د. سعد سعيد الديوه جي
إن ما يحدث الآن؛ وما يحدث في الدول العربية من حركات وانتفاضات تطالب بتعديل مسار الأنظمة فيها وتغيير سياساتها داخلياً وخارجياً هي محصلة معقدة لجملة عوامل اقتصادية وتاريخية وإيديولوجية فرضت نفسها في ظروف عالمية قلقة للغاية، وأما مسألة تصوير هذه الحركات كثورات شباب أو ثورات فيس بوك، فهو ابتعاد سطحي وغير موضوعي متعمد من قبل بعض وسائل الإعلام للتقليل من شأن هذه الحركات، وكذلك فإن ما يجري من تقييمات لهذه الحركات بواسطة استفتاءات
"شعبية" هنا وهناك فهي مسألة غير واردة علمياً، لأن بعض الأمور الخفية لا يدركها الشارع العادي وتبقى مقتصرة على النخبة السياسية والثقافية.
وسأتناول في هذه الورقة تداخل التجربة التركية في بعض جوانبها بتجارب حركات التغيير في الدول العربية وآفاق الاستفادة من التجربة التركية، وتشترك حركات العالم العربي بالحركة التركية برفضها للعلمانية المطلقة والتعصب القومي وتفضيل المبادئ الإسلامية إجمالاً على هذين المنطلقين، فالتاريخ الجيوسياسي للشعبين لأكثر من أثني عشر قرناً هو تاريخ إيديولوجي إسلامي ذابت فيه الفوارق القومية .
ولم تنعدم هذه الأجواء بل هيأت للتداخل الحتمي الآني والمستقبلي، فالإسلام لا يلغي القومية كما يعتقد بعض المثاليين ولكنه يتفاعل معها ويهذبها.
فبعد أن تجاوزت تركيا فترة التعصب القومي المنغلق والمغلف بلباس العلمانية والتقدمية وأدى ذلك إلى نجاح الحركة الإسلامية في تركيا متمثلة بصعود حزب العدالة والتنمية في العقد الأخير والى الآن، ونجاحه الذي أدى إلى قلب موازين القوى على الصعيدين الداخلي والخارجي، مما شجع الشارع العربي لتقليد التجربة التركية، وأن الدور التركي أمر واقع لا يجب الاكتفاء بالتفرج عليه بل التعامل معه وتعلم الدروس والمكاسب منه .
ورغم أن لتركيا مشاريع أبعد من المشاريع الإيديولوجية الإسلامية فقط، فالسياسة التركية الحالية التي أرسى دعائمها (نجم الدين أربكان) في تسعينات القرن الماضي جعلت تركيا تتجه نحو الشرق بعد أن تحملت الأعباء الأمنية للجناح الجنوبي في حلف الناتو ولم تحصل على شيء يذكر من إيرادات الاتحاد الأوربي، فصارت شرطياً للمنطقة لا يمتلك حق الكلمة بأي شكل من الأشكال بما يخص الموارد الاقتصادية للمنطقة أو التحكم بها .
ورغم بقائها في حلف الناتو وامتلاكها لثاني أكبر ترسانة بعد الولايات المتحدة في الحلف، فقد تخلصت تركيا من هذه العقدة مستغلة انشغال الأمريكان في حروب غير مجدية والخمول الاقتصادي الأوروبي ووقوف الطبقة الثرية التركية بجانب حزب العدالة والتنمية لتفرض واقعاً اقتصاديا أثار إعجاب الكل، وأعطى الحركات الإسلامية العربية دافعاً معنوياً كبيراً لتقليد التجربة التركية، والتخلص من عقدة النقص التي لا تترد القوى الإمبريالية بلصقها بالحركات العربية الإسلامية على أنها حركات إرهاب وتطرف ورجعية ..... الخ، وإنها لا تقدر على إدارة دفة الأمور السياسية وما يتعلق بها .
إن نجاح التجربة التركية ووقف سيل الانقلابات التي عصفت بتركيا منذ إعدام (عدنان مندريس) صاحب الإحياء الحقيقي في تركيا بعد انقلاب 1960م، قد جعلت من الإسلام السياسي واقعاً بالنسبة لصناع القرار الغربي لا مجال لإنكاره، ويجب التعامل معه بدل إشهار الحرب عليه، وإبقاء المنطقة في حالة غليان تنعكس آثاره السلبية على الاقتصاد الغربي عموماً في زمن أخذ الإعصار الصيني يكتسح الجميع .
هذه الثوابت جعلت من الحركات العربية الإسلامية، التي تخلت عن بعض قياداتها التقليدية، وتسنم قيادتها فئات نخبوية أكثر انفتاحا واستعدادا لقبول النموذج التركي، مما شجع الغرب على قبولها والتعامل معها، فالطريق أمام الظاهرة الإسلامية في تركيا لم يكن أمراً سهلاً، وعلى الحركات العربية دراسة هذا التاريخ بصورة عقلانية للاستفادة من هذه التجربة الفريدة .
إن تخلي الحركات الإسلامية عن مسألة إعادة التاريخ بحذافيره بدون النظر إلى روح العصر وفي عالم سريع التغيير، مسألة غاية في الحساسية ويجب أن تستفيد من الدرس التركي الذي بدأ من منطلقات عصرية لا تتعارض مع الثوابت الإسلامية .
هذه المنطلقات تجسدت في أقوال وأفعال نخبة ابتعدت عن الداء العضال الذي فتك بالبلدان العربية ألا وهو الفساد، وأرجعت مآثر أمة عريقة تم نسفها تحت مسميات وشعارات خادعة ابتلي بها العالم الإسلامي كله، فرجوع الهوية التركية التاريخية، وخصوصاً العثمانية، بشكل سلس وهادئ، يعد إنجازاً رائعاً انعكس على الحركات الإسلامية السائرة على هذه الخطى، حتى أخذت الأحزاب الإسلامية العربية تقلد مسميات حزب (العدالة والتنمية) وترفع صور (رجب طيب أردوغان) في كل مكان .
وعليه فأثر ما يحدث في تركيا أمر بالغ الأهمية ويجب النظر إليه بحذر بجانب الإعجاب، لأن التجربة لا زالت في البدايات بالعمر الاستراتيجي للزمن السياسي، فالحذر يأتي على الأغلب من تنامي الغرور الذي يصاحب التجربة الناجحة آنياً، ومن القوى المناوئة لهذا الخط، خصوصاً التيارات القومية المتعصبة وقوى العسكر وارتباطاته الغربية، بجانب تلك القوى المسلحة الخارجية التي تحاول تقويض التجربة بدوافع من قوى معادية لتركيا إجمالاً .
وأما الإعجاب فيأتي من تحدي وتجاوز النظرة الغربية التي غرست في عقل الشعب التركي بأن الحضارة الإسلامية، بعد هزيمة الدولة العثمانية، على أنها حضارة غير فاعلة، كما ردد ذلك توينبي وغيره، فكان هذا الانبعاث الهادئ رداً قوياً على النظرة الغربية السلبية، لا بل ووضعها في قفص الاتهام على أنها حضارة ساقطة أخلاقياً بعد فترة استعمارية – إمبريالية أدت بالعالم إلى حربين عالميتين ولا تزال الحروب التي تسببها تعصف بالعالم .
وكما يقول (أحمد داؤد أوغلو) بأن أزمة البوسنة وما رافقها من عمليات إبادة قد شكلت صدمة للشعب التركي، وحتى من غير الملتزمين دينياً؛ وأرجعت الإسلام كأحد أركان قومية متفردة، تشمل كل قوميات العالم العربي والإسلامي، والتي تشكل الحدود الحالية بينها حالة تاريخية لم يعرفها إلا قبل عقود من الزمن، نتيجة ظروف إمبريالية قاسية، وهي في مكنون هذه القوميات مسألة مرفوضة .
إن أحد أسباب تأثر الحركات الإسلامية العربية بمثيلتها التركية، هو بلا شك تدهور العلاقات التركية – الإسرائيلية وموقف الحكومة التركية الصلب من الأخطاء المميتة التي ارتكبتها إسرائيل بحق تركيا، خصوصاً بعد غزو العراق، انتهاءاً بأحداث أسطول الحرية، التي لم تكن إلا مظهراً من مظاهر فقدان الثقة بين البلدين.
والحقيقة أن الخلاف الإسرائيلي – التركي ليس خلافاً سطحياً بالمرة، خصوصاً بعد إدراك نخب (العدالة والتنمية)، بأن إسرائيل لا تثق بأي كيان إسلامي حتى لو سلم كل أموره لرغبات إسرائيل، وهذا الأمر انعكس على تصريحات (أوغلو) الأخيرة بأن تركيا ستستمر في تركيع وعزل إسرائيل، وهو تصريح خطير على المستوى السياسي من شخصية عرفت بهدوئها وميلها إلى الابتعاد عن افتعال المشاكل وهو صاحب نظرية "تصفير المشاكل".
هذه المواقف وغيرها قد أثرت في الشارع العربي تأثيراً بالغاً، خصوصاً أن تركيا محسوبة على المعسكر الغربي إجمالاً ودولة فاعلة في حلف الناتو، هذه النجاحات جعلت من تركيا تعيد كثيراً من أسس ثوابت سياستها الخارجية، وأدت إلى أرتباك السياسة الأمريكية التي لا تستطيع الاستغناء عن الحليف التركي في مواجهة التمدد الصيني شرقاً والروسي جنوباً!.
والحركات الإسلامية العربية، التي يمثل الإخوان المسلمون نواتها وأكثرها انتشارا، لا تلمح في أدبياتها لبعض التحليلات التي تلامس هذه الجوانب، وهو أمر سيء بلا شك نتيجة فقدان الثقة بكل ما هو غربي وعدم التفكير بأخذ إيجابيات الحداثة الغربية كأمر لا يتنافى مع المسيرة الإسلامية في بعض جوانبها، بينما الحركة التركية الإسلامية أخذت ببعض جوانب الحداثة الغربية مع تأكيدها على هويتها القومية الإسلامية، ولذلك فقد كانت تجربة (أربكان) مع (حزب الرفاه) عام 1996 وهي تجربة اتسمت بجانب إحيائي ذي طابع متعجل وصدامي إلى حد ما، تجربة غير ناجحة استراتيجياً انتهت بانقلاب 1997 استفاد منه تلميذه (أردوغان) الذي أسس (حزب العدالة والتنمية) عام 2001م ليفوز عام 2002 بالانتخابات، حيث تجنب المصطلحات الإحيائية المباشرة وعمل على إحياء الجانب الإصلاحي المتسم بقلة الكلام وكثرة العمل، وفي هذه المرحلة الحرجة لم يرفع (أردوغان) شعار الصدام مع العلمانية وإنما جعل إحياء التراث الإسلامي موازياً للعلمانية على الأقل في الوقت الحاضر .
إن اختلاف مسيرة الحركة الإسلامية التركية الحديثة عن أختها العربية أمر فرضته الظروف الجيوسياسية للمنطقتين، مما يجعل مسألة التأثير المتبادل كـأمر يتم بصورة متطابقة أمرا بعيدا عن الواقع، ذلك أن لكل مسيرة خصوصيتها التاريخية والجيوسياسية والجيوثقافية إلى حدٍ ما .
والحقيقة أن الحركات العربية الإسلامية ليست متطابقة في جميع الأقطار للاختلاف الجغرافي من قطر لآخر والمستوى الثقافي والإيديولوجي، لذلك اختلف التأثير التركي بهذه العوامل زائداً تأثير العامل الجغرافي .
فالحركة التركية ذات أصول صوفية قوية، لعبت فيها مثلا (حركة النور) التي أسسها (النورسي) دوراً مهماً في اتجاه المنحى التركي، بينما الحركات العربية الحالية ذات جذور أصولية وسلفية قوية، ولهذا طغى على بعض جوانبها الانغلاق والتقوقع على الذات .
وإذا أرادت الحركات العربية النجاح فعليها أن تفهم الدور التركي المؤثر والمتزايد في الشرق الأوسط ووسط آسيا، وأن طلب تركيا للانضمام للإتحاد الأوروبي، وبالرغم من شعورنا بعدم تحققه، في المستقبل المنظور على الأقل، لأسباب إيديولوجية دينية، فإنه لو تحقق سيخلق وضعاً دولياً جديداً تكون فيه الدول العربية في وضع أفضل سياسياً واقتصاديا .
هذا الموقف تعززه الأحداث الأخيرة، عندما رأت أوربا نفسها خلف الصين بمراحل كثيرة؛ وهي قريبة من منجم الشرق الأوسط بثرواته الهائلة، والذي يمكن أن تستفيد منه بالتعامل مع تركيا بمصداقية وشراكة واقعية نحو بلدان تثق بالأتراك نتيجة الأصول التاريخية والدينية والإيديولوجية، ولذلك أكد (عبد الله غول) أثناء زيارته للقاهرة عام 2008 بأن علاقات تركيا بالعالم العربي تقوي الروابط بالاتحاد الأوروبي، وكذلك أكد (أحمد داؤد أوغلو) بقوله بأن العلاقة مع الغرب "يجب أن لا تكون موضع مناقشة".
هذه المنطلقات لم تمنع (أوغلو) من التصريح جهاراً بأننا "العثمانيون الجدد"، هذه الثنائية مسألة بالغة الأهمية تعكس تفكير النخبة الثلاثية المتكونة من؛ أردوغان، وغول، وأوغلو، والتي تخطط لسياسة جديدة في نمط الحركات الإسلامية قاطبة وربما ستجد آثارها المباشرة على حركات الإحياء العربي الجديدة .
إن هذه السياسة تعمل على التخفيف من تشدد العلمانية والقومية، بدون الإفصاح عن ذلك، وهي مهمة عسيرة، بجانب الخوف من عوامل معادية، والذين تعاني مصر إلى حد ما في الوقت الحاضر من محاولات أشباههم لديها للانقلاب على مسيرة الثورة فيها .
إن الديناميكية – الحيوية التي برزت في تفكير أردوغان والى حد الآن قد تركت بصمات واضحة على مسيرات حركة التغيير العربي الإسلامي الذي بدأ بدايات عسيرة وفي مخاض صعب بدأ الغرب بتفهمه خدمة لمصالحه بلا شك .
ويجب أن يدرك الاصلاحيون العرب بأن مخاض الحركة التركية لم يكن أقل آلاماً من مخاضهم، ولكن نوعية السيناريو السياسي يختلف باختلاف الزمان والمكان، لذلك يبقى التأثير المتبادل أمراً حتمياً تفرضه العوامل الجيوثقافية والجيوسياسية لتاريخ مشترك عمره أربعة عشر قرناً.
Succès ... S'il vous plaît noter les nouveaux sujets toujours
ردحذفDank den Themen .... Ich hoffe, mehr von den Themen
ردحذف