، وقوله: ﴿وَأَنِ
اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ﴾[هود: 3].
-
وتارةً يمدحُ أهلَه،
كقوله: ﴿وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ﴾[آل عمران: 17]، وقوله:
﴿وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾[الذاريات:18]، وقوله: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا
فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا
لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ﴾ [آل عمران: 134].
-
وتارةً يذكر أن الله
يغفر لمن استغفره، كقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ
ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً﴾[النساء:110].
استغفار
اللسان:
وأمّا استغفارُ اللسان مع إصـرار القلب على
الذنب، فهو دُعاء مجرَّد، إنْ شاء الله أجابه،
وإنْ شاء ردَّه.
وقول القائل: أستغفر الله، معناه: أطلبُ مغفرته، فهو كقوله:
اللهمَّ اغفر لي. فالاستغفارُ التامُّ الموجبُ للمغفرة: هو ما قارن عدمَ الإصـرار،
كما مدح الله أهله، ووعدهم المغفرة. قال بعض العارفين: من لم يكن ثمرةُ استغفاره
تصحيح توبته، فهو كاذب في استغفاره. وكان بعضُهم يقول: استغفارُنا هذا يحتاج إلى
استغفارٍ كثير. وفي ذلك يقولُ بعضهم: أستغْفِرُ الله مِنْ أستغفرُ الله.
فأفضل الاستغفار ما اقترن به تركُ الإصـرار، وهو حينئذ
توبةٌ نصوح([52]).
وإن قال بلسانه: أستغفر الله وهو غيرُ
مقلع بقلبه، فهو داعٍ لله بالمغفرة، كما يقول: اللهمَّ اغفر لي، وهو حسن، وقد
يُرجى له الإجابة. وأما من قال: توبةُ الكذابين، فمرادُه أنَّه ليس بتوبة، فإنَّ
التَّوبةَ لا تكون مَعَ الإصـرار([53]).
الحث على الاستغفار وفضله:
وأفضل أنواع الاستغفار: أنْ يبدأ العبدُ
بالثَّناء على ربِّه، ثم يثني بالاعتراف بذنبه، ثم يسأل الله المغفرة، كما في حديث
شدَّاد بن أوس (رضي الله عنه) عن النَّبيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)
قال: (سَيِّدُ الاسْتِغْفَارِ أَنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لاَ إلهَ
إلاَّ أَنْتَ خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِك مَا
اسْتَطَعْتُ أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ
عَلَيَّ وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لاَ يَغْفِرُ
الذُّنُوبَ إلاَّ أنْتَ. مَنْ قَالَهَا مِنَ النهَارِ مُوقِناً بِهَا فَمَاتَ مِنْ
يَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يُمْسِيَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَمَنْ قَالَهَا
مِنَ اللَّيْلِ وَهُوَ مُوقِنٌ بِهَا فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ فَهُوَ مِنْ
أَهْلِ الجَنَّةِ)([54]).
وفي الصحيحين عن عبد
الله بن عمرو: أنَّ أبا بكرٍ الصديق (رضي الله عنه) قال: يا رسولَ الله، علِّمني
دعاءً أدعو به في صلاتي، قال: (قل: اللهمَّ إنِّي ظلمتُ نفسي ظُلماً
كثيراً، ولا يغفرُ الذُّنوب إلاَّ أنتَ، فاغفر لي مغفرةً من عندك، وارحمني إنَّك
أنت الغفورُ الرحيم)([55]).
وفي السنن الأربعة
عن ابن عمر (رضي الله عنهما) قال: إنْ كنَّا لنَعُدُّ لرسولِ الله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) في المجلس
الواحد مئة مرَّة يقول: (ربِّ اغفر لي وتُب عليَّ، إنَّك أنتَ التوَّابُ الغفور)([56]).
وفي صحيح البخاري عن
أبي هريرة (رضي الله عنه) عن النَّبيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قال: (واللهِ
إني لأستغفر الله وأتوب إليهِ في اليَوم أكثرَ مِن سَبعين مَرَّة)([57]).
وفي صحيح مسلم عن
الأغرِّ المزني (رضي الله عنه) عن النَّبيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)
قال: (إنَّه لَيُغانُ على قلبي، وإنِّي لأستغفرُ الله في اليوم مِئَة مَرة
)([58]).
وفي " سنن أبي
داود وابن ماجه عن ابن عباس، عن النَّبيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قال:
(مَن أكثرَ مِن الاستغفارِ جَعل الله لَهُ مِن كلِّ همٍّ فرجاً، ومِن كلِّ ضيقٍ
مَخرجاً، وَرَزقه مِن حَيث لا يَحتسِبُ)([59]).
قالوا في الاستغفار:
-
قال أبو هريرة (رضي
الله عنه): إنِّي لأستغفرُ الله وأتوب إليه كلَّ يوم ألف مرَّة، وذلك على قدر
ديتي.
-
وقالت عائشة (رضي
الله عنها): طوبى لمن وجد في صحيفته استغفاراً كثيراً.
-
قال أبو المِنهال:
ما جاور عبدٌ في قبره من جارٍ أحبَّ إليه من استغفار كثير.
-
قال قتادة: إنَّ هذا
القرآن يدلُّكم على دائكم ودوائكم، فأما داؤكم: فالذُّنوب، وأما دواؤكم:
فالاستغفار.
-
قال بعضهم: إنَّما
مُعوَّلُ المذنبين البكاء والاستغفار، فمن أهمته ذنوبه، أكثر لها من
الاستغفار.
-
ومن زاد اهتمامُه
بذنوبه، فربما تعلَّق بأذيالِ من قَلَّت ذنوبُه، فالتمس منه الاستغفار. وكان
عمر(رضي الله عنه) يطلب من الصبيان
الاستغفار، ويقول: إنَّكم لم تُذنبوا. وكان أبو هريرة (رضي الله عنه) يقول
لغلمان الكُتّاب: قولوا اللهمَّ اغفر لأبي هُريرة، فيؤمن على دعائهم([60]).
قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ كَانَ
تَوَّابًا﴾: أي: منذ خلق المكلفين، أي مبالغاً في قبول توبتهم، فليكن المستغفر
التائب متوقعاً للقبول([61]).
فقه
الاستنباط:
1.
يقول ابن عاشور:
" فــ﴿إِذَا﴾ اسم زمان مطلق، فقد يستعمل للزمن المستقبل غالباً. ولذلك
يضمن معنى الشـرط غالباً، ويكون الفعل الذي تضاف إليه بصيغة الماضي غالباً لإفادة
التحقق.
وإذا هنا مضمنة الشـرط
لا محالة لوجود الفاء في قوله: ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ﴾، وقضية
الاستقبال وعدمه تقدمت.
والنصر: الإعانة على
العدو. ونصـر الله يعقبه التغلب على العدو. والفتح: امتلاك بلد العدو وأرضه"([62]).
2.
إضافة نصـر إلى الله،
تشعر بتعظيم هذا النصـر، وأنه نصـر عزيز خارق للعادة، اعتنى الله بإيجاد أسبابه،
ولم تجر على متعارف تولد الحوادث عن أمثالها([63]).
3. إذا
كان نزول السورة قبل فتح مكة، فيكون النصـر هو الانتصار على قريش، والفتح، هو فتح
مكة وما جاورها من البلاد في زمن الرسول (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، أما
إذا كان نزولها بعد فتح مكة، فأين النصـر والفتح؟ قد يكون النصـر والفتح مستمر،
وما قد سيأتي إلى يوم القيامة، والله أعلم.
عَنْ
تَمِيمٍ الدَّارِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ) يَقُولُ: (لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الْأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ
وَالنَّهَارُ، وَلَا يَتْرُكُ اللهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ إِلَّا أَدْخَلَهُ
اللهُ هَذَا الدِّينَ، بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ، عِزًّا يُعِزُّ
اللهُ بِهِ الْإِسْلَامَ، وَذُلًّا يُذِلُّ اللهُ بِهِ الْكُفْرَ)([64]).
4.
أن النصـر بيد الله -
عز وجل- لقوله تعالى: ﴿إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ
يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ﴾ [آل عمران: 160].
وقال تعالى: ﴿إِنْ
تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ [محمد: 7].
وقال تعالى:
﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الروم: 47].
وقال تعالى:
﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾
[الحج: 40].
التذكير بنعم الله
تعالى على العباد، التي لا تعد ولا تحصـى، من نعمة النصـر والفتح، ودخول الناس في
دين الله أفواجًا، لقوله: ﴿بِحَمْدِ رَبِّكَ﴾، فقرن الحمد باسم الرب، ووصف
الربوبية فيه تذكير بنعمه - عز وجل - كما قال عز وجل: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ
اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا﴾[النحل: 18]، وقوله تعالى: ﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ
فَمِنَ اللَّهِ﴾[النحل: 53].
5.
الإشارة إلى أن النصـر
يستمر للدين، ويزداد عند شكر الله بالتسبيح بحمده واستغفاره، كما قال عز وجل:
﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾[إبراهيم: 7]. ولم يزل نصـر الله لدينه، في
عصـر النبوة، وعصـر الخلفاء الراشدين، ومن بعدهم، لمّا كانت الأمة شاكرة لله عز
وجل، مسبحة لحمده مستغفرة، قائمة بأمره متمسكة بحبله. ولمّا حدث في الأمة ما حدث
من المخالفة لأمر الله، أصابها ما أصابها من الضعف والاختلاف والتفرق. ووعد الله
بالنصـر ثابت لا يتخلف. كما قال عز وجل ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْـرُ
الْمُؤْمِنِينَ﴾([65]).
6. الرؤية
في قوله: ﴿ وَرَأَيْتَ النَّاسَ﴾، يقول ابن عاشور: "يجوز أن تكون
علمية، أي وعلمت علم اليقين أن الناس يدخلون في دين الله أفواجاً، وذلك بالأخبار
الواردة من آفاق بلاد العرب، ومواطن قبائلهم، وبمن يحضـر من وفودهم. ويجوز أن تكون
رؤية بصـرية، بأن رأى أفواج وفود العرب يردون إلى المدينة، يدخلون في الإسلام،
وذلك سنة تسع. وقد رأى النبي (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ببصـره ما علم منه
دخولهم كلهم في الإسلام، بمن حضـر معه الموقف في (حجة الوداع)، فقد كانوا مائة ألف،
من مختلف قبائل العرب، فتكون جملة (يدخلون) في موضع الحال من الناس"([66]).
7. يقول
سيد قطب:"التسبيح والحمد على ما أولاهم من منّة، بأن جعلهم أمناء على دعوته،
حراساً لدينه. وعلى ما أولى البشـرية كلها من رحمة بنصـره لدينه، وفتحه على رسوله،
ودخول الناس أفواجاً في هذا الخير الفائض العميم، بعد العمى والضلال والخسـران.
8.
والاستغفار لملابسات
نفسية كثيرة، دقيقة، لطيفة المدخل: الاستغفار من الزهو، الذي قد يساور القلب، أو
يتدسس إليه، من سكرة النصـر بعد طول الكفاح، وفرحة الظفر بعد طول العناء. وهو مدخل
يصعب توقيه في القلب البشـري.
والاستغفار مما قد يكون ساور القلب، أو تدسس
إليه، في فترة الكفاح الطويل والعناء القاسي، والشدة الطاغية والكرب الغامر.. من
ضيق بالشدة، واستبطاء لوعد الله بالنصـر.
والاستغفار من التقصير في حمد الله وشكره. فجهد
الإنسان - مهما كان – ضعيف، محدود، وآلاء الله دائمة الفيض. فمن هذا التقصير يكون
الاستغفار..
وهناك لطيفة أخرى للاستغفار لحظة الانتصار..
ففيه إيحاء للنفس، وإشعار، في لحظة الزهو والفخر، بأنها في موقف التقصير والعجز.
فأولى أن تطامن من كبريائها، وتطلب العفو من ربها. وهذا يصد قوى الشعور بالزهو
والغرور"([67])..
9. ختم
اللَّه هذه السورة بأمر اللَّه نبيه بالإكثار من الصلاة، والتسبيح للَّه، أي تنزيه
اللَّه عن كل ما لا يليق به، ولا يجوز عليه، والحمد للَّه على ما آتاه من الظفر
والفتح، وسؤال اللَّه الغفران مع مداومة الذكر. واللَّه كثير القبول للتوبة على
المسبّحين والمستغفرين، يتوب عليهم ويرحمهم، ويقبل توبتهم.
10. أمر
اللَّه تعالى بالتسبيح أولاً، ثم بالحمد، ثم بالاستغفار، لأنه قدم الاشتغال بما
يلزم للخالق، وهو التسبيح والتحميد، على الاشتغال بالنفس. وقدم الأمر بالتسبيح،
حتى لا يتبادر إلى الذهن أن تأخير النصـر سنين لإهمال مثلاً، فاللَّه ينزّه ويقدّس
عن إهمال الحق. وأتى بالاستغفار، حتى لا يفكر النبي (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ) بالاشتغال بالانتقام ممن آذاه.
11. الآية
تدل على فضل التسبيح والتحميد، حيث جعل كافياً في أداء ما وجب على النبي (صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، وأمّته، من شكر نعمة النصـر والفتح([68]).
12. دعوة
النبي (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) إلى الاستغفار، هي دعوة له، وللمؤمنين
معه- من باب أولى- إلى لقاء الله تعالى تائبين مستغفرين، بعد أن يتم الله عليهم
نعمة النصـر والفتح، ويبلغ بهم منزل السلامة والأمن.. وإنه ليس في هذا الاستغفار
إلا مراجعة لما وقع في النفوس من ظنون بالله عند بعض المؤمنين، أو ضجر من الصبر
على البلاء عند بعض آخر، أو شعور بشيء من الأسى والحزن عند فريق ثالث([69]).
13. قوله
تعالى: ﴿إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً﴾ أي كثير التوبة على عباده، واسع المغفرة
لذنوبهم.. وفي المبالغة في التوبة دلالة على كثرتها، والدلالة على كثرتها، دلالة
على كثرة ذنوب العباد([70]).
[1] - تيسير الكريم الرحمن: (ص939).
[2] - في ظلال القرآن: (6/3994).
[3] - الجامع لأحكام القرآن: (20/229)؛ بصائر ذوي التمييز: (1/550)؛
روح المعاني: (15/493).
[4] - صحيح البخاري: (4364).
[5] - صحيح مسلم: (3024)؛ سنن النسائي الكبرى: (11649).
[6] - السنن الكبرى للبيهقي: (9682).
[7] - الزمخشري، الكشاف: (4/810)؛ ابن جزي، التسهيل لعلوم التنزيل:
(2/520).
[8] - المفهم: (15/31).
[9] - التحرير والتنوير: (30/591).
[10] - التفسير القرآني للقرآن:
(16/1700).
[11] - المعجم الأوسط للطبراني: (883)، وأخرجه الإمام أحمد (1873)
مختصـراً دون ذكر فاطمة؛ دلائل النبوة للبيهقي: (7/167).
[12] - صحيح البخاري: (4294).
[13] - تفسير القرآن العظيم: (8/512).
[14] - أي: تنتظر.
[15] - صحيح البخاري: (4302).
[16] - سنن النسائي الكبرى: (11648).
[17] - اللؤلؤ والمرجان: (1761).
[18] - القاموس الفقهي: (1/349).
[19] - العين: (5/381).
[20] - النهاية لابن الأثير: (4/205).
[21] - عمدة القاري للعيني: (12/287).
[22] - مفردات الراغب: (ص392).
[23] - النهاية: (2/331).
[24] - معجم اللغة العربية المعاصـرة: (2/1024).
[25] - جامع البيان: (24/668).
[26] - صحيح البخاري: (4967).
[27] - اللؤلؤ والمرجان: (275).
[28] - شـرح مسلم: (3/295).
[29] - مسند الإمام أحمد: (25508)، حديث صحيح.
[30] - الجامع لأحكام القرآن: (22/229-230).
[31] - الجامع لأحكام القرآن: (22/230).
[32] - مفردات الراغب: (ص622).
[33] - معجم المصطلحات والألفاظ الفقهية: (3/55)؛ معجم اللغة العربية
المعاصـرة: (3/1751).
[34] - معجم اللغة العربية المعاصرة: (1/304).
[35] - الصحاح: (2/770)؛ مقاييس اللغة: (4/385)؛ مفردات الراغب:
(ص609).
[36] - الفروق اللغوية للعسكري: (ص235).
[37] - صفوة التفاسير: (3/589).
[38] - ابن جزي الغرناطي، التسهيل لعلوم التنزيل: (2/520).
[39] - مفاتيح الغيب: (32/336).
[40] - التسهيل لعلوم التنزيل: (2/520)؛ البحر المحيط: (10/563).
[41] - التفسير القرآني للقرآن:
(16/1700).
[42] - الجامع لأحكام القرآن: (20/230).
[43] - الاستيعاب: (4/1638؛ رقم الترجمة: 2928).
[44] - التحرير والتنوير: (30/593).
[45] - الجامع لأحكام القرآن: (20/231).
[46] - روح المعاني: (15/493).
[47] - معجم المصطلحات والألفاظ الفقهية: (1/151).
[48] - مدارج السالكين: (1/314-315)، دار الكتاب العربي – بيروت، ط3،
1416 هـ - 1996م.
[49] - بصائر ذوي التمييز: (2/166).
[50] - غريب الحديث لابن سلام: (3/348).
[51] - بصائر ذوي التمييز:
(4/136).
[52] - مدارج السالكين، منزلة التوبة.
[53] - ابن رجب الحنبلي، جامع العلوم والحكم: (395)، مؤسسة الرسالة
–بيروت، 1417هـ - 1997م.
[54] - صحيح الجامع الصغير: (رقم: 3674)، وفيه: رواه أحمد والبخاري
والنسائي عن شداد بن أوس.
[55] - نفسه: (رقم: 4400).
[56] - نفسه: (رقم: 3486).
[57] - نفسه: (رقم: 7091).
[58] - نفسه: (رقم:2415).
[59] - ضعيف الجامع الصغير: (رقم: 5829).
[60] - جامع العلوم والحكم: (ص473، الحديث الثاني والأربعون).
[61] - روح المعاني: (15/495).
[62] - التحرير والتنوير: (30/590).
[63] - التحرير والتنوير: (30/590).
[64] - مسند الإمام أحمد: (16957)، إسناده صحيح على شـرط مسلم.
[65] - تدارك بقية العمر في تدبر سورة النصـر: (ص14). تيسير الكريم
الرحمن: (ص939).
[66] - التحرير والتنوير: (30/592).
[67] - في ظلال القرآن: (6/3696).
[68] - التفسير المنير: (30/451-452).
[69] - التفسير القرآني للقرآن: (16/1702).
[70] - التفسير القرآني للقرآن: (16/1702).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق