اعترفَ أبو حامد (الغزالي)، رجل التعليم والفلسفة، الذي غلبَهُ الزهد، في كتابٍ يكاد يكون أول سيرة ذاتية فكرية، (المنقذ من الضلال): (ولاحظت أعمالي- وأحسنها التدريس والتعليم- فإذا أنا فيها مقبل على علوم غير مهمة، ولا نافعة، في طريق الآخرة. ثم تفكرت في نيتي في التدريس، فإذا هي غير خالصة لوجه الله تعالى، بل باعثها ومحركها طلب الجاه، وانتشار الصيت، فتيقنت أني على شفا جرف هار) ، فاعتزل إحدى عشرة سنة مجتمعاً مُترفاً استهلاكيَّاً، يفتقد القيم، ويخوض في كلِّ شيء دون محاذير.
في (بغداد) ظهر الفلاسفة الذين يعتمدون العقل فقط، وظهر المتكلمون الذين يعتمدون العقل والنقل، وحاول (ابن رشد) التوفيق، فقال: (الله لا يمكن أنْ يعطينا عقولاً، ثم يعطينا شرائع مخالفة لها).
ارتأى (الغزالي) بدعمٍ من (نظام الملك) أنْ يخوض ضدَّ الفلاسفة حرباً فكرية، هي الأخطر في تاريخ الفكر الإسلامي، عكفَ على دراسة الفلسفة سنتين ونيِّف، كما يُحدِّث عن نفسه: (حتى وقفَ على غورها وغائلها، وأدركَ أسرارها ودخائلها، ما لم يفطن له الفلاسفة أنفسهم، وأرادَ أنْ يقيمَ على ادعائه شاهداً علمياً، فألف كتابه: " مقاصد الفلاسفة") ، الذي يعتبره الغرب أفضل تلخيص للفلسفة اليونانية القديمة، ونصحَ (الغزالي) القارئ بقراءته قبل الشروع في قراءة (تهافت الفلاسفة)، الذي أثبتَ فيه جهل (ابن سينا، والفارابي) بـ(أرسطو، وأفلاطون)، وكفَّرهما في ثلاث مسائل: قِدَم العالَم، وإنكار العلم بالجزئيات، وإنكار المعاد. في هذه الفترة كانت هذه الأفكار قد انتشرت، إلى درجة حَفَّزَت (الغزالي) للرد عليها، درءاً للخطر، وفي ردِّهِ تركَ لنا تراثاً فكريَّاً، يقول عنه (سولومون مونك) في كتابه(مزيج من الفلسفتين اليهودية والعربية/1859): إنَّ ثورة فكرية فلسفية شهدَها القرن الثاني عشر الميلادي، بدأها (أبو حامد الغزالي).
سئل (الغزالي) عن بيان معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنَّ الشيطان يجري من أحدكم مجرى الدَّم)، هل هو ممازجة كالماء، أم هو مثل الإحاطة بالعود؟)، وأسئلة أخرى كثيرة من هذا النوع، التي تبدو في ظاهرها تناقضاً بين المعقول والمنقول، فقال: (أسئلةٌ أكره الخوض فيها والجواب، لأسباب عدَّة، لكن إذا تكررت المراجعة، أذكر قانونا كلياً، يُنتفع به في هذا النمط)، فقسم الخائضين في هذا الأمر إلى: (مفرط بتجريد النظر إلى المنقول، مفرطٌ بتجريد النظر إلى المعقول، ومتوسطٌ طمعَ في الجمع والتلفيق)، ثمَّ قسَّم المتوسط قسمين: (من جعلَ المعقول أصلاً، والمنقول تابعاً، ومن جعلَ المنقول أصلاً، والمعقول تابعاً)، فاكتملت خمس فِرَق، يتناولها بالتفصيل والرد بالأمثلة، ثم يتناول فرقةً أخرى يسميها: (الفرقة الخامسة: هي الفرقة المتوسطة الجامعة بين البحث عن المعقول والمنقول، الجاعلة كلَّ واحد منهما أصلاً مهما، المنكرة لتعارض العقل والشرع وكونه حقاً، ومن كذب العقل فقد كذَّب الشرع، إذ بالعقل عُرِفَ صدق الشرع) . ويمضي شارحاً نافياً للتناقض بين العقل والنقل، بإحالة غير المتحقق عقلاً إلى المجاز، كحديث وزن الأعمال، الأعمال عَرَضٌ لا يُوزن، فلا بدَّ من التأويل، ليصير الوزن كنية عن المقدار، وذبح الموت، والموت عَرَضٌ، والأعراض لا تنقلبُ أجساماً، والموت ما له رقبة ولا بَدَن، وجريان الشيطان مجرى الدَّم، ليس المُراد كممازجة الماء للماء، بل تشبيه لسريان أثره في جميع باطن الإنسان، ونحن نصادف في قلوبنا خواطر مختلفة، الذي يحصل منه إلهام باعث على الخير من المَلَكْ، والذي يحصل من وسواس من الشيطان. ويوصي (الغزالي) قارئه بثلاث وصايا: (1- ألا يطمع في الإطلاع على كلِّ شيء، فإنَّ ذلك في غير مَطْمَع، وليتل قوله تعالى: (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا)الإسراء: 85. 2- ألا يُكذِّب برهان العقل أصلاً، فإنَّ العقل لا يكذِب، ولو كَذَّب العقل، فلعله كذَّبَ في إثبات الشَّرع، إذ به عرفنا الشرع، فكيف يُعرف صدق الشاهد بتزكية المُزكِّي الكاذب، والشرع شاهد بالتفاصيل، والعقل مُزكِّي الشَّرع. 3- أن يكف عن تعيين التأويل، عند تعارض الاحتمالات، فإنَّ الحكم على مُراد الله سبحانه بالظن والتخمين خطر، فإنَّما تعلم مُراد المتكلم بإظهار مرادِهِ، فإذا لم يظهر، فمن أينَ تعلم مراده؟ إلا أنْ تنحصر وجوه الاحتمالات، ويبطل الجميع إلا واحداً، فيتعين الواحد بالبرهان، ولكن وجوه الاحتمالات في كلام العرب، وطرق التوسع فيها، كثير، فمتى ينحصر ذلك، فالتوقف في التأويل أسلم).
(ابن رشد) ردَّ على كتاب (الغزالي) مسألةً مسألة، ففي المسألة الثالثة عشرة: العلم بالجزئيات: (قال أبو حامد: مسألة إبطال قولهم إنَّ الله -تعالى عن قولهم- لا يعلم الجزئيات المنقسمة بانقسام الزمان إلى الكائن، وما كان، وما يكون... بل لا يعرف كفر زيد ولا إسلامه، وإنَّما يعلم كفر الإنسان وإسلامه مطلقاً كليا، لا مخصوصاً بالأشخاص)، ويرد ابن رشد: (العلم بالأشخاص هو حسٌّ أو خيال، والعلم بالكليات هو عقل، وتجدد الأشخاص، أو أحوال الأشخاص، يوجبُ شيئين: تغير الإدراك وتعدده، وعلم الأنواع والأجناس ليس يوجبُ تغيراً، إذ علمها ثابت، وإنَّهما يتحدان في العلم المحيط بهما، وإنَّما يجتمعان- أعني الكلية والجزئية- في معنى التعدد...لذلك المحققون من الفلاسفة لا يصفون علمه سبحانه بالموجودات لا بكلي ولا بجزئي، وذلك أنَّ العلم الذي هذه الأمور لازمة له، هو عقل منفعل ومعلول، والعقل الأول هو عقل محض وعلة، فلا يُقاس علمه على العلم الإنساني) .
اتفقت الديانات السماوية الثلاثة على أنَّ العالَم ليس قديماً بل مُحدَث. لكن (ابن سينا) استبدلَ مصطلحي القِدَم والحدوث بالواجب والممكن، وقال: العالم موجود فهو ممكن، وبوصفه ممكناً يحتاجُ فاعلاً من خارجهِ ليوجده، فالفاعل هو المقابل المنطقي لكلِّ شيء ممكن الوجود، وهذا الفاعل هو الواجب الذي إذا استحالَ وجوده، استحال وجود الممكن، تبعاً لاستحالتهِ، والعالم الذي نعيشه واجب الوجود بغيره، أيْ أنَّ العالَم موجود قديم، والله الخالق البارئ يتقدمه بالذات والرتبة، لا تقدما بالزمان والحدوث، كتقدم العِلَّة للمعلول، وهذا رأي (أفلوطين)، بينما (جالينوس) في أواخر حياتهِ قال: بأنه لا يدري إذا كان العالَم مُحدَثاً أو قديماً. وكان سؤالهم: لماذا لم يحدث العالَم مِنْ قبل؟
لكن (الغزالي) لم يسلم من التكفير، ويبدو (الغزالي) في رسالته (فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة) منفعلاً غاضباً مهاجماً بقوة الذين كفروه واتهموه، ولم تهدأ نبرته إلا في الفصل الثالث (مراتب الوجود وأمثلته)، حيث يقول: (اعلم أنَّ الذي ذكرناه، مع ظهوره، تحته غور، بل تحته كل الغور- الغور هنا يقصد به (الغزالي) العمق التأويلي- لأنَّ كل فرقة تُكفِّر مخالفتها، وتنسبها إلى تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلَّم، فالحنبلي يُكفِّرُ الأشعري، زاعماً أنَّهُ كذَّبَ الرسول في إثبات الفوق لله تعالى، وفي الاستواء على العرش، والأشعري يرد بتكفيره، زاعماً أنَّهُ مشبِّه، وكذَّب الرسول في أنَّهُ ليس كمثله شيء، والأشعري يُكفر المعتزلي زاعماً أنَّه كذَّب الرسول في جواز رؤية الله تعالى، وفي إثبات العلم والقدرة والصفات له تعالى، والمعتزلي يُكفِّر الأشعري، زاعماً أنَّ إثبات الصفات تكفير للقدماء، وتكذيبٌ للرسول في التوحيد، ولا ينجيك من هذه الورطة إلا أن تعرف حد التكذيب والتصديق، وحقيقتهما فيه، فينكشف لك غلو هذه الفرق، وإسرافها في تكفير بعضها البعض).
ثمَّ يقسِّم الوجود خمسة مراتب:
1- ذاتي، كالسماوات والأرض والحيوان والنبات.
2- حسي، في القوة الباصرة من العين، مما لا وجود له خارج العين، فيكون موجودا في الحس، ويختص به الحاس، ولا يشاركه فيه أحد، ويتمثَّل بحديث: (يؤتى بالموت يوم القيامة في صورة كبش أملح، فيُذبَح بين الجنة والنار)، فيكون سببا لحصول اليقين باليأس من الموت بعد ذلك، خلودٌ في الجنة أو في النار.
3- وجود خيالي: صورة هذه المحسوسات، إذا غابت عن حسِّكَ، فإنَّك تقدر على أنْ تخترع في خيالك صورة فيل وفرس، وإنْ كنتَ مُغمِضَاً عينيك، حتى كأنَّك تشاهده، وهو موجود بكمال صورته في دماغك، لا في الخارج.
4- الوجود العقلي: فهو أنْ يكون للشيء روح وحقيقة معنى.. كاليد فلها صورة محسوسة ومتخيلة، ولها معنى هو حقيقتها، وهي القدرة على البطش، أو الكرم والسخاء، وللقلم صورة، ولكن حقيقته ما تنقش به العلوم.
5- الوجود الشبهي، وهو أن لا يكون نفس الشيء موجودا، لا بصورته، ولا بحقيقته، لا في الخارج، ولا في الحس، ولا في الخيال، ولا في العقل، ولكن يكون الموجود شيئا آخر يشبهه في خاصة من خواصه، وصفة من صفاته، كالمشاعر الإنسانية، من غضب وخوف وشوق وبغض، وفرح وحزن). وفي نهاية الفصل يقول: (فهذه درجات الـتأويلات)، وعنوان الفصل(مراتب الوجود)، أيْ أنَّ لكلِّ نوعٍ من الوجود، تأويلٌ خاص يختصُّ به، ولكلِّ تأويل نوعٌ من الوجود.
وأحرقت دولة (المرابطين) كتبه كافة، وحظرتها، لأنَّهُ مزجَ بين قواعد أصول المسلمين، ومنطق أرسطو، وفي نهاية القرن ردَّ (ابن رشد)(1126م - 1198م) على (الغزالي) بكتابه(تهافت التهافت)، هذه المعركة الفلسفية العلمية الأكثر شهرة في تاريخ الفكر البشري. كتب (الغزالي) في مقدمة " تهافت الفلاسفة": (أما بعد، فإني قد رأيتُ طائفة يعتقدون في أنفسهم التميز عن الأتراب والنظراء، بمزيد من الفطنة والذكاء، قد رفضوا وظائف الإسلام من العبادات، واستحقروا شعائر الدين.. وغير بحثٍ نظري صادر عن التعثر بأذيال الشبه الصارفة عن الصواب، والانخداع بالخيالات المزخرفة كلامع السراب.. وإنما مصدر كفرهم سَمَاعهم أسماء هائلة، كسقراط وبقراط وأفلاطون وأرسطوطاليس.. فتصنعوا الكفر، لكي يتميزوا عن سواد الناس الغالب، ظناً منهم أنَّ الكفر من أمارات الفطنة والعلم. وهم لو تدبروا الأمر قليلاً، وفحصوا آراء الفلاسفة، الذين تكلفوا التشبه بهم، لاتضح لهم مقدار جهلهم وشططهم، وتبين لهم اتفاق كل مرموق، من الأوائل والأواخر، على التسليم بأصول الدين الكبرى، وهي: الإيمان بالله، واليوم الآخر)
---------
الهوامش:
1. (الغزالي)- المنقذ من الضلال- تحقيق جميل إبراهيم حبيب- دار القادسية- 1984- بغداد- ص42.
2. (الغزالي)- معيار العلم- تحقيق د. سليمان دنيا- دار المعارف- 1961- مصر- ص17.
3. (الغزالي)- قانون التأويل- تحقيق محمود بيجو- ط1- 1993- دمشق- ص19.
4. ابن رشد- تهافت التهافت- تحقيق وتقديم وشرح محمد عابد الجابري- مركز دراسات الوحدة العربية- ط2- 2001- بيروت- ص456.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق