02‏/02‏/2015

الجنرال عبدالله مينو.. رؤية مغايرة

الجنرال عبد الله مينو
محمد عبد العزيز منير
 كاتب مصري
لا جدال فى أنه جاء غازياً، وانسحب بعد هزيمة الحملة الفرنسية عسكرياً، وليس الهدف من هذا المقال تمجيد المحتل أو تبرير أفعاله؛ فمقاومة المحتل حق مقدس، وواجب ملزم، والهدف هنا هو الوقوف على جوانب شخصية (الجنرال مينو) (1750-1810)، ومقارنتها بالصورة الذهنية المنطبعة لدينا.
ما سبق كان مقدمة لازمة قبل تناول شخصية الجنرال (عبدالله مينو)، ثالث قواد الحملة الفرنسية على (مصر)، الذي إن سألت أحداً فى منطقتنا العربية عنه، سيجيبك بأنه ذلك
الجنرال متواضع المستوى، محدود الكفاءة، الذى تظاهر باعتناق الإسلام، تقرباً للمصريين، وحتى يتمكن من الزواج من (زبيدة)، فاتنة (رشيد)، تلك العذراء التي تهافت عليها شباب (رشيد)، وفاز بها الجنرال (مينو).
وبالطبع ستدهش إذا علمت أن (زبيدة بنت محمد البواب) سبق لها الزواج من (سليم أغا نعمة الله)، وطلقت منه، حسبما ورد بوثيقة زواجها من (مينو)، المحفوظة بـ(محكمة رشيد الشرعية)، وستزداد دهشة إذا علمت أن (مينو)، بعد عودته لـ(فرنسا)، تقلد العديد من المناصب الرفيعة، التي لا يتقلدها عادة سوى من تتوافر فيهم صفات القيادة والحزم (حاكماُ عاماً لتوسكاني، وفينيسيا). وإذا أكملت - عزيزي القارئ - هذه السطور إلى نهايتها، فقد تعيد النظر في ما وصل إلينا عن (مينو)، وتدرك أنه قد لا يمت للحقيقة بصلة، أو - على أقل تقدير - ليس هو كل الحقيقة.
فهناك رؤية مختلفة، تناولها الضابط (جوزيف مواريه) في مذكراته عن الحملة، والتي كانت معدة للنشر عام 1818، وتأجلت لأسباب غير معروفة، ونشرت للمرة الأولى في (باريس) عام 1984، وأصدرها (المركز القومي للترجمة) بالعربية.
وبداية نسجل أن (مواريه) لم يرتح لـ(مينو)، مثله كباقي جنود الحملة الفرنسية، لا سيما بعد البيان الأول الذي أصدره الجنرال، بمناسبة توليه القيادة خلفاً لـ(كليبر)؛ حيث حرص على تذييل البيان باسمه الجديد، "لقب (عبدالله)، الذي حمله القائد الجديد، لم يترك انطباعاً في صالحه، ولم يكن انتماؤه للجمهورية ليطفئ بداخلنا جذوة أفكارنا الدينية، التي نهلنا تعاليمها من تربيتنا الأولى، وعاداتنا القومية. فهذا الرجل المرتد عن دينه، الذي تخلى عن بلاده، ليدخل في شريعة محمد، ويرتدي العمامة، هل هو كفء لقيادتنا؟".
والتساؤل السابق يبرئ صاحب المذكرات من تهمة الإنحياز لـ(مينو)، ويطرح شكوكاً عديدة ساورت جنود الحملة بشأن صلاحية (مينو) لقيادتها، بعد اعتناقه الإسلام.
ويمكن لنا تحليل البلاغات الرسمية، الصادرة من مركز القيادة باسم (مينو)، والموجهة لجنود الحملة في (مصر)، وأهمية هذه البلاغات تكمن في أن المؤرخين عادة ما يشككون فى مصداقية البلاغات الموجهة إلى المصريين، باعتبارها محاولة من المحتل لاستمالة أهل البلاد، بينما تعبر البلاغات الصادرة من القيادة إلى الجنود، عن المنهج الفعلي للجنرال (مينو).

هل كان (مينو) إنهزامياً؟!
"لقد قلت إن الجميع، نعم الجميع، ممن لا يرضيهم إلا سماع صوت الشرف، والارتباط بالجمهورية، والصالح القومي، سيشعرون أنه ليس من سبيل آخر، ولا أية طرق شرعية ومشرفة، لإبرام أية معاهدة مع الأعداء، سوى هذه الطريقة {يقصد معاهدة مشرفة}، ولو أنني رجحت كفة مصالحي الشخصية، وغفلت للحظة عن كوني جمهورياً، أو استطعت إيثار ما هو شخصي على الازدهار العام، لما ترددت مثلكم - ولو للحظة - في الرغبة للعودة إلى بلادنا. ولكن لا أيها الجمهوريون ، لا أنا ولا أنتم فكرنا على هذا النحو، لأن مصلحة الجمهورية هي وحدها التي تقودنا، وإن استدعى الأمر فسوف نحارب ونكسب".
أما عن الصفات القيادية لـ(مينو)، فيقول (مواريه): "على الرغم من تحفظاتنا فى البداية على الجنرال مينو، بسبب تغييره اسمه، وحبه لمصر، إلا أننا لم نلبث أن اكتشفنا خصاله، وأعجبنا بها، وبعقليته المنظمة، وحبه للعسكريين، ومعرفته الواسعة بشؤون الإدارة، وأخلاقه الكريمة.. حاول أن يقودنا بلغة الإقناع، وليس بلغة الأوامر التي تتسم بالقوة والحدة، ولكن هذا لا يعني أنه لم يكن حازماً، حينما كانت الظروف تقتضي هذا..".
"لقد دأب على تقديم أية مساعدة، تقع في نطاق مسؤولياته، لأقل جندي.. لقد كان واضحاً تماماً من أسلوب تعامله الراقي، أنه تلقى تربية ممتازة.. لقد أحاط نفسه بكل من يبدون له النصيحة والمشورة، وينيرون له الطريق، ليتمكن من الاضطلاع بمهمة الإدارة على أحسن ما يكون.. لقد استطاع أن يخرس بحزمه كافة الألسنة التي أرادت الوقيعة، ولم يتورع عن الإعلان عن أية انحرافات".

هل كان مينو يخدع المصريين بإسلامه؟
هنا نورد تلك الفقرة التي تعد وثيقة مرجعية عن كيفية معاملة من وقعوا تحت الاحتلال، إذ يخاطب مينو جنوده: "إنني مستاء من العديد منكم، فقد تعالت الأصوات تكشف عن مظالم خطيرة.. إذ يسمح الجنود لأنفسهم بمعاملة السكان بغلظة وفظاظة.. ما هذا؟! كيف تكونون جمهوريين ولا تعرفون معنى الكرم؟ أيها الجنود! فلتتعلموا كيف تكونون كرماء مع المصريين.. تعلموا احترام الشيبة، تعلموا احترام النساء، تعلموا العدل. أي مجد ستكسبونه بالإساءة لرجل يرتعد أمامكم، أو حين تخطفون أو تهينون امرأته! فلتعاملوه مثلما تريدون أن يعاملكم، إذا تبادلتم المواقع.. لقد بلغتني شكاوى عن تجاوزات اقترفت في الحمامات العامة، فهناك من يريدون اقتياد نساء للاستحمام معهم، إن هذا الجرم يعاقب عليه القانون في جميع البلدان المتحضرة، فهو مدمر للعادات والتقاليد العامة. إنني آمر جميع الجنرالات والقادة العسكريين أن يردعوا ويعاقبوا بشدة جميع الجرائم التي أوردتها أعلاه".
أما عن حنكته الإدارية، فيقول (مواريه): "دفع لنا الجنرال مينو كل مستحقاتنا المتأخرة، وأعاد رواتبنا، وكفلها لنا مستقبلاً. وقد استطاع الوصول لهذا الحل السعيد بحكمته الإدارية، وبوسائل تهدف كلها لرفاهية الجيش، دون الإضرار بمصالح السكان، ولا إرهاقهم".
أما عن الهزيمة العسكرية، التي حاقت بالفرنسيين على يد الإنجليز، فيقول (مواريه): "اتخذت الخلافات القائمة بين القائد العام والعديد من المنشقين، منعطفاً خطيراً، فيه ضرر على أمن وسلامة الجيش.. وقرر الجنرال وضع حد، بموجب سلطاته، ففي الليل قام بغتة باعتقال الجنرال (رينيه) و(دوما).. وأرسلهم بحراً إلى فرنسا". ويوضح الجنرال في بيانه للقوات، السبب في اتخاذه هذا القرار، الذي أرجعه إلى "استسلام القوات التي كانت تحت إمرة القائدين، دون مقاومة، ودون أن يشن عليها هجوم منتظم".

هذه وجهة نظر أخرى عن شخصية (عبدالله مينو)، ربما يكون فيها شيء من الحقيقة، ولكنها تبين أننا لا نملك الحقيقة كلها، ولعل الوقت قد حان لإعادة النظر في مناهج التعليم فى بلادنا، فبدلاً من الاعتماد على مناهج الحفظ والاستظهار وإصدار الأحكام القطعية، سيكون من الأنفع الاعتماد على طرق تعين المتلقي على طرح الأسئلة، ولو من باب الإحكام.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق