تعاني الجامعات العراقية من أمراض عديدة، وعلى كافة المستويات،
بدءا من أعداد الطلبة الهائلة، والمستويات العلمية المتدنية لقطاع كبير من هيئات التدريس،
وإشكالية لغة التدريس، مما لا يمكن حصره في مجال ضيق كهذا، حتى أن أحد المختصين وصف
حالة الجامعات العراقية بأنها مصابة بمرض الشيخوخة المبكرة (البروجوريا)، وهو مرض عضوي
يصيب الأطفال، ويبدون كأنهم شيوخ في نهاية العمر، ولا يوجد علاج لهذا المرض إلى حد
الآن.
وقد يستغرب القارئ من جمع
مفهومين في مصطلح واحد، فالأمر ممكن إذا أردنا تقريب المسألة إلى ذهن القارئ، فالبيروقراطية
مفهوم يتم استخدامه في العلوم السياسية والاجتماعية، يشير إلى تطبيق القوانين بكافة
الأساليب المشروعة واللامشروعة، تحت ستار الحفاظ على النظام، أيا كان هذا النظام: صالحا
أم ظالما.
وإذا كان المعنى الحرفي للبيروقراطية يعني حكم المكاتب، فإن المعنى
الأول قد طغى على المعنى الحرفي، فصارت البيروقراطية تجسيدا للفساد، والعدو الخطير
للتقدم، فصار البيروقراطي هو الذي يدوس على الأدنى منه، ويرضي من هو أعلى منه بكل السبل،
وذلك للوصول إلى ما يطمح إليه !
ومع شديد الأسف أن يقترن هذا المفهوم السيء، مع الساعين لنيل الألقاب
العلمية من الهيئات التدريسية في الجامعات العراقية، بكل السبل، وممن حصلوا عليها،
حيث أن الممارسات التي يقومون بها لم تؤد إلى النهوض العلمي، بقدر ما أدت إلى تدهوره.
فمقياس الكفاءة العلمية يكاد يكون معدوما في الحصول على الألقاب العلمية، ليحل محله
عدد البحوث العلمية فقط، مهما كان نوعها، والشهادة العلمية مهما كان مصدرها، ومهما
كانت مشروعيتها، ومصداقيتها !
ففي (بريطانيا) مثلا، يتم الاعتماد على (70% - 80% )في مقياس الترقية
العلمية على كفاءة التدريس، والتي يكون الطلاب النابهون جزءا من عملية التقييم، حيث
تقوم لجان خاصة بتقييمه سريا، وإعطائه الفرصة للتدريس، بتحسين أدائه في حالة عدم تطابقه
مع الأداء اللازم، وتبقى بقية درجات التقدير على البحوث العلمية، والفعاليات الأخرى.
أما في جامعاتنا، فإنه بمجرد الحصول على الماجستير أو الدكتوراه،
ومن أي مصدر كان، فإن التدريسي يضع رجليه على السلم، بغض النظر عن كفاءته، وقابليته
لنقل المعلومات، ومقومات شخصية أخرى، لتدور كل أفكاره بعدها، نحو الصعود إلى الدرجات
الأعلى، بـ(عدد) البحوث المقدمة، أيا كان نوعها، ومستواها، والتي في معظمها لا تقدم
ولا تؤخر، ولا تنشر إلا في مجلات محلية، وإن نشرت فلا تجد مجالا للتطبيق إلا ما ندر،
ويبتعد حامل اللقب العلمي عن التدريس المتعب، وما يتبعه من واجبات، ليجلس على كرسيه،
وأمامه لقب (أستاذ دكتور)، ولا يجيد غير عملية النقد والاستهزاء !
وفي اثناء دراستي للهندسة في (جامعة نيوكاسل)، في (بريطانيا)، كان
رئيس القسم يحمل البكالوريوس فقط، وهو بدرجة مدرس، بينما تحمل إحدى المنتسبات شهادة
ما بعد الدكتوراه (pphd)، وهي معيدة، وكان نائب رئيس الجامعة، وهو الرئيس
الفعلي للجامعة، حيث أن رئاسة الجامعة في بريطانيا تكون رئاسة فخرية، وكان يحمل شهادة
الماجستير فقط، وهو بروفسور! وقد أعطى 32 شهادة
دكتوراه، وعشرات شهادات الماجستير، وهو رئيس تحرير مجلتي الهندسة الميكانيكية البريطانية،
والهندسة الزراعية البريطانية، ويدرس طلاب البكالوريوس في المرحلة الأولى!
هذه الصورة ليس لها وجود على الإطلاق في جامعاتنا، حيث لا وجود
لمعيار الكفاءة مطلقا. فترى في بعض الأقسام عشرات الحاملين للقب الأستاذية، في سابقة
خطيرة لا وجود لها في أي مكان بالعالم، إلا في البلدان المتخلفة، وصارت مسألة الحصول
على لقب الأستاذية تثير السخرية بين أعضاء هيئة التدريس. وضمن هذه الدائرة المفرغة
يجري التسابق على المناصب، بدءا من استلام عمادة الكليات، إلى رئاسات الأقسام، إلى
الحصول على الإيفادات والمنح والسفر للخارج، وأخذ المقاولات في المكاتب الهندسية، وغيرها.
فمجرد حمل لقب (أستاذ دكتور) يعد جوازا للولوج لكل المناصب والهيئات.
إن ما نذكره هنا إنما هي بعض الجوانب القاتمة لصورة التعليم العالي
في جامعاتنا، حيث تكاد الكفاءة تنعدم تحت زحمة التدافع البيروقراطي لأصحاب الألقاب
الفخمة، والذين يوصدون الأبواب بوجه الكفاءات، تحت حجة عدم حمل الألقاب العلمية، وظاهرة
بيروقراطية الألقاب العلمية ترقى لمعاداة الكفاءة، بكل ما تحمله الكلمة من معنى، حفاظا
على المصالح المكتسبة، وخصوصا المادية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق