سعد سعيد الديوەچي
?يقول المرحوم علي عزت بيجوفيتش، في كتابه الشهير (الإسلام بين الشـرق والغرب)، بأن عظمة الرسول – صلى الله عليه وسلم - تكمن في بشـريته، وهي بشـرية خالصة، أحاطها الله بعصمة دينية مطلقة، لأنه حامل رسالة إلهية للبـشرية جمعاء، بما يخصّ التوحيد الخالص لله، خالق كل شيء، الذي ليس كمثله شيء. وفي تعامله مع الناس (كان خلقه القرآن)، كما قالت السيدة عائشة (رض)، وكما وصفه الله تعالى {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} القلم.
وعليه، فللرسول أقوال وأفعال داخل دائرة العصمة الإلهية، وهي كلّ ما يتعلّق بتبليغ القرآن على وجه الخصوص، وباقي تفاصيل العبادات، كالصوم والصلاة والحج والزكاة، وهي عقيدة إسلاميّة عند كلّ الفرق، لا خلاف في ذلك إلا عند الغلاة، الذين من الصعب تعريفهم داخل الإسلام.
وأمّا ممارساته
الدنيوية في الطعام والشـراب واللباس، وكلّ ما يتعلّق بالأمور الأخرى؛ من نوم،
ومرض، وزواج ... إلخ، فلا تخضع لمبدأ العصمة الدينية، لأنّها أشياء لا تتعلّق
بحرام أو حلال، أو أيّ مخالفة شـرعية، ويشترك فيها مع سائر البشـر. وحادثة عبد
الله بن أمّ مكتوم، الذي قاطع الرسول أثناء حديثه مع زعماء قريش المعرضين عنه، فلم
يلتفت إليه، فنزلت الآية {عَبَسَ وَتَوَلَّى، أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى}،
فكان الرسول – صلى الله عليه وسلم - يقول له، عندما يراه:
أهلاً بمن عاتبني فيه ربّي.
وبشـرية الرسول – صلى الله عليه وسلم - واضحة كوضوح الشمس، شأنها شأن بشرية
كل الرسل والأنبياء، في قوله تعالى: {ومَا أَرْسَلْنَا
قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ
وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً
أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا}(20) الفرقان)، وقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا
قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ
كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7) وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ
الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ} (8) الأنبياء).
والحقيقة إن وراء
طرح هذا المبدأ، ما رأيناه عند بعض الفرق الإسلامية من غلّو وتطرّف في شخصية
الرسول – صلى الله عليه وسلم - تصل لحدّ الشـرك،
وكأنهم لم يقرأوا القرآن، ولم يمرّ على شفاههم، حتى إن بعضهم ادّعى أن أسماء الله
الحسنى تنطبق كلّها على الرسول – صلى الله عليه
وسلم -!.
والآيات صـريحة، ولا
تقبل التأويل مطلقاً في بشـريته – صلى الله عليه
وسلم - ،
حيث يقول تعالى: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسـِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا
مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ
الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ
يُؤْمِنُونَ}(188) الأعراف).
وهذه الآية الكريمة
تلغي كلّ الأحاديث المنسوبة للرسول – صلى الله
عليه وسلم - ،
والتي يتكلّم فيها عن غيبيات آخر الأيام بتفاصيل مثيرة، وهي أمور لا يعلمها إلا
الله.
فالرسول – صلى الله عليه وسلم - جاء من مجتمع يتكوّن
من نفوس متشابكة، اختاره الله لهدايتها بقوله: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ
أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ
رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (128) التوبة)، أي إنه أحد تلك النفوس في طبيعته البشـرية،
وليس بشـراً بصفات إلهية، بأيّ شكل من الأشكال.
والقرآن يؤكد على
الجانب البشـري للرسول – صلى الله عليه
وسلم - بصورة
لا تقبل الشك، ولا التأويل، بقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشـَرٌ
مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ
يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ
رَبِّهِ أَحَدًا} (110) الكهف.
وفي الآية الكريمة
ربط واضح بين بشـرية الرسول – صلى الله عليه
وسلم - ورسالة
التوحيد التي يحملها، بشكل لا يقبل الجدال، وأن في الأمر معجزة قرآنية لا مثيل
لها.
وفي آية اخرى يقول
تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشـَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ
فَهُمُ الْخَالِدُونَ} (34) الأنبياء، وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا
بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ
فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ} (6) فصلت.
وسيرته – صلى الله عليه وسلم - قبل الدعوة، وبعدها،
كانت سيرة بشـرية بحتة، سواءاً في الدعوة بدون معجزات خارقة، حيث يقول تعالى: {وَمَا
مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآَيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ
وَآَتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِـرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ
بِالْآَيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا}(59) الإسراء، وقد تحمل كثيراً من الأذى من
قومه، خصوصاً في الطور الأول للدعوة، وبقي مصـرّاً على بشـريته بإقناعهم بسلوك
التوحيد، ونبذ الشـرك، ومحاولة إقناعهم بالمنطق والعقل: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ
رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ
أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ
أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}(125) النحل. وهناك أحاديث تصبّ في هذا المجال، مثل
قوله (ص): (إنما أنا مثلكم، أنسـى كما تنسون، فإذا نسيت فذكّروني )... (البخاري
ومسلم)، وجاء الحديث في سياق سهوه – صلى الله عليه
وسلم - في
الصلاة، إن حدث.
والحقيقة أن مسألة
إعطاء الرسول صفات فوق البشـر هي فكرة جاهلية، حيث لم يستوعب المشـركون أن أحداً
من البشـر قد ينقل رسالة إلهية: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ
الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ
فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا}(7) الفرقان، والمسألة كانت قد تكرّرت مع معظم
الأنبياء، فقد قال قوم نوح: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآَخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَـرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ
مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ}(33) المؤمنون.
ولكن هذا الدافع
اختلف فيما بعد عند بعض المسلمين، عندما أسبغوا صفات إلهية على الرسول – صلى الله عليه وسلم - ، إمّا عن جهل، أو
بصورة متعمّدة، كما فعل الباطنية الغلاة عن عمد، وذلك لإسباغ الأمر فيما بعد على
قادتهم، وأئمّتهم. ثمّ تسلّلت الفكرة إلى بعض الفرق الصوفية الغالية، حتى صاروا
يقدّسون شيوخهم، وبعض رموزهم، تقديساً يصل بهم إلى العصمة. ولذلك خرجت أحاديث
كثيرة، منسوبة للرسول – صلى الله عليه
وسلم - ،
تخالف مبدأ بشـريته، مثل: (أنا نور الله، وكل شيء من نوري)، و(أول ما خلق الله نور
محمد – صلى الله عليه وسلم - ، أو أنه مخلوق من
نور العرش قبل آدم (ع)، ولذلك فهو لا ظلّ له..! إلى غير ذلك من الأمور، التي تقترب
من خلط أفكار اللاهوت بالناسوت، كما في المسيحيّة (علماً أن هذين المصطلحين دخيلان
على الفكر الإسلامي)، وهي كلّها مجتزأة من حديث آخر منسوب للرسول – صلى الله عليه وسلم - ، حيث جاء عن عبد
الرزاق والبيهقي عن جابر بن عبد الله، قال: (قلت يا رسول الله بأبي أنت وأمي
أخبرني عن أوّل شيء خلقه الله قبل الأشياء؟، قال – صلى الله عليه وسلم -: يا جابر، إن الله تعالى قد خلق قبل الأشياء
نور نبيّك من نوره)!.
وهذه الأقوال
والأحاديث هي تأويل قسـري وشاذ للآية الكريمة: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ
نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ}(15) المائدة، وآيات أخرى تصبّ في هذا السياق، مثل: {اللَّهُ
نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}(35) البقرة، فلا يمكن أن يكون للنور مقصدين:
تارة هو الله، وتارة هو الرسول (ص)، وفي كلتا الحالتين هو تعبير مجازي، واستعارة
بلاغية، عن هدي الله ورسالته، فالله تعالى هو خالق كل شيء، ومن هذه الأشياء النور.
لقد رفع الغلاة، تحت
غطاء التصوف، ولأسباب سياسية خفيّة، من صورة (محمد) فوق الصورة البشـرية، لإسباغ
الأمر على شخصيات أخرى تمّت بصلة النسب للرسول – صلى الله عليه وسلم - ، واتّخاذهم وسائل لمآرب بعيدة. ولذلك عندما
شعر الإمام جعفر الصادق (رض) (ت148هـ)، بتسلّل الغلاة لشخصيته، لعن زعيمهم أبو
الخطاب، وقال: "لا تقاعدوهم، ولا تؤاكلوهم، ولا تشاربوهم، ولا تناكحوهم، ولا
تصافحوهم، ولا توارثوهم". ففي أحد الشـروح لكتاب (الطواسين) للحلّاج، يرد ما
يلي: "اعلم، أيّدك الله بروح منه، أن الحقّ تعالى خلق محمداً – صلى الله عليه وسلم - من كماله، وجعله
مظهراً لجماله، وجلاله. خلق كلّ حقيقة في محمد من حقائق أسمائه، وصفاته، وخلق نفس
محمد – صلى الله عليه وسلم - من نفسه، وليست
النفس إلا ذات الشيء ..."، وهو كلام مشتقّ تماماً من مبدأ المسيحية عن الألوهية
في الخلط بين الناسوت واللاهوت بشكل مبهم ومتعمّد.
وفي كتاب (الطواسين)
للحلاج أيضاً، وفي باب طاسين الأزل والالتباس، يقول: "ما صحّت الدعاوى لأحد
إلا لإبليس، وأحمد. قيل لإبليس اسجد، ولأحمد انظر، هذا ما سجد، وأحمد ما نظر، ...،
ما التفت يميناً ولا شمالاً، ما زاغ البصـر وما طغى".
وهذا الكلام كلّه
تدليس وافتراء، فعظمة إبليس عند الحلاجيّة تأتي من ادّعاء كاذب بأنه سيّد
الموحّدين، وليس لأنه عصـى ربّه استكباراً، فلعنه الله. وهكذا يرسم صورة غالية
مزيّفة للرسول – صلى الله عليه وسلم - ، بوضعه مع إبليس في
مرتبة واحدة، على أنه لم ينظر لما حوله عند سدرة المنتهى في رحلة الإسـراء
والمعراج، وكلّها تصوّرات بأهداف ترمي لهدم الدين من داخله، بأساليب ماكرة.
لقد تأثّر كثير من
كبار الصوفية بمثل هذه الآراء، وغيرها، حيث يقول ابن عربي في (الفتوحات المكيّة)
(ت 638هـ) بهذه المعتقدات، فيستشهد بالحديث المنسوب للرسول – صلى الله عليه وسلم -: (خلق الله آدم على
صورته)، بإعادة الضمير على الله تعالى، علماً أن هذه الجملة مجتزأة من (التوراة)
بصورة كاملة. والمشهور عنه تأثّره الكبير بالإسـرائيليات، وببعض الأفكار
الإسماعيليّة، حيث جاء في (التوراة): (فخلق الله الإنسان على صورته، على صورة الله
خلق البشـر، ذكراً وأنثى خلقهم)( 27، 1، التكوين).
وهذا الكلام يخالف
القاعدة القرآنية عن الله تعالى بأنه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ
السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}(11) الشورى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق