معضلة التوريث وإشكالية تجديد الدماء الشابة في العمل الإسلامي

محمد صادق أمين*

أسميتها معضلة؛ لأنها ببساطة سكين غرزت في خاصرة العمل الإسلامي في عموم العالم، تستنزف الموارد والطاقات، وتستعصي على الحل، رغم كثرة العقلاء في الحركة الإسلامية.

وأصل المشكلة يعود إلى وجود طبقة من يصطلح على تسميتهم بـ(أهل السابقة)، وهم الذين قضت سنن الله في خلقه أن يتحملوا أعباء التأسيس، وما يتطلب من تضحيات وخسائر، ولا يكون لهم نصيب في غنائم التمكين والانتصار والانتشار، ورسول الله –صلى الله عليه وسلم- سيد المؤسسين نموذجاً؛ مات في الستين، وما شهد استباب دينه في كامل الجزيرة العربية.

(أهل السابقة) في الحركة الإسلامية؛ لم يرضوا بتمام شِقّي سنّة الله في خلقه، وفي كل سانحة يأذن الله فيها للدعوة أن تتمكن ينبرون للصدارة، مردّدين: {لَا يَسْتَوِى مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ ٱلْفَتْحِ وَقَٰتَلَ أُوْلَٰٓئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ ٱلَّذِينَ أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وَقَٰتَلُواْ}، محتجين بتفريق عمر بين الفريقين، خلافاً لمنهج أبي بكر ورسول الله –صلى الله عليه وسلم-، فيستأثرون بالصدارة، رغم أن كل أدبيات الحركة تدعو للزهد في الإمامة، وعدم التقدم للإمارة، حتى أن الأنظمة الداخلية ضُمّنت فقرات تجرّم الدعاية الانتخابية، أو ما يعرف بـ(التثقيف).

ولكن؛ كيف يفسـر هذا التناقض؟ التفسير بسيط، هم يرون في أنفسهم قوّاماً على دعوة الله، وتخليهم عن الصدارة يعني ضياعها، ولهذه الغاية تُستسهل كل الوسائل!.. هذا التفسير كان مسوغاً لبناء (اللوبيات) التي تقوم على مجاميع تعمل على التخادم القيادي، وتنشط في أزمنة الانتخابات؛ قدّموا فلان، أسقطوا فلان، فلان ينسحب لصالح فلان، فلان ينسحب من الرئاسة مقابل النيابة... إلخ، وتستخدم في سبيل ذلك كافة الوسائل من التثقيف (المُجرّم – بضم الميم وتشديد الراء)، إلى تمرير الأوراق من تحت الطاولة، وإلى أبعد من ذلك، وفي ذاكرة من يقرأ شواهد تغنيني عن إطالة السـرد.

ولو نراجع مسيرة بعض الحركات -دون تسمية-، نجد أن (أهل السابقة) شكلوا حولهم هالة من الرجال المطيعين من أهل البلاغة والمبالغة في المديح والثناء، وعمل هذا الفريق المتجانس على التناقل الوظيفي بين مؤسسات العمل، بحيث لا يخرج الأمر - على مدار عقود - من دائرة هذا الفريق، فالرجل منهم يتنقل في المواقع القيادية دورة بعد أخرى، فتارة يكون على رقعة الشطرنج في موضع القلعة، وتارة يكون في موقع الحصان، ثم يرتقي ليصبح الوزير، ثم الملك.

ولو نعود بالذاكرة البعيدة والقريبة نجد أن مقام الملك على رقعة الشطرنج هو معضلة المعضلة، حتى قيل لأحد الملوك إن وجودك في الموقع الأول قد عطل دين الله، فضلاً عن دعوته، فيقول: (ثوب ألبسني إياه إخواني، لا أنزعه)، ثم قيل لمن بعده، بالإجماع: إن تشبثك بالموقع على الرقعة، هو السبب الوحيد لتعطل ماكنة العمل، فما زاده النصح إلا إصراراً.. ومن لا يستسلم لسنة التغيير، تدركه سنة التبديل، فسلّط الله عليه إخوانه، فدبروا له بليل.

وعلى هذا المنوال تمضـي سنّة توريث العمل، (أهل السابقة)، ومعهم الهالة: دائرة أهل الحظوة المرضي عنهم، يتبادلون المواقع، كلما أزاح المرض والموت أحدهم، تقدم الذي يليه، ثم الذي يليه، والكل يتقدم بالسنّ ويشيخ مضياً في درب (التنكيس).. وبناء على دورة التوريث هذه، تسير الحركة الإسلامية بذات العقلية والأدوات والسياسات وطرائق التفكير: يتبدل الأشخاص، ولا تتبدل الرؤى، إلا لمماً، في عالم وتيرته التسارع الجنوني، وهكذا بتنا نمضي في سلم التراجع هويّاً، عاماً بعد عام.

تجديد الدماء الشابة في جسم العمل، تحوّل في هذه الأثناء إلى مشكلة مستعصية، فدورة حياة التوريث آنفة الذكر شكلت قوة طاردة مركزية، تنفي الأجيال الشابة الصاعدة إلى الأطراف القصية، هناك حيث يمكن الاستثمار في الشباب وليس في المركز، من يقترب تتكفل به القوة الطاردة، وتعيده إلى حيث ينبغي له أن يكون.

في هذه الأثناء سنن الله لا تتوقف عن العمل، فبينما تشيخ القيادات في مواقعها على رقعة الشطرنج، وتتراجع قدراتها تبعاً لسنة التنكيس، وتتخلف مهارياً عن مواكبة تسارع العصـر، تمضي الأجيال الشابة قدماً في الاتجاه المعاكس، فهي أقدر على استيعاب متغيرات العصـر بسبب ثورة المعلومات، التي يسـّرتها ثورة الاتصالات، فينضج الشاب العشـريني بوتيرة القفزات تبعاً للعصر، ويصبح بحكمة شيخ بفضل ما سُخر له من إمكانات.

هنا يحصل التصادم، بين القديم الذي يأبى أن يُغير أو يتغير، والجديد الذي يأبى أن ينصاع أو ينقاد أو يُذعن، فحصلت الردة الشبابية عن التفاعل مع الدوائر الحركية، ما أدخل الحركة الإسلامية مرحلة الشيخوخة والتنازع المفضي إلى الفشل.

هذه المعادلة المعقدة أفضت إلى عدة مخرجات، منها: ترك العمل، الانشقاق الموازي، الانشقاق المعاكس، الاستعانة بطرف خارجي، وهو ما سأتحدث عنه لاحقاً، إن شاء الله.

* صحفي وكاتب- عضو مجلس شورى حركة العدل والإحسان- العراق.