09‏/03‏/2014

مدخل الى قراءة في الاشكالية الحضارية (الجزي الثاني)

محمد رشدي عبيد 
كيف نرفع سقفنا الحضاري؟
من آليات البناء الحضاري قانون الحراك الثقافي لتوعية الجمهور، وجعل المجال مفتوحاً أمام الحضارات للتداول، فعلينا أن لا ننظر إلى الحضارات الأخرى نظرة أحادية تبسيطية اختزالية رافضة، ولا نركز على الجانب السلبـيّ أو التاريخي فيها، بل نتفاعل معها ونتثاقف بروية دون أن نفقد رؤيتنا.. وذلك يوحي بالحراك والتجدُّد والأمل، كما يشير (د.عماد الدين خليل) المختص في فلسفة التاريخ.. 
فلا بُدَّ من التفتح على أسباب الصعود الحضاري، وعدم التماهي مع الحزن والوهن والرتابة والدوغماتية.. كما لا بُدَّ من شحذ الإرادة، التي بالغ الجبريون في سحقها لتفسيراتهم الظاهرية
لآيات المشيئة، فـالإنسان كلما كان ذا إرادة أقوى، وإيمان أعمق، وإبداع أشد تركيزاً، أتيح له السفر إلى منطقة أبعد لاكتشافِ مزيدٍ من المجاهل في الطبيعة والعالم والبشر.. كما أشار الدكتور (هاشم الملاح) في كتابه (فلسفة التاريخ) إلى ضرورة تبين العوامل العديدة لصنع التاريخ والحضارة، ودراسة الفلسفات التاريخية التي تؤثر في صياغتها، لكي نتثبت في القبول الحضاري.. ولا نتجاهل دور كل عامل في صناعتها، بشرط أن نستفيد منه بما يلتئم مع منظومتنا الأخلاقية والكونية.. ولقد حرمنا أنفسنا من ملاحقة تطورات عديدة، فلا بُدَّ من تدارك ذلك مع إثبات خصوصيتنا، كما يقول صاحب كتاب (الحضارة فكرة وتاريخ)..
إن الاكتفاءَ بإعادةِ إنتاج الثقافة التقليدية، التي فرّعت فروعاً كثيرة، ووضعت احتمالاتٍ عديدةً لحلِّ إشكاليات مجتمعات المسلمين - التي كانت تجارية محدودة، شعبية لا نخبوية في مواجهة التحديات الراهنة، والبيئات الثقافية بحقولها المتعدِّدة - بالتحليل والتنظير الكافيين، والتهوين من دور المنهج العقلي في التأصيل والتنظير: التأصيل الفكري والديني.. وعدم مواجهة أسئلة الحداثة، وما بعدها، وترك اتجاهاتها دون تحليل ونقد كافيين، ودون تقديم البدائل المتماسكة الجذابة، وعدم دراسة تراثنا دراسة موضوعية، لوضع الاتجاهات الناقدة له موضع الموازنة والتقويم، ما زال يبطيء من سيرنا نحو آفاق التقدُّم الحضاري..
كما أن ترك موضوع البناء النفسي للفرد لا يوصل إلى تكوين إنسان نقي دؤوب يتقبله الآخر، فأسلوب التعليم الوضعي يحرم الإنسانية من الثقة بالآخر والتواصُل معه، ومن ثم من الثراء والتبصر والتعارف.. وهكذا يتأصّل التخلّف، وتكون المراوغات عن المنهج، ويلجأ البعض إما إلى التزييف أو العنف للوصُول إلى أهدافهم وتبليغ أفكارهم.. 
ونؤكِّد مُجدداً أن لمعجمنا الحضاري مفردات لم تفعّل بالدرجة المطلوبة في كُلِّ شيء، من التقنية إلى الجماليات، إلى الطرز المعمارية، التي تؤطِّر خصوصيات العائلة وقيمها، فالحضارة الغربية في بدء حداثتها لجأت إلى وضع معجمية لتطورها الذوقي والجمالي بدءاً من طلي الجدران بالألوان، إلى الموسيقى وروحها، إلى الصالون الأدبي، إلى تفعيل نظرتها إلى الذكاء والرقة واللباقة وضبط الفكر.. فعلينا أن لا نظل هاجرين لمعجمنا، وأن نتبين ماذا علينا أن نطور ونحضر؟ وذلك من مسؤولية المفكرين والأكاديميين وعلماء الجمال والأخلاق الحضارية.. كما علينا أن نستعيد خصوصيتنا.. وقد نبَّه د.المسيري في كتابه "رحلتي الفكرية" إلى إشكاليات حضارية رصدها في معايشته في المهجر متمثلة في التحيزات أو الأهواء، التحيُّز للمادي على حساب الإنساني، وللمحسوس والمحدود على حساب المطلق، وللمعايير الدقيقة الوصفية على حساب المجاز والمقارب...
وهناك ملاحظات لا بُدَّ من تأصيلها، فالمعيار الحضاري لكلِّ حِراك اجتماعي، ونشاط فكري، وتوجهات نحو الآخر، وتعامل مع الكون، وترقية للحياة.. يفترض أن يتحوَّل إلى قواعد أصولية وأهداف مبرمجة.. وأن نضع على سلّمنا القيمي ودرجاته الإيثار والطهارة والوفاء والاستبسال وحبّ التضحية..كما أن التراث يجب أن لا يشدنا كثيراً على حساب الواقع ومعادلاته وقوانينه.. وأن لا توجهنا الذرائعية أكثر من البرهان.. وأن نفرق بين درجات المأمول وتراتبيته، وذلك لكي نتبيَّن الأولويات ونتجنب العثرات.. وفي مجال التعامُل مع التراث لصنع الحضارة قد يكون من اللافت أن نشير إلى مقولة أحد الكتاب وهو د.مصطفى ملكيان الذي قرر أن هناك ثلاثة مستويات دينية قد تشكلت تاريخياً، دين النص المنزل، ودين التراث، ودين العرف.. فلا بُدَّ من تمحيص الحقيقة، ولو كانت نسبية.. وفي قوله كثير من الصواب لأن كثرة الممنوعات تضعف الممنوع المركزي.. 
إننا بحاجة إلى أن نعيد بناء ما هدمته الأيام وأعاقت حركة تقدمنا، نفتش في مطاوي التاريخ وبطون الكتب ورفوف المتاحف ومؤسسات المعرفة لرفد الحركة الحضارية الإنسانية، وإذا لم نبعث حضارتنا نموت تحت وطأة الصراع.. فالتغني بالأمجاد وحسب، والتمحور الزائد حول الطيف والطائفة والأثنية والعرق يسبب العوق الحضاري ويركز التخلف.. وأن نعلم أن الغرب أيضاً متأخر عما كان عليه أن يصل إليه.. وعلينا أن لا نيأس من استعادة دورنا، فكما ينص "كروبر" فإنه لا دليل على أن حضارة ما ازدهرت فترة أن لا تعاود ازدهارها.. وأن العامل الاقتصادي لا يُنكر دوره في التنمية، لكنه ليس المعامل الحضاري الوحيد، فلكلِّ حضارةٍ جوانبُ تفوقها..
ومِمّا يزيدنا ثقة أننا نقرأ عن اقتناع كثير من المفكرين بجدوى قيمنا الحضارية.. وما ذلك إلا لأنها تعطي نظرة أخلاقية للعالم، فقد أسلم غارودي بعد تأليفه "حوار الحضارات" وتمكنه من دراسة نقاط قوتها وضعفها، مُثنياً على حضارتنا وإنجازاتها العالمية.. مُعترفاً في كتابه هذا بأن حضارة الغرب غسقية، وأنها تستمد جذورها من تراث مصري وعراقي في فترة ما قبل الإسلام.. على الرغم من أن د.علي حرب انتقده في قلة إبداعه وميله الأصولي.. وفي مؤتمر عن الإسهام التاريخيّ لحضارتنا صرّح غارودي أن أكثر الفترات شؤماً في تاريخ الغرب هي السنة التي وقعت فيها معركة "بواتييه" حيث تراجعت هذه الحضارة أمام عنف فرنسا.. 
وأسلم محمد أسد بعد إدراك خصوصية حضارة الإسلام، ملمّحاً في كتابه "الإسلام على مفترق الطرق" إلى أن الإسلام جعلته المناهج الأوروبية غريباً ورسخ في أذهان الجيل الجديد أن الشعوب الغربية ومدنيتها أرقى من كل شيء جاء أو يمكن أن يجيء إلى هذا العالم.. كما لو أن سائر المدنيات قد خلقت لتكون حواشي تناسب بهاء أوروبا وحدها.. ولقد كان من أسباب إسلامه أيضاً أنه تطلع إلى حياة أكثر هدوءاً وأكثر إنسانية.. وإلى تنظيم للحياة مع أقل قدر من النزاع الداخلي وأكبر قدر من الشعور الأخوي كما يقول.. قال هذا على الرغم من المنجزات المادية والتقنية في عالمه والتي لم تحقق النجاعة النفسية للإنسان والتوافق المريح مع الغيب..
ويبين هشام جعيط في كتابه "أوروبا والإسلام" أن الحضارة الإسلامية التي عِبرها "حدث" ألف تأثير!، متطورة لكنها مخلصة لفكر الوحي، تركيبية لكنها أصيلة بقوة، هذه الحضارة التي لمعت لمدة خمسة قرون ببريق هائل يمثل أحد أسمى جهود الإنسان.. مركِّزاً على استيعابها لكلِّ طاقات الشعوب التي اقتنعت به، وتوفيقها بين الروح العملية والحِراك المادي والمنهج الحر في التفكير الذي اتسمت به الحضارة الغربية، وبين التوق للخلود والمنحى الغيبـيّ للكونفوشية والبوذية مع التحرُّر من سلطة الخرافة.. 
حضارتنا لها ثوابت ومع ذلك فإن اتهامها بالصرامة الدينية وغياب المرونة لا يقوم على أساس معرفيّ أو حقوقيّ لا جدال فيه.. وبين يدي كتاب لكاتب يعيد هذه الشبهة، ولا ينسى الدعوة المملة لإلغاء الحجاب مع أنه لا يعيق تقدماً ولا يمنع من الحركة الحضارية.. وهو يستدرك قائلاً بأن نصنا المقدس: "يفتحُ أمام الإصلاح باب الاجتهاد الذي لم يغلق أبداً". ومن ميزاته أنه يعرض خططاً مادية لبعث الحياة في الأرض الموات للبلاد الإسلامية في تطوير صناعتها وزراعتها وتخطيطها وفنيتها وتقنيتها..
مع كلِّ التحليلات والتعريفات والرُؤى حول الروح الحضارية نجد من الضروري أن نؤشِّر إلى كيفية قيام نهضة مستفيدة من كل نقاط الضوء ومواقع الفاعلية الفكرية والمؤسسية وجهود كل المصلحين في هذا المجال.. فليست المشكلة في عالمنا إدارية فقط، ولا اقتصادية بحتة، أو مجرد استيراد تقنيات، أو توفير أسباب القوة المادية، أو حلول جزئية.. وكما يقول مالك بن نبـي نأخذ حبة ضد الجهل، وقرصاً ضد الاستعباد، وعقاراً ضد الفقر.. بل لا بُدَّ من رؤية شاملة وأصيلة للحضارة ومنطلقاتها وأسسها وآلياتها.. ولا تحل الإشكالية الحضارية بمجرد التقريرات المتفائلة بعودة الناس إلى الفطرة بعد المعاناة من الدخول في طرق مسدودة لمادية الحضارة المعاصرة.. بل بوضع النقاط على الحروف في كيفية النهضة المعاصرة من واقع معقّد، وتراكمات ذهنية، وتناقضات حياتية، وأوضاع مركّبة، ومعالجة لخمود الروح الحضارية لدينا.. وكذلك ركّز د.محمد عابد الجابري على الديمقراطية والعقلانية، وفصّل في بيان بنية العقل العربي المسلم، وكيفية تجديده، وتجنُّب سلبيات كل من مناهج البيان والعرفان والبيان في قراءة النصوص لإيجاد شهودٍ حضاريّ جديد..
وهناك رؤى نراها محتمة للتكامل والشهود الحضاري منها:
(1) تفعيل خِطابنا الثقافي بشكل ممنهج وذي فاعلية في المجتمع..
(2) تنوير الفكر وتحديثه ببرامج تعيد الحيوية التخيلية والإبداعية للفكر كي لا ينحصر في إطار الحاجات المادية والحسية.. 
(3) إعادة التعمُّق الفكريّ والنزعة التحليليَّة والنظرة التركيبيَّة للظواهر، وعدم التعامل مع سطحية الحياة فقط ومؤثراتها الخارجية القريبة..
(4) تجنب الوقوع فريسة في فخ الاكتفاء بالتفسير التآمُري للأحداث والمتغيرات.. 
(5) ننظر إلى تاريخنا نظرة تفاؤلية تأخذ بروحه وعبرته بلا استنساخ ساذج، وبدون تبرير أو توظيف أيديولوجي محدود.. ودراسته عمودياً وأفقياً لا يكتفي برصد وتفكيك المفاصل والتحوُّلات الجارية، بل بسبر بنيتها وتفكيكها، والبحث عن أسرارها وعبرها ومغزاها.. فتاريخنا غير معصوم ولا عشوائي، وهو في بعده السردي يحتاج إلى التنقيح والمراجعة.. وإذا كان القدر يؤطر حِراك الإنسان، فالإنسان يراجع منجزاته ويُفسِّرها ويعيد صياغتها.. وليس عبثاً أن يكون في إسرائيل 1500 متحف بعضها متخصص لزيادة التمحور على الذات والتاريخ.. ولا بُدَّ من التحليل الشامل للبنية الحضارية في إطارها الزمنيّ بكل أسبابها وواجهاتها ومكوِّناتها، وتفسير التاريخ تفسيراً معرفيّاً لا يغفل دور العوامل كلها التي تسهم في صنعه.. كما لا بُدَّ من الشعور بقيمة الزمن الذي أكّد عليه الكتاب بكونه عامل بناء حضاريّ وليس كعملة كاسدة تصرّف في التفاهة والغرور والغفلة..
(6) تفسير التاريخ العالمي تفسيراً علميّاً نقديّاً لا يكتفي بالتأمُّل المجرَّد، ولا يغفل دور العوامل كلها التي ساهمت وتسهم في صنعه وتوجيه حركته.. 
(7) تشغيل علم التنمية البشرية ليس لإعادة الثقة بالنفس فقط بل في الآخر، إذِ الأول يؤدِّي إلى توظيف الآخر واستثماره، وعدم الدخُول معه في علاقة متكافئة..
(8) مواجهة ثقافة الانكماش على الذات وسلبيات الماضي بكل تلويناتها وما فيها من عناصر ضعف وتاريخية..
(9) تجنب انتظار الحلول الخارقة والأبطال المنتظرين خارج سياق الواقع وإمكاناته ورؤاه، مع استشفاف المستقبل والتفاؤل.. 
(10) مراعاة فقه الأولويات والمقاصد التي طالما أشار إليه علماء وكتاب قُدامى ومحدثون..
(11) عدم تمثل القياس المختزل وهو قياس النفس على المنهج والطريقة والتاريخ، فما أحمله حقاً لا يقتضي أن يكون تمثلي له في مستوى الأداء المطلوب، إذ يُؤدِّي ذلك إلى أن لا يلتزمَ الآخر به كما هو مطلُوب، لا لِخللٍ في المحمُول بل فـيَّ أنا الحامل.. 
(12) الموازنة بين السؤال والجواب فلنسأل لنزداد علماً ونجاوب لنزداد فضلاً!!
(13) الاستفادة القصوى من الوقت والموهبة ..لكن هذا لا يعني أن نتقوقع على طموحنا الفرديّ وننسى الآخر، بَلْ نقدم له المواساة والعاطفة والعون والخدمة والخبرة..
(14) هناك مرتكزات أخلاقية لبناء الحضارة وإدامتها وصيرورتها إلى الأفضل في كُلِّ مجالات الحياة والإدارة والنبوغ والإبداع العلمي وشد لحمة المجتمع ومنها: الشورى، والعدل، والانفتاح على التقدُّم، والجدية، والأمانة في الأداء، والجمالية والرقة في الخطاب، ووضع ميزان لنشاط الإنسان بين مجالات الدنيا وأهداف الحياة، والذكاء، والتخطيط، والنظافة، والطهارة والتقوى، والتنمية.. والمحافظة على البيئة، وتجنب الإسراف في التعامل مع الموارد البيئية..
(15) الحذر من الوقوع في إسار النظرة الترفيَّة للحياة والفكر، فقد عزا أشبنجلر أسباب سقوط الحضارة مع تقديس العلم المادي والاستغراق في التنظير العقائدي مما لا يبنى عليه عمل حضاري، عزاها إلى إيثار المنافع الضيقة على المصلحة العامة، والاندفاع وراء الشهوات.. كما علينا أن نوازن بين إمكانياتنا المنظورة، وفاعليتنا التي تحول دون العطالة والاستلاب.. وبين مسؤولية قرارنا..
(16) قوانينا ودساتيرنا تعبيرٌ عن روحِ حضاراتنا، وتفعيلاتها وتجلياتها الواقعية ومنهجياتها العملية وحلِّ إشكاليتها النظرية تزيدنا تمدناً ووِئاماً..
(17) أن لا تنسينا التعددية الفكرية والنضج المعرفي والإحاطة الواقعية بالفكرة والحدث والموضوع المطروح في رؤيتنا إلى الثوابت الجامعة والمشتركات التي تجمع عالمنا لنتفاعل إيجابياً في الماضي، ونستشرف المستقبل، ونعالج جراحات الحاضر وسلبياته.. 
(18) توجيه نظر مناهجنا إلى استشراف آفاق عالمية ذات سمات متقاربة لا يقتضي عدم مراعاة الخصوصيات لكل مكون..
(19) التوفيق بين الثوابت والأبنية المشتركة للحضارات وقوانينها الفكرية والعقلية، وبين عنصر المبادهة والتجريب..
(20) عدم تعميم النظرات السكونية، أو التمييزات الإثنية على مجمل الفعل الحضاري.. لنتجه نحو الوحدة والأهداف الإنسانية .. 
(21) لنتوجه إلى الحضارات الأخرى بروح الفحص والتجريب والتمييز والمقارنة، وأخذ مبادئها الحية بعيداً عن تبسيط الأمور وإطلاق الأحكام الجزاف على نوع التعامل مع الحضارات.. ودون الوقُوع في التعميمات المبسطة أو في فخاخ التسييس غير الموضوعي.. ودون التقيُّد بالاستنباطاتِ التاريخية للسِجالات التي حدثت بيننا وبين الآخر.. وأورثت رؤى أليمة وتعميمات سطحية على جميع المواطنين قد تؤصل لمبدأ الكراهية والعزلة وتحول دون التحاور والمراجعة..كما يجب أن لا نشعر النقص والخجل أو الانبهار نحو الآخر.. أو نمارس لعبة الهروب ودفن الرأس في الرمل.. أو الرفض المبدئي لكل إنتاج لا يتقيّد بمصطلحاتنا ومذاهبنا.. وقد دعا د.حسن حنفي إلى إنشاء علم الاستغراب لقراءة الغرب، وكيفية التفاعُل البنَّاء مع فكره وحضارته.. ويرى نيال فرغسون الأستاذ الأبرز في فلسفة التاريخ في هارفارد في كتابه (الحضارة.. كيف هيمنت حضارة الغرب على الشرق؟) المطبوع سنة 2013 أن الحضارة الغربية لم تلحق الهزيمة بحضارات العالم الشرقي إلاّ بالمنافسة والعِلم، والديمقراطية، والطِب، والمجتمع الاستهلاكيّ، وأخلاقيات العمل.. أمَّا ريتشارد كوك في كتابه انتحار الغرب المطبوع سنة 2011 ، فقد ركّز على أعمدة ستة للحضارة الغربية وهي: المسيحية، والتفاؤل، والعِلم، والنمو الاقتصادي، والليبرالية، والفردية. 
إن البعض من الكُتّاب يتعامل مع الحضارات بانبهار تام، ففي كتاب عن الحضارة اليابانية ذكر كاتبه أن اليابانيين ليسوا متخلفين مثلنا فيقضوا وقتاً في السمر وتقديم الحلويات واللقاءات الاجتماعية..وكأن هذه الحيثيات لا تملأ فراغاً حضارياً في عالم النفس والقيم.. كما نجد من كتاب الغرب من يثني على حضارة الغرب، وأنها تميل إلى تحسين نظرتها نحو الأقليات والنساء، والرفق بالأطفال والحيوانات.. لكنهم ينتقدون حضارتهم لأسباب عديدة.. 
(22) الروح الفردية والتواكُل والنظرة الجبرية للحِراك المجتمعي تحول بيننا وبين أن ننفتح على الآخر، فلا بُدَّ من تحريكِ الناس للتثاقف وحلِّ إشكالات الحياة اليومية.. كما أن تكبير الأخطاء أو تهميش الآخر يمنعُ من تقدير أهل الرأي والاختصاص والاستفادة من تراكمهم المعرفي.. 
(23) ضرورة وضع مساحة تصورية لعالَم ما وراء المادة، لأنه يشكِّلُ دافعاً للفعل الأخلاقي الضروري لبقاء الحضارة.. ويدفعُ إلى ممارسة قيم العدالة لتجنُّب سقوطها، ويحض على الاستقامة والنزاهة لتجنُّب الانحراف عن أهدافها.. وقد أشار د.البوطي في كتابه "منهج الحضارة الإسلامية في القرآن" إلى أهمية تأصيل النظرة الإيمانية للحياة والموت كطرفي معادلة ووجهين لعملة واحدة بناءً على العِلّة الغائية للعالم، والنظرة إلى الكون كصفحةٍ وثائقية وحقل لتجارب الإنسان ومعرفته.. وارتأى هذا الكاتب إعادة هذا الوعي الحضاري وبعث آلياته الفكرية والنفسية والقيام بخطوات جادة وفاعلة للقضاء على التفرقة.. ومعالجة القلق الفكري والنفسي لشعوبنا تحت ضغط السبق الفكري والتقني للعالم، ومدِّ الجسور بين الحكّام والشعوب وفقاً لثوابت ومصالح وطنية، وتكثيف البناء الأخلاقي الموجّه لترشيد الدفعة الحضارية التقنية والمعرفية كوسائل للنهوض المرتقب..
(24) التعدديات الحضارية والثقافية واقِعٌ ومشهد، خصوصاً مع الحضور الكثيف لهُوياتنا في الغرب، التطور الهائل في عالم الاتصالات والمواصلات.. فالزمان يتغلّب على المكان بأبعاده الثلاثة، والتاريخ يجري وفق زمن واحد فوري ومباشر ومشهدي.. فلا بُدَّ من إقامة الحوار البنَّاء لتقليل الخلافات في الرؤى، وتجنُّبِ ردود الفعل المستفزة، وتقبُّل ما يندرِجُ تحت مظلة الاجتهاد من الآراء وزوايا النظر مِمّا يُضفي الاستقرار على المجتمعات والتوازن للحضارة العالمية.. ولا مناص من مساءلة الحضارات ومثاقفتها، فالمصالح المتبادلة يجب أن تكون مركز الاهتمام.. فالغرب لا يُنكر فلاسفته أن حضارتهم ذات روح هيلينية ومكونات تراثية ممزوجة بالمكوّن اليهوديّ المتفلسِف الذي أشار إليه كتاب "المكون اليهودي في الحضارة الغربية" لمؤلفه سعد البازعي.. وهذا المكون على الرغم من عبقريته في التحليل والتفكيك بدءاً بأسبينوزا في مطارحاتهِ الفلسفية ونقده للعهد القديم، وانتهاءً معاصراً بديريدا إمام التفكيكيين في الأدب، مروراً بماركس الذي رسمَ هيكل نظريته المادية ببرمجة دقيقة تزيح التصورات الغيبية كما في رده على أنتي دوهرنغ لظروف حضارية خاصة.. وفرويد الذي أسرف في التفسير الجنسيّ للتاريخ ولجأ إلى مغالطات وتكلفات وأساطير كثيرة لدعم حُججه.. مُضافاً إليهم دوركايم الذي ذهب إلى أن الله هو تأليه المجتمع لنفسه.. إن كل ذلك يدفعنا كما يقول د.عبد الوهاب المسيري إلى أن لا نفكّر حضارياً فقط من خلال نماذج تحليليَّة اختزاليَّة جاهزة مستوردة من الغرب تحمل ثمرة أفكاره وتجربته التاريخية، نحكمُ بها على واقعنا وتاريخنا وتاريخ الجنس البشري بأسره. كما لمح إشبنجلر، وكولن ولسون بروح استشرافيَّة إلى تدهور الغرب في بعض المعاني حيث ظهرت مفاهيم غريبة مثل موت الإنسان، موت الإله، إلغاء التاريخ والزمان لصالح اللحظة الحاضرة، ظهور الفكر العبثيّ والعدميّ.. ومحاولة البعض منهم إحياءها مثل برجسون، ياسبرز، برديائيف.. وذكر ريتشارد كوك في كتابه انتحار الغرب أن هناك تناقضاتٍٍ مريعةً في بِنية الحضارة الماثلة منها: تلاشي الفرد، واللا أدرية، والنسبية، والجبرية، والاستهلاك والتفاهة والمتعية، وغياب المعنى والهدف والحِكمة، والاكتئاب واليأس، والاختلاف، والتشظِّي..
وفي صدد التقارُب بين مكونات الحضارات عُقِدت عدة مؤتمرات للحوار بين الأديان والحضارات لتقليل الفجوة، والمنافع المتبادلة، وإزالة أسباب سوء التفاهُم بين أقطابها.. وقُدِّمت أبحاثٌ في هذا المجال الحيويّ.. كما نظِّمت مؤتمرات وندوات ولقاءات غلبت عليها الضغوط الواقعية والمؤسسية ولم تكن مليئة بالتنظير.. وقد دعت لرسم خرائط جديدة وتبادل حاجات ثقافية.. وقد يكون من أسباب ما ذكرناه من سلبيات بقاء شيء من سوء التفاهم أو العقد السيكولوجية، مِمّا ذكره أدوارد سعيد في كتابه الاستشراق حيث يعيد البعض إنتاج منطق التعالي.. مِمّا يقتضي أن نفكّر في النهضة وفق عقلية ذكية ومرنة وخطط بعيدة المدى تستثمر ما وصل إليه الغرب.. ومع ذلك يمكن أن يشارك البعض بطرحٍ مُقنع في قنواتِ الحِوار مع الآخر ليزيل نظرته الدونية لمنطلقاتِ حضارتنا.. ولإزالة أسباب الصراع أو تخفيف لهجة العداء.. وكسرِ الصورة النمطية عنا.
وعن الحوار مع الآخر قرأنا ملاحظاتٍ بأن طابع الحوار معه كان يدخل الذاكرة التاريخية ويخترقها، وقد يُسيِّس ويدخلُ في أنفاقٍ مظلمة.. كما يعترضُ على جِديَّة الحِوار وضَعْف جدواه وجود بؤر ملتهبة في عالمنا بسبب التعصُّب والتطرُّف أو التهميش وتداعياتها.. مِمّا تشكّل نظرة متشائمة للحِوار ونجاعته.. خاصةً ونحن ورثة حضارة لن نتمثل بعدُ رُؤاها وقيمها ونظرتها الإنسانية.. وهو اعتراضٌ وجيه وتحدٍّ لكل المثقفين والمنظِّرين والمفكِّرين والعُلماء مِمّا يستدعي إعادة البناء استراتيجياً وإنسانياً..
(25) في الواجهات العملية فإن ردمَ الفجوةِ المعرفيّة والحضاريّة تحتاجُ إلى دراساتٍ معمّقة واختصاصية للاستفادة الفضلى من مواردنا الذاتية بشراً وأرضاً وماءً وسماءً لنصِلَ إلى درجةِ الاكتفاء الذاتي.. وأن لا ننسى التفكير في موارد أخرى نغتني بها لتخفيف الفوارق وكسر البِطالة، ورفع مستوى الدخل.. كما لا بُدَّ من خطط استرتيجية للانتفاع من الموارد والطاقات على أوسع مجال مجتمعي.. وفي المجال التطبيقي ظهرت محاولات لتفعيل وجه من الإسلام الحضاري في ماليزيا سواء من خلال بناء اقتصادٍ متين، وتخطيطٍ مُبرمج، واستفادة من الموارد المتاحة، وعلاقات متوازنة مع الخارج نظّر لها مهاتير محمد..كما يمكن الاستفادة من خبرات دول المنطقة حضارياً..
(26) التفكير في الإشكالية الإعلامية لتكون البرامج المرسلة أكثر منهجية، فاليوم كما يقول د.علي حرب يطغى الشاهد على الغائب، والمرئي على المقروء، والصورة على الفكرة، والإشارة على الدلالة.. 
(27) من مقتضيات الحضارة تفعيلُ مساراتٍ حديثة في الفهم والتنظير والاجتهاد تناسب حاجة كل شعب وترفع سقفه الرؤيوي إلى أعلى.. وفي المعرفة وعالميتها وضرورتها الحضارية نلتقي بمعهد الفكر العالمي الذي دعا رجاله إلى إصلاح الفكر، وإعادة الحوافز الحضارية لشعوبنا، وتخليص ثقافتها الاجتماعية وخطابها التربوي من تشوُّهات القرون ومُخلّفات الشعوب والأمم.. وله دورية تؤصل هذه المفاهيم.. وتمثل الجامعة الإسلامية في ماليزيا خطوة رائدة لإصلاح تعليمي يقضي على الفصام بين الرؤى الحضارية العالميّة، وتجسير العلاقة بين حقائق العلوم الدينية والكونية.. والأمل في البعثات التي أرسلت من الإقليم ليساهموا حين عودتهم في النهضة والتحديث.
(28) لدينا توصيفات ومُعالجات وطروحات معاصرة تشكّل إطاراً ثقافياً تعددياً واسعاً.. فهي شكل من أشكال العمل الحضاري ومجال من مجالات الانفتاح.. وكثيراً ما نسمعُ من مراجعَ معتمدة تدعو إلى انفتاحٍ مسؤُول على التعدديات والأطياف للالتقاء على ثوابت مُشتركة تتيحُ رفعَ التشنجات، وتعملُ على إعادة تشغيل عقل الأمة في برامج هادفة بعيدة عن الحزازات..
وأخيراً فلا بُدَّ من تحكيم العقلانية وقوانين التقدُّم في مسارِنا الحضاريّ، والصبر على بناء الذات.. وتوحيد المنطلقات العامة، وترسيخ المفاهيم الحاثة على التقارُب والتعارُف والتعاون.. لتجنُّب الحساسيات بين المدارس المختلفة، كما يقتضينا التطور نبذ الجمود والتوقف، وتملّك الرؤية الاستشرافية.. وإعطاء أهمية للإجابة عن أسئلة النهضة والحداثة وما بعدها.. أجوبة تأصيلية شفافة.. فلا يمكن أن تتأسّس حضارتُنا وتستقر وتأخذ مدياتها وأبعادها دون التداول الفكري المجدّد لطروحات كل شريحة مجتمعية على صعيد الواقع، كما لا يتحقّق ذلك إذا بقينا رهينة حماسة الأدبيات الإصلاحية فقط، أو السرد التاريخي لجهود المصلحين عمودياً وأفقياً..
والمهم أن الشعب الذي ليست له حضارة مستوعبة لتطلعاته، ولا يملك رؤية منهجية لها، لا يستكمل معادلات تقدُّمه.. ومن ثَمَّ يكون مقصّراً في مهمته في إثراء الوجُود الإنساني وإسعاده.. والتطلّع متوجّه إلى النخبة المثقفة والرائدة تتبين موقعها من العالم، وماذا عليها أن تنجز للتعامُل الجدي مع صيرورة هذا العالم الحديث في بعدهِ التقدُّمي، وماذا عليها أن تأخذ منه أو تدع.. لتتولى مسؤولية البناء الحضاري العتيد.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق