بقلم : سالــم الحــاج
(إن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني) .. كلمات تقطر تواضعا وإحساسا بالمسؤولية، وهي كلمات كانت تدشن عصرا جديدا من العلاقة بين الشعوب والحكام.. كلمات قالها أول رئيس إسلامي (منتخب) في العالم، وأعني به أبو بكر الصديق؛ أول خليفة في تاريخ المسلمين، وأول من جسد تعاليم النظام الإسلامي في الشورى والديمقراطية.. ولكنها كانت تعاليم سابقة لعصرها وسرعان ما طغت عليها طباع القوم، وأزاحتها أنظمة الحكم التي كانت سائدة في العالم آنذاك، فمضت بانقضاء عصر الخلفاء الراشدين، وعاد الحكم بعد ذلك حكما جبريا وراثيا مستبدا، إلا في فترات ....
استثنائية قصيرة ونادرة، وهكذا شبت شعوبنا، ونما تراثنا، وتشبعت ثقافتنا بقيم الاستبداد والخنوع والرضوخ، ولم نفق من ذلك الا تحت سنابك خيل المستعمر.. وها نحن في العصر الحديث مبتلون بحكام متسلطين، يعتبرون الحكم والسلطة وقفا عليهم، ويستخدمون كل أساليب الإذلال والقمع وشراء الذمم من أجل البقاء في سدة الحكم، فإذا ما نازعهم أحد أو فكرت مجموعة في التململ أو الاعتراض أو التغيير، صبوا عليها جام غضبهم، وأبادوها عن بكرة أبيها.. وهكذا وجدنا أن حكامنا جاءوا ليبقوا – كما يقولون في شعاراتهم – فلا أمل في التغيير، ولا مجال للإصلاح، ولا معنى للمعارضة والرأي الآخر، فكل ما يراه الزعيم فهو الحق، وكل ما يفعله فهو الصواب، وليس لأحد أن يعترض أو يخالف، وإلا فهو خائن أو عميل .. ولذلك فإن العلاقة بين شعوبنا وحكامنا – على امتداد بلادنا العربية والإسلامية- هي علاقة عداء وتربص – إلا فيما ندر-، و ذلك أن الحاكم في واد والشعب في واد آخر..
هذه الصورة القاتمة للعلاقة بين الشعوب والحكام، هي ما نراه اليوم في الغالب من البلاد الإسلامية والعربية، وهي صورة أبعد ما تكون عما يحبه الله ورسوله، وعما توجبه وتقضي به نصوص ومقاصد الشريعة الإسلامية، فضلا عن كونها صورة متخلفة كثيرا عما يعيشه العالم المتقدم من تطور كبير على مستوى حقوق الإنسان، وأنظمة الحكم والإدارة..
فهل نحن، مع ثورات الربيع العربي، مقبلون على لون جديد من العلاقة بين الحاكم والمحكوم، لون تعلو فيه قيمة الحرية والكرامة الإنسانية على المصالح الضيقة للحاكم وبطانته وآل بيته، وترسو فيه معان وقواعد جديدة لتنظيم العلاقة بين الحكام والشعوب، علاقة لا تطغى فيها شخصية الفرد الحاكم، ولا تؤله، ولا تنزه عن الخطأ والتقصير، ومن ثم تستبعد عن أية ملاحقة أو مساءلة.. علاقة يكون فيها الحاكم فردا كبقية الناس، غير أنه أشدهم حملا ومسؤولية، كما قالها الفاروق (عمر بن الخطاب) قبل ألف وأربعمائة عام أو يزيد..
هل تكون ثورات الربيع العربي هي بداية حصاد عصر النهضة الإسلامية؟!.. لقد طال ليل الشعوب في ظل الجبريات والدكتاتوريات، وامتدت عصور التخلف والضياع طويلا، فهل تكون هذه الثورات هي بداية النهاية لكل ذلك؟..
لقد رأينا، في تاريخ البشرية، أن الثورات عادة ما تسبقها حركة نهضة فكرية، ويمهد لها مفكرون متميزون.. فهل نعتبر ظاهرة (قناة الجزيرة)، وأخواتها، منذ انطلاقها عام 1995، وما تركته من آثار هائلة على الوعي السياسي للملايين من الناس، في هذه المنطقة من العالم، جزءا من هذه الحركة الفكرية، أو تمهيدا لها؟!.. لاشك أن الإعلام الحديث، بكل وسائله وأشكاله هو جزء من هذه العملية التغييرية التوعوية الهائلة، التي تعم العالم كله، وليس العالم الإسلامي وحده.. ولا شك أيضا أن ظهور العديد من المفكرين والفلاسفة المميزين، خلال القرن الماضي بالذات، ليس ابتداءا من ( الكواكبي، ومحمد عبده، وإقبال) قد أحدث أثره، وألقى بذره، وساهم في النهاية في تشكيل الوعي الفكري والسياسي لأبناء هذا الجيل.. ولا ننسى أن نذكر بالدور الحضاري والفكري الكبير والهائل، الذي لعبته الحركات والتيارات الإسلامية، في صنع هذا الانقلاب الحضاري والفكري، وفي تهيئة الأرضية التاريخية لهذا التحول الهائل، الذي نرى بداياته اليوم، ولا شك أن امتدادته وتداعياته لن تقف عند حد، وسيكون لها مستقبل وتاريخ !..
فهي إذن ثورة حقيقية، ثورة تصل الحاضر بالماضي، وتدشن عصرا جديدا آخر، بعد انقطاع طويل عن بداياته.. ثورة سياسية واقتصادية، كما أنها فكرية وحضارية.. ثورة تنتقم للكرامة المهدورة، وتعيد الاعتبار للهوية والتاريخ.. ولكنها بالتأكيد ليست سوى بداية الطريق، ولا يزال أمام الشعوب العربية، ونخبها الثقافية والسياسية، الكثير مما يجب أن تهتم به، وتخطط له، فطريق الثورات ليس مفروشا بالورود، وحرية الشعوب ليست زهيدة الثمن !..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق