09‏/03‏/2014

حين انتفض الكورد في آذار 1991

ليس مبالغاً فيه القول إن إرهاصات اندلاع الانتفاضة في كوردستان، والعراق، ضد النظام السابق، بانت تباشيرها قبيل أشهر من سنة 1991، بل سبقتها بأعوام، لربما تعود إلى بداية استيلاء حزب البعث على السلطة في العراق سنة 1968، فالانقلاب البعثي في السنة المشار إليها جرّ على الشعبين الكوردي والعربي في العراق الويلات من عمليات جينوسايد ومقابر جماعية وعشرات المجازر التي راح ضحيتها الآلاف بين قتيل ومفقود ومصاب.
الظروف المؤاتية للانتفاضة اندحار قوات النظام العراقي السابق في حرب الخليج الثانية "غزو الكويت"، من قبل قوات ثلاثين دولة أجنبية وعربية، احتشدت في شبه الجزيرة العربية آنذاك لذاك الغرض، شكلت ظروفاً مؤاتية للغاية، فقد كان نظام بغداد مرتعشا ويفقد السيطرة على أجزاء من المنطقة الجنوبية، إلى أن اندلعت انتفاضة شعبية سميت بـ"الانتفاضة الشعبانية"، انحصرت في بادىء الأمر بمحافظة البصرة، وامتدت شرارتها لباقي المحافظات الجنوبية، وكانت متزامنة مع الانتفاضة الكوردية في كوردستان.وانتفضت كوردستان 
وانتفضت مدن كوردستان الجنوبية الواحدة تلو الأخرى، فقد كان لمدينة "رانية" قصب السبق في تطهير أرضها وسمائها من الاحتلال البعثي، الذي عاث فساداً وقتلاً وتخريباً في هذا الجزء من كوردستان الكبرى لعقود، بعد أن تهيأت الأرضية المناسبة والاستعداد الشعبي، وانطلقت الشرارة الأولى لهذه الملحمة في الخامس من آذار من عام 1991.اتساع رقعة الانتفاضة وقد اتسعت رقعة الانتفاضة لتصل إلى مدينة السليمانية في السابع من آذار، لتنتفض هذه المدينة بالكامل، حيث استطاع أبناؤها أن يسيطروا بشكل كامل على الدوائر الأمنية والإدارية فيها، وهرب منتسبوها من عناصر النظام، بعد أن انهاروا أمام الضربات الموجعة التي لقنها لهم مقاتلو الانتفاضة، وبذلك تحررت مدينة السليمانية في الثامن من آذار/ 1991، وامتدت رقعة الانتفاضة أكثر فأكثر لتصل إلى (أربيل) في 11/3/1991، واستطاعت أن تزيح الاحتلال الذي كان يخيم على هذه المدينة كسائر مدن كوردستان الأخرى.كركوك نهاية المطاف واصل أبناء الانتفاضة تقدمهم بخطى متسارعة على طريق النصر والتحرير ليحرروا مدناً عدة، دهوك، حلبجة، آميدي، مخمور، زاخو، آكري، دربنديخان، كلار، جوارتا، بنجوين، سيد صادق، خانقين، وجميع أقضية ونواحي كوردستان، لينتهي بهم المطاف في مدينة (كركوك)، التي حرروها في العشرين من آذار/ 1991، لينهوا بذلك المرحلة الأخيرة من هذا السفر الخالد.
الجبهة الكوردستانية كانت الجبهة الكوردستانية تجربة سياسية جيدة - إلى حد ما - لأنها استطاعت أن تضم أحزاباً رئيسة في الحركة التحررية الكوردية، وقد تمكنت هذه الأحزاب، المنخرطة في إطار هذه الجبهة، من التصدي لإدارة الواقع الجديد، الذي تشكل إثر انتفاضة شعب كوردستان وهجرته المليونية..
لجان شعبية لمساندة البيشمركة شكلت المجموعات الشبابية في مناطقها السكنية لجاناً شعبية لمساندة قوات البيشمركة لحماية أمن المواطنين وممتلكاتهم، ولسد الفراغ الأمني، وقامت بنصب السيطرات وتفتيش المركبات لمنع أي خرق أمني، وكذلك لرفع معنويات الجماهير، وقد نجحت بشكل نسبي في مهامها. 
تقهقر الانتفاضة لضعف التخطيط، وعدم التنسيق الكافي بين القوى والجماهير، ولقلة الوعي السياسي والفكري، لم تستطع الانتفاضة الصمود بوجه جبروت النظام، فخبت نيرانها مؤقتاً وبسرعة فاجأت الرأي العام العالمي والمحلي، رغم محاولات قيادات الجبهة الكوردستانية الحفاظ على قدر من الثبات الميداني والتخطيط الإداري.الهجرة المليونية لم تدم الفرحة بعد الانتفاضة طويلاً، حيث أن رأس النظام في بغداد كان سالماً، ولا زالت بعض قواته من الحرس الجمهوري بكامل عدتها وعددها تحت إمرته ورهن إشارته، ورأى الناس ماذا فعل صدام وبقايا قواته بانتفاضة الجنوب، وكانت مأساة (حلبجة)، و(الأنفال)، لا تزال حية في ذاكرة الكورد، وبدأت رحلة الهجرة حيث أن ما يقارب المليوني مواطن هجروا مناطقهم، تاركين أرضهم ومنازلهم وما يملكون، هائمين على وجوههم سيراً على الأقدام، قاطعين مئات الكيلومترات في أراض جبلية وعرة مرهقة، يعانون من البرد والجوع، ولم تكن هذه الهجرة هروباً من الموت وطلباً للنجاة والحياة، بقدر ما كانت هروباً من حياة لم يكونوا يرغبون بالعيش فيها تحت ظلم طاغية.المنطقة الآمنة ورحلة العودة وفي منتصف شهر نيسان من العام نفسه صدر قرار مجلس الأمن الدولي المرقم (688) بإنشاء منطقة آمنة للكورد في كوردستان العراق، شمال خط العرض (36)، طردت منها قوات الجيش العراقي. وهكذا بدأت هذه الملايين البشرية برحلة العودة إلى مساكنها وممتلكاتها، والتي كان أغلبها قد سُرق ونُهب.

استقرار نسبي وانتخابات 
وبعد العودة والاستباب النسبي للأوضاع في مدن كوردستان، خاصة بعد انسحاب إدارات النظام، ولملء الفراغ، وتسيير الشؤون العامة، أجريت انتخابات 19 أيار 1992، وهي أول انتخابات حرة جرت في تاريخ كوردستان العراق. وكان إقبال الناخبينعالياً جداً، وكانت الانتخابات الخطوة التي تمكن شعب كوردستان من اختيار ممثليه، بعد عقود من الدكتاتورية. وأدت تلك الانتخابات الإقليمية إلى تشكيل أول مجلس وطني كوردستاني (أصبح اسمه لاحقاً البرلمان الكوردستاني)، وإلى إقامة حكومة إقليم كوردستان. وقررت قيادة إقليم كوردستان وشعبه البقاء جزءاً من العراق، واعتماد جميع القوانين الوطنية، والالتزام بها، باستثناء القوانين التي تنتهك حقوق الإنسان والحقوق العامة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق