تملكُ لساناً واحداً، وتملكُ أذنَين اثنتَين،
اللّسانُ يقعُ خلفَ بابَينِ، والأذُنان طليقتانِ حتّى تسمعَ أكثرَ مما تتحدَّثُ،
لأنّكَ تحتاجُ إلى السّمعِ أكثر من حاجَتِكَ إلى النّطق، وتكتشف الحياةَ عن طريقِ
الأذنين أكثر ممّا تكتشفها عن طريق اللّسانِ. ما يعلّمهُ إيّاكَ السّمعُ، يفسدُهُ
اللسانُ عليكَ.
ألا ترى أنّ النطقَ يحتاجُ إلى بذلِ جهدٍ، في حينِ لا يحتاجُ السمعُ إلى
أيّة حركةٍ حتى يعلّمكَ شيئاً جديداً. اللّسانُ يصلُحُ مرةً، ويفسدُ عشـرَ مرّاتٍ،
لذلكَ فإنّ قلةَ الكلامِ حكمةُ الرجالِ والنساءِ معاً.
إنْ أطلقَ الإنسانُ العنانَ للسانِهِ قتَلَهُ
لسانُه، كمْ من لسانٍ أدى بصاحبِهِ إلى التّهلكةِ، كم من لسانٍ سفكَ جداولاً من
دماءِ، كمْ من لسانٍ هدّ بيوتاً آمنةً، كم من لسانٍ أشعلَ العداوةَ والبغضاءَ بينَ
شخصَين مدى الحياةِ.
إنْ أردتَ النّطقَ احتجتَ إلى فتحِ بابِ الأسنانِ، وفتحِ بابِ الشفتَين، وتحريكِ اللّسانِ، واستخدامِ الصوتِ، والاستعانةِ بأكثرِ أوتارِ الجُملةِ العصبيّةِ حساسيّةً، وبشـيءٍ من التّركيزِ والحدّةِ قد تستعينُ بيديكَ وعينيكَ
وحاجبَيكَ ورأسِك، وهذا كلُّهُ يُسببِ الإرهاقَ لك، يعلُو الاحتقانُ سماتَ وجهك، يختلُّ قلبُك في نبضِهِ.أمّا وأنتَ تسمعُ، ينشـرحُ صدرُكَ، يتّسعُ
تأمُّلكَ، تستكينُ في حُضنِ نشوةِ السّماعِ والتّأملِ، تدخُلُ بكاملِ حواسكَ حالةً
استرخائيّةً من لذّةِ الإصغاءِ، ونشوةِ التّأملِ قد تُتًوَّجُ بغفوةٍ لم تُدركْ
لذّتها في ألفِ نومٍ.
التبذيرُ في الكلماتِ لا يقلُّ عن التبذيرِ في
المالِ، لأنَّ الكلمة تحتاجُ إلى بذلِ جهدٍ من كلّ أعضاءِ الجسدِ.
تسْطعُ شمسُ الحياةِ على أولئكَ الذينَ يبذّرونَ
البذورَ، وينتظرُون شُروقَها كي تينَعَ تلكُ البذور فيغتنِي بها الزّارعُ، ويغتنِي
بها الآخرون، وتغتنِي بها الحياةُ أيضاً.
كثيرونَ يمضُون حياتَهم دونَ أن يبذُروا بذرةً
واحدةً، ودونَ أنْ تسطَعَ عليهِم شمسُ الحياةِ، إنّهم يعيشونَ في ظلامٍ أبديّ، لمْ
تشرُق على ظلمَتِهم أيُّ شمسٍ.
الحياةُ هي إحساسٌ داخلي بالإشـراقِ والطّرب
يعبقُ على النّفوسِ جميعاً، بَيد أن آليةَ الاستقبالِ لهذا الإحساسِ تختلفُ من
تركيبةٍ إنسانيةٍ إلى غيرها، وهذا يتداخَلُ بمفهومِ حياةِ الغنی لدى شـرائحِ
النّاس.
ما يهمُّ، أن أيَّ إنسانٍ على سطحِ الأرضِ يمكنُ
لهُ أن يعيشَ دفءَ الحياةِ النّفسيةِ،
حتّى لو كانَ في خيمةٍ صغيرةٍ في عمقِ صحراءٍ.. يمكنُ لهُ أن يستمتعَ بشـروقِ
الشّمس على حياتِهِ كلّ صباح.
الشمسُ هنا تكونُ لِمَن يُهيئُ مشاعِرَهُ
لاستقبالِها، ويستمتِعُ بلحظاتِها الذّهبيةِ، وعندئذٍ يمكنُهُ أنْ يشـرقَ على
الحياةِ ويقدّمَ عملاً مجدياً فيها.
ليسَ بوسعِ الإنسانِ أنْ يفعلَ شيئاً مُجدياً
دونَ أن تشـرقَ الشمسُ على حياتِهِ، لأنّ الشمسَ هنا تحملُ معها دفقاتِ الحياةِ،
ودفقاتِ الحيويّةِ التي هي بمثابةِ النّبض لفؤادِ الحياةِ.
اسمع كثيراً، إنّك لمْ تسمعْ إلا القليلَ،
وانظرْ كثيراً، إنّك لم ترَ إلا القليلَ، واقرأْ كثيراً، فإنكَ لم تقرأْ إلا
القليلَ، ولا تفكّر في النُّطقِ كثيراً، فإنّكَ قلت الكثير.
اسمعْ أصواتَ كائناتِ الطّبيعةِ، سترى كلّ صوتٍ
يغتنِي بميزةٍ خاصةٍ بهِ، إنّكَ تحتاجُ إلى سماعِ لسانِ كلّ حيوانٍ ونباتٍ وجمادٍ،
اسمعْ رزام الإبلِ، ستراهُ مختلفاً عن طنينِ الذّباب، اسمع أزيزَ الرصاصِ، ستراهُ
مختلفاً عن عندَلةِ العندليبِ، اسمعْ عواءَ الذئبِ، ستراهُ مُختلفاً عن بفوم
الفيلِ، اسمعْ تغريدَ البلبلِ، ستراهُ مختلفاً عن فحيحِ الأفعی، اسمعْ قباعَ
الخنزيرِ، ستراهُ مُختلفاً عن ثغاء الغنمِ، اسمعْ قصفَ الرعدِ، ستراهُ مختلفاً عن
قعقعةِ السّيوفِ، اسمعْ خوار البقرة، ستراه مختلفاً عن خترشة الجرادِ، اسمع تغريد
البلبل ستراه مختلفاً عن حنينِ النّاقة،
اسمع حفيفَ الأشجارِ، ستراهُ مختلفاً عن جحمةِ الفرسِ، اسمع قهقاع الدبّ، ستراهُ
مختلفاً عن قطقطة القطة، اسمعْ خريرَ الماءِ، ستراهُ مختلفاً عن خشخشةِ القرطاس،
اسمع دويّ النحل، ستراهُ مختلفاً عن مواءِ الهرّ، اسمعْ دبيبَ النملِ، ستراهُ
مختلفاً عن نباحِ الكلبِ، اسمع نقيقَ الضفادعِ، ستراهُ مختلفاً عن زمار النعامةِ،
اسمع نعيقَ الغراب، ستراهُ مختلفاً عن هديل الحمامِ، اسمع سجيرَ النار، ستراهُ
مختلفاً عن صريرِ الباب، اسمع نهيقَ الحمارِ، ستراهُ مختلفاً عن يعارِ المعز، اسمع
دويّ الهواء، ستراهُ مختلفاً عن قلقلة المفتاحِ، اسمع ضغيب الأرنبِ، ستراهُ
مختلفاً عن نغماتِ الأوتار.
ستتعلّمُ من كلّ صوتٍ تسمعهُ، ويمكنُ لكَ أن
تجري حواراً صامِتاً مع هذهِ الأصوات، فتراها تستجيبُ وتحاورُك بما أنتَ عليهِ من
صمتٍ.
يقول جرير:
جرحُ السّيفِ تُدملهُ فيبرَأْ ويبقى الدّهرُ ما جرح اللسان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق