د. عمر عبد العزيز
? تحدثنا في الحلقة التاسعة عن رؤية العلامة ناصـر سبحاني حول حقيقة التوحيد
وآثاره، والشـرك وأنواعه، وأهمية التوحيد للإنسان في تصوره، وحقيقة التوحيد،
والاستدلال القرآني عليه، وتوحيد الألوهية والربوبية، والحكم بغير ما أنزل الله،
ومنافاته لتوحيد الألوهية، وألقينا الضوء على بدايات شـروع الشـرك، وأسبابه،
والمجالات التي وقع فيها الشـرك بالله.
في هذه الحلقة سنتحدث عن تصوره للنبوة والرسالة، والحكمة من بعث الأنبياء (عليهم السلام)، ومفهوم عصمة الأنبياء، وموضوع حفظ التنزيل الحكيم..
المنهجية المتميزة:
تمتاز منهجية العلامة ناصـر سبحاني في تناوله لموضوع النبوة والرسالة
بخاصية تتمثل - بالدرجة الأولى -
في الاعتماد على آيات القرآن الكريم بطريقة استقرائية دقيقة. ولقد خصّ عشـرات من
دروسه ومحاضـراته العلمية، المتعلقة بالعقيدة والإيمان، لموضوع النبوة والرسالة،
كما خص جزءاً وافراً من كتابه القيّم (الولاية والإمامة) للمبحث نفسه، لصلته
المباشـرة بهما.
ولقد حقق الشهيد، بدقة وإتقان،
في جوانب عديدة مما يتعلق بالموضوع، فتحدث عن الحكمة من مبحث الأنبياء - عليهم
السلام-، وطريقة اختيارهم من لدن الله -عز وجل-، وتحدث عن تعريف النبوة والرسالة،
والفرق بينهما، وموقع الإمامة والولاية فيهما. كما وضح حكمة ختم النبوة في بداية القرن
السابع الميلادي. وأشار إلى طرق الوحي، وكيفية تلقّيه، وجوانب الإعجاز والتحدي في
القرآن الكريم.
هذه، وغيرها مما يتعلق بموضوع
النبوة والرسالة، سنتناولها في هذا المقال، موضحين وجهة نظر الشهيد سبحاني،
ومقارنين بينها وبين ما قاله القدماء من العلماء، في جوانب قد تحتاج إلى مقارنة.
أولاً/ النبي والرسول، والنبوة
والرسالة، في اللغة والاصطلاح:
النبيّ: فعيل من النبأ، بمعنى الخبر الهام،
والنبي مَن ينبئ الأنباء عن الله. ويقال للطريق الواضح السهل: النبي([1])،
وقيل: هو من النَّبْوَة، بمعنى ما ارتفع من الأرض، فإن جعلت النبي مأخوذاً منه،
أي: أنه شُـرِف على سائر الخلق، فأصله غير الهمز([2]).
وأصل النبيّ: النبيء بالهمز، والمختار ترك الهمز([3]).
وقال الراغب الأصفهاني: "النبأ: خبر ذو فائدة عظيمة، يحصل به علم أو غلبة ظن،
ولا يقال للخبر في الأصل نبأ حتى يتضمن هذه الأشياء الثلاثة. وحق الخبر الذي يقال
فيه نبأ أن يتعرّى عن الكذب، كالتواتر، وخبر الله، وخبر النبي – صلى الله
عليه وسلم. والنبي لكونه منبئاً بما تسكن إليه العقول الزكية، يصح
أن يكون فعيلاً بمعنى فاعل، لقوله تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي
أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}(الحجر: ٤٩). وقوله: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَٰلِكُمْ لِلَّذِينَ
اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ}(آل عمران: ١٥). وأن يكون بمعنى المفعول، لقوله: {وَإِذْ أَسَرَّ
النَّبِيُّ إِلَىٰ بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ
وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا
نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَٰذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ
الْخَبِيرُ}(التحريم: ٣)([4]).
أما الرسول، فأصله من
الرِّسْل، بمعنى الرفق والتؤدة، أو من الرَّسل بمعنى السَّهل من السّير([5]).
والرسول فعول من الرسالة، ويُجمع على رُسُل. وبناء على ذلك عرّف العلماء النبوة
بأنها: "سِفارة بين الله وبين ذوي العقول من عباده، لإزاحة عللهم في أمر
معادهم ومعاشهم([6]).
ولقد أكد الشهيد سبحاني أنه إذا
أريد اختيار عبد من الله سبحانه ليأتيه الوحي، فيقال: نبيّ، أي الذي أتاه نبأ
الوحي. وإذا أريد جانب إيصال هذا النبأ الإلهي إلى عباده، يقال: الرسول، بمعنى
حامل الرسالة ومرسلها. قال في ذلك: "النبوّة أصلها: النبوءة من النبأ، ولفظة
النبي أصلها النبيء، فعيل بمعنى المفعول، وصنعت للدلالة على من ألقي إليه نبأ
الوحي. ولفظة النبوءة للدلالة على كون الإنسان بحيث يلقى إليه ذلك النبأ([7]).
ولقد قال العلماء - قديماً - في الفرق بين الرسول والنبي:
"أن كلّ من نزل عليه الوحي من الله تعالى، على لسان مَلَك من الملائكة، وكان
مؤيداً بنوع من الكرامات الناقضة للعادات، فهو نبيّ. ومن حصلت له هذه الصفة، وخُصّ
– أيضاً – بشـرع جديد، أو بنسخ بعض أحكام شـريعة كانت قبله، فهو رسول([8]).
وبهذا يتضح أن الرسل كلهم أنبياء، وليس كل الأنبياء رسلاً، لأن الرسول هو الذي
أتاه وحي تضمن شـريعة، وكُلّف بإيصالها إلى الناس، ولهذا سُمّي رسولاً. أما النبي،
فليس مكلفاً بإيصال شـريعة جديدة، فهو مكلف بالعمل بشـرع من قبله. ولهذا يطلق على
آدم بأنه نبي الله، ولا يقال رسول، بينما يقال لنوح: رسول الله. وقد يقال إنه أول
رسول، كما جاء في حديث الشفاعة الصحيح: يا نوح، إنك أول رسول([9]).
وللسبب ذاته – أي الفرق بين
الرسول والنبي، والرسالة والنبوة- وصف الله رسوله محمداً -عليه الصلوات والبركات-
بأنه الرسول النبي في قوله: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ
الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ
وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ
الْمُنكَرِ}(الأعراف: ١٥٧)، وكذلك وصف موسى وإسماعيل – عليهما السلام - بهما
أيضاً، في قوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَىٰ إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا
وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا}(مريم:٥١). ولكون مقام الرسل أعظم من مقام الأنبياء،
قدم الله كلمة الرسول على النبي في المواقع الثلاثة السالفة، والله أعلم.
ثانياً/
الحكمة من بعث الأنبياء (عليهم السلام):
موضوع النبوة أول موضوع فكري تحدث عنه
المتكلمون في مباحث السمعيّات، ضمن مسائل علم الكلام. ولقد تناوله معظمهم بأسلوب
فلسفي جامد، بعيد عن منهج القرآن في تناول قصص الأنبياء، والمسائل المتعلقة بالوحي
والتنزيل. فالله سبحانه أكد - في مواقع عديدة، في القرآن الكريم - على حكمة إرسال
الرسل، فقال مثلاً: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِن
مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ}(فاطر:٢٤)، وأنه أرسل رسله {رُّسُلًا
مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ
بَعْدَ الرُّسُلِ..}(النساء: ١٦٥)، وآيات أخرى تؤكد على أن هناك ضـرورة فعلية –
بمقتضى صفات الرحمة والحكمة والعلم والإرادة لله – لأن يبعث الرسل لعباده. ولكن
نرى فرقة كالمعتزلة تتحدث عن جواز وإمكانية إرسال الأنبياء، لا على ضـرورة ذلك، بل
إن بعض الغلاة منهم، كأبي إسحق النظام([10])،
اقترب من إنكار النبوات، فلقد أنكر المعجزات - كما ينقل عنه عبد القاهر البغدادي
في (الفرق بين الفرق)-، ولكن لم يجسر على إظهار هذا القول([11]).
هذا الجدل الكلامي أوقع الكثيرين في متاهات
كان المسلمون في غِنىً عنها، بينما انتبه الربانيون من علماء الأمة إلى أن أمر
معرفة الله، وما يتعلق بالغيبيات من الوحي والنبوة والملائكة، لا يحتاج إلى كل هذا
التعقيد، الذي حصل إثر التأثر بالجدل (البيزنطي)، الذي انتقل إلى بعض الأفكار،
وانتثر في ثنايا كتب التراث، مع الأسف.
لاحظ ما نقلناه آنفاً، وما يقوله عالم رباني،
كابن قيم الجوزية، الذي اهتدى بالقرآن، أنقله هنا قبل أن أنقل قول صاحبنا الشهيد
سبحاني، لكي نطمئن أن الاهتداء بالقرآن، وانتهاج منطقه في تناول مسائل العقيدة،
يجمع المهتدين به في صف واحد، وفي مستوىً في الفهم الواحد، كالأواني المستطرقة،
مهما تفاوتت أزمنتهم، وتباعدت أوطانهم، واختلفت أقوامهم، ولغاتهم، لكونهم يستمدون
ويستلهمون من معين واحد. يقول ابن قيم الجوزية، فيما يتعلق بموضوع الحكمة من إرسال
الرسل (عليهم السلام) من قبل الله: "لا سبيل إلى السعادة والفلاح ــ لا في
الدنيا، ولا في الآخرة ــ إلا على أيدي الرسل. ولا سبيل إلى معرفة الطيّب والخبيث،
على التفصيل، إلا من جهتهم. ولا يُنال رضى الله البتّة، إلا على أيديهم. فالطيب من
الأعمال والأقوال والأخلاق، ليس إلا هديهم، وما جاءوا به.. فالضـرورة إليهم أعظم
من ضـرورة البدن إلى روحه، والعين إلى نورها، والروح إلى حياتها. فأي ضـرورة وحاجة
فرضت، فضـرورة العبد، وحاجته إلى الرسل، فوقها بكثير"([12]).
هذا ما قاله الإمام العلامة ابن القيم، ولكن
أرى أن الشهيد العلامة ناصـر سبحاني تناول الموضوع بدقة أكثر، حيث استند على قواعد
منطقية، مستهدياً بالقرآن، فأكد - في معظم محاضـراته - على أن بعث الأنبياء والرسل
(عليهم السلام) تم بمقتضى صفات الرحمة والحكمة الإلهية، فبما أن الله ربّ رحيم،
وأن الرحمة تعني جلب المنافع ودفع المضار، وبما أنه لا نفع للإنسان أكبر من إنجائه من ظلمات الضلالة والجهل، إلى نور
الهدى والعلم، فقد بعث الله في كل أمة رسولاً، ليدعوهم إلى معرفة الله وعبادته.
يقول سبحاني في هذا الموضوع:
"المخلوقات التي حولنا إن هي إلا إمكانيات ومظاهر لرحمة الله الواسعة، لنتمتع
بها نحن البشر وننتفع. ولا بد للتمتع بهذه الإمكانيات والنعم من رعاية طريقة من
الطرق. والإنسان لا يستطيع أن يختار أنسب الكيفيات والأساليب، لمحدودية علمه، لذا
يحتاج إلى هداية إلهية وإرشاد يضعه على جادة الصواب، للتمتع بالنعم كما يشاء الله،
وإلا فستنقلب تلك النعم نِقماً على الإنسان في الدنيا..". ثم يقول متسائلاً:
"وهل يجدر بالله الرحمن الرحيم، أن يضع بين أيدينا إمكانيات، ويسخّر لنا من
مظاهر نعمه ما يتعلق بقوتي النمو والنسل، وقوة الإحساس، وقوة الحركة، ولكن يهملنا
بعد ذلك في مجال قوة العلم، وقوة الإرادة، اللتين خُصّ بهما الإنسان، فلا ينزل
علينا آيات بينات؟ هل هذا يوافق حكمة الله؟ هل يعقل أن ينعم الله الخالق علينا بالنعم
الصغيرة، ويهملنا ويحّرمنا من النعمة الكبيرة؛ نعمة الهداية عن طريق الوحي إلى
الأنبياء، التي هي كبرى النعم الإلهية؟ والتي بإهمالها ستنقلب جميع تلك النِّعَم
نقماً؟!([13]).
ولإبراز جانب آخر – لا يقلّ
أهمية عن الأول- من حكمة اصطفاء الأنبياء، وتكليفهم، من قبل الله سبحانه، يقول:
"لما اعتدى بعض الناس على حق (الألوهية) المخصصة بالله - حيث حاول الملوك
والحكام غصب شطر (الآمرية) منها، فجعلوا أنفسهم متسلطين على رقاب الناس، يشـرّعون
لهم من الدين ما لم يأذن به الله، وحاول الكهان وبعض القادة الدينيين غصب شطر
(المعينية) منها، فجعلوا أنفسهم شفعاء وكلاء، يدّعون قربهم الخاص من الله، ويدّعون
التوسط بين الناس وربهم - بعد أن علم الله بذلك، اصطفى من بين عباده أرشدهم
وأصلحهم لتلقي هديه عن طريق الوحي، لكي يشهد أن الألوهية حق إلهي محض، وأن كلا
الفريقين غاصبان لذلك الحق، فلا آمر إلا هو،
كما لا معين ولا مغيث إلا هو - سبحانه وتعالى"([14]). هذا ما
استلهمه الشهيد من قوله تعالى: {رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ
لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ
اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا}(النساء: ١٦٥).
ثم ألقى الضوء على
حكمة اختيار القرن السابع الميلادي – قرن مبعث خاتم الأنبياء- قائلاً: "بعد
مضي زمانٍ، حين: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ
أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ
يَرْجِعُونَ}(الروم:٤١)، كان البشر في أشد الحاجة إلى هُدىً مطهَّرٍ من شوائب
النقص والزيادة والتغيير والتبديل والتحريف عن المواضع، وأسوة غير ضنين بالحق
والخير، ولا ضنين بالباطل والشر، من جانب، وحين استعد البشر لتلقي آخر كتب
الهداية، وحفظه، ومواطأة أكمل الأئمة الربانيين، ومشايعته، من جانب آخر، فَعَل
الله عز وجل ما كان ينبغي أن يفعل([15]).
وجواباً عن
تساؤل حول تفريق الله لهديه، وتوزيعه على حقب زمنية، وإرسال آخر ما تبقى من هديه
على خاتم الأنبياء والرسل محمد - صلوات الله وبركاته عليه وعليهم-، يقول:
"إذا تذكرنا أن أفعال الله الحق الحكيم
لا عبث فيها، علمنا أنه لو كان البشر يحتاج من بدء خلقه إلى الهدى الرباني في
صورته الأخيرة، والإمامة في صـراط الإيمان والعمل الصالح في طورها الأخير، ويتمكن
كذلك من تلقي وحفظ ذلك، ومواطأة ومشايعة هذه([16])، ولم تكن
الحوائل المكانية والزمانية تمنع الهدى عن أن يُبلّغ ويُنقل إلى الأقوام والقرون،
ما نزل إلا كتاب واحد، ولم يُبعث إلا نبي مرسل واحد. وعلى ذلك أُعلن، يوم تحققت
الشـروط والأسباب، وارتفعت الحوائل، ختمُ النبوة والرسالة"([17]).
ثالثاً/
وظيفة النبوة والرسالة تقتضيان حفظ التنزيل، وعصمة النبي:
يعالج الشهيد سبحاني موضوع حفظ الوحي،
والعصمة، بطريقة مميزة. يقول في البداية: "نزل الهدى الرباني – السبب الوحيد
لإخراج الإنسان من ظلمات الظنون، وإنقاذه من زلازل الخوف والحزن الناشئين عن عدم
الاستناد على أساس من الحقيقة، ورفعه من سفالة اتباع الهوى، إلى نور العلم، وأمن
الإيمان بالحق، وعلاء اتباع الهدى- ليتخذ من يشاء سبيل الإيمان والعمل الصالح،
وتقوم الحجة على من لا يشاء. هذا الهدى - الذي هو لكونه من الله، بمنأىً عن كل
شَيْنِ نقصٍ، وفي ازديانٍ بكل زين كمالٍ - قد اجتاز من سماء مقام ربوبية الخالِق
الآمر، إلى أرض منزلة عبودية المخلوق المأمور، بمراحِلَ قد حُفظ كلُّ منها بما لا بد
منه في بقاء الهدى على ما كان عليه، الأمر الذي لا يكون معه لمريدي الحق والخير أن
يكونوا في ريب، ولا مستحبيّ العمى على الهدى، أن يكون لهم على الله حجة"([18]).
ولإثبات
هذا الحفظ في السماء والأرض لما نزل من الوحي، يقول: ".. فأما قبل أن يتلقاه
ملك الوحي، فإنه كان {فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ}(البروج:٢٢)، {فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ.
لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ}(الواقعة: ٧٨-٧٩). لا يمسه الشياطين، فلا
يقع في الهدى نقص أو زيادة أو تغيير أو تبديل، وإنما يمسه الملائكة المطهّرون من
كل ما يَحْمِل على مثل ما يريد الشياطين([19]).
وأما حامله الأول، فرسول من الملائكة، يقول الله فيه: {قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا
لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَىٰ قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا
لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ}(البقرة: ٩٧)، ويقول
فيه: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ. ذِي
قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ. مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ}(التكوير: ١٩–٢١)،
ويقول فيه: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَىٰ. ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَىٰ. وَهُوَ
بِالْأُفُقِ الْأَعْلَىٰ}(النجم:٥–٧). ومع جبريل ملائكة رصدٌ يعينونه في تنزيل الهدى
على أبعد وجه عن الشبهات، يقول الله- تعالى-عنهم: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا
يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا. إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ
يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا. لِيَعْلَمَ أَن قَدْ
أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ
شَيْءٍ عَدَدًا}(الجن:٢٦– ٢٨). هذا فيما يتعلق بأصل الوحي، ومصدره، وكيفية الإتيان
به، ودور الملائكة البررة في ذلك، وضـرورة حفظه؛ عقلاً ونقلاً.. وأما فيما يتعلق
بالنبي الذي يتلقى الوحي من الملك الموكّل، فله تحقيق علمي دقيق يعالج فيه موضوع
العصمة، التي أطال العلماء والمحققون الكلام فيها؛ قديماً وحديثاً.. الشهيد ناصـر
يصنف وظائف النبي الذي يتلقى الوحي إلى ثلاث وظائف، وقد يسميها خصائص أو منازل،
هي: وظائف (النبوة) لتلقي الوحي، و(الرسالة) لتبليغ الرسالة، و(الإمامة) لإدارة
الناس وسياستهم. وهو يؤكد بأن الوظائف كلها (النبوة، والرسالة، والإمامة) محفوفة
برعاية من الله، ولكن رعاية النبوة والرسالة هي رعاية العصمة، أما رعاية الإمامة
فهي رعاية التهذيب والإصلاح، بإدراك له من طريق الوحي، وتهذيب لإمامته وإصلاحها.
هذا مختصـر ما قاله، وإليك البيان بنقل بعض ما قاله حرفاً، قال رحمه الله:
"أما متلقي الرسالة من الملك الرسول، فبشر له خصائص ومنازل كما يلي:
أولاً/
النبوة:
إن تلقي الهدى من الله - وهو يكلم وحياً، أو من
وراء حجاب- أو من الملك الرسول، بحاجة إلى استعدادات نفسية وجسدية في مجالات
الاتصال بالغيب والإدراك والحفظ والتحّمل، ولأن أفراد النوع البشري - مع إشـراكهم
في الاتصاف بأصول هذه الاستعدادات- متفاوتون في درجات الاتصاف بها؛ من أدنى درجة
ممكنة، إلى أعلى درجة كذلك، وفي اختيار صاحب درجة من الدرجات النازلة، في حال وجود
متصف بالدرجة العليا، خلاف الحكمة الربانية، يكون المختار لتلقي نبأ الهدى، أصلَح
إنسانٍ يقوم بحمل أعباء هذا الأمر.. وهذا المفرد المختار، لأنه المطلّع الوحيد
الذي تطلع منه شمس الهدى الرباني على تيهاء عالم البشر المظلمة، وفي حدوث أقلّ خلل
في تلقي الهدى، أو حفظه، مناجاة لرحمة وملك الله ذي الجلال والإكرام – حيث إن ذلك
يفقد قلوب طلاب الحياة الثقة بالهدى، ويزلزل أساسَ إقامة الحجة على مستحبّي العمى
على الهدى– يكون في النبوة معصوماً، لا يتلقى حديث نفس، أو إلقاء شيطان يظنه وحياً
من الله، ولا يحدث في حفظه لما قد أوحي إليه خلل - كذلك-. يقول تعالى: {والنَّجْمِ إِذَا هَوَى. مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى}(النجم:١–٢)،
ويقول: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ}(التكوير:٢٥)، ويقول: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ
وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}(الحجر: ٩)([20]).
هكذا أوضح سبحاني مقتضيات عصمة النبيّ - كل نبيّ - في الوظيفة الأولى له،
التي تمثل المنزلة الأساسية للنبوة، وهي وظيفة تلقي نبأ الوحي، التي تقتضي العصمة
الكاملة والحفظ التام، وذلك بحفظ الوحي – أساساً - منذ صدوره من محفظته الأولى
(اللوح المحفوظ)، ومروراً بحمله ونقله على أيدي أمين الوحي جبريل (عليه السلام)،
وانتهاءً بمتلقّي الوحي نفسه، الذي يحفظه الله من أحاديث النفس، ووساوس الشيطان
وغوايته.
ويبقى أمر الحفظ، والعصمة، في الوظيفة الثانية،
وظيفة الرسالة، التي كُلّف بمقتضاها النبي الرسول أن يبلّغ الناس بما أتى به الوحي
الإلهي. يقول الشهيد في ذلك: "لا يخفى أن الإنسان الذي قد أُلقي إليه نبأ
الهدى الرباني، يكون مكلفاً بتبليغ ذلك - أي يكون مبعوثاً لتبوّء منزلة الرسالة- كذلك.
ولا يخفى أن الرسالة كالنبوة، في أن حدوث أقّل خلل في أمرها، منافٍ لرحمة الله
وملكه ذي الجلال والإكرام، فيكون النبي المرسل معصوماً في تبليغ (الرسالة) كذلك،
فلا يبدّل، ولا يغيّر، ولا يزيد، ولا ينقص. يقول الله تعالى: {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ}(التكوير: ٢٤)، ويقول: {وَمَا
يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ}(النجم:٣-٤)، ويقول:
{وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ
لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَٰذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي
أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ
إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}(يونس: ١٥). ولكن الرسول البشري مهما
يكن فهو بشـر، ليس بمنأىً عما يعتري البشر من مختلف الحالات من الرغبة والرهبة
والضعف والقوة وغير ذلك. فقد يعتريه النفور من أن يدركه - لتبليغ بعض الهدى،
وتبيينه للناس، أو تبليغ الهدى، وتبيينه لبعض الناس- وبال، ويصيبه خشية الناس أن
ينالوه بسوء. ولكن رحمة وملك الله ذي الجلال والإكرام يدركان حالة الضعف البشري
تلك، فيؤيدان الرسول ويحفظانه، ليدافعا بذلك عن رسالة الله ويحفظاها. يقول تعالى:
{فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَىٰ إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن
يَقُولُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا
أَنتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيل}(هود: ١٢)، ويقول: {وَإِن
كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ
عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَّاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا. وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاكَ
لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا}(الإسراء:٧٣– ٧٤)، وقال في
قصة النبي في (سورة الأحزاب): وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ
وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي
نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن
تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا
يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا
مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا}(الأحزاب: ٣٧)([21]).
وهكذا أوضح مقتضيات عصمة النبي الرسول فيما
يتعلق بالوظيفة الثانية أو المنزلة الثانية له، فلا
يمكن للوحي أن يكون محفوظا في اللوح، ثم في نقله إلى الأرض، ثم كيفية تلقّيه من
قبل النبي، ولكن لا يهيئ الله له أساس حفظه أثناء إيصاله إلى الناس،
فوعد الله بحفظ وحيه أساساً يقتضي عصمة الرسول في
مهمة الرسالة، بتحقيق كل المستلزمات فيها، فلا بد أن يبلغها الرسول كما هي، دون زيادة أو نقص، أو تبديل أو تأخير، ولا بد أن تحرس عين الله عبده
الرسول لإكمال مهمته تلك.
ثم يأتي
الشهيد سبحاني لمناقشة الوظيفة الثالثة للنبي الرسول، وهي وظيفة الإمامة، شارحاً
مقتضياتها، قائلاً: "لأن في استعدادات الناس تفاوتاً، بحيث يوجد فيهم من
المتصف بأنزل درجة، إلى المتصف بأعلى درجة يمكن الاتصاف بها.. قضى الله أن يقوم
أهل الدرجات العُلى في الاستعدادات – إضافة إلى الإيمان والعمل الصالح - بالتقدم
في طريق العلم، والتسليم، والعمل، وتمهيدها للآخرين، ليكون في مقابل تماثيل الباطل
والشر، مُثُلٌ من الحق والخير، حيّةٌ، فرديّة وجمعية، يتأسّى بها في الإيمان
والعمل الصالح الفردُ والجمعُ الطالبون للسعادة، ويقطع سيوف حججها ألسنة المحاجيّن
في الله، الظالمين الجاهلين، المستحبيّن زينة الحياة الدنيا. يقول تعالى: {يَا
أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا.
وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا (46) وَبَشِّرِ
الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا}(الأحزاب:٤٥–٤٦).. فعبودية الله سبحانه متوقفة – بعد النبوة والرسالة - على تقدم مُثُل
الإيمان والعمل الصالح، وإمامة الأُسى الحسنات. ولأن وجود أقلّ خلل في الإمامة في
صـراط الإيمان والعمل الصالح، ينافي ما بيّنا من أن هذه الإمامة من مقتضيات رحمة
وملك الله -ذي الجلال والإكرام-، كالنبوة والرسالة، تكون هي – كذلك- في رعاية
ربانية تلائم حقيقته. ولكن، لأن الإمامة ليست إلا تقدماً في صـراط العبودية، يجعل
من صاحبه أسوة حسنة، وليس من شأن بني آدم، الذي نعرفه في خلقته، وما وقع له - مما
قصّ الله علينا- النزاهة عن النسيان، والخطأ، وسائر أحوال الضعف البشري في مجال
العبودية، فرعايتها من غير نوع رعاية النبوة والرسالة، التي هي العصمة. فالفرد
المكلف الأول بالإمامة في كل شـريعة، النبي المرسل نفسه – الذي هو في حمل أعباء
التكاليف أصلح فرد من العباد-، فهو مكلف بأن يقوم – تحت رعاية الله المباشرة-
بالتقدم في علم الهدى والتسليم الخالص والعمل الصالح، ليكون قدوة سائر المكلفين،
وإمام أئمة المتقين. وجليّ أن من يكون في تزكيته وتعليمه بأعين الله، فإنه أبعد
إنسان عن جهلِ الهدى، وعدم التسليم الخالص، واكتساب السيئات، ولكنه – مع هذا – لا
يكون هو -كذلك- بمنأىً عن اعتراء أحوال الضعف البشري..
والحاصل، إن الإمامة محفوفة أيضاً – كالنبوة والرسالة – برعاية من الله،
ولكن رعايتها ليست رعاية العصمة، بل رعاية التهذيب والإصلاح، فالنبي الرسول، مع
كونه محفوفاً في إمامته – كذلك - برعاية ربانية، ليس فيها معصوماً، فيقع له فيها
الخطأ أو الخطيئة، ولكن يدركه الوحي، فيهذب إمامته ويصلحها"([22]).
هكذا يرى سبحاني موضوع العصمة في الحالات أو المنازل الثلاث: النبوة،
والرسالة، والإمامة، ويستدل لما ذهب إليه – وهو مذهب لم أر من سابق له، رغم بحثي
الحثيث للموضوع- بآيات قرآنية كثيرة، تنقل الحالات التي تتحدث عن أنبياء الله -
عليهم السلام-، كقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ
وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ
فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ
وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}(الحج:٥٢). ويستدل بقوله تعالى – حكاية عن نوح عليه
السلام-: {رَّبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا
وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا
تَبَارًا}(نوح:٢٨)، بأنه لا يطلب المغفرة إلا من وقع في ذنب. بل قال تعالى حكاية
عن إبراهيم - عليه السلام-: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي
يَوْمَ الدِّينِ}(الشعراء:٨٢)، ثم ذكّر بآيات (سورة ص) التي تحكي ما وقع لداود -
عليه السلام- حينما قضى بين خصمين، وتسـرّع في القضاء، وأحسّ بالخطأ، وحكى عنه
سبحانه: {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَىٰ نِعَاجِهِ وَإِنَّ
كَثِيرًا مِّنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا
فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ}(ص:٢٤). وذكر أن
الله سبحانه نسب النسيان وعدم العزم - بل العصيان والغواية - إلى آدم - عليه
السلام-، فقال: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَىٰ آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ
نَجِدْ لَهُ عَزْمًا}(طه:١١٥ٍ)، وقال: {فَأَكَلَا
مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ
وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ}(طه:١٢١). بل لقد نسب الغضب
والأسف والفرار والخوف والنسيان إلى موسى - عليه السلام- في قوله:
{فَرَجَعَ مُوسَىٰ إِلَىٰ قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ
يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ
أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُم
مَّوْعِدِي}(طه:٨٦)، وقوله: {فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي
رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ}(الشعراء:٢١)، وقوله: {فَأَوْجَسَ
فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَىٰ}(طه: ٦٧). ونسب الخوف والفزع إلى داود - عليه
السلام- في قوله تعالى: {إِذْ دَخَلُوا عَلَىٰ دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا
لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَىٰ بَعْضُنَا عَلَىٰ بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا
بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَىٰ سَوَاءِ الصِّرَاطِ}(ص:٢٢). ويشير
بعض الآيات إلى تفاوت الأنبياء في الصبر – مثلاً-، كقوله تعالى - مخاطباً خاتم
الأنبياء (عليهم السلام)-: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ
الْحُوتِ إِذْ نَادَىٰ وَهُوَ مَكْظُومٌ}(القلم:٤٨). وقوله: {فَاصْبِرْ كَمَا
صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ
يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ
بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ}(الأحقاف:٣٥). ومن هذا
القبيل ما سجله القرآن بحق خاتم الأنبياء محمد
- عليه صلوات الله وبركاته- في (سورة عبس)، وفي إذنه لبعض الناس، في قوله سبحانه:
{عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ
صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ}(التوبة:٤٣)، والاستغفار للمنافقين في قوله
تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ
سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا
بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ
الْفَاسِقِينَ}(التوبة:٨٠). وفي قصة أخذ الفداء من أسـرى بدر: {لَّوْلَا كِتَابٌ
مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ
عَظِيمٌ}(الأنفال:٦٨)، وفي تحريم بعض الطيبات على نفسه، في بداية (سورة التحريم):
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي
مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}(التحريم:1).
يستدل الشهيد
بهذه، وأخرى من الحوادث والمواقف التي سَجَّلها القرآن، على أن الأنبياء - عليهم
السلام - قد تجسدت فيهم الحالات التي تعتري بني جنسهم من البشـر، ولكن حالات الضعف هذه بعيدة عن دائرتي وظيفة النبوة
والرسالة، اللتين تحتاجان إلى العصمة الكاملة، حفاظاً على الوحي المنزل، ولكنها
كانت متعلقة بالوظيفة الثالثة: وظيفة الإمامة، أو الرئاسة.
وهناك ملاحظتان مهمتان نوّه إليهما الشهيد ناصـر، أولاهما: أن هذا التصنيف
الذي سلك في تحديد وظائف كل نبيّ (النبوة، والرسالة، والإمامة)، يحسم وينهي جدليّة
كون النبي معصوماً بالفطرة، ويؤكد كونه إنساناً مكلّفاً كباقي بني جنسه، يثاب على
امتثاله للأوامر واجتنابه للمناهي، وينال مقامات التقوى والبّر والإحسان، بمجاهدة
النفس ومجابهة الشهوات. حيث لو كان مفطوراً على العصمة من الأساس – في كل جانب-
لما حُلّ هذا الإشكال، ولما انتهت هذه الجدلية.
والملاحظة الثانية، هي: أن النبي، مع كونه معرّضاً لأن تعتريه حالات الضعف
تلك، لكنه محفوف - كما أسلفنا –، في النهاية، بالرعاية الإلهية، وذلك إما عن طريق
التصحيح الإلهي، بالوحي المباشـر - في الأمور المهمة-، وإما عن طريق الشورى مع
أصحابه الكرام.
ومما ينبغي التنويه إليه، أنني لم أجد أحداً من العلماء عالج موضوع العصمة
بهذه الطريقة قبله، أو تحدث عن نسبة الخطأ، أو حالات الضعف البشري عند الأنبياء،
بهذه الطريقة، إلا إشارة بسيطة نسبها (القرطبي) في تفسيره إلى أبي علي بن أبي
هريرة([23])،
من أصحاب الشافعي، مفاده أن الأنبياء غير معصومين عن الخطأ والغلط في اجتهادهم –
أي في حالة انقطاع الوحي عنهم-، واستثنى في ذلك محمداً - عليه الصلاة والسلام-
فقال: "نبيّنا مخصوص منهم في جواز الخطأ عليهم، وفرق بينه وبين غيره من
الأنبياء أنه لم يكن بعده من يستدرك غلطه، ولذلك عصمه الله منه، وقد بُعث بعد غيره
من الأنبياء من يستدرك خطأه. وقد قيل: إنه على العموم في جميع الأنبياء، وأن نبينا
وغيره من الأنبياء في تجويز الخطأ على سواء، إلا أنهم لا يقرّون على إمضائه، فلم
يعتبر فيه استدراك من بعدهم من الأنبياء([24]).
وقريباً من هذا، قاله النووي في شـرحه لحديث أبي هريرة (رضي الله عنه)
الشهير: (لم يكذب إبراهيم النبيّ قط، إلا ثلاث كذبات..)([25]).
"قال القاضي عياض: الصحيح أن الكذب فيما يتعلق بالبلاغ لا يتصور وقوعه منهم،
سواء جوّزنا الصغائر منهم، وعصمتهم منه، أم لا، وسواء قلّ الكذب أم كثر، لأن منصب
النبوة يرتفع عنه، وتجويزه يرفع الوثوق بأقوالهم([26]).
ولقد عالج بعض المحققين الموضوع بأسلوب آخر، منهم ابن خلدون، فقال:
"وقع في ذكر أحوال النبي – صلى الله عليه وسلم- من نوع ذكر أحواله التي هي عادة وجبلّة، لا من جهة أن ذلك مشروع على ذلك
النوع من العمل، فإنه إنما بُعِث ليعلمنا الشرائع، ولم يبعث لتعريف الطب، ولا غيره
من العاديات. وقد وقع له في شأن تلقيح النخل ما وقع، فقال: (أنتم أعلم بأمور
دنياكم)([27])،
فلا ينبغي أن يُحمل شيء من الذي وقع على أنه مشروع، فليس هناك ما يدل عليه([28]).
وقريباً من هذا، ابتكر القاضي عياض (ت: 544ه) تقسيماً لتصـرفات الرسول – عليه الصلاة والسلام-، فجعلها قسمين، أولاهما: ما كان طريقه البلاغ، والرسول فيه معصوم.
وثانيهما: ما ليس سبيله البلاغ، مما لا مستند لها إلى الأحكام، بل في أمور الدنيا،
وأحوال نفسه([29]).
وبمقارنة سـريعة بين هذه
الأقوال، وما نقلناه عن العلامة ناصـر سبحاني، تتضح ميزة تناوله للموضوع، وعمق
تفكيره، ونصاعة رأيه، وجمال تصويره للأمر، وكمال تشخيصه، ودقة عباراته، التي صوّرت
لوحة النبوة والرسالة، وما يتعلق بهما من الوحي، وكيفية حمله ونقله، ومستلزمات
تلقّيه، ثم تبليغه، أجمل تصوير.
وإنني أرى أن الرسول – صلى الله
عليه وسلم- قد حسم هذا الأمر بذاته، حيث فرّق - في أحاديث عديدة -
بين ما قاله كنبي رسول، وما قاله كسائر البشر، وعبّر بذاته عن الفرق بين الرأي
والوحي، مؤكداً على كونه بشـراً. ففي تعقيب حادثة تأبير النخل، الذي أدى إلى رداءة
التمر في العام الذي أشار -عليه الصلاة والسلام- إلى عدم ضـرورة ذلك بقوله – في الحديث الذي سـردناه آنفاً-: (لو لم تفعلوا
لصلح)، قال – صلى الله
عليه وسلم-: (إني إنما ظننت ظناً، فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا
حدثتكم عن الله شيئاً، فخذوا به، فإني لا أكذب على الله عز وجل)([30]).
وفي حديث صحيح آخر فرّق – بوضوح- بين ما قاله -كأمر ديني- وما قاله كرأي بشريّ،
فقال -عليه الصلاة
والسلام-: (إنما أنا بشر، إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به،
وإذا أمرتكم بشيء من رأيي، فإنما أنا بشر)، قال عكرمة ــ الراوي ــ: أو كما قال..)([31]).
ولقد أدرك الإمام مسلم هذا الفهم، ولذا سمّى الباب (38) من كتاب الفضائل في صحيحه
بـ(باب وجوب امتثال ما قاله – صلى الله عليه وسلم-، دون ما ذكره من معايش الدنيا على سبيل الرأي) فتأمّل.
وفي نهاية هذا المقطع لا بد من القول بأن الشهيد ناصـر سبحاني([32]) قد
جعل من بحثه القيم هذا، دليلاً على خطأ القول بعصمة الأئمة - التي قال بها فرقة
الشيعة الإثني عشرية- حيث ليس للأئمة أولئك - كما هو معلوم- إلا وظيفة واحدة هي
وظيفة الإمامة أو الرئاسة، فإنهم لم يأتهم الوحي كي يتقلّدوا منصب النبوة بالتلقي،
ولا منصب الرسالة بتبليغها، كما هو شأن الأنبياء، فأين يكون موقع العصمة في
حياتهم، إن لم يكن في وظيفة الرئاسة أو الإمامة فقط، والتي عرفنا فيها حال
الأنبياء المعصومين، فكيف بحال غيرهم؟!
[1] الفراهيدي، العين، 932.
[2] الرازي، مختار الصحاح، ص
644، والراغب الأصفهاني، المفردات، 788.
[3] الفيروز آبادي، القاموس المحيط
، 67.
[4] الراغب الأصفهاني، المفردات،
789.
[5] الفيروز آبادي، القاموس
المحيط، 1300.
[6] الراغب الأصفهاني، المفردات،
789.
[7] أكد على هذه المعاني في دروس عديدة، وبعض كتبه، انظر على سبيل المثال: الولاية
والإمامة، 73.
[8] البغدادي، عبد القاهر، الفرق
بين الفرق، 264.
[9] حديث الشفاعة: حديث مفصل شهير،
رواه البخاري، الجامع الصحيح، كتاب التوحيد، باب كلام الرب مع الأنبياء،
رقم7510. ومسلم، الجامع، كتاب الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة. رقم 193،
بسندهما عن أنس بن مالك.
[10] النَّظّام هو: أبو إسحق، إبراهيم،
بن يسار، ابن أخت أبي الهزيل العلاف، توفي في حدود223ه/837 م، كفّره جميع فرق
الأمة وأكثر المعتزلة، كما يقول البغدادي، انظر: الفرق بين الفرق، 94.
[11] انظر: البغدادي، الفرق بين
الفرق، 93.
[12] ابن القيم، أبو عبد الله، شمس
الدين، محمد بن أبي بكر، الزرعي، (ت:751ه/1350م)، زاد المعاد في هدي خير العباد،
تحقيق: عبد الرزاق الهدى، بيروت، دار الكتاب العربي،1427ه/2006م، 24.
[13] ناصر سبحاني، محاضرة: إثبات عدم تحريف
القرآن.
[14] ناصر سبحاني، محاضرة في شرح
الحديث الثاني من الأربعين النووية.
[15] ناصر سبحاني، الولاية
والإمامة، 65.
[16] كذا في الأصل، والأولى أن يقول: ويتمكن كذلك من تلقي ذلك وحفظه،
ومواطأة هذه ومشايعتها.
[17] المرجع نفسه، 66.
[18] ناصر سبحاني، الولاية والإمامة،70.
[19] اختلف المفسـرون في المراد من {لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا
الْمُطَهَّرُونَ}، فابن عباس رجح أن الكتاب هو اللوح المحفوظ، و {الْمُطَهَّرُونَ}
هم الملائكة. وقال آخرون: الكتاب هو المصحف، والمطهّرون هم المطهّرون من الأحداث.
(انظر: ابن الجوزي، زاد المسير في علم التفسير،1392، وتفاسير أخرى في تفسير
الآية).
[20] ناصر سبحاني، الولاية والإمامة، 72-73.
[21] المصدر نفسه، 73-74.
[22] المصدر نفسه، 8690-92.
[23] هو: القاضي البغدادي، أبو علي، الحسن، بن الحسين، بن أبي
هريرة. انتهت إليه رئاسة المذهب، أخذ عنه الطبري والدارقطني وغيرهما. توفي عام:
345هـ/956م. انظر لترجمته: الذهبي، سير أعلام النبلاء.
[24] القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، 11/309.
[25] أبو الحسين، مسلم بن الحجاج القشيري (-361ه/874م)، الجامع
الصحيح، بيروت، بيت الأفكار الدولية، كتاب الفضائل (43)، باب من فضائل إبراهيم
(41)، حديث (2371). وورد في البخاري أيضاً: كتاب أحاديث الأنبياء (90) باب
(8)، حديث (3357). وفي الحديث: لم يكذب إبراهيم النبي قط إلا ثلاث كذبات، ثنتان في
ذات الله، قوله: {فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ}[الصافات: ٨٩]، وقوله: {قَالَ بَلْ
فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَٰذَا..}[الأنبياء: ٦٣]، وواحدة في شأن زوجه سارة، وهو
قوله: هي أختي..
[26] النووي، المنهاج في شرح صحيح مسلم، 1449.
[27] تمام الحديث، كما ورد في صحيح مسلم، عن أنس (رضى الله عنه) قال:
"أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مرّ بقوم يلقّحون، فقال: لو لم تفعلوا لصلح.
قال: فخرج شَيْصاً (أي: خرج التمر رديئاً) فمرّ بهم، فقال: ما لنخلكم؟ قالوا: قلت
كذا وكذا. قال: أنتم أعلم بأمر دنياكم). الحديث أخرجه مسلم، الجامع الصحيح،
كتاب الفضائل (43)، باب (38)، حديث (1363). وكذلك رواه أبو عبد الله، أحمد بن حنبل
(ت241ه/ 855م)، المسند، بيروت، بيت الأفكار الدولية. مسند أنس، بن مالك،
حديث (12572). ص:864. وابن حبان، أبو حاتم، محمد بن حبان (354ه/ 965م)، صحيح
ابن حبان، باب (2)، حديث22، بيروت بيت الأفكار الدولية، 164. ورواه أيضا ابن
ماجه، أبو عبد الله، محمد، بن يزيد، القزويني (ت/275ه/888م) السنن، بيروت،
بيت الأفكار الدولية، كتاب الرهون (2436)، باب (15) حديث (2471).
[28] ابن خلدون، كتاب العبر 1/392.
[29] انظر: القاضي عياض، الشفا بتعريف حقوق المصطفى، 2/123 وما
يليها.
[30] مسلم النيشابوري، صحيح مسلم، كتاب الفضائل (43)، باب (38)،
حديث (2361)، ص: 1446.
[31] المصدر نفسه، حديث رقم: (2363)، ص: 1446.
[32] خصّ الشهيد معظم كتابه القيم (الولاية والإمامة) لهذا
الأمر. انظر: صفحات: 72-171 منه، فهو مخصص لمناقشة هذا الموضوع بالشـرح والتفصيل..
يُذكر بأن هذا الكتاب ردّ - بالأساس- على بعض علماء الشيعة الذين قالوا بالولاية
التكوينية للأئمة. ألّفه عام 1986م.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق