د. أياد كامل الزيباري
إن المتتبع لنصوص الشريعة يجد أنها تقوم على رعاية مصالح العباد، في
العاجل والآجل، من جلب منفعة، أو دفع مضرة. وتحقيق المصالح، سواء كانت لفرد أو
لمجتمع، تحتاج إلى قوة تحمي هذه المصالح، خصوصاً في العصر الحديث، التي تتجمع فيه
قوى الشر ضد الحق والعدل، وهذه القوة لا بد لها من دولة تحميها، حتى تؤتي
أكلها، وهذه الدولة وقوتها لا يمكن أن تنشأ بين ليلة وضحاها، بل تحتاج إلى تخطيط
وإعداد وتنفيذ، مع صدق النوايا وإخلاص العزيمة والإيمان الكامل بحتمية إقامة شرع
الله وتطبيقه في كل المجالات. وهذا الأمر يرتبط بموضوع المقاصد الشرعية، وسياسة
التدرج كفيلة بتحقيق ذلك. ويمكن أن نوجز العلاقة بين سياسة التدرج ومقاصد الشريعة
في النقاط الآتية:
1. إن
من أهم مقاصد الشريعة عمارة الأرض، والقيام على المهمة التي كلف الله (عز وجل) بها
الإنسان، من نشر التوحيد وإقامة العدل والإنصاف بين أبناء البشرية جمعاء. وهذا لا
يكون إلاّ بالتدرج في تطبيق الشريعةالإسلامية، ثم التمكين لهذه الأمة(1)
2. إن من أهم الوسائل لتحقيق المقاصد الشرعية: الوحدة
الإسلامية. بل إن الإسلام ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك ، وهو: الوحدة الإنسانية. قال
تعالى: [إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ
فَاعْبُدُونِ](2)، وهذا لا يتحقّق إلا بتطبيق الشريعة الإسلامية، ولو بالتدريج(3).
3. إن وظيفة الشريعة الإسلامية هي الحفاظ على مقاصد
الشريعة، وذلك بحماية الدين، ورعاية مصالح العباد(4).
4. تمثل سياسة التدرج، في ضوء الفهم المقاصدي، الطريق
الأمثل للتعامل مع فقه الواقع، وللموازنة بين المصالح والمفاسد المتعارضة. إذ إن
مقاصدَ الشريعة تمثل المرتكز الأهم لسياسة التدرج، وتطبيق الشريعة(5).
5. إن لسياسة التدرج أثراً مهماً في بيان يسر الشريعة
الإسلامية، وذلك بمراعاتها لمصالح العباد، وأعراف الناس، ما لم يعارضها معارض(6).
وعلى ذلك، يمكن القول إن الأمة الإسلامية اليوم في أمسِّ الحاجة إلى
فقه المقاصد، ذلك الفقه الذي ينظر إلى مآلات الأمور وعواقبها. وذلك لأننا لسنا
أمام جزئيات فقهية، بل أمام نظم أخرى منافسة، وحيث إن الشريعة الإسلامية مبنية على
الحكم ومصالح العباد في الدنيا والآخرة، قال ابن القيم: "فإن الشريعة مبناها
وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد،وهي عدل كلها،ورحمة كلها،
ومصالح كلها،وحكمة كلها"(7)، فلا بد من مراعاة هذه الحكم والمصالح فيما يستجد
من أمور، خاصةً فيما يتعلق بالسياسة الشرعية، بل في هدفها الأول، وهو تطبيق
الشريعة الإسلامية، والتمكين في الأرض.
مقاصد تطبيق الشريعة الإسلامية
هناك عدة مقاصد ومصالح شرعية وفضائل في تطبيق الشريعة الإسلامية،
ومنها:-
أولاً : تحقيق العبودية لله تعالى، وذلك بالتحاكم لشريعة الإسلام.
ولعلّ من أهم مقاصد تطبيق الشريعة الإسلامية، توحيد الله تعالى،
وإفراده بالعبودية، لأن شريعتنا شريعة ربانية، تقصد إلى تحقيق مصلحة الخلق في
الدارين، وذلك بجلب مصالحهم، ودرأ المفاسد عنهم، وهو المقصود من كل الشرائع
السماوية، وهذا لا يكون إلاّ بتمام العبودية والإخلاص لله تعالى، وإفراده (جل
وعلا) بالعبادة والتوحيد، والطاعة والتسليم لحكم الله وشرعه. فكلمة التوحيد تتضمن
إفراد الله تبارك وتعالى بالحكم والتشريع، وهي تعني الكفر بالطاغوت، والإيمان
بالله(8).
فالحكم والطاعة المطلقة إنما هي لله ولرسوله (صلّى الله عليه وسلم)،
لقوله تعالى: [إِنِ الْحُكْمُ إِلاّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ
إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ
يَعْلَمُونَ](9)، وقوله تعالى: [ يَا أَيُّهَا الّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّهَ
وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ](10)، فلا حلال إلاّ ما
أحلّه الله تعالى، ولا حرام إلاّ ما حرّمه الله تعالى، ولا تحاكم إلاّ لما شرعه
الله جل وعلا من أحكام الشريعة الإسلامية، لقوله تعالى: [قُلْ إِنَّ الأَمْرَ
كُلّهُ لِلّهِ](11).
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية (رحمه الله): "فالإسلام يتضمّنُ
الاستسلام لله وحده، فمن استسلم له ولغيره كان مشركاً، ومن لم يستسلم له، كان
مستكبراً عن عبادته، والمشرك به والمستكبر عن عبادته كافر، والاستسلام له وحده
يتضمّن عبادته وحده وطاعته وحده، فهذا دين الإسلام الذي لا يقبل الله غيره، وذلك
إنما يكون بأن يطاع في كل وقت، بفعل ما أمر به في ذلك الوقت"(12).
ويجب أن يعلم جميع المعارضين لتطبيق الشريعة الإسلامية، أن تطبيق
الشريعة والتحاكم إليها حق خالص لله تعالى، فلو لم يكن إلا التسليم لأمر الله
تعالى بالتحاكم لشرعه، لكان كافياً شافياً في وجوب الالتزام بتطبيق الشريعة
الإسلامية. وعلى هذا فلا تحاكم لرغبات الشعوب وأهوائها، ولا حق للبرلمانات في مخالفة
شرع الله تعالى، ولا يحق للحزب الحاكم أن يُحرّم ويحلل بهواه، وليس لأيّ أحد الحق
في الخروج على حكم الله تعالى.
ثانياً: تحقيق العدالة بين الناس
من المبادئ الأساسية في الشريعة الإسلامية العدالة في كل زمان ومكان،
ومع كل الأشخاص، فليس لأحد أن يظلم غيره، أو أن يأكل حقه، أو يطمع في جهده، لأن
هذا منافٍ للعدالة التي أوجبها الله تعالى حتى مع الأعداء، فلا فرق بين غني وفقير،
ولا بين قوي وضعيف، ولا بين حاكم ومحكوم(13). قال تعالى: [يَا أَيُّهَا الّذِينَ
آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ
شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى
وَاتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ](14).
والعدلُ أساس شامل لكل ميادين الحياة، كونه قيمة عليا، وأساساً
للتعامل في المجتمع الإسلامي، في مختلف أوجه التعامل والعلاقات، وهو أيضاً قوام
الدولة ونظام الحكم فيها، وهو مبرر وجود جميع المؤسسات والأجهزة، وأساس شرعية
القوانين والأحكام والقرارات كافة، بل هو الشرع كله، وهو "قبل كل شيء عدالة
إنسانية شاملة لكل جوانب الحياة الإنسانية ومقوماتها، وليست مجرّد عدالة اقتصادية
محدودة. وهي إذن تتناول جميع مظاهر الحياة وجوانب النشاط فيها، وتتناول الشعور
والسلوك والضمائر والوجدانيات والقيم التي تتناولها هذه العدالة، وليست القيم
المادية على وجه العموم، وإنما ممتزجة بها القيم المعنوية والروحية
جميعاً"(15).
فالعدلُ في الشريعة ليس حقاً، وإنما فريضة واجبة، فرضها الله تعالى
على الكافة دون استثناء: فرضها على رسوله (صلى الله عليه وسلم) ، وأمر بها، فقال
تعالى: [فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلاَ تَتَّبِعْ
أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ
لأَعْدِلَ بَيْنَكُمْ اللّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ
أَعْمَالُكُمْ لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ اللّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا
وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ](16). وهو فريضة واجبة على أولياء الأمور، من الولاة
والحكام، تجاه الرعية والمتحاكمين، فقال تعالى:
[إِنَّ
اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا
حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا
يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا](17). وقد أمر الله تعالى
بالعدل في كل شيء، قال تعالى: [إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ
وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ
يَعِظُكُمْ لَعَلّكُمْ تَذَكّرُونَ](18)، بل حتى مع الأعداء قال تعالى: [يَا
أَيُّهَا الّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ
وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ
أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا
تَعْمَلُونَ](19).
وقد لخص (الراغب الأصفهاني)، مجالات العدل، وبيّن أنها تشمل كل شؤون
الحياة، ومن أبرزها خمس كما ذكرها، وهي:
الأول: بين الإنسان وبين ربِّ العزة سبحانه وتعالى، بمعرفة توحيده
وأحكامه.
والثاني: بين قوى نفسه، وذلك بأن يجعل هواه مستسلماً لعقله. فقد قيل:
أعدل الناس، من أنصف عقله من هواه.
والثالث: بينه وبين أسلافه الماضين، في إيثار وصاياهم، والدعاء لهم.
والرابع: بينه وبين معامليه، في أداء الحقوق، والإنصاف في المعاملات،
من البيع والشراء، والكرامات، وجميع المعاوضات والإجارات.
والخامس: بث النصفة بين الناس على سبيل الحكم، وذلك إلى الولاة
وخلفائهم(20).
فالمكانة التي جعلها الإسلام في تشريعه للعدل لم تجعلها له أي شريعة
سابقة، ولم يبلغ مثلها مكان العدل في أي نظام قانوني قديم أو حديث(21).
ثالثاً: تحقيق التنمية والرخاء الاقتصادي
إن الشريعة الإسلامية هي التي تسعى لتحقيق الرخاء الاقتصادي لكل من
يعيش على أرضها، وتضمن حد الكفاية بشروطه وضوابطه، لكل فرد من أفراد مجتمعها، من
المسلمين، ومن غير المسلمين، من أهل ذمتنا، ممن يعيشون على أرضنا، ما لم يخونوا أو
يغدروا أو يتحالفوا مع عدوٍّ ضد بلدانهم. وكذلك الحفاظ على الملكية العامة،
والخاصة، في الوقت ذاته، فشريعة الإسلام تحمي الملكية العامّة والخاصّة، وتحافظُ
على المال العام من النهب والسرقة، وذلك عن طريق تشريع الحدود الرادعة لكل من تمتد
يده إلى المال العام. فالشريعة الإسلامية هي التي تضمن للجميع حد الكفاية، وذلك
بما يضمن لهم حياة كريمة عزيزة، دون منة أو تفضل من أحد، فالجميع خلق الله تعالى،
والمال مال الله تعالى استخلفنا فيه، وجعل للفقراء حقوقاً في أموال الأغنياء،
ليعيش الجميع في عزةٍ وكرامة(22).
وإن حد الكفاية أو الغنى، كما هو معلوم، يوفره الإنسان لنفسه،
وتساعده الدولة المسلمة على ذلك، بتوفير أجواء من الحريات، والتشجيع على العمل
والاستثمار، أو توفير فرص العمل المناسبة، أو غيرها من صور الكسب.
وقد
أعلى الإسلام من شأن السعي والعمل، وجعل من مقاصد الخلق والوجود: تعمير الكون
وتنمية الإنسان، ليكون خليفة لله في أرضه، لقوله تعالى: [هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنْ
الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا](23)، وقوله تعالى: [وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ
لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً](24)، فالإنسان خلقَهُ
الله تعالى لغايةٍ سامية، أن يعمل وينتج ويتعلّم ويدرس ويعبد الله ويشكره، وبلغ من
حرص الإسلام على العمل والتنمية أن أمر الشارع المسلم بالغرس والعمل، ولو قامت
القيامة، لما ورد عن النبـي (صلّى الله عليه وسلّم) أنه قال: (إِنْ قَامَتِ
السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِن اسْتَطَاعَ أَنْ لاَ تَقُومَ
السَّاعَةُ حَتَّى يَغْرِسَهَا، فَلْيَفْعَلْ)(25).
وأما إذا عجز الإنسان عن توفير حد الكفاية لنفسه، مؤمناً كان أو غير
مؤمن، وذلك لمرض أو شيخوخة أو أي صورة من صور العجز، فإن الدولة الإسلامية تكفله
وتضمن له حد الكفاية، بل حد تمام الكفاية من أموال الزكاة.
رابعاً: رعاية مبدأ التدرج في تطبيق الشريعة
إن من أهم محاسن تطبيق الشريعة الإسلامية: أنها شريعة تراعي مبدأ
التدرج في التطبيق، ومراعاة أحوال الناس، وعوائدهم وأعرافهم، ومدى فهمهم لأحكام
الشريعة ومقاصدها، وكذلك مراعاة لنهج الشارع في بداية التشريع، فقد تدرج التشريع
في فرض الفرائض، وفي تحريم المحرمات، فلم يفرضها جملة واحدة، بل تدرّج بهم في
التشريع، وفي تفاصيل الأوامر والنواهي، على مدار ثلاث وعشرين سنة، هي عمر البعثة
النبوية، فكان القرآن ينزل خلالها بأصول التشريعات مجملة، ثم بتفاصيلها.
ونقصد بالتدرّج في التطبيق أمرين:
أحدهما: بيان الأحكام الشرعية للناس، الذين يجهلون تلك الأحكام،
بصورة تدريجية، بحيث يتم التدرّج في التعريف والتطبيق للأحكام الشرعية من الأيسر
فاليسير، ومن الأسهل إلى السهل فالأشد، من أجل أن ينخرطوا في دين الله بيسر وسهولة
وقناعة.
والثاني : تقنين الأحكام الشرعية، بقصد الانتقال من التحاكم للقوانين
الوضعية المطبقة، إلى التحاكم للقوانين المستمدة من الشريعة الإسلامية، مع مراعاة
عدم الاستعجال، بل يجب السير في خطوات مدروسة، وفق مخطط زمني محدد، بقصد ألاّ يمل
الناس، فينعكس ذلك سلباً(26).
وهذا واجبُ العلماء في شتى المجالات الشرعية والقانونية، وواجب
الحكام وولاة الأمر، الذين يجب عليهم الحكم بما أنزل الله تعالى.
خامساً : حماية الحقوق والحريات واحترامها
إن من المقاصد المهمة المترتبة على تطبيق الشريعة: أنها شريعة تحترم
الحقوق والحريات، فلكل إنسان يعيش في المجتمع الإسلامي حقوق يستوفيها كاملة، وعليه
واجبات يجب أن يؤديها كاملة، فكلُّ حق يتبعه واجب: فهو حرٌّ، لكنه مسؤول عن حريته،
وهو بالفعل يتمتع بكل الحقوق، وعليه أن يؤدي جميع الواجبات المنوطة به، وإلاّ كان
مقصراً في حق دينه ووطنه(27).
فالدولة الإسلامية هي دولة الحقوق والحريات، إيماناً والتزاماً، لا
دعاية وكلاماً. إن حق الحياة، وحق التملّك، وحق الكفاية من العيش، وحق الأمن على
الدين والنفس والعقل والنسل والمال، تعد في نظر التشريع الإسلامي من الضروريات
الخمس، التي أنزل الله الشريعة للمحافظة عليها، ولا يجوز لأحد أن يفرط فيها. وقد
أوجب الشارع العقوبات الرادعة، من الحدود والقصاص، لحمايتها من العدوان عليها(28).
ففي الحرية الدينية - مثلاً- قرّر الإسلام رفض الإكراه في الدين،
والإيمان الحقيقي يكون عن طريق حرية الاختيار والاقتناع الحر، قال تعالى:
[لاَ
إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ
بِالطّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى
لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ](29)، فالحرية الدينية، كما عبّر
عنها الشيخ الغزالي (رحمه الله)، (اختراع إسلامي)(30)، فقد جاء الإسلام لتحرير
الإنسان من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، كما قال الصحابي الجليل (ربعي بن
عامر): "نحنُ قومٌ ابتعثنا الله، لنُخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة
الله ربِّ العالمين، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة"(31).
وأكّد الإسلام احترام آدمية الإنسان ومراعاة حقوقه، بناءً على تكريم
الله تعالى، قال تعالى: [وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي
الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى
كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً](32)، "وقد جمعت الآية خمس مِنَن:
التكريم، وتسخير المراكب في البر، وتسخير المراكب في البحر، والرزق من الطيبات،
والتفضيل على كثير من المخلوقات"(33).
وعليه
فإن صورة تكريم الإنسان لا تقتصر على النواحي التي ذكرنا فحسب، بل إن هناك جوانب
عديدة وصور متنوعة لتكريم الله تعالى للإنسان، ومن أبرزها: تكريم الإنسان بالعقل
والفهم والفكر، وتحمّل الأمانة، وهي التكليف، فلم يجعله الله تعالى كالجمادات، أو
كالحيوانات، التي لا تعقل، وكذلك إرسال الرسل وإنزال الكتب، لدعوة الناس، والأخذ
بأيديهم إلى طريق الهداية، وغير ذلك.
سادساً: تحقيق مصالح الخلق في الدارين
ومن المقاصد العامة للشريعة الإسلامية: أنها وُضعت لتحقيق مصلحة
الخلق في الدارين، في كل أحكامها وتكاليفها، وذلك بجلب مصالحهم، ودرء المفاسد
عنهم، سواء كانت مادية أو معنوية، دنيوية أو أُخروية، فجميعُ الأحكام الشرعية
الواردة في الكتاب والسنة مقصودها مصلحة المكلفين، وذلك بإجماع علماء الإسلام.
وقد أرجع (العز بن عبدالسلام) مقاصد القرآن والسنة إلى جلب المصالح
ودرء المفاسد، يقول: "وإننا لو تتبعنا مقاصد ما في الكتاب والسنة، لعلمنا أن
الله أمر بكل خير، دِقّه وجِلّه، وزجر عن كل شر، دِقّه وجِلّه، فإن الخير يُعبّر
به عن جلب المصالح ودرء المفاسد، والشر يعبّر به عن جلب المفاسد ودرء
المصالح"(34)، قال تعالى: [فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه
* وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه](35).
وقد ورد عن الكثير من العلماء ما يبيّن أن الشريعة وُضعت لمصلحة
العباد، يقول (ابن تيمية): "إن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها،
وتعطيل المفاسد وتقليلها"(36)، وقال (القرطبـي): "ولا خلاف بين العقلاء
أن شرائع الأنبياء قُصد بها مصالح الخلق الدينية والدنيوية"(37). وقال (العز
بن عبدالسلام): "والشريعة كلها مصالح، إما تدرأ مفاسد، أو تجلب
مصالح"(38). وعلى هذا فالمقصود من تطبيق الشريعة الإسلامية، هو تحقيق مصالح
الناس وحفظها بكل أنواعها، ودرء المفاسد والمخاطر عنهم، بكل أشكالها وصورها.
سابعاً: تحقيق الأمن والأمان الذي يفتقده العالم
شريعة الإسلام هي الشريعة الوحيدة - بأحكامها وحدودها ومبادئها -
التي تستطيع تحقيق الأمن، وضمان الأمان، للدنيا بأسرها. وإذا كان أقصى ما يتمناه
الإنسان، في أيّ مكان في الدنيا، أن يأمن على نفسه وعرضه وماله، في بلده الذي يعيش
فيه، فإن الإسلام ضمن الأمن والأمان لكل إنسان على وجه الأرض، وبيَّن أنها نعمة
امتن الله بها على خلقه، حيث أطعمهم من جوع، وآمنهم من خوف. قال تعالى:
[فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ
وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ](39)، قال (ابن كثير): "ربُّ البيت، وهو الذي أطعمهم
من جوع، وآمنهم من خوف، أي تفضل عليهم بالأمن والرخص، فليفردوه بالعبادة وحده لا
شريك له، ولا يعبدوا من دونه صنماً ولا نداً ولا وثناً، ولهذا من استجاب لهذا
الأمر جَمَعَ الله له بين أمن الدنيا وأمن الآخرة، ومن عصاه سلبها منه"(40)،
كما قال تعالى:
[وَضَرَبَ
اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا
رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ
لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ * وَلَقَدْ
جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ الْعَذَابُ وَهُمْ
ظَالِمُونَ](41)، وقد أشار النبـي (صلّى الله عليه وسلّم) إلى هذه
النعمة العظيمة، وأن من حاز الأمن وهدوء العيش، فإنما حيزت له الدنيا بأسرها، كما
ورد عنه (صلّى الله عليه وسلّم) أنه قال: (من أصبح آمناً في سربه، مُعافى في جسده،
عنده طعام يومه، فكأنما حيزت له الدنيا)(42).
ثامناً: الحفاظ على فطرة الإنسان
فشريعة الإسلام هي الشريعة التي تتلاءم مع فطرة كل إنسان على وجه
الأرض، إذا لم يخضع لأي مؤثر خارجي. يقول الله تعالى: [فَأَقِمْ وَجْهَكَ
لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللّهِ الّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ
تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ](43)، فطر الله الخلق على الإسلام والإيمان، فطرهم على
التديّن وحب الدين. وفي الحديث قال رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم): (مَا مِن
مَوْلُود إِلاّ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاه يُهَوِّدَانِهِ
وَيُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ، كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً،
هَلْ تُحِسُّون فِيهَا مِن جَدْعَاءَ)(44). والمراد بالفطرة في الحديث الشريف:
تمكن الناس من الهدى في أصل الجبلة، والتهيؤ لقبول الدين، فلو ترك المرء عليها،
لاستمر على لزومها، ولم يفارقها إلى غيرها، لأن حسن هذا الدين ثابت في النفوس،
وإنما يعدل عنه لآفة من الآفات البشرية كالتقليد، فالله تعالى خلق قلوب بني آدم
مؤهلة لقبول الحق، كما خلق أعينهم وأسماعهم قابلة للمرئيات والمسموعات، فما دامت
باقية على ذلك القبول، وعلى تلك الأهلية، أدركت الحق، ودين الإسلام هو الدين
الحق(45).
وعلى هذا فكل إنسان على وجه الأرض يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه
أو ينصرانه أو يمجسانه، ومع هذا لا تموت الفطرة في قلب هؤلاء، الذين يُهودون أو
يُنصّرون أو يُمجسون، بل يخفت ويقل تأثيرها، فإذا تعرّض الإنسان إلى ما يجلي
فطرته، أو أعمل عقله وفكره، واستعمل المنح الإلهية التي منحه الله إياها، من سمع
وبصر وفكر، في التعرف على الدين الحق، ولو أنه تعامل مع الأمر بنوع من الحيادية،
ولم يسلم زمام نفسه لغيره، ولم يُلغ عقله وفكره، ولم يتبع هواه وشيطانه، فإنه
حتماً سيهتدي إلى الإسلام والإيمان بالله تعالى(46).
ولهذا فلا عجب أن نرى الملايين من الناس، الذين أعملوا عقولهم في دول
الغرب، يدخلون في دين الله تعالى، ويشهدون الشهادتين، ويتحولون إلى الدين
الإسلامي، لأنه نداء الفطرة الكامن في قلب كل إنسان، إن رجع إلى طبيعته وفطرته
التي خُلق عليها. وبعد، فهذه بعض المقاصد والمصالح والحِكم الشرعية الحاصلة من
تطبيق الشريعة الإسلامية، ويجب علينا أن نعمل جاهدين على تطبيق الشريعة الإسلامية،
لتعود للأمة السيادة والتمكين، ولينعموا بالأمن والأمان، والعزة والكرامة، التي
وعد الله بها عباده المؤمنين، فقال تعالى: [وَلِلّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ
وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ](47).
الهوامش:
1- علال الفاسي، مقاصد
الشريعة الإسلامية ومكارمها، ص47.
2- سورة الأنبياء: الآية (92).
3- عبد الرحمن صالح بابكر،
دراسات تطبيقية حول فلسفة المقاصد في الشريعة الإسلامية، ص47.
4- الماوردي، أبي الحسن علي
بن محمد بن حبيب البصري البغدادي (ت450هـ)، الأحكام السلطانية والولايات
الدينية، تحقيق: عماد زكي البارودي، المكتبة التوفيقية، القاهرة، (د.ط)، ص 15.
وابن خلدون، المقدمة، ص211.
5- ابن القيم الجوزية، شمس
الدين أبو عبد الله بن أبي بكر (ت751هـ)، الطرق الحكمية في السياسة الشرعية، دار
ابن حزم، بيروت، ط1، 1429هـ- 2008م، ص15.
6- ابن تيمية، مجموعة
الفتاوى، ج11، ص343.
7- ابن القيم، أعلام
الموقعين، ج3، ص11.
8- عبد الناصر حمدان بيومي،
مقاصد تطبيق الشريعة الإسلامية، ص56.
9- سورة يوسف: الآية
(40).
10- سورة محمد: الآية (33).
11- سورة آل عمران: الآية
(154).
12- ابن تيمية، مجموعة
الفتاوى، ج3، ص91.
13- عبد الناصر حمدان، مقاصد
تطبيق الشريعة الإسلامية، ص60.
14- سورة المائدة: الآية (8).
15- سيد قطب، العدالة
الاجتماعية في الإسلام، دار الشروق، القاهرة، ط16، 1427هـ - 2006م، ص26.
16- سورة الشورى: الآية (15).
17- سورة النساء: الآية (58).
18- سورة النحل: الآية (90).
19- سورة المائدة: الآية (8).
20- الأصفهاني، أبي القاسم
الحسين بن محمد بن المفضل المعروف بالراغب الأصفهاني (ت502هـ)، الذريعة إلى مكارم
الشريعة، دار السلام، القاهرة، ط1، 1428هـ - 2007م، ص251.
21- د.محمد سليم العوا، في
النظام السياسي للدولة الإسلامية، دار الشروق، القاهرة، ط2، 1427هـ - 2006م،
ص201.
22- عبد الناصر حمدان، مقاصد
تطبيق الشريعة، ص 72.
23- سورة هود: الآية (61).
24- سورة البقرة: الآية (30).
25- البخاري، الأدب المفرد،
ص168، رقم الحديث 479، وجلال الدين عبدالرحمن بن أبي بكر السيوطي، الفتح الكبير في
ضم الزيادة إلى الجامع الصغير، تحقيق: يوسف النبهاني، دار الفكر، بيروت، ط 1،
1423هـ - 2003م،ج1، ص250، رقم 2709.
26- عبد الناصر حمدان، مقاصد
تطبيق الشريعة الإسلامية، ص81.
27- المصدر نفسه، ص 108.
28- د.يوسف القرضاوي، من فقه
الدولة في الإسلام، ص 49.
29- سورة البقرة: الآية (256).
30- د.يوسف القرضاوي، من فقه
الدولة، ص49.
31- ابن كثير، البداية
والنهاية، ج7، ص1786.
32- سورة الإسراء: الآية (70).
33- ابن عاشور، التحرير
والتنوير، ج15، ص164.
34- العز بن عبد السلام،
قواعد الأحكام، ج2، ص188.
35- سورة الزلزلة: الآيتان
(7-8).
36- ابن تيمية، مجموع
الفتاوى، ج20، ص48.
37- القرطبـي، الجامع لأحكام
القرآن، ج2، ص64.
38- العز بن عبدالسلام، قواعد
الأحكام، ج1، ص12.
39- سورة قريش: الآيتان (3-4).
40- ابن كثير، تفسير القرآن
العظيم، ج8، ص492.
41- سورة النحل: الآيتان
(112- 113).
42- البخاري، الأدب المفرد، ك
حسن الخلق، ب من أصبح آمناً في سربه، رقم الحديث 300، ص112.
43- سورة الروم: الآية
(30).
44- البخاري، الجامع المسند
الصحيح، ك الجنائز، ب إذا أسلم الصبـي فمات، رقم الحديث 1359.
45- ينظر ابن حجر، فتح
الباري، ج4، ص465.
46- عبد الناصر حمدان، مقاصد
تطبيق الشريعة الإسلامية، ص159.
47- سورة المنافقون: الآية (8).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق