08‏/03‏/2014

كتاب الموسيقي الكبير لأبي نصر الفارابي

الفارابي
نبيل فتحي 
أبو نَصْر محمد بن محمد بن طَرْخَان الفَارابِيّ (ت 339هـ/950م) فيلسوف مسلم معروف، وهو من (الفَارْيَاب) من أرض خُراسان، أو (الفَاراب) إحدى مدن الترك فيما وراء النهر، يعده البعض فارسياً، بينما يعده آخرون تركياً، قضى شطراً كبيراً من سني حياته في (بغداد)، تخللتها فترة انصرف فيها للدراسة في (حَرّان) على (يُوحنّا بن حيلان) النصراني، قبل أن يغادر بغداد إلى حلب، فمصر، ثم دمشق، حيث توفي هناك. وصفه ابن أبي أصيبعة (ت 668هـ/1269م) في كتابه "عيون الأنباء في طبقات الأطباء" بأنه "كان في علم صناعة الموسيقى وعملها قد وصل إلى غاياتها، وأتقنها إتقاناً لا مزيد عليه"، كما أشار الصفدي (ت 764هـ/1362م) في كتابه "الوافي بالوفيات" إلى "إنه أول من وضع الآلة المعروفة بالقانون". وقد ترك (الفَارابِيّ) عدَّة مؤلفاتٍ في الموسيقى، أشهرها كتاب "الموسيقى الكبير"، الذي تقع نسخته، التي حُققت ونُشرت، في ما يزيد على ألف ومائتي صفحة، لتكون بذلك أكبر عملٍ أنجز في تاريخ الموسيقى العربية. 
وعلى الرغم من أن الكتاب أُلِّف بناءً على طلبٍ من الوزير العباسي (أبي جعفر محمد بن القاسم الكرخي) (ت
343هـ/954م)، إلا أن المقدمة التي كتبها (الفَارابِيّ) لكتابه تتضمن اعترافاً واضحاً بأن الموسيقى من العلوم القديمة، وأنه اطلع على بعض الكتب القديمة فيها، فضلاً عن بعض الكتب التي ألَّفها قريبون من زمنه، على أمل أن يجد فيها ما يلبي طلب الوزير، ويغني عن تأليف كتابٍ في الموسيقى جديد، رافضاً فكرة الكتابة في موضوعٍ قد أُلِّف فيه سابقاً، وإثبات ما ألَّفه السابقون واستوفوه، موضحاً أن مبرر الكتابة من جديد هو شرح وتسهيل الغامض مما ورد في الكتب القديمة، ومبيناً أنه وجد في الكتب القديمة جميعها "نقصاً عن تَمام أجزاء الصناعةِ، وإخلالاً في كثيرٍ مما أُثبِت فيها، وجُلُّ ما نُحيَ به منها نحو العِلم النظري فقد استُعمل في تبيينه أقاويلُ غامضةٌ". ويضيف الفَارابِيّ: "على أنه يبعُد جداً عن الظُّنون، أن يكون الناظِرون من القُدماء في هذه الصناعةِ قَصَروا عنها ولم يبلُغوا إتمامَها، على كَثْرتِهم وبراعتِهم وشدَّة حِرصِهم على استِنباط العلوم، وإيثارِهم لها على ما سِواها من الخَيْرات الإنسانية، وجَودةِ أذهانِهم وتداوُلِهم لها على طول الأزمنةِ، وتأمُّلِ باقيهِمْ لما اسْتَنبطَ الماضي منهم، وتَزْييدِ الخَلَفِ على ما أنشأهُ سلَفُهم، غير أن كُتبَهم في كمال هذا الفن إما أن تكون قد بادتْ، أو أن يكون ما نُقِل منها إلى اللسان العربي كُتباً ناقصةً، وعند ذلك رأيتُ إجابتكَ إلى ما سألتَ". 
وتدل مقدمة الكتاب أنه كان ملحقاً به كتاب ثانٍ، يقع في أربع مقالات، ويتضمن آراء المشهورين من الناظرين في الموسيقى، وشرح ما غمض من طروحاتهم، غير أنه لم يصلنا، ويرجح (غطاس عبدالملك خشبة)، محقق كتاب "الموسيقى الكبير"، أنه كتاب: "كلام في الموسيقى"، وهو "إما أنه مفقود، أو أنه مهمل ببعض المكتبات الخاصة".
أما مادة كتاب "الموسيقى الكبير" فتقع في جزأين: أولهما، بمثابة مدخل إلى صناعة الموسيقى، وينطوي على مقالتين، وثانيهما في الصناعة نفسها، وينطوي على ثلاثة فنون - كل منها يحتوي على مقالتين – أولها: في أصول صناعة الموسيقى، وثانيها: في الآلات الموسيقية المشهورة، وثالثها: في تأليف أصناف الألحان الجزئية.
يتضمن كتاب (الفَارَابِيّ) إشاراتٍ إلى المغنيين والموسيقيين العرب مثل مَعبَد المَدنِي، وابن سُرَيجٍ المَكِّي، وإسحقُ بن إبراهيم الموصِلي، وعَلْقَمة بن عَبَّدَة الشاعر، وإسحقَ ومُخارِقَ، فضلاً عن بعض السابقين من الفرس مثل "فَهْليذَ" الذي عاصر كِسرى أبْرَويز بن هُرْمز ملكِ فارس، كما يتضمن نقولاتٍ عن كتب قديمة لجَالِينُوس، وأرِسْطو، وبَطْلَمْيُوس، وثامَسْطيُوس، وزينون، وأُقْلِيدس، فضلاً عن إشاراته المتكررة إلى طروحات الفِيثَاغُوريين الذين يطلق عليهم تسمية "آل فِيثَاغُورُس"، رافضاً لتلك الطروحات أحياناً، ومقارناً بينها وبين طروحات الأرِسْتكسينوسيين الذين يسميهم آل "أرِسْطُقسانس" أحياناً أخرى.
ومن أهم ما يميز كتاب (الفَارَابِيّ) هو بيانه لعلاقة الموسيقى بالعلوم الأخرى كالهندسة والعدد واللغة والبلاغة والشعر والمنطق والتعاليم.
ويبدو أن (الفَارَابِيّ) كان على معرفة باليونانية، حيث أورد كلماتٍ يونانيةً للدلالة على بعض النغمات، موضحاً ما يقابلها بالعربية. 
ويظهر أن (الفَارَابِيّ) لم يكن يسعى إلى أن يقدم معرفةً نظريةً فحسب، بل حاول أن يفيد أيضاً المزاولين لصناعة الموسيقى، إذ يقول في حديثه عن الآلات: "ليكونَ الذي أثبتناهُ في هذا العلم غير مُقتَصَرٍ به على ما يَنتفِعُ به أصحابُ التعاليمِ وأهلُ العلومِ النظريةِ فقط، على ما تبيَّن من مقاصدِ كثيرٍ ممن أثبتَ شيئاً من هذهِ الصناعةِ في كتاب، لكن، ولينتفع به أيضاً المُزاولونَ لأعمالِ هذه الصناعةِ، ومن رأى إنما غايَتُه أيضاً أن تَحصُلَ له تلك الأشياءُ معلومةً بالحِسِّ". 
ويختم (الفَارَابِيّ) كتابه بالإشادة بالوزير العباسي والاعتراف بفضله قائلاً: "هذا أدامَ الله عِزَّكَ، تمامُ الصناعةِ التي أحببتَ الاطلاعَ عليها، فقد كمُلتْ على يديكَ بعد أن كانت ناقصةً، واتضحتْ بعد غُموضها بيُمنكَ وبركتكَ، حتى طمِعَ في إدراكِها من قد طال يأسُهُ منها، وأمكَنَتْ مَن قد كان عاجزاً عنها، واشتُهرتْ بك فلا تُنسبُ إلا إليك ولا تُعرفُ إلا لكَ، ولا يُشكرُ على إتمامِها غيرُك، ولا يُحمدُ على إظهارها سواكَ، فبلَّغكَ اللهُ نهايةَ آمالِك في دُنياك وآخرتك" 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق