02‏/02‏/2015

فلسفة التاريخ والبناء الحضاري


أ. محمد رشدي عبيد
إن قراءة التاريخ تضيف إلى عمر القارئين أعمار السابقين.. أمّا الوعي بالتاريخ فإنه يوظّف ثمراتِ هذه القراءة في تغيير الواقع واستشراف المستقبل، ولذلك استحال التقدّم وانعدمت النهضة عند الذين لا يَعُون دروس التاريخ وعظاته. إن الوعي بالتاريخ من أبواب صناعة التاريخ، وقد كتبت مختلف الأمم التاريخ، منها من أكّدت قيمة الدقة، ومنها من أكّدت العرض الجذاب، وقد اختلط التاريخ أحياناً بالإضافات والأساطير والتحريف، وقلَّ استخراجُ العبر منه والقوانين التي تحكم حركته، مِمّا أدى إلى تكرار الأخطاء والممارسات نفسها.. وغلب على صناعته الأشخاص ذوي العزم الشديد والمواهب الكارزمية، الذين اهتموا بالتجييش والحشد لعواطف الجماهير، دون الاهتمام بالجانب الأخلاقي والإنساني في بنائهم.
(1) وقد نشأ التاريخ الإسلامي استجابةً لحاجاتِ المجتمع، ويظهر أن المؤرخين المسلمين لم يعرفوا كتب
التاريخ اليونانية والرومانية، لأن شيئاً منها لم ينقل إلى اللغة العربية. لكنهم كتبوا للمجتمع وليس للحُكّام،
لكن كتاباتهم لم تخلُ من التأثر ببيئتهم، ونزعتهم المذهبية، وعقيدتهم السياسية، كما كانت كتابتهم ذات مسحة إسلامية، وقد داخلها الإسرائيليات.. وقد كُتبت بالتوثيق باليوم والسنة والشهر، الأمر الذي دفع بالمستشرق الفرنسي (مرجليوث) إلى مدحهم. كما كان بعض الخلفاء، كـ(معاوية)، و(المنصور)، يستمعون إلى التاريخ، ويتفاعلون مع أحداثه. ويعد (ابنُ الأثير) متميزاً في كشف السوابق الطبيعية للأحداث، ونتائجها.. لكنه كغيره لم يتعرّف على تطور الأفكار العامة التي تفسّر التاريخ، ولم يقف على التغيرات الاجتماعية العميقة، التي تظهر الأسباب الظاهرة المباشرة للحدث، أو الحالة، التي تحدث كنتيجة له أو  بسببه.. لكن قد يكون من الإنصاف أن نشير إلى (ابن خلدون/1332- 1406هـ) كمؤرّخ، لم يسبقه أحد في أيّ زمان أو مكان، حتى ظهور (فيكو)، بعد 300 سنة من زمنه. ولقد أشار (ابن خلدون) إلى أن التاريخ يزيد عن أخبار الأيام والدول مع النظر والتحقيق تعليل الكائنات ومباديها، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها.. ويرى بعض المؤرخين أن (أفلاطون) و(أرسطو) و(أوغسطين) ليسوا نظراء له، فقد حاول أن يكتشف مبادئ التقدّم الإنساني والثقافي من التاريخ.
ابو الحسن الندوي - د. عماد الدين خليل
ومن المعاصرين كتب (د.هاشم الملاح) عن فلسفة التاريخ ومدارسها المعاصرة، كما كتب (مظهر الدين صديقي) الباكستاني عن تفسير التاريخ إسلامياً، وكتب (أبو الحسن الندوي) كتاباً يغلب عليه الوصف، وشيء من التحليل، بعنوان لافت هو: (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟)، موجزاً تاريخ العالم من منظور أخلاقي وإسلامي، ملمحاً إلى الدور الحضاري الممكن لعبه من قبل العالم الإسلامي.. وكتب (د.عماد الدين خليل) عن التفسير الإسلامي للتاريخ، جمع فيه نقد التفسير المادي للتاريخ، وعرض التفسير الشامل له، وتعجّب أن تكون بعض الممارسات الفردية التاريخية الصادمة، المؤرشفة، من صنع المادة، من مثل إقدام بعض القادة على الانتحار، أو إحراق مدن مثل (روما)، من قبل (نيرون)، أو جمع بعضهم، مثل (تيمورلنك)، الجماجم، وبناء معمار منها، وغير ذلك.. وتعرَّض لنظرية (توينبـي) في التحدِّي والاستجابة.. وتطرّق إلى دور الجوانب المعنوية والرمزية والبطولية في صناعة التاريخ، مستفيداً من القرآن وسننه ومعادلاته.. وقد بيَّن (د.عماد الدين) أن المنظور القرآني للتاريخ يستهدفُ البحث عن الجوهر والمغزى من التاريخ، وهو حسابٌ موجّه لذوي البصيرة، للإفادة منه في واقع حياتهم، والتخطيط لمستقبلهم، وليس لذوي المصالح والأهواء. كما كتب (مسعود محمد) عن التفسير البشريّ للتاريخ، منتقداً التفسير المادي للتاريخ.. 
وقد أشار بعض المفكرين إلى أن صناعة التاريخ، وتغيير الأمم والشعوب إلى الأفضل، لا يكون فقط بالموعظة فقط، أو الطلب من الناس تغيير طبائعهم وآلياتهم النفسية وغرائزهم الفسلجية، دون وضع إستراتيجيات فكرية وثقافية واجتماعية للتغيير، ومشاريع مرحلية وخطط مدروسة، لتوجيه الغرائز والحاجات والمواهب والموارد الطبيعية وجهةً إنسانية وأخلاقية وحضارية، سميت بالسنن أو القوانين، وأطلق عليه البعض المنهج الاختباري أو البرهاني. أشار إلى ذلك كتاب مثل (مالك بن نبـي)، و(جودت سعيد)، و(د.علي الوردي)، و(د.عبدالوهاب المسيري)، و(د.عبدالكريم سروش)، و(د.محمد أركون)، و(د.عبدالله العروي)، و(هشام جعيط)، و(د.محمد عابدالجابري)، بالرغم من اختلاف مناهجهم البحثية وأدواتهم.
(2) إن هناك قضية لا يجب تهميشها، وهي الموضوعية والمصالح المجتمعيّة، فلا بد أن يصاحب عملنا في مجال صناعة التاريخ، وضبط صيرورة الحركة التاريخية بشكل منهجي، تغييرنا لأنفسنا، وعدم خلط الحقائق بالانفعالات، والزيادة والنقصان عليها، وضبط مصالحنا في إطار المصلحة العامة.. ومن أفضل حقب التاريخ، الحقبة التي يتوازن فيها الإنسان ومؤسساته بين العقل والضمير، وحاجات الجسد والحس والمادة والتطوّر المعرفي والإبداع العلمي، وبين مصلحة الفرد ومتطلبات الإنسانية في حدودها الضرورية للتقدّم والسلام العالمي، بالرغم من اختلاف الإثنيات والمذاهب، وأن يتجرّد الناس من العصبية، ويحكموا المنطق ولغة الحوار والقواسم المشتركة، ويتركوا الخلافات الممزقة للحمة الإنسانية، ويعادلوا بين مصالح الوطن والقوم، والوشائج الإقليمية، التي تشكّل امتداداً للهُوية الثقافية المشتركة. 
(3) إن التاريخ حركةٌ صاعدة إلى أمام، وهو غائيّ له هدف، وإن كان يخفى على البعض من فلاسفة التاريخ. ودليل ذلك الإمكانات الهائلة للتقدّم نحو المستقبل، في الدماغ البشري، وفي موارد الكون والطبيعة، لذا فالنظرة التشاؤمية للتاريخ لا مكان لها في عالمٍ يحرصُ على البقاء والتقدّم، وإن كانت بعض القِيم تختلفُ بين حقبة تاريخية وأخرى، وحضارة وغيرها، أو تبرز بشكل صارخ. لذا حين نجد ظواهرَ سلبية مستحدثة، علينا أن لا نيأس من علاجها، بل نبحث عن السبب الكامن، ونحلّل الأحداث بموضوعيّة، لنعثر عن الحل، حتى لا تتطور الأمور نحو الأسوأ.
(4) إن تاريخ العالم تختلفُ تجلياته حسب الميزات الأيكولوجية، كالبيئة والجغرافية والمناخ، فضلاً عن التاريخ ومنتجاته، مما يشكّل أحياناً وعياً قارّاً يميلُ نحو التميّز مع وعي الآخرين، فلا ينتابنا العجبُ من الفروقاتِ الحضارية والعاداتية، بل نحلّل أصداءَها، ونُجَدْوِلُها ضمن بياديغمات، فنعثر على سِرِّ التميّز..
(5) على الرغم من الأحداث الجسام التي مرَّ بها، ويمرّ، عالمنا، فلا دليل علمي أو ديني على أن نهاية العالم تحسب بالسنوات والقرون، ويحكم فيها بالتنبؤات. لذا لا بُدّ من المثابرة والتفكير في إشكالات عصرنا، ومواجهتها بمفاهيمَ عقلانية وقِيم إيمانية وتحليلات مرنة، وفق كل مستويات التحليل، وحسب قواعد المصالح المعتبرة أصولياً، لرفد حركة التاريخ الصاعدة إلى الأمام، بالرغم من كل المفارقات ونقاط الحيرة والمعالجات الفجة، وغياب المشاريع الحضارية الأصيلة لدى البعض.
(6) إن بعض الكتاب ينظرُ إلى تاريخ العالم، وتاريخنا بالذات، نظرة تشاؤمية أو دونية، أو يشكّك في حضارية صانعيه، لما ورد في وثائقه من تصرّفات غير مبرّرة، تدلُّ على مواجهة الواقع بشكل سطحيّ أو عنيف أو غير مستوعب للمكونات الثقافية أو المذهبية أو الدينية، التي كوّنت مجتمعات ذلك التاريخ. وما يقال في ذلك إن تاريخ الإنسان شريط يمتدُّ عبر آلاف السنين، وقد ساهمت في صنع تضاريسه الواقعية، عوامل شتى من اللادقة والتحيُّز والنفور والخلافات الفكرية والسياسية والفلسفية. ولا زال استنساخ تلك الخلافات يوقع المزيد من الخلخلة والاضطراب في البنية المجتمعية، ويؤخّر المسيرة الحضارية لإنسان العصر، فلا بُدّ من قراءة التاريخ بمعايير موضوعية، والتأشير إلى نقاط قوته وضعفه، والتفكير في حلول جديدة لقضايا العصر، بعيداً عن التقوقع 
د. يوسف القرضاوي
د. محسن عبد الحميد
والتعصّب والحزازات والمصالح الضّيقة. ولقد انتقد (د.يوسف القرضاوي) (المودودي) في وصم تاريخنا بالجاهلية. ولكل وجهة هو موليها، إذ لم يخل بعض السيرورة والصيرورة التاريخية، المحسوبة على السمة الإسلامية، من ضعفٍ أمام مغريات الحياة، لأسباب شتى تتعلّق بصميم بنية الإنسان، وضعفه العريق، وتزاحم الأولويات عليه، مع التعرّض لآثار الحضارات الأُخرى. كما يجب أن نعلم أن ليس كل ما كُتب في التاريخ صحيحاً، وأن تكبير الهفوات يضرّ بإرادة الأمة في تجاوز سلبيات التاريخ، كما أشار (الطبري) إلى ذلك في كتابه. ولقد ذكر (د.محسن عبد الحميد) أن أمتنا قد تخلّفت في التأصيل القانوني لمفردتي العدل والشورى. ومنهم من يذكر تقصيرها العقلاني، ورد ذلك في رد (جمال الدين الأفغاني) على المستشرق الفرنسي (رينان). ومنهم من يشير إلى موضوعة الحريّة والمساواة في الحقوق والواجبات، مما لا مكان لحصره.
(7) لا بُدّ من نبذ الخصومات والروح الطائفية والشحن المذهبـي، وتأصيل الأخوة، وترك المذاهب للحوار العقلاني والفهم الأفضل للنص على ضوء فقه الواقع، وتغليب بُعد النظر وسعة الأفق والنظرة المقاصدية، وتحويل النزعات الأنانية نحو أهداف تتوازن فيها الرؤى، وعقلنة تصريف الشهوات، وتسريبها في مسارب شرعية، أكثر يسراً، وأقل كلفة وأعباء،  للقضاء على الإباحية.
(8) لا بُدّ من ملاحظة أمور مهمة في دراسة التاريخ، منها أن مناهج كتابة التاريخ لم تسلم من النقص والزيادة، ونقل العجائب والمبالغات، وتأثير ذلك في صناعة الحدث التاريخي، وكتابة التاريخ. فلا بُدّ من إيلاء أهمية للتحقيق التاريخي، وكذلك للمسألة الحضارية، وكيفية احترام القوانين الصارمة في صناعة تاريخ أرقى، وأقل تناشزاً وصراعاً. وأن يبدو التاريخ كشريطٍ من المدافعات والمنافسات والهدم والبناء، لا يعفي المجتمع والنخبة من دورهم التوعوي، فيقحمون أنفسهم في بذل النصيحة، ولا يكون أي منهم غائباً أو مغيباً. ولقد كنت أفكر طوال خمسين سنة، في دور النخبة هذه، وكتبت مقالاً عن شيء واضح من التقصير في الرسائل الأكاديمية، التي تهتم بالجزئيات والأحداث الماضوية أكثر من الحاضر، وتلوين آفاقه، وحل إشكالاته، واستنجدت بالمعجم القرآني، وقاموس الفكر الحديث، والفكر الإسلامي، للشحن والتحريض. وبالمناسبة يمكن الاستفادة من الروح الوثابة، والعقلية الحضارية، للدكتور (عدنان إبراهيم)، الخطيب في (النمسا)، في هذا المجال، وله مقطع فيديو سجلت عليه خطبة عن جريمة اللاأبالية.
(9) البعض يقول انتهى دور الأفراد في تغيير خارطة الفكر والطريق التاريخي، فقد مضى ذلك الزمن الذي يعزى فيه لشخص واحد، مثل (ابن سبأ)، أدوارا هائلة، تغيرت بها الخارطة. وهذا لا يعني إهمال دور الفرد، خاصة في العصور السالفة، مثل دور (عمر بن عبدالعزيز)، وصانعي تاريخ العالم، الذين أشار إلى بعضهم كتاب: (أعظم مائة صنعوا تاريخ العالم).
(10) اختلط التاريخ -كما يقول (ابن خلدون)- بدسائس من الباطل، وزخارف من الروايات المضعفة. كذلك أشار (الطبري) إلى أنه نقل كثيراً من الروايات دون أن يستطيع التأكّد من صحتها، ولا زالت هذه الروايات تؤجّج العداوات، تحت ذريعة متهافتة، وكلام -كما يسميه د.عدنان إبراهيم- فارغ: وهي أن التاريخ يعيد نفسه، وليس في الإمكان أبدع مما كان. فمن قال إنه ليس بإمكان الشعوب والحضارات أن تحسن رؤية عصور من المعرفة والتاريخ والتراث والأعراق والأديان، فهذه المقولات يجب أن لا تؤخذ على علاتها، فتؤدي إلى التشاؤم، ومن ثم رؤية الحاضر بعدسة الماضي، التي قد لا تكون لامّة، بل مفرقة، واستنساخ النظرات والمواقف نفسها، وعدم تمييز العوامل الذاتية عن العوامل الموضوعية والإنسانية، أو تغليب الجوانب العسكرية والسياسية والمذهبية، والقراءات السطحية للعقائد، على الحلول الإبداعية والذكية والشاملة لقضايا المجتمع والدولة والإنسان والعلم.
(11) مراعاة سنة التدرّج في البناء الحضاري والتاريخي ضرورة حاسمة، إذ بدون ذلك يكون الاستعجال، وحرق المراحل، واجتياح قدرة الناس على التطوّر والتحمّل للتغييرات الاجتماعية والثقافية، وذلك ما يُسمّى في علوم القرآن بـ(فقه التنزيل).
(12) يؤكّد كثير من الكتاب أن الأفكار والأديان تقبلُ بالإقناع، وبرؤية الجوانب الحضارية للفكرة، والأبعاد الأخلاقية لمن يدعوهم إليها، وبقدرتهم على تأسيس المؤسسات المختلفة، لتفعيل تلك الأفكار في صور واقعية من الرحمة والشورى والعدل، وتقدير جوانب الضعف في حياة الإنسان، التي قد تجعله ينهار في لحظة، ثم يعاود الصعود. كما أن الوسائل لنشر الأفكار لا يتحتّم أن تستنسخ من الماضي، بكل سقوفه الثقافية. فالوسائل تكتيك متغير، وليس استراتيجية نصية.
(13) يؤكد (غوستاف لوبون) في كتابه (فلسفة التاريخ) أن العوامل الدينية والعاطفية لها دور مؤثر في صناعة التاريخ، كما يبيّن أنه لا بُدّ من ملاحظة نفسية كل أمة لإحداث التحولات الاجتماعية، وأن التغييرات العنيفة لا تستطيع لمس حالة الشعوب الماضية، فلا بُدّ من فلسفة تربطُ بين الماضي والحاضر، وملاءمة مقتضيات الزمن الجديدة مع تحوّلات العالم المتصلة.
(14) إن التاريخ ينطوي على عِلل عامّة، ثم على ما لا يحصى من العِلَل الصغيرة الاستثنائية، من غير أن تنشأ منها. فلا بُدّ من البحث عن كلِّ ذلك، لصناعة تاريخ أفضل للأجيال الواعدة.
(15) اللذة والألم أصلان للتلقينات التي يتكوّن منها العالم الحي، وتعلّم صناعة التاريخ يقومُ على توجيه هذين الشعورين، وتحمّل ألمٍ ما، أو خسارةِ لذةٍ ما، عاجلة، من أجل نتيجة بعيدة. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق