لا بد في البداية من تحديد ماذا نريد وما المقصود
بالخطاب الإسلامي؟.. لأنه من المعلوم أن الخطاب الإسلامي ليس شيئاً واحداً، ولا
تمثله جهة واحدة، فهناك أنواع كثيرة من الخطابات، كلها تدعي تمثيلها للإسلام الحق،
بدءاً من خطاب وزارات الأوقاف، وليس انتهاء بخطاب الحركات الإسلامية السياسية،
مروراً بخطاب الجماعات الصوفية، والسلفية، وغيرها.. فما هو الخطاب الإسلامي؟
فكل جهة من هذه الجهات لها خطابها الذي تتبناه وتدافع عنه، وتعتبره المعبر الحق عن الإسلام. والدخول في تفصيلات هذه الخطابات، ومضامينها، يحتاج إلى جهود كبيرة. ولكنا بدلاً من ذلك سنحاول أن نتحدث عن ذلك الخطاب الذي جاء به الرسول محمد – صلى الله عليه وسلم –، في أواخر القرن الخامس الميلادي، والمتمثل في
القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة، والذي لم يزل العلماء العاملون يقومون على شـرحه وتقريبه وتفهيمه للناس!وبداية لا بد من القول أن الإسلام، بوصفه ديناً، وخطاباً إلهياً - متمثلاً
في القرآن الكريم، وتطبيقاته العملية المجسدة في حديث رسوله الكريم وسيرته - هو
شأن مقدس، غير قابل للنقص أو النقض، وأمّا ما يقوم به العلماء؛ من شـرح، وتبليغ،
وتفهيم للدين، فهو شيء آخر لا يمتلك القداسة، ولا المعصومية، وهو شأن بشـري، غير
مقدس، ولا ينسب إلا إلى أصحابه، والقائمين به.. وهذا هو الفرق بين الدين وفهم
الدين.. بين الدين والخطاب الديني!
فالدين هو وحي الله سبحانه، وخطابه، الذي أنزله على رسوله الكريم محمد –
صلى الله عليه وسلم –، وأما الخطاب الديني فهو فهم المسلمين، واجتهاداتهم، وشـروحهم
القائمة على هذا الوحي.. فالأول هو شأن مقدس وإلهي، وثابت، في حين أن الثاني هو
شأن بشـري، غير مقدس، ومتغير، يقاس مدى صوابه وصحته، بمدى اقترابه ومطابقته للحق
الذي يمثله الدين. ومن هنا نری أن أي قراءة، أو شـرح، أو فهم لنصوص الوحي، سيكون
شأناً بشـرياً، يعتوره النقص، وتعتريه النسبية، وهو ما نراه مجسداً في المذاهب،
والفرق، والقراءات، والتفاسير، واجتهادات العلماء، وهي كلها شيء آخر غير الوحي، لا
يحمل قداسته، ولا ثباته..
ولذلك، فنحن عندما نريد الحديث هنا عن الإسلام كما أنزله الله سبحانه على
قلب نبيه محمد - صلى الله عليه وبارك-، فلن يسعنا أن نتجاوز المصدرين الأساسين
للإسلام: القرآن الكريم، وسنة الرسول المجسدة له.. ولكننا ما إن نبدأ بالأخذ من
هذين المصدرين، والتلقي عنهما، حتى يبدأ الاختلاف، وتنشأ الفرق والمذاهب، وتتباين
التفاسير والتأويلات، وكل يخرج منهما بما فهم وعلم.. أي إن الطريق ينفتح واسعاً
أمام الفهوم والاجتهادات البشـرية..!
وتلك هي سنة الله، وحكمته.. فلا عصمة، ولا قداسة، ولا ثبات، لغير الوحي،
وكل ما سواه فهو فهم بشـري نسبي.. فالتعامل البشـري مع النص الإلهي، والتفاعل معه،
وما ينتج عنه من اجتهاد، وخطاب، هو الذي يأخذ بخطى البشـر نحو التجديد الدائم، في
ظل هداية الوحي وعنايته.. وهذا هو الباب الواسع الذي فتحه الإسلام أمام البشـرية،
فيما عرف بـ (الاجتهاد)، و(التجديد)!
وهذا الأمر يثقل كاهل الإنسان بالمسؤولية، من جهة، ولكنه يفتح أمامه طرق
التقدم والازدهار، ومواجهة تغيرات الزمان والمكان، من جهة أخرى.. لأن قطعيات الدين
(الوحي)، ليست من أجل قطع الطريق عليه، أو اضطهاده، بل هي التي تحدد له مسار
الطريق، وتهديه، وتسدده، إن جرى التعامل معها كما هي، وليس كما جرى في تاريخ كثير
من أتباع دين الله، الذين ساروا على عكس مقاصد الدين، وخاصة خارج سياق الإسلام..
ولذلك، فليس ثمة شيء محدد ودقيق
ومتعال على الزمان والمكان يمكن أن نطلق عليه اسم الخطاب الإسلامي، ولكننا أمام
خطاب متغير، ومتعدد، ينتح من الوحي، ويستلهم منه، ويتكئ عليه، وهو في تطور وتغير
مستمرين، بحسب تغير الزمان والمكان..
فالقرآن الكريم خطاب الله تعالى إلى العقل البشـري، مطلق العقل البشـري،
وليس العقل الذي كان يعيش في الجزيرة العربية يومذاك، والمحدود بمعطيات ذلك الزمان
والمكان. وهذا واضح من توجيه القرآن لمشـركي العرب، وتنبيههم إلى عدم جدوى طلب
المعجزات والخوارق من النبي المرسل إليهم، ذلك أنه سبحانه قد قرر مخاطبتهم عن طريق
عقولهم، بعد إذ مضـى زمن كان العقل البشـري فيه أدنى من أن يفهم هذه اللغة
الرمزية، وكان لا يفهم إلا ما يراه عن طريق حواسه:
(أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا
أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ).
(سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ
يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ).
وهذا التوجه بالخطاب إلى العقل، هو الذي فتح الباب أمام ولادة الخطاب
الإسلامي، بالمعنى الذي تحدثنا عنه أعلاه.. هذا الخطاب الذي يتميز بأنه خطاب
مفتوح، وأنه على الرغم من استناده إلى نص مقدس، واعتماده عليه، فإنه هو في ذاته لا
يمتلك القداسة، ولا يعدو أن يكون خطاباً وفهماً بشـرياً.. وحتى (اجتهاد) الفقهاء
المسلمين، على الرغم من كونه قائماً على أساس النص المقدس، ويستلهم منه، إلا أنه
ليس ملزِماً للناس، بل هو فهم للدين، واجتهاد فيه، لا يلزم إلا صاحبه.. ولا يلزَم
به الناس إلا في حالة أن يتبناه أولو الأمر، فيكون آنذاك قانوناً بشـرياً، له قوة
القانون وإلزامه.. ولا يعني هذا – بطبيعة الحال – أن التزام المسلمين بآراء
الفقهاء، واجتهاداتهم، في المسائل الفقهية المختلفة، هو شيء غير سوي، أو خاطئ، بل
هو الأمر المطلوب لكل من كان عاجزاً عن الاجتهاد وفقه الدين بنفسه، فيتعبد آنذاك
باتباع آراء الفقهاء واجتهاداتهم، و(مذهب العامي مذهب مفتيه) على ما استقر عليه
العمل بين العلماء.. وقصدنا ها هنا أن الناس – آحاد الناس – ليسوا ملزمين باتباع
رأي فقهي معين، أو اجتهاد عالم من العلماء، دون غيره، باعتباره ديناً ملزماً لهم،
فليس لأحد – بعد رسول الله صلى الله عليه وبارك – عصمة من الخطأ، وكل يؤخذ منه ويرد
عليه إلا المعصوم – عليه الصلاة والسلام -.
فالخطاب الإسلامي، إذن، هو خطاب
بشـري تماماً، ليست له قداسة الدين، ولا ثباته، بل هو فهم للدين، يتغير بتغير
الزمان والمكان، فهو خطاب في خدمة الإنسان، ويدور مع مصالحه، وحاجاته، فحيثما كانت
المصلحة فثمّ شـرع الله، حسبما أكده علماء الإسلام الأعلام([1]).
ومن هنا نستطيع القول بأن الخطاب الإسلامي ليس خطاباً أيديولوجياً، مغلقاً،
بمعنى أنه وإن كان يتأسس على القرآن الكريم، وهو نص مقدس متعال، ولكن القرآن
الكريم نفسه هو الذي يوجه المسلمين إلى أهمية العقل، وضـرورة تحريره من كل ما
يغلّه من أوهام، أو عادات وتقاليد، أو أفكار مسبقة، وعدم الخضوع لأي سلطة، وأي
فكرة أو أيديولوجيا يصنعها الإنسان، لأنها ثمرة عقل ناقص، ونسبي!
وليس هذا بمعنى الحجر على العقل الإنساني، والفكر البشـري، أو تحقيرهما،
ولكنه بمعنى تحرير عقل الإنسان وروحه من الوقوع في أسـر إنسان مثله، والرزوح تحت
سلطانه!.. وبهذا يتحرر الإنسان من أسـر ما سواه، ويتساوى مع غيره في الإنسانية،
وحرية الفكر، والعقل، ولا يبقى فوقه، أو أعلى منه، سوى الله - سبحانه - في علاه،
الذي خلقه، ثم خاطبه بالوحي عن طريق أنبيائه، وأرسل إليه هدايته، لينير له الطريق
في حياته.. فإذا تحرر الإنسان من أسـر غيره، وتلقى الهداية من الوحي، فإنه بهاتين
الهدايتين (الوحي والعقل) يستطيع تسخير الأسباب الكونية لإعمار الأرض، وللإبداع في
مختلف جوانب الحياة.
وهكذا، فإن الخطاب الإسلامي خطاب متجدد، ومتغير، بطبيعته، وإذا تهيأت له
الأسباب، ولم يتم التضييق عليه ومحاربته، فإنه يجدد نفسه دائماً بصورة طبيعية،
ويستجيب لحاجات الناس وحوائجهم بشكل سلس..
ويكفي لكي يكون الخطاب الإسلامي
كذلك، ويقوم بهذه المهمة بنجاح وكفاءة، أن يتوفر له أمران، هما: العلم، والحرية..
العلم، ونقصد به كل تلك العلوم التي يحتاجها الإنسان من أجل أن يكون قادراً
على فهم الدين، والاجتهاد في ميادينه المختلفة، بعيداً عن الجهل والتعصب والأمراض
الفكرية.
وأما الحرية، فنقصد بها ذلك الفضاء المادي، والثقافي، الذي يهيئ الأرضية
الحاضنة لحركة الاجتهاد والتجديد، والذي يمكّنها أن تتم دون أن تخضع لأي شيء أو
سلطة خارج سياقها، وأن تتحرر من أي ضغط أو مصلحة خارج المصلحة العليا للمسلمين، أو
بعيداً عنها.
ولا يتحقق ذلك إلا عندما لا يكون لـ(السلطة) في ديار المسلمين – والمقصود:
السلطة السياسية تحديداً - أن تتجاوز، أو تحتكر، حركة الفكر والعلم، ولا أن تشتري
بأموالها العلماء والمفكرين، وتقيّدهم في مسارها، رغباً ورهباً..
ولقد لعبت (الأوقاف)، في الحضارة
الإسلامية، دوراً كبيراً، ومؤثراً، في تحقيق شيء من ذلك، ولكن ذلك الدور قد تلاشى
اليوم، مع استيلاء السلطة السياسية في الدولة الحديثة على مؤسسات الأوقاف، وجعلها
تابعة للدولة، وحرمت بذلك العلماء والمفكرين من مصدر قوتهم، واستقلالهم.. ومع أن
الدولة الحديثة قد حاولت معالجة ذلك بإيجاد بديل للأوقاف، متمثلاً في منظمات
المجتمع المدني، ولكن ذلك لم ينجح في الدول المتخلفة، التي تحتكر فيها السلطة
السياسية كل مناحي الحياة، وتستولي على كل مصادر القوة والثروة فيها، حيث تكون
الدولةُ مصادَرَة لصالح الطبقة الحاكمة، ويكون العلم والعلماء أسـرى لرغبات القوى
الحاكمة، ومصالحها([2])..
ولذا، وفي ظل ظروف كالتي يعيشها العالم الإسلامي اليوم، فإن الأمل في ولادة
خطاب إسلامي إصلاحي متجدد ومعاصـر، لن يعدو أن يكون مجرد سـراب في صحراء.
([1])
يقول
ابن تيمية: "الشَّـرِيعَةَ مَبْنَاهَا عَلَى تَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ
وَتَكْمِيلِهَا وَتَعْطِيلِ الْمَفَاسِدِ وَتَقْلِيلِهَا"، مجموع الفتاوى،
تحقيق: أنور الباز ، دار الوفاء، ط3، 1426 هـ / 2005 م (10/ 512). ويقول ابن القيم: "فإذا ظهرت أمارات الحق، وقامت أدلة
العقل، وأسفر صبحه بأي طريق كان؛ فثم شـرع الله ودينه ورضاه وأمره"، إعلام
الموقعين عن رب العالمين، دار الجيل - بيروت، 1973م (4/473). ويقول الإمام
الشاطبي: "المعلوم من الشـريعة أنها شـرعت لمصالح العباد؛ فالتكليف كله إما
لدرء مفسدة، وإما لجلب مصلحة، أو لهما معاً"، الموافقات، تحقيق: مشهور بن حسن
آل سلمان، دار ابن عفان، ط1/ 1417هـ، 1997م (1/ 318).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق