سالم الحاج
? رواية (صبا) هي الأثر الروائي الوحيد للكاتب والروائي
الراحل (علي صالح ميران)، الذي وافاه الأجل في 11/ 8 / 2020، وقد صدرت في (أربيل)،
باللغة الكوردية، عام 2015، في 374 صفحة من القطع المتوسط..
والرواية تتبع المدرسة الواقعية في الأدب، تلك المدرسة التي تهتم بتصوير
الواقع كما هو، لتخلص من خلال ذلك إلى معالجته، وتقديم الحلول لمشاكله، وإحداث
التغيير.
تقع أحداث الرواية في كوردستان العراق، في منطقة خوشناوتي تحديداً، بين قريتي (زيني) و(شاري)([1])، ومدينة (أربيل)، في الفترة ما بين (1988 – 1989)، أي السنوات الأخيرة للحرب العراقية – الإيرانية.. ومع أن بعض
أحداث الرواية هي قصص واقعية، لكن الكاتب أتم البناء الروائي اعتماداً على خياله وتجاربه الشخصية.وتحفل الرواية، التي تتكون من (46) قسماً أو فصلاً، بعدد من الشخصيات
الرئيسة، هي:
1-
صبا: وهي فتاة قروية، جميلة، وواعية، تعيش في قرية (زيني)، وتتعرض إلى عدد
من المصاعب والمآسي، التي تودي في النهاية بحياتها.
2-
سمكو: وهو شاب من قرية (زيني)، يعشق صبا، ويهرب بها بحثاً عن حياة أفضل.
3-
الأستاذ خوشوي: وهو معلم في قرية (زيني)، يمتاز بروحه الوطنية، ووعيه
القومي.
4-
الأستاذة شـرمين: وهي معلمة في نفس القرية، وزوجة خوشوي فيما بعد، وتشاطره
في الوعي والإخلاص القومي.
5-
أحمد خورشيدي: زوج صبا الأول، الذي فُرض عليها وهي طفلة صغيرة، بناء على
التقاليد العشائرية.
6-
عزيز الشيخ: زوج صبا الثاني، رجل لا يعرف غير العمل وكسب المعيشة، يفتقد
لصفات الرجولة والكرامة.
7-
جيهان (ضيمةن، في النسخة الكوردية): ضـرّة صبا، وزوجة عزيز الشيخ الأولى،
اللعوب، الحاقدة.
مع عدد آخر من الشخصيات..
حاول الكاتب في هذه الرواية أن يقص صورة واقعية عن حياة المرأة الكوردية في
تلك الحقبة، عن طريق الشخصية الرئيسة (صبا)، وعن طريقها طرح أيضاً عدداً من القضايا
والأحداث التاريخية.. ويعتمد الكاتب في السـرد الروائي على صوت الراوي، العالم بكل
شيء، يتخلل ذلك الانتقال إلى الحاضـر عن طريق الحوار بين شخصيات الرواية، أو
المونولوج أحياناً أخرى..
وفي قراءتنا هذه للرواية، سنعمد
إلى بسطها من خلال عدد من المحاور التي اهتمت بها الرواية، واشتغلت عليها،
وكالتالي:
أولاً: قضايا المرأة في رواية صبا.
ثانياً: قضايا الثورة والنضال.
ثالثاً: أنموذج
الشباب المناضل والواعي بآلام ومآسي شعبه.
رابعاً: صورة
المرأة في رواية صبا.
خامساً: دور
الدين، ورجل الدين (الملا).
أولاً: قضايا المرأة في رواية
صبا
هناك ثلاث
شخصيات نسائية في الرواية، تلعب دوراً أساسياً، هي: صبا، والأستاذة شـرمين، وجيهان
(ضـرّة صبا)، بالإضافة إلى عدد آخر من الشخصيات الثانوية.. وجميع شخصيات الرواية،
بمن فيها شخصيتا (شـرمين، وجيهان) إنما تلعب دور المساعد لإبراز دور صبا وشخصيتها،
فهي الشخصية المحورية في الرواية..
صبا فتاة
قروية، عقد قرانها - وهي لا تزال صبية في عمر السنوات الخمس- على شخص أكبر منها،
اسمه أحمد خورشيدي، وذلك في عملية تبادل (شغار) بينها وبين أخت خورشيدي، التي زوجت
لشقيق صبا في حينه.
صبا، فتاة قروية
جميلة، في ربيع عمرها، والآن وقد كبرت ووعت مسألة زواجها، ترى نفسها غير راغبة في
هذا الزواج، ولا تحب هذا الزوج الذي لم تره ولا تعرف عنه شيئاً سوى ما يتداوله
الناس عنه من قصص وحكايات.. وخاصة أنها كانت تسمع عنه كثيراً من الأخبار السيئة،
بما في ذلك أنه متزوج ولديه أطفال أيضاً!.. هكذا تتحدث عنه صبا في مقطع من
الرواية([2]):
"أنا
لا أدري كيف سمحوا بتزويجي لهذا الرجل، وأنا طفلة ذات خمس سنين؟! لا أدري كيف سمح
أبي، وإمام المسجد، وأساتذة مدرسة القرية، وقادة البيشمركة، الذين يعتبرون أنفسهم
مسؤولين عن كل شيء.. كيف سمحوا بهذا الزواج...؟!!
آه.. يا ربي.. حتى
الآن، لم أر هذا الرجل، ولو لمرة واحدة، ولا أدري من هو، ولا ما هي أخلاقه،
وصفاته، وطبيعته.. والأسوأ من ذلك، هو متزوج بامرأة أخرى، وله عدة أطفال، ومع هذا
فهو لا يتركني لسبيلي.." (ص 7).
ويبرر الراوي موقف
صبا الرافض لزوجها، والكاره له، في هذا المقطع:
"ولم تكن صبا
بملومة في موقفها هذا، وذلك لكثرة ما كانت تسمعه من الناس عن أحمد خورشيدي هذا،
كونه شخصاً قاتلاً لا يعرف الرحمة، وله زوجة أخرى، وأنه غير متزن، وفي خصام دائم
مع المحيطين به، وغير مهتم بزوجته وأطفاله، ويظلمهم كثيراً.. لذا، كانت تفكر وتندب
سوء حظها دوماً، وتلعن اليوم الذي تم فيه تزويجها من هذا الشخص، وهي طفلة لا
يتجاوز عمرها السنوات الخمس، كبدل عن زوجة أخيها.." (ص9).
وفي مقطع آخر نجد
وصفاً لشخصية أحمد خورشيدي على لسان الأستاذ خوشوي، يبين فيه جوانب من هذه
الشخصية:
"كلنا
نعرف أحمد خورشيدي جيداً، وكم هو بلا ضمير ولا يخاف الله، ولا مانع لديه أن يهرق
دم المئات من الأبرياء، فقط من أجل رغبته ومقصده الأسود!.. أنتم تظنون بأنه الآن
عميل للدولة، وأنه لن يأتي إلى قريتنا خوفاً من البيشمركة!.. كلا.. هذه القرية إنْ
فقدت شخصاً عزيزاً واحداً، أفضل من أن تفقد المئات من الأشخاص الأعزاء! علينا أن
نعرف جيداً بأن أحمد خورشيدي بادل أخته بـصبا، لذلك فهو يعتبر صبا زوجته، ويعتبر
من المهين لكرامته أن يتنازل عنها!.. أنتم تظنون بأنه لا يعرف شيئاً عن العلاقة
بين صبا وسمكو.. كلا.. هو له علم بكل ما يدور في المنطقة.. ولقد سمعت بعض أقواله،
وأعلم أنه لن يفعل شيئاً قبل الزواج من صبا، ثم بعدها ينتقم منهما دون رحمة.. لقد
أقسم ووضع يده على شاربه، وقال:
- هذه الشوارب ليست لرجل، إن لم أجعلها
عبرة لمن يعتبر.. سأتزوجها فقط لليلة واحدة، ومن ثم أعرف ماذا أفعل بها!.."
(ص25).
وهكذا، فصبا
إذ تدرك أنها قد زوجت لهذا الشخص منذ طفولتها، بدون علمها، ولا رضاها، وإذ تعي
الآن حقيقة شخصية (زوجها) الكريهة، والعنيفة، فإنها تجد نفسها لا تميل إليه، ولا
تحبه، وخاصة أن هذا الزوج صاحب زوجة وأطفال.. ولذلك فإنها تقع في غرام أحد شباب
القرية، الذي يقع هو الآخر في حبها، ويحاولان معاً إيجاد مخرج لصبا من هذا
الزواج.. ولكنهما لا ينجحان في ذلك، وتزف صبا إلى زوجها أحمد خورشيدي رغم كل
محاولاتهما..
أحمد خورشيدي
هذا شخص جاهل، ولكنه غني، ورئيس فرقة فرسان مرتبطة بأجهزة الدولة.. ولذلك فإنه
عندما يشعر بأن صبا لا تريده، وتأتيه الأخبار بأنها تحب شخصاً آخر، فإنه يقسم بأنه
سيتزوجها ولو ليوم واحد، ثم يتركها بعد ذلك للكلاب.. وهو ما يقوم به فعلاً.. فبعد
أن يبني بها، يرسلها إلى أهلها بعد فترة، ولا يعود يسأل عنها..
يحاول سمكو،
حبيب صبا، أن يمنع حصول هذا الزواج، ويسعى لقطع الطريق عليه بكل السبل، حتى أنه
يحاول قتل أحمد خورشيدي هذا، ولكنه يفشل، ويتم زواج صبا من خورشيدي..
وبعد أن عادت صبا إلى بيت أهلها، ولم يعد
خورشيدي يسأل عنها، فإن سمكو يظل يفكر ويخطط للوصول إلى صبا، والعيش معها بعيداً،
رغم كل العقبات.. ولذلك فإنه يفكر بخطة للهروب معاً، والالتجاء إلى شخصية دينية
عشائرية معروفة في مدينة أربيل، باسم شيخ عبيد، (هو والد الأستاذ خوشوي في الوقت
ذاته)، ومن ثم محاولة الصلح مع أحمد خورشيدي من هناك..
ولكن خورشيدي،
مع كل التنازلات التي تقدم له من قبل أهل سمكو وأقربائه، لا يرضى بالصلح معهم، إلا
في ظل شـروط قاسية، ومنها أن يعطوه فتاتين بدلاً من صبا، وأن تبقى صبا في ذمته مع
ذلك لا يطلقها حتى حين!..
وفي ظل بقاء
سمكو في بيت الشيخ، وفي ظل خطر إلقاء القبض عليه متلبساً بجريمة الاختفاء والهروب
من الخدمة العسكرية، يعرضون على سمكو فكرة الالتحاق بإحدى فصائل قوات الفرسان
(قوات كوردية غير نظامية، كانت تابعة لأجهزة الدولة، وتعمل تحت إمرة الجيش العراقي
حينها، لمساعدتها في القضاء على تحركات الثوار الكورد)، ومع أنه يمانع في البداية،
ولكنه يوافق مجبراً، ويلتحق بها.. وسـرعان ما يقع أسيراً بيد (قوات البيشمركة)، في
هجوم لها على الربايا التي كان ملتحقاً بها.. ثم يختفي سمكو إلى الأبد، ولا يعود
له أثر (والرواية تعيد ذلك إلى الصـراع والتنافس غير الشـريف بين الفصائل الكوردية
المسلحة فيما بينها، وتلقي باللوم عليها في اختفاء سمكو – سنشير إلى ذلك لاحقاً –)..
وبعد حوالي أكثر
من عام على أسـر سمكو واختفائه، وبعد أن يئست صبا من عودته، وتحولت للعيش في بيت
خوشوي وشـرمين بعد زواجهما، يطرق بابها للزواج من قبل رجل صاحب دكان قريب من بيت
خوشوي، وترضى صبا بالزواج منه رغم أن له طفلتين من زوجة سابقة مطلقة، وذلك أملاً
في تغيير رتابة حياتها..
ولكن بعد
فترة من زواج صبا من (عزيز الشيخ) يحصل تطور درامي مثير في حياتهما، إذ تعود زوجته
الأولى إلى الصورة، في ظل مطالبة وضغط من أحد أقربائها على عزيز لإعادتها إلى
عصمته، وإلا.. وتحت التهديد، وخوفاً على حياته، يعيدها عزيز إلى عصمته (دون أن
تبيّن الرواية موقف الأستاذ خوشوي، وزوجته شـرمين، والشيخ عبيد، الذي كان يعتبر
صبا مثل بناته! وكيف سكت هؤلاء جميعاً أمام تطور جديد ومريب مثل إعادة الزوجة
المطلقة؟! وهذه نقطة ضعف في النسيج الفني الواقعي للرواية).
هذا التطور
الدراماتيكي في حياة صبا، وزواجها، ينتهي بها إلى الوفاة، بعد أن تخسـر طفلها
الرضيع أولاً ، ثم تفقد هي أيضاً حياتها، مع زوجها، في تطورات دراماتيكية بسبب خبث
ضـرّتها، وصـراعها معها..
حياة صبا في
هذه الرواية تثير العديد من القضايا والأدواء الاجتماعية، التي كانت سابقاً
منتشـرة، ولا تزال آثارها موجودة، وخاصة في المناطق الأقل تطوراً، والبعيدة عن
المدن الكبيرة.. ومنها:
1-
قضية تزويج الفتيات بدون رغبتهن، ولا إرادتهن، وأحياناً وهن صغار لا يعلمون
شيئاً - ومنها الطريقة العرفية المشهورة باسم (زواج الشغار) - وآثار هذه العادات
على حياة الفتاة، وحياة عائلتها.
2-
مسألة بكارة الفتاة عند تزويجها، وضـروة إثبات ذلك أمام الملأ، والأعراف
المتبعة في ذلك، ومنها أن يغمس الرجل قطعة قماش بيضاء معدة مسبقاً في دم العروس
بعد فض بكارتها، وإشهارها أمام الملأ، كدلالة على الطهارة، والعفة.. وكثيراً ما
ينتهي الزواج بالطلاق، وافتراق الزوجين، منذ الليلة الأولى، فيما إذا لم ير أثر
الدم، بعد دخول الزوج على زوجته.. وهذا المقطع من الرواية يشير إلى هذه الظاهرة:
"في اللحظة التي دخل عليها أحمد خورشيدي
لم تكن تشك بأنه زوجها.. هي لم تر وجه زوجها من قبل أبداً.. إذن، فأي شخص يدخل إلى
غرفتها في هذه الليلة، لا بد أن يكون زوجها.. ولو دخل عليها رجل آخر، فهي كانت
ستحسبه زوجها أيضاً..
فجأة دخل عليها رجل
طويل ضليع عريض الكتفين، دون أن تظهر ذرة فرح وبشاشة على وجهه، ودون أن ينزع مسدسه
وخنجره عن نطاقه، ويا ليته فك حزامه على الأقل، لكنه نزع سـرواله بسرعة، وظهر سـرواله
الأبيض الذي كان مربوطاً بتكة لباسه الداخلي!
في الوقت الذي كانت
جالسة على طرف سـريرها باستحياء، تنظر أمامها، وكأنها
تعد المربعات الملونة التي كانت منقوشة على السجادة التبريزية.. وضع يديه الخشنتين
تحت ذراعيها، ورفعها في الهواء، ثم ألقاها على السجادة المستطيلة، التي ثبتت في
وسطها قطعة قماش بيضاء.. كان عقدها الذهبي ما يزال على صدرها، والأساور في يديها..
مد يديه بحركة سـريعة إلى ذيل ثوبها، وأمسك سـروالها الداخلي، ونزعه بكل ما فيه من
قوة.. ارتض فخذها الأيمن من شدة الاحتكاك.. سحب تكة سـرواله الداخلي بسـرعة أكبر،
وألقى بنفسه بين فخذيها!.. لولا صوت الطبل والمزامير في الحفل، لكان صـراخها سمع
في كل أنحاء القرية، ولأجفل كل ذي ضمير.. عدا عدد من النساء، منهن ديدبانة العروس
التي كانت في انتظار الحدث، متربصة في الغرفة المجاورة!
بعد عدة دقائق نهض
عنها، ودون أن يكلمها، انشغل بربط تكة لباسه وهو يمشـي.. فتح باب الغرفة، وسحب
مسدسه ذا القبضة العاجية، وأطلق عدة طلقات نارية في الهواء.. ومع إطلاقات أحمد
خورشيدي، جاء دور هؤلاء الناس الذين كانوا يحتفلون في الخارج، وكأنهم بانتظار
النتيجة، فبدأوا يتسابقون في إطلاق الرصاص في الهواء!" (ص93).
3-
العواقب الخطيرة لتعدد الزوجات: بعد أن تتزوج صبا بعزيز الشيخ، وبسبب ضعف
شخصية عزيز، وبضغط من ابن عم زوجته السابقة، يضطر عزيز إلى إعادة زوجته الأولى إلى
عصمته، وهذا ما يكون سبباً لانتكاسة جديدة، ومأساة أخرى في حياة صبا، حيث تذيقها
ضـرّتها سوء العذاب، وتتلاعب بحياتها، لتنتهي هذه المرة بوفاتها..
4-
باختصار: رواية صبا رواية واقعية عن حياة المرأة الكوردية في الأرياف، تعطي
صورة عن القيود والأعراف الاجتماعية التي تتحكم بحياتها، والتي تضطر إلى الاستسلام
لها، أو الوقوف في وجهها، وهو ما يسبب التعاسة والمشاكل لها، وكثيراً ما ينتهي
الأمر بفقدان حياتها..
ثانياً: قضايا الثورة والنضال
مع أن رواية
صبا هي رواية اجتماعية واقعية، لكنها تهتم كثيراً بتصوير جوانب من النضال الوطني
للشعب الكوردي، وثورته ضد الظلم المسلط عليه، في ذلك الوقت.. وسنحاول أن نستعرض
جوانب مما أثارته الرواية، ومرت عليه:
أ-
إدانة الاقتتال الداخلي، وحرب الأشقاء والفصائل المسلحة ضد بعضها البعض:
ونرى ذلك على لسان بعض شخصيات الرواية.. كما نرى في هذا المقطع على لسان (بابكر)،
والد سمكو:
"لم يذهب
سمكو إلى مفرزة سيد أمين، بحجة أنه ضد اقتتال الأخوة، فهو يرى أن البيشمركة كلهم
أخوة، ولهم هدف واحد.. وكان سيد خلال السنوات المنصـرمة، قد خاض أكثر من مئة معركة
مع الجماعة المنافسة لهم.. وكما قال العم بابكر:
لو حارب نصف هذه الحروب مع الدوائر الأمنية للنظام، الذين استقروا على تخوم كركوك
ولغاية الحدود الشمالية والشـرقية، لما كان بإمكان أعدائهم البقاء في مقراتهم
لليلة واحدة.. لكن كل هذا من سوء حظ الكورد!"(ص33).
ب-
التنافس والصـراع بين الفصائل والأحزاب الكوردية: وهو ما يبدو واضحاً في
النص الذي أوردناه أعلاه.. كما أنه يتم تسليط الضوء عليه في أكثر من موضع من
الرواية، ويصور بصورة سلبية.. حيث نرى أن قسماً من مشاكل (خوشوي)، هي بسبب اعتباره
تابعاً لحزب منافس، ومن ثم يوضع تحت المتابعة والملاحقة من قبل الحزب الآخر..
وكذلك بالنسبة
لسمكو، الذي يفقد حياته في الأسـر، في سجون البيشمركة، بسبب هذا الأمر.. عندما
يتعرض للاختفاء على يد البيشمركة، من دون رفاقه الآخرين الذين وقعوا معه في
الأسـر.. كما جاء في هذا الحوار بين خوشوي وصبا:
"- يقولون.. إنه أثناء التحقيق معه، اعترف بأنه عضو
في تنظيمات حزب منافس!
- ما معنى هذا؟
- لا شيء، إن شاء الله.. لكنه منذ ذلك الوقت انفصل
عن أصحابه، ولا خبر عنه!
- لماذا، ألا يقولون أن الاقتتال بين الأخوة
انتهى، وأنهم متفقون؟! هل يوجد فرق بينهم؟ حسناً.. يا أخي، لماذا جماعتكم لا
يساعدونه؟!
- تشكّلت جبهة فيما بينهم.. سيطلق سـراحه دون
مقابل إن شاء الله!
تحدثت هي بأسى،
وقالت:
- أعلم أنك تريد أن تطمأنني وتواسيني، لكنني أرى
في عينيك اليأس!" (ص 171).
ت-
قضية الجحوش والأفواج الخفيفة: يتم الإشارة إلى هذه القضية في عدة مواضع من
الرواية، ويتم تصويرها على لسان شخصيات الرواية على أنها ضد مصالح الشعب الكوردي،
وأنها خيانة للوطن، ولقضية الشعب الكوردي (مثلاً الصفحات (19) و(25) و(41) و(51)،
ومواضع أخرى من الرواية).. وكما يتبين من هذين المقطعين:
"كثير من العوائل، بدلاً من الانخراط في
الخدمة العسكرية، أو خوفاً من بطش الحكومة، أو للحصول على سلطة وهمية، كانوا
يسجلون فرداً أو أفراداً منهم في الأفواج الخفيفة.. يوجد من بين رؤساء هذه الأفواج
من هو أشـرس من أي قائد عسكري للنظام.. ويوجد بينهم من يحصل على الدعم المادي
والمعنوي من الحكومة المركزية، وله علاقة متينة مع البيشمركة أيضاً، ولكلامه
الاعتبار الكامل في داخل الثورة، كأي من قادة البيشمركة الميدانيين.."
(ص102).
"صحيح أن سمكو أسـر وهو ضمن أحد أفواج
الجحوش، لكن لماذا لم يطلق سـراحه مثل باقي الأسـرى مقابل مبلغ من المال؟! لماذا
أصبح مصيره الاختفاء في موطن أجداده؟ّ لا أدري ماذا تستفيد ثورتنا من إخفائه أو
قتله؟! يا ليت الذين أخفوه يعلمون كم كان
أميناً ومخلصاً لوطنه.. كان دوماً كالشمعة تحترق لينير درب أمته المظلومة، ولولا
خوفه من مكر ملازم نجم وأعماله الشيطانية، وحفاظاً على حياة أهله وأحبابه، ما كان
يتجه إلى المدينة ويحمل السلاح ضد شعبه!" (ص 178).
ث-
مأساة الأنفال: حاول الكاتب من خلال الرواية أن يسلط الضوء – ولو من بعيد – على ما كان يتعرض له الشعب الكوردي آنذاك من
تهجير وقتل، وضـرب بالأسلحة الكيمياوية، وأخيراً جريمة الإبادة الجماعية المعروفة
باسم عمليات الأنفال.. لكي يضع القارئ في الصورة، ويعطي صورة واقعية لما كان يعيشه
الشعب آنذاك.. كما في هذين المقطعين:
"أخي كامو.. لأحكي لك: في السنة
الماضية، كنا ضمن الهيئة التدريسية التي كلفت بالإحصاء والتعداد السكاني.. لهذا
الغرض، ذهبنا إلى مجمعي (بحركة) و(جزنيكان).. أكثر أهلها كانوا من قاطني القرى
الحدودية، وتم ترحيلهم قسـراً إلى هذه المجمعات.. آه.. ماذا رأينا؟!!
أخي العزيز.. من كل أهالي القريتين،
لم نر سوى النساء والأطفال.. وعندما رأينا صور رجالهم وأبنائهم على بطاقات الأحوال
المدنية، سألنا عنهم.. هم اعتقدوا بأننا من رجال الأمن، لذلك قالوا:
- (هم
عندكم.. أنتم أخذتموهم، ولم تعيدوهم!)..
أكثر من أربعة أو خمسة آلاف رجل من
رجالهم تمت إبادتهم.. أخي كامو، مع أول نظراتنا إليهم شعرنا بشواط أكبادهم
المحروقة..!" (ص 210).
"في هذه الأيام بدأ النظام بنفير
عام لاعتقال الرجال والنساء والأطفال في منطقة (كرميان)! لا يستثني أحداً!
- وماذا
يفعل بهم؟
- لا أدري،
لأن الأخبار متفرقة، لكن الشـيء الظاهر هو أن هذه العملية تشمل جميع قرى كوردستان،
وقصباتها.. ثم يتم ترحيلهم إلى المناطق الجنوبية من العراق!
- آه.. يا
إلهي، كيف يتم ترحيل شعب بكامله، وأين يسكنونهم؟!
- أجل..
مئات الآلاف من هذا الشعب، وبالأخص شبابهم الذين هم عماد الوطن، يرحلونهم موجة بعد
موجة بواسطة اللوريات العسكرية، والتراكتورات، و ..
أوقفه البكاء ومنعه من الاستمرار في الحديث.. مد
يده إلى قدح الماء الذي ما زال منتصفاً.. بلل حنجرته بجرعتين..
- إلى أين
يرحلونهم؟ أما انتهت الحرب الإيرانية العراقية؟
- يا أخي..
هي مأساة، لا أظن أن أحداً يخرج منها سالماً!
- قل لي
لماذا، هؤلاء لم يكونوا بيشمركة ولا مسلحين؟!!
- لك
الحق.. فأنت لم تر لحد الآن وحشية هذا النظام، ولم ينتشـر سمّ هذا الثعبان في جسدك
لحد الآن.. أتمنى من الله أن يحفظ الجميع!" (ص 212).
ج-
وهناك بعض الجوانب الأخرى المتعلقة بنضال الشعب الكوردي، والمآسي التي تعرض
لها، التي عرض لها الكاتب في مواضع متفرقة من روايته.. ونستطيع أن نوجزها تحت
العناوين التالية:
1-
النضال السـري ضد النظام البائد داخل المدن (الصفحات 57 و 144 و219-222).
2-
قسوة ووحشية أزلام النظام تجاه الأهالي والمواطنين (يمثلهم في الرواية:
أحمد خورشيدي، ملازم نجم، ورشيد – ابن عم جيهان) (الصفحات 101 و 109 و 126 و 145
و174 و 294).
3-
اضطرار عامة الناس إلى الانضمام إلى الأفواج الخفيفة، إما للمحافظة على
أرواحهم، أو لتحقيق بعض مصالحهم، أو للهروب من أداء الخدمة العسكرية، أو لغير ذلك
(الصفحات 21 و 133-134 و 143).
4-
الخوف من سيطرات الحكومة ومساءلة أزلامها: (عرف عن حكومة البعث قسوتها
ومعاملتها السيئة لمواطنيها، وخاصة الكورد منهم، ولذلك كان الناس يخافون الاقتراب
أو الاحتكاك بهم، كمؤسسات حكومية، أو أجهزة أمنية، أو أفراد)، (الصفحات 17 و69
و117- 118 و 130).
5-
العلاقة بين أهالي القرى والبيشمركة: تستعرض الرواية صوراً من هذه العلاقة
بصورة غير مباشرة (الصفحات 37 و 51- 57 و
58- 62 و 105).
ثالثاً: أنموذج الشباب المناضل
والواعي بآلام ومآسي شعبه
يبرز أنموذج
الأستاذ خوشوي، في هذه الرواية، كنموذج لذلك الشاب الواعي والمناضل، الذي يعمل
بهدوء وواقعية لخدمة أبناء شعبه، داخل المدن، في نضال مدني سلمي؛ حيث كان معلماً
في قرية (زيني)، وتخرج على يديه – هو وزوجته شـرمين، الوجه الآخر للنضال! - جيل
مثقف واع (من نماذجهم في الرواية: بطلة الرواية صبا، وحبيبها سمكو).. كما أن عودة
واستقامة (كامو) - شقيق خوشوي- كانت على يديه أيضاً.. وهو أنموذج آخر للشباب المناضل،
الذي يتوب عن حياة اللهو والغفلة، ويقرر أن يناضل في سبيل شعبه، ويقدم روحه فداء
لذلك..
رابعاً: صورة المرأة في رواية
صبا
هذه الرواية
تحمل اسم امرأة، هي بطلة الرواية (صبا)، حيث تقوم هي بدور البطولة الرئيس فيها،
وتدور أحداث الرواية عن حياتها.. صبا في هذه الرواية هي أنموذج للمرأة القروية
الصابرة، الواعية، والمحبوبة، والمضحية.. نموذج للمرأة المغدورة والمظلومة من قبل
الأعراف والتقاليد الاجتماعية المتخلفة..
وفي المقابل،
هناك شخصية (جيهان) (ضـرّة صبا)، تلك المرأة العابثة، اللامبالية، التي ترتع في
جهلها، وتعيش منه، وتوزع من أحقادها، وشـرورها على من يعيشون معها، ولا يسلم منها
لا زوج، ولا غيره.. وهي في الوقت ذاته، ضحية تلك الأعراف والتقاليد المتخلفة
نفسها، ولكن في صورة أخرى، وضحية الجهل، والفقر، وأهواء النفس.. وهي تجسد الوجه
السلبي للمرأة في الرواية، سواء من حيث أخلاقها وسلوكها، أو من حيث قسوتها وموت
ضميرها..
وهناك من جهة
أخرى، أنموذج آخر، للمرأة المثقفة، الواعية، تجسده في الرواية ست (شـرمين)، معلمة
القرية، وزوجة خوشوي، سليلة بيت النضال والوطنية، حيث يبرز دور المرأة الإيجابي من
خلالها، سواء من حيث عملية التربية والتعليم في المدارس، أو من حيث بث الوعي ،
والنضال السلمي من أجل شعبها، أو من حيث تجسيدها دور المرأة المحبة المخلصة
لزوجها، ولأهلها، ولشعبها..
ونستطيع أن
نقول هنا: إن (صبا) هي رواية المرأة الكوردية، ومعاناتها، بحق.. وأن الروائي قد
نجح في جعل صبا أيقونة للمرأة الكوردية البسيطة، الصابرة، المضطهدة.
خامساً: دور الدين، ورجل الدين
(الملا)
لم يتم
الحديث عن دور الدين، ورجاله، في هذه الرواية، إلا في بعض الأماكن القليلة.. ومنها
(ص 59- 62)، حيث يجري نقاش بين (الملا فكرت) – وهو رجل الدين المكلف في القرية
بإمامة الصلاة، وإقامة بعض الواجبات الدينية فيها-، والملازم نجم، وهو الشخصية
المكروهة التي يتم تصويرها كأنموذج للخيانة، والقسوة..
وكذلك ثمة في
الصفحات (7 و 8 و 21 و 72)، إشارات إلى دور رجال الدين في معالجة بعض مشاكل الناس
وقضاياهم..
ولكن في
المقابل، هناك اهتمام أكبر وأوضح ببيان دور وتأثير شخصية اجتماعية دينية عشائرية
مثل (الشيخ عبيد)، في مساعدة الناس، ومعالجة مشاكلهم.. في صفحة (20) يتحدث خوشوي
عن والده شيخ عبيد بهذا الشكل:
"أنت تعرف والدي كثيراً، وكلاكما
من أهل منطقة واحدة، وتعرف بأن والدي هو شيخ طريقة كبيرة، ولا أشك أنك تحبه
كثيراً، ولدينا صلة قرابة مع البيكات والأغوات في المنطقة.. لكنه بدلاً من حمل
المسدس، يحمل عود (السواك)، ويقضـي أكثر أوقاته في المسجد!.. حضـرتك تتذكر اليوم
الذي توجه إليه كثير من الناس وأرادوا منه -خشية أن يصبحوا تابعين لغيره - أن يطلب
من الدولة أن تجعله رئيساً لإحدى الأفواج الخفيفة.. لكنه رفض طلبهم، وفرقهم ببعض
الكلمات:
- إخواني..
بين أن أكون زعيماً لإحدى الميليشيات، وبين أن أكون ذاكراً وناصحاً في أحد
المساجد.. أنا اخترت المسجد.. وأنتم لستم مجبرين على حمل السلاح، وطرق كسب لقمة
العيش كثيرة!
ولكنهم ردوا عليه بغضب واستياء:
- شيخنا..
نحن كلنا هاربون من الخدمة العسكرية، ولا بد من وجود مكان في المدينة يضمنا
ويسترنا.. وحفظ أرواحنا أهمّ من المسجد!
وكان والدي يرد عليهم بكل هدوء،
ويقول:
كلا.. أنتم تحبون أن
تحملوا السلاح، لأنكم تعرفون أنه بدون السلاح لا سلطة بأيديكم، وأنكم بغير ذلك لا
تساوون فلساً زائفاً.. الشخص الذي يخاف من الله - عند كثير من الناس - هو شخص
جبان، لأنه غير قادر على قتل الناس وهتك الأعراض وسلب الأملاك!"..
* *
*
وبعد، فهذه قراءة سـريعة لبعض جوانب رواية صبا، ولا شك أن هناك العديد من الجوانب،
والزوايا، التي يمكن قراءة الرواية من خلالها، وهو ما يحتاج إلى متابعات أخرى..
يبقى أن نقول إن هذه
الرواية تبين الحس الروائي للأديب الراحل (علي صالح ميران)، والأسلوب السـردي
السلس الذي كان يمتلكه لتصوير جوانب حياة الناس، وتجسيدها بصورة بسيطة، وواقعية،
بعيداً عن التكلف، والابتذال...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق