09‏/03‏/2014

مشاهد ربيعية

أ. صبحي الداودي
المشهد الربيعي الأوَّل
في ربيع من عام 1968م، بينما كنتُ أتجوَّلُ في (منى)، بعد رمي الجمرات، شاهدتُ لوحةً كبيرةً قد كُتِبَ عليها عنوانٌ لفت انتباهي، وكان العنوانُ هو (معسكرُ الإخوان المسلمين)، فاستأذنتُ الدخُول مِنَ الحارِس الذي كان على الباب، فرحّبَ بي وأدخلني إلى خيمةٍ كبيرة، كانت معدّة لإلقاءِ الدروس والمحاضرات، وكان الحضُور كلهّم من إخوانِ مصر، الذين فرّوا مِنْ حكمِ الطاغية (جمال عبدالناصِر)، وعندما قدَّمْتُ نفسي على أنني مِنْ إخوان الكورد العراقيين، استغربُوا كثيراً، فقال أحدهم: هل الكورد مسلمُون؟ فضحِكْتُ، وشرّ البليّة ما يُضحك، ولم أتمالَك نفسي أمام هذا الجهلِ الصّارِخ بشعبٍ فيه (ابن الصلاح) و(ابن الحاجِب) و(ابن تيمية) و(صلاح الدين) و(النورسي) و(الزهاوي)، فقلتُ لهم: كان المفرُوض عليكم أن تعرِفُوا تاريخكم على الأقل، فقد حكم الكورد (مصر) في فترتين: الأُولى: هي فترةُ حُكم الأيوبيين، والثانية: هي فترة حُكم عائلة (محمَّد علي باشا)،
فقد كانت أُسرة (محمَّد علي باشا) من (جزيرةِ ابن عُمر)، نزحت إلى (ألبانيا)، وعاشت في مدينة (قُوْلَه)، ومنها نزحتْ إلى مصر. 
لقد آلمني هذا السؤالُ كثيراً، وأثارَ في نفسي استغراباً ودهشةً مِنْ قومٍ يجهلُون شعباً كان له فضلٌ كبيرٌ على الأُمّة الإسلاميَّة، فبدأتُ ألومُ نفسي وبني قومي على إهمالِنا في تعريفِ شعبنا للنَّاس، وقرَّرْتُ بيني وبين نفسي أن أُساهِمَ وأُشاطِرَ الآخرين في تعريفِ وبيانِ الخصائِص المشروعة للشعبِ الكورديّ.
وكنتُ أقولُ: إلى متى يدفعُ الشعبُ الكورديّ ضريبةَ جهلِ النَّاس بهم؟ وكثيراً ما كنتُ أردِّدُ وأقول: "هب أن كوردستان ليستْ وطناً، وإنما هو فندق، وأن الأخ الداعية الكوردي ليسَ مواطِناً، وإنما هو نزيلُ هذا الفندق، فهل مِنَ المنطق والدين أن لا يساهم في إطفاءِ حريقٍ شبَّ في الفندق، بذريعةِ أن معه في الفندق أناسٌ ليسوا على وِفاقٍ معه". لذلك آليتُ على نفسي أن أكون مُواطناً كورديَّاً، لا ضيفاً ثقيلاً طارئاً، مواطناً يدفعُ ضريبةَ الانتماء، ليكون لهُ على الأقلّ حقّ التمتّع بربيعِ كوردستان. 


المشهد الربيعي الثاني

عند مجيءِ البعثِ في 30 تموز عام 1970م، وجد نفسه أمام قضيَّةٍ معقّدة جِدّاً، وهي القضيَّة الكورديَّة، والتي كانت ولا تزالُ هي السببُ المباشِر، أو غير المباشِر، وراء سقُوطِ جميع الحكُومات العراقيَّة، منذ تأسيسِ دولةِ العراق عام 1920م. كان البعثُ يعرفُ جيِّداً أن مصيرَه وبقاءَه مرتبطٌ، إلى درجةٍ كبيرة، بكيفيَّة تعامُله مع هذهِ القضيَّة الحسَّاسة والحيويَّة.
في البدايةِ حاولُ البعثُ الاصطيادَ في الماءِ العَكِر، وذلك باتفاق مع أحد جناحي الحركةِ الكورديَّة، للانقضاضِ على الجناحِ الكورديّ الآخر، الذي كان هو المسيطر على الساحةِ السياسيَّة الكورديَّة، ومستحوذاً بجدارةٍ على الشعبِ الكورديّ آنذاك، ولكنَّ البعثَ لم ينجح في ذلك. بقيَ البعثُ مستمرّاً على طريقتهِ التآمرية هذهِ أكثر من عام، يستعينُ بجيشهِ، وبالمسلحين الكورد الموالين له، من المرتزقة، لعلّه يقتربُ من حلٍّ عسكريّ لهذهِ القضيَّة، ولكنّه وجد نفسَه أمام قضيَّةٍ لا تزيدها الأيَّامُ إلاّ تعقيداً واتساعاً، وقد بدأت تخرجُ من إطارِها الداخليّ إلى إطارٍ دوليّ.
لذلك اضطرّ البعثُ الاتصالَ بقيادةِ الحركةِ الكورديَّة، طالباً إيَّاها التفاوض للوصُولِ إلى حلٍّ سياسيّ، وجرت مفاوضاتٌ بين قيادةِ الحركةِ وقيادةِ البعث العراقيّ، فتُوِّجَتْ هذهِ المفاوضاتُ باتفاقية 11 آذار عام 1970م. 
في مساءِ يوم 11 آذار من عام 1970م، كنتُ مع عددٍ مِنَ الإخوان، في زيارةٍ للأخ الأستاذ (سليمان القابلي) (رحمه الله) في بيته، وبينما كُنَّا نتداول الحديث أعلن مذيع (راديو بغداد)، بأن رئيس الجمهوريَّة (أحمد حسن البكر) سيذيعُ بياناً مهمَّاً إلى الشعبِ العراقيّ، وكُنَّا نتوقّع أن يكون البيانُ حول القضيَّة الكورديَّة، وذلك مِنَ الملابسات السياسيَّة التي كانت تطغى على الساحةِ العراقيَّة آنذاك، ولم يمرّ إلا دقائق معدودة حتّى بدأ رئيس الجمهوريَّة بقراءةِ بيانِ 11 آذار عام 1970م، فكانت الحكومةُ تسمِّيهِ 11 آذار، بينما الطرف الكورديّ كان يُسمِّيه 11 آذار.
بعد انتهاءِ رئيس الجمهوريَّة من قراءةِ البيان، انبرى الأخ الأستاذ (سليمان) (رحمه الله) قائلاً: "هذا البيانُ لا يكفي ولا يُقدِّم حلاً جذريَّاً لهذهِ القضيَّة، ثمَّ توجّه بالكلامِ إليَّ قائِلاً: أستاذ صبحي، لو أنني كنتُ مكانَ البعثِ لقلتُ: يا أيها الكورد تعالوا أقيمُوا دولتَكم على حدودكم الجغرافيَّة، وأريدُ منكم فقط أن تكونوا معي في السياسة الخارجيَّة، وفي الدِّفاع".
كان هذا رأي الأخ (سليمان محمَّد أمين القابلي) التركمانيّ (رحمه الله) عام 1970م، يوم كانتِ القيادات الكورديَّة لا تستطيعُ البَوح برأي كهذا. واليوم، بعد أربع وأربعين عاماً، أخذت هذهِ القياداتُ تتبنَّى رأياً كهذا بحذرٍ واستحياء.
في الحقيقةِ كانت اتفاقيَّة 11 آذار عام 1970م، خطوة بنّاءة، وأرضيَّة صالِحة بين طرفي النزاع، ولكنَّها كانت تفتقِرُ إلى حُسْنِ النيةِ والمصداقيَّة. فالجانبُ الكورديُّ، من كثرةِ ما عاناهُ مِنْ غدرٍ وخيانة ونكثِ العهود والمواثيق، من جميعِ الحكوماتِ العراقيَّة، دون استثناء، كان يتعامَلُ مع هذهِ الاتفاقيَّة بحذرٍ وريبة، والبعثُ لم يعقد هذهِ الاتفاقيَّة لأن البلد بحاجةٍ إليها، وإنما عقدها لحاجته هو إلى محطةٍ يلتقطُ فيها أنفاسَهُ، بعد أن أرهقته مشكلاته العسكريَّة والسياسيَّة، وإحراجاته الإقليميَّة والدوليَّة، لذلك فإن البعثَ لم يعقد هذهِ الاتفاقيَّة إلاّ وفي ذهنه خطط للتراجُع عنها، في الوقتِ الذي هو يُحدِّده، فقد وضع العراقيل تلو العراقيل أمام البنود المهمَّة لهذهِ الاتفاقيَّة، تارةً بالتأويل والتفسير غير الواقعي، وتارةً بالمماطلةِ والتسويف.
ثُمَّ أخذ البعثُ يرسمُ الخطط، ويحيك المؤامرات، ويغدق الأموال، لاستمالةِ الأقزام وذوي النفوس الضعيفة.
لم تكتمِل السنة الأُولى من اتفاقيَّة آذار، إلاّ وتصدّى البعثُ لسيارةِ (إدريس البارزاني) في قلبِ (بغداد)، وأمطروها بوابل مِنَ الرصاص، ولكنَّه لَمْ يكنْ هو في السيارة، فجرح مَنْ كان فيها. ولم تكمل الاتفاقيَّة سنتها الثانية، إلاّ وأخذ البعثُ يحيك مؤامرة شيطانيَّة لاغتيالِ الزعيمِ الكورديّ (ملا مصطفى البارزاني)، إذِ استفادوا من حُبِّه وتقديرهِ للعُلماء، فأرسلُوا عدداً مِنَ العُلماء، وهيأوا لهم ملابس جديدة ليلبسوها قبيل استقبالِهم للزعيمِ الكورديّ، وكانتِ الملابسُ تحتوي على موادٍ ناسفة، ولم يكنْ على علمٍ بذلك إلاّ الرجل المسؤول عن الوفد، فعندما وصلَ العلماءُ إلى مقر (البارزاني)، فَجَّرَهُم المسؤولُ عن طريقِ جهاز تحكّم عن بُعْد.
في يومِ 12 آذار عام 1970م، عمَّتِ الفرحةُ والفوضى جميع شوارع (كركوك). لقد خرجتِ المدينةُ عن بكرة أبيها، بكلِّ قومياتها، ابتهاجاً بهذهِ المناسبة، فخشينا نحنُ مجموعة مِنَ الكورد، أن تستغلّ العناصِر الحاقدة هذا الوضع، فذهبتُ، ومعي الأستاذينِ (جهاد بابان) و(فاضل جمال)، إلى مقر (حزب البعثِ) في (كركوك)، وهناك شرحنا لهم الوضع في المدينة، وطلبنا منهم السيطرة على الوضعِ الأمنيّ، ومراقبة الشارِع بدقّة.
لم أجِدْ في حياتي حشوداً بشريّة كالتي خرجتْ إلى قرية (حصار)، احتفالاً بذكرى (نوروز) من عام 1970م، حتّى إن كثيراً مِنَ العوائِل غير الكورديَّة، كانت تستعيرُ الملابس الكورديّة الزاهية، كي تحضر هي كذلك موقع الاحتفال. كان حقّاً حفلاً ممتعاً، وحشداً ربيعيَّاً، أنسى الكورد عذاباتِهم وحرمانَهم وإقصاءَهم السياسيّ.

المشهد الربيعي الثالث
خلال الفترة (1970-1974) أردتُّ أن يكون لي حضُوري ومساهمتي في بناءِ وتطويرِ المجتمعِ الكورديّ في (كركوك)، فدخلتُ ميدانَ المساهمةِ والتطوير عن طريق اختصاصي، وهو (التعليم)، وانتميتُ إلى منظمةِ (نقابةِ مُعلِّمي كوردستان)، فأصبحتُ عضواً في الهيئةِ الإداريَّةِ لها، ثمَّ نائباً للرئيس.
كما عملتُ مشرفاً تربويَّاً، وبذلك تسنَّى لي الاتصالُ المباشِر بالمعلمين، وبمشاكِل الدراسة الكورديَّة، التي كانت من أهمِّ المشاكِل التي يُثيرها ويعيقها البعث، ولكنَّنا استطعنا أن نقفَ بكُلِّ صمُود أمامَ مؤامراتِهم في هذا الميدان، وكان الفضلُ يعودُ بالدرجةِ الأُولى إلى الأستاذ (فاتِح محمَّد أمين)، الذي كان مُعاوِناً للدراسةِ الكورديَّة في (كركوك).
وفي ربيع من عام 1974م وصلَ الخِلافُ بين البعثِ والحركةِ الكورديَّة إلى طريقٍ مسدُود، فلم تفد معهُ المحاولات، ولا الاجتماعات التي عُقدت بين الطرفين، فقرّر البعثُ إعلان الحكم الذاتي بمفردهِ، وبطريقتهِ الذاتيَّة، بعد أنِ استقوى نفسَهُ خلال السنوات الأربع المنصرِمة، لذلك قرّرتِ القيادةُ الكورديَّة قطعَ جميعَ اتصالاتِها بالبعث، ومُعاودة القِتال، بعد إلحاحٍ مِنَ الشعبِ الكورديّ. وأخذ البيشمركة يتحصَّنون بمواقعهم وجبالهم من جديد، كما التحقَ المسؤولون، وكل مَنْ كان له موقفٌ مُعادٍ للبعثِ، بالحركة، كما التحقَ عشراتُ الأُلوف مِنَ النَّاس الاعتياديين بها. 
ويؤسفني أن أقولَ إن الحركةَ الكورديَّة نسيت، في غمرةِ الحماسِ والعواطِف، أنَّ الملتحقين هؤلاءِ سيكونون عبئاً اجتماعيَّاً واقتصاديَّاً وعسكريَّاً عليها، كما كان يبدو أن الحكومة كانت تشجِّع هذا النزوح والالتحاق الجماعيّ، فهي لم تمنع أحداً مِنَ النزوح، علماً أن النازحين كلّهم كانوا يمرُّون عبر السيطرات الحكوميَّة، وعلى مرأى مفارِز الجيش، وفي قناعتي كان وراء موقِف الحكومة هذا هدفان: أولهما، كانت تعرفُ أن هؤلاءِ النازحين سيشكِّلون واقعاً له تبعاته على الحركة، وثانيهما: أن نزوحَ الآلاف من العوائِل الكورديَّة، من كركوك وخانقين وسنجار، يمهِّد الطريق لاستيطانِ العربِ مكانهم.
لم يكن الملتحقون بالحركةِ الكورديَّة يجمعهم دافعٌ واحِد، بَلْ كان لكُلّ دافعه الخاص، وهدفه المحدّد، فمنهم مَنْ دفعه حبّهُ وإخلاصه للقضيَّة الكورديَّة، فالتحقَ ليُسدي خدمةً، أو يسدُّ ثغرةً، ومنهم مَنْ كان يخافُ مِنْ بطشِ البعث، ومنهم مَنْ كان يتصوّر أن الالتحاقَ نزهةٌ أو سياحة تستغرقُ أيَّاماً، ثُمَّ يعود وقد أصبحَ بطلاً، دون أن يدخُلَ معركةً، ومنهم مَنْ كان يعرفُ أن أمورَهُ داخِل المنطقة المحرّرة تسيرُ على هواهُ، نتيجة قرابتهِ لمسؤولٍ متنفِّذ، ومنهم مَنْ جاءَ وهو يحملُ قلماً ودفتراً ليكتبَ مذكراتهِ، عسى أن يكون أسطورةً على غِرار (كاسترو) و(جيفارا).
كان قصفُ مدينة (قلعة دزه) يوم الأربعاء 24/4/1974م، هو أعنفُ قصف وأكبر مأساة في ربيع ذلك العام، لم تشهدْ كوردستان مثلهُ من قبل، فقد خلف القصفُ وراءَهُ (130) شهيداً، إضافةً إلى الجرحى، وعشرات البيوتِ المهدّمة.
في يوم 28/2/1974م، رجعتُ من (بغداد) إلى (كركوك)، فوجدتُ أن بقائي في (كركوك) هو الموتُ الأكيد، لذلِكَ ودّعْتُ أهلي وأودلاي عند الغروب، وتوجّهْتُ إلى مدينةِ (جمجمال)، والتحقتُ بجماعةِ (نقابةِ معلمي كوردستان/ فرع كركوك)، وبعد أن مكثنا في القرى المحيطةِ بهذهِ المدينةِ حوالي أربعة أسابيع، تركنا المنطقة بعد أن احتلَّ الجيشُ الطريق العام بين (كركوك) و(السليمانيَّة)، فكان مقرُّنا التالي ناحية (آغجلر)، ثُمَّ توجّهْنا إلى منطقةِ (سركاو)، وبعد أن مكثنا في المنطقةِ عِدّة أسابيع تركناها، وكان مقرُّنا التالي هو مدينة (قلعة دزه)، وكنتُ آنذاك مديراً لـ(تربية كركوك)، التي أسّستها الأمانةُ العامّةُ للتربيةِ والتعليم، كما كنتُ مسؤولاً لنقابةِ معلمي كوردستان - فرع كركوك. وإن أنسى كُلَّ شيء، لا أنسى سفرةً قمتُ بها إلى (حاجي عمران) عن طريق رانية - دولي بلنكان، لقد خرجتُ بسيارة جيب من (رانية)، وبعد أن سارتْ بنا السيارةُ حوالي ساعة واحدة، وصلنا إلى منطقةٍ كان يصعبُ التحرُّك بالسيارة، فنزلنا مِنَ السيارةِ، وبدأنا نسيرُ مشياً على الأقدام، فقد كان الطريقُ وعِراً للغاية، ومزعجاً جِدّاً، وكان أتعبُ ما في هذا الطريق هو النزول من المنحدرات الجبليَّة، وعند منتصف الليل وصلنا إلى إحدى المقاهي الشعبيَّة البسيطة، التي كانت منتشرةً على الطريقِ آنذاك، وقد أخذ التعبُ والجوعُ منَّا كُلَّ مأخذ، فطلبْنا من صاحبِ المقهى أن يحضّر لنا الشأي فرفضَ، لأنه لم يَكُنْ يريدُ أن يضحِّي بنومهِ وراحته في هذا الوقتِ المتأخِّر، ولم يَكُنْ أمامي إلاّ الصعود على الكوخ، فاستسلمتُ لنومٍ عميق لم استيقظ إلاّ قبل شروق الشمسِ بقليل، والنومُ نعمةٌ مِنْ نعمِ الله على الإنسان، فهو يمتصُّ تعبه وإرهاقه، وبه يستعيدُ نشاطه، ويصفي ذهنه، ولكن ما أن استيقظتُ حتّى بدأتِ الشمسُ ترسِلُ أشعتها بإذنِ ربّها، فوجدتُ نفسي في جنَّةٍ مِنْ جنَّاتِ الله في أرضه، فقد كانت أشجار التوت تلفّني من كُلِّ جانب، وعلى امتدادِ نظري، كما كانتِ الطيور تطلقُ زقزقتها، لا بَلْ تسبِّحُ بحمدِ ربِّها، بلغتها التي لا يفهمُها مِنَ البشر إلاّ أهل النظر وأصحاب القلوب، فأخذتُ أسترسِلُ في التأمُّلِ في بديعِ خلقِ الله سبحانه وتعالى، ولكن في تلك اللحظات أغارت طائرات البعث، فقطعتْ عليّ تأملاتي، وأتتْ حتَّى على تسبيحِ الطيور.
لقد فتحتْ (إيران) حدودها للنازحين الكورد، بأمرٍ مِنَ (الولاياتِ المتحدة الأمريكيَّة)، ولكن لم يَكُنْ أحدٌ مِنْ عقلاءِ الكورد يطمئنُ للخدماتِ التي كان يقدِّمها شاه إيران للنازحينَ الكورد، الذين كانوا موزّعينَ على (24) مخيّماً، على طولِ الشريطِ الحدوديّ بين (العراق) و(إيران)، وبالتأكيد لم يَكُنْ شاهُ إيران كذلك مطمئناً على نمطِ علاقتهِ مع الحركةِ الكورديَّة، ففي مدينة (مهاباد)، التي كانت عاصمة لـ(جمهوريّة مهاباد)، وبالقرب من ساحةِ (جوار جرا)، التي أعدم فيها (قاضي محمّد)، كانت هناك مدرسةٌ ثانوية لطلبةِ الكورد العراقيين، وكان الطلبةُ، قبلَ دخُولهم الصف، يصطفون كُلّ يوم صباحاً، وينشدون النشيد القومي (ئه ى رقيب)، والكورد الإيرانيون يطلّون من على حائِط المدرسة، فيستمعون إلى هذا النشيد، أو هذهِ الصرخة، لذلك كنتُ أسألُ نفسي: هل مِنَ المعقُول، أو هل مِنَ المنطقيّ، أن ينالَ الكورد في العراق حقوقهم بمساعدةٍ مِنَ الشاه؟ بينما يكون دور الكورد في (إيران) التفرّج فقط؟!

المشهد الربيعي الرابع
خلال عمري الطويل مرّتْ بي مواسِم ربيعيَّة كثيرة، فتمتّعْتُ بأيّامِها الجميلة، وذكرياتها الحلوة، كما قاسيتُ وعانيتُ من بعضها مُرّ الأيّام، وسوء الحال، هكذا الحياة فهي لا تسيرُ على وتيرةٍ واحِدة، فعلى طريقها يلقى الإنسانُ صحاريَ جرداء، كما يُصادِف على هذا الطريق واحاتٍ خضراء.
ولكنِّي لم أجِدْ خلال عمري الطويل هذا، ربيعاً قاسياً على الشعبِ الكورديّ كربيعِ عام 1975م، فالمعروف والمتوقّع مِنَ الربيع أن يأتيَ بموجاتٍ مِنَ الفرحِ والسرور يوزّعها على النَّاسِ جميعاً، ولكن ربيعنا هذا قدِ اغتالَ حلم شباب الكورد، وسرق البسمةَ مِنْ أفواهِ أطفالِ قومِ (صلاح الدين)، وسلب العقلَ والرشد حتّى مِنْ شيوخِ الكورد.
ففي 6 آذار من عام 1975م، عُقِدَ مؤتمر نفطيّ في (الجزائِر)- العاصِمة، واجتمعَ (شاهُ إيران) على هامشِ المؤتمر مع نائبِ الرئيس العراقيّ (صدّام حسين)، بوساطةٍ مِنَ الرئيسِ الجزائريّ (هواري بومدين)، واتفقا في هذا الاجتماعِ - بإيعازٍ مِنْ أمريكا - على إنهاءِ الحركةِ المسلّحة في (كوردستان)، وإقصاءِ الكوردِ مِنَ اللعبة.
لم تَكُنِ المأساةُ في هذهِ الاتفاقية - التي سُمِّيت (اتفاقية الجزائر) - في إنهاءِ الحركةِ المسلّحة، وإنما كانتِ المأساةُ في إفرازاتِ هذهِ الاتفاقية، إذ أصبحَ النازِحُون الكورد حيارى تائهين، فلم يَكُنْ أمامَهم إلاّ أحد الخيارين: إمّا البقاءُ خارج العراق، في معسكراتٍ، يتضوّرُون جوعاً، فيتسكّعُون في الشوارِع بحثاً عن عمل، أو العودة إلى العراق، وتحمّل الذلِّ والهوانِ، والترحيل والتهجير.
في الحقيقةِ، كان الرّابحُ الوحيدُ في هذهِ الاتفاقية، هو (شاهُ إيران)، فقد حصلَ على نصفِ شطِّ العرب، فلم يعد في ضوءِ هذهِ الاتفاقيّة (شطّاً للعرب)، كما حصلَ على أراضٍ واسعة، على طُولِ الشريطِ الحدوديّ بين إيران والعِراق، فظلّ العراقُ يئنُّ من هذا التنازُل، ولا يزالُ، وكان من إفرازاتِ هذهِ الاتفاقية أيضاً، نقلُ آلافِ المواطنين الكورد إلى الجنوب، وترحيل وتهجيرِ الآلافِ مِنَ العوائِل إلى مناطِق خارِج سُكناهم، وتدمير أكثر من أربعةِ آلاف قرية كورديّة، ودفن الآلاف مِنَ الأبرياءِ في رِمال الصحراء، في حملاتٍ سُمِّيَتْ ظُلماً وعدواناً بـ(الأنفال).
حَقّاً كان ربيعُ عام 1975م قاسياً ومأساوياً.

المشهد الربيعي الخامس
كان الرئيس العراقي (صدام حسين) على جانب كبير من الذكاء، ولكنه كان يفتقر إلى العقل الذي يستغل به هذا الذكاء، كما كان جريئاً إلى أبعد الحدود، ولكنه كان مغروراً. وقد دفعه غروره إلى أن يخرج عن طوره عند تعامله مع كثير من القضايا، ومنها قضية الشعب الكوردي، ولو تعامل مع هذه القضية بعقلية رئيس دولة، بعيداً عن الغرور والتعالي، حتى بعد اتفاقية الجزائر عام 1975م، لما وصل الأمر إلى ما وصل إليه، كما أنه لم يستمع إلى آراء العقلاء، فقد قرأت في مجلة عراقية في نيسان عام 1976م مقابلة أجراها صحفي في المجلة مع مؤسس حزب البعث (ميشيل عفلق)، فكان ضمن الأسئلة التي طرحها الصحفي سؤال فحواه (ما رأيك بالقضية الكوردية؟)، فكان جوابه (إن لم تعالج القضية الكوردية بعقلية الخلفاء الراشدين، فإنها تعود بقوة أكبر من ذي قبل)، ولكن النتيجة بدلاً من أن يأخذ (صدام) بنصيحة مؤسس حزبه، جمع أزلامه المجلة من المكتبات وأحرقوها، كما أخذ جنوده يحرقون القرى الكوردية، وحتى المصاحف الشريفة لم تسلم من الحرق.
في الفترة (1975-1991) كان الربيع يستحي أن يأتي إلى ديار الكورد، فإن أخطأ مرة في المجيء، فإنه سرعان ما يترك الديار، لأنه لا يريد أن يفقد ماء عينيه على الأطلال والأطفال والأنفال والقرى المهدمة.
لم تستطع معاناة الشعب الكوردي ومأساته أن تشبع غرور صدام حسين وكبرياءه، فكان يريد دائماً المزيد، ولذلك كان يفتش عن مصادر أخرى لتحقيق هذا الغرور ولترتوي منها نفسه المتعطشة للدماء والدمار، فوجد ضالته المنشودة في احتلال (الكويت) في الثاني من آب 1990، فأغرق شعب الكويت تدميراً وتخريباً، حتى أن (هولاكو) يتوارى خجلاً أمام ما صنعه صدام حسين بهذا الشعب.
كان (صدام حسين) يتخيل أن احتلال (الكويت) هو نزهة له ولجيشه، وأن أمريكا تبارك خطوته الجنونية هذه، وأنه عما قريب سيصبح إمبراطوراً للعرب، ولكنه وجد أن عمله - بعد فوات الأوان - كان مخططاً للقضاء عليه وعلى جيشه وعلى اقتصاده... لقد وجد جيشه قد غاص في رمال الصحراء.
ومنذ احتلال (الكويت) عام 1970 فقد صدام هيبته وهيمنته، فتحول من موقف الهجوم إلى موقف الذليل الخانع، وتعالت الأصوات هنا وهناك تريد الخلاص منه، لا بل كثرت السكاكين استعداداً لذبحه.
وفي الأسبوع الأول من آذار عام 1991 هب الشعب الكوردي رجالاً ونساءً وأطفالاً، وانتفضت كوردستان شجراً وحجراً بوجه البعث المجرم، فكانت النتيجة استسلام حوالي خمسين ألف من ضباطه وجنوده مع آلياتهم وأسلحتهم إلى البيشمركة. كان بحق منظراً غريباً أن يستقبل الشعب الكوردي هذا العدد الضخم من الضباط والجنود بإنسانيتهم المعهودة، فلم يمد يد الأذى لأحد منهم، بالعكس كانوا يمدون يد العون والمساعدة لهم.
حقاً كان ربيع عام 1991 هو عودة الود والوئام بينه وبين الشعب الكوردي، فلأول مرة أخذ الشعب الكوردي يستعيد ابتسامته وحبه للحياة.
ولكن مصالح (أمريكا) قضت أن تحول من جديد بين (صدام حسين) والسقوط، فكانت النتيجة أن عاد (صدام) إلى المدن الكوردية، بفلول جيشه الذي كان يكفي لإلقاء الهلع والروع في قلوب الناس، فكان سبباً في الهجرة الجماعية إلى إيران.
بالرغم من أن هذه الهجرة الجماعية كانت محرقة، خسرت كثير من العوائل في أتونها أنفسها وأموالها وراحتها، ولكنها مع كل ذلك كانت عنواناً جديداً لحق الشعب الكوردي في الحياة وتقرير المصير.

هناك تعليق واحد: