03‏/10‏/2017

رحلة خالدة

عَلاء الدِّين حسَن
قضت حكمة الله (عزَّ وَجلَّ) أن يكون أساس قوَّة هذه الأمَّة، بعد نعمتي الإيمان والإسلام، نابعاً مِن وحدتها وتماسكها. قال الله تعَالى: {إنَّ هَذهِ أمَّتُكمْ أمَّةً وَاحدةً وَأنَا ربكم فَاعبُدون} الأنبيَاء: 92. وقال عزَّ وَجلَّ: {وَإنَّ هَذهِ أمَّتُكمْ أمَّةً وَاحِدةً وَأنَا ربكم فَاتَّقون} (المؤمِنون: 52).
وقال رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم): ((المؤمنُ للمُؤمنِ كَالبنيَان، يَشدُّ بَعضُه بَعضاً))(1). وقال عليه الصَّلاة وَالسَّلام: ((المسلمُ أخُو المسلِم ..))(2).
وإذا كانت كلمة التَّوحيد مدخلاً إلى الإيمان؛ فإنَّ توحيدَ الكلمة سرُّ بقاء هذا الإيمان. ولقد بلغ مِن قدسيَّة تضامن هذه الأمَّة، أنْ أمرنا الله (عزّ وجلّ) بعبادات هي في أبعد غاياتها سبيل إلى تحقيق المنعة والقوَّة. قال تعَالى: {إنَّما
المؤمنُونَ إخوَة} (الحجُرات: 10). فعلى مستوى الحيِّ الواحد، شرع الإسلام صلاة الجماعة. قال عليه الصَّلاة وَالسَّلام: ((صَلاةُ الجمَاعة أفضلُ مِن صَلاةِ الفذِّ أي : الفرد بِسبعٍ وَعِشرينَ درَجَة))(3). وفي حديث آخر: ((يَدُ اللهِ علَى الجمَاعَة))(4). والذِّئب، إنَّما يأكل مِن الغنم الشَّاردة.
وعلى مستوى البلدة، شرع الله (جلَّ شأنُه) صلاة الجمعة. قال تعَالى: {حَافِظوا علَى الصَّلواتِ وَالصَّلاةِ الوُسطَى وَقُومُوا لله قَانِتين}البقرَة : 283 . والصَّلاة الوسطى – قال البعض - هي صلاة الجمعة. وقال (عزّ وجلّ): {يَا أيُّها الَّذينَ آمنُوا إذَا نُوديَ للصَّلاةِ مِن يَومِ الجمعَةِ فَاسعَوا إلَى ذِكرِ الله وَذَرُوا البَيع ..} (الجمُعة: 9). ولم يقل (عزّ وجلّ): وذروا الشِّراء؛ لأنَّه إذا لم يكن هناك بيع؛ فلن يكون هناك شراء.
وعلى مستوى العالمِ الإسلاميِّ أجمع، شرع الله فريضة الحجّ، الّتي تتكرَّر في كلِّ عام مرَّة واحدة: {وَللهِ علَى النَّاسِ حِجُّ البَيتِ مَن استَطاعَ إليهِ سَبيلا} (آل عِمران: 97). ولقد قيل: الجمعة ميزان الأسبوع، ورمضان ميزان العام، والحجّ ميزان العمر.

مَعانٍ عَاطفية:

والإسلام عندما شرع مناسك الحجّ ؛ إنَّما أراد أن يحوِّل الإيمان مِن معان نظريَّة إلى معان عاطفيَّة تربط الإنسان بنشأة الدِّين والمكافحين مِن أجل ظهوره، وبالمَواطن الأولى للوحي، وبسِيَر الدُّعاة والرُّعاة الّذين حملوا الأمانة، وعاشوا مِن أجلها؛ حتَّى أوصلوها إلينا..
ثمَّ إنَّ هذا البيت هو أوَّل مسجد بُني على ظهر الأرض لتوحيد الله، بُني على أنقاض الوثنيَّة الَّتي طالما عانى منها العقلاء، فكان مِن مراسم تحيَّة هذا البيت: أن يُطاف به سبعاً، مع التَّسبيح والتَّحميد والتَّوقير، بدءاً مِن الحجر الأسود. ثمَّ يأتي الطَّواف بين الصَّفا والمروة، إحياءً لسنَّة إبراهيم وهاجَر وولدهما إسماعيل؛ حيث تركهما إبراهيم بأمر الله، فامتثلت هاجر واثقة بعناية الله ورعايته، فجرت يمنة ويسرة سبعة أشواط بين الصَّفا والمروة، حتَّى شاء الله أن يفجر لها نبع زمزم.

حِكمَة المقَارَنة:

ولحكمة بالغة - علِمها مَن علِم، وجهلها مَن جهل- قرن الله تعَالى فريضة الحجّ بخليله إبراهيم (عليه السّلام).. قال تعَالى: {وَإذْ بوَّأنا لإِبراهيمَ مَكانَ البَيتِ أَن لاَ تُشركْ بِي شَيئاً وَطهِّرْ بَيتيَ للطَّائفينَ وَالقَائمينَ وَالرُّكَّعِ السُّجود} (الحجّ: 26).
وقال عزَّ وَجلَّ: {وَإِذ ابتلَى إبْراهيمَ ربُّهُ بِكلمَاتٍ فَأتمَّهنَّ قَالَ إنّي جَاعلُكَ للنَّاسِ إمَاماً قَالَ وَمِنْ ذرّيّتي قَالَ لاَ يَنالُ عَهدي الظَّالمين * وَإذْ جَعلنَا البَيتَ مَثابةً للنَّاسِ وَأَمناً وَاتّخِذوا مِن مقَامِ إبْراهيمَ مصلَّىً وَعهِدنَا إلَى إبْراهيمَ وَإسماعيلَ أنْ طهِّرا بَيتيَ للطَّائِفينَ وَالعَاكِفينَ وَالرُّكَّعِ السُّجود} (البقَرة : 124 125).
ابتلاه الله بالنّمرود الغارق في غيِّه وطغيانه؛ حيث قضت محكمته بعقاب في غاية الصّرامة تمثَّل في جلسة النّطق بالحكم بإحراق إبراهيم: {قَالُوا حرِّقوهُ وَانصُروا آلهتكُمْ إنْ كنتُم فَاعِلين} (الأنبيَاء: 68). فما كان موقف إبراهيم مِن هذا الابتلاء إلاّ أنْ صبر وصابر.. والصَّبر: حبس النَّفس، ومجاهدة الأهواء؛ والمصابرة: مغالبة الأعداء في الصَّبر. ولقد جاء في الحديث أنَّ جبريل (عليه السّلام) جاءه، وهو مقيَّد في القاذف في اللّحظات الحاسمة، وقال له: أليست لك حاجة؟ قال: أمَّا إليك فلا. قال: فسل ربَّك. قال: حسبي الله ونعم الوكيل!..
الله أكبر.. ما أبلغ وأجلَّ وأعمق هذه العبارة.. حسبي الله ونعم الوكيل. ولأنَّها أي: العبارة بليغة وعميقة وجليلة، فقد شاءت قدرة الله أن تتحوَّل النَّار المتَّقدة الملتهبة إلى رَوح ورياحين: {قُلنَا يَا نَارُ كُوني بَرداً وَسَلاماً علَى إبْراهِيم} (الأنبيَاء: 69). فكانت النَّار كما أراد الله تبارَك وَتعَالى.
وتتالت الابتلاءات على إبراهيم.. مِن ذلك: أمْرُ الله له بأن يذبح فلذة كبده وقرَّة عينه.. كلُّ هذه الابتلاءات؛ لأنَّ إبراهيم إمام مرسَل، والإمام المرسَل عندما ينادي فإنَّ نداءه بأمر الله يُلبَّى: {وَأذِّن فِي النَّاسِ بِالحجِّ يَأتُوكَ رِجالاً وَعلَى كُلِّ ضَامرٍ يأتينَ منْ كلِّ فج عَمِيق} (الحجّ: 27).
والحكمة الأخرى البالغة في إقران الله تعَالى فريضة الحجّ بأبي الأنبياء، هي تعليم الله لنا بأن نجعل مِن حجِّنا إلى بيته الحرام بوابة التَّضحية مِن أجل المبادئ السَّامية والقيم المثلى. والله تعالى يقول: {إنَّ أَولَى النَّاسِ بإبْراهيمَ للَّذينَ اتَّبعُوهُ وَهَذا النَّبيّ وَالَّذينَ آمنُوا} (آل عِمران: 68).
فهل عاهدنا ربَّنا (جلّ جلاله) كما عاهد إبراهيم مِن قبل؟ وهل ثبتنا انتصاراً لدِين الله، كما ثبت إبراهيم مِن قبل؟..
قد يقول قائل: ولكنَّنا ضعاف كبشر، مقارنة بأبي الأنبياء كنبيّ وأسوة! والجواب: إنَّنا عندما نطوف ببيت الله الحرام، لا بدَّ أن نقول بلسان الحال والبيان: إنَّنا حقَّاً ضعاف، وها قد جئناك يا ربَّنا ساعين ملبِّين، وليس لنا أن نسعى أو نلبِّي إن لم تقْدرنا على ذلك.
فهذا الإقرار مِن العبد لخالقه ومولاه دليل على صلته وثباته.. هذا الإقرار يعيد المسلم كأنَّه مخلوق جديد، فيعود أنقى قلباً، وأصدق عزماً، بعد أن هاجر إلى ربِّه متحمِّلاً وعثاء السَّفر، و(السَّفر قطعة مِن العذاب)، وباذلاً مِن نفسه وماله.. فالحجُّ يجمع بين المال والبدن، ويعبِّر عن أبعد معاني المساواة: ففي صلاة الجماعة يقف كلُّ إنسان بجوار أخيه الّذي يصطفّ عن يمينه وشماله، الصَّغير بجانب الكبير، والغنيُّ بجانب الفقير، ولكنَّهم يتمايزون بملابسهم.. أمَّا في الحجّ، فإنَّ النَّاس يتجرَّدون مِن الثِّياب الّتي قد يختال بها البعض، ويقتصرون على قطعتي قماش لم تعمل فيها يد الصّنعة والتَّزويق، يلبسها الملك والأمير، والمسكين والفقير، وقد تساووا كأسنان المشط.. وهذا تحقيق لمبدأ العودة إلى نقاء الطّبيعة، الّذي دعا إليه [جان جاك روسو]، وغيره مِن فلاسفة العالم، ولم يحقّقوه.
والحجّ تجسيد لمعنى السَّلام: {وَإذْ جَعلنَا البَيتَ مَثابةً للنَّاسِ وَأَمنا} (البقرَة: 125). ولقد قال عمر بن الخطّاب (رضي الله عنه): (لو رأيت فيه قاتل أبي، ما مسسته بأذى). إنَّه أمان لا نظير له، يشمل الطَّير في السَّماء، ويشمل الصَّيد والنَّبات في الأرض.
وإنَّ أعداء الإسلام يدركون خطر هذا المؤتمر، حتَّى قال مَن قال: سيظلُّ الإسلام صخرة عاتية، مادام فيه: القرآن، واجتماع الجمعة الأسبوعي، ومؤتمر الحجّ السَّنوي.

الذِّكرُ الدَّائم:

ويبقى المقصد الأوَّل مِن العبادات في الإسلام: الامتثال لأمر الله (عزّ وجلّ)، والوفاء بحقِّه سبحانَه وَتعَالى، إلى جانب تحقيق التَّضامنِ الإسلاميِّ على أوسع نطاق.. على أنَّ الحجَّ هو أكثر العبادات أثراً في ترسيخ هذه المعاني؛ ففيه توسيع لأفقِ المسلم الثَّقافيِّ والاجتماعيّ، وفيه تدريب على التَّضحية، وفيه منافع تهمُّ المسلمين، وفيه ذِكر دائم:
{فإذَا أفَضتم مِن عَرفاتٍ فَاذكُروا الله عِندَ المشعَرِ الحَرامِ وَاذْكروهُ كمَا هَداكُم وَإنْ كُنتُم منْ قَبلهِ لمنَ الضَّالينَ ثمَّ أَفيضُوا مِن حَيثُ أفَاضَ النَّاسُ وَاستغفِروا الله إنَّ الله غفورٌ رحِيم.فَإذَا قَضيتُم مَناسكَكمْ فَاذكُروا الله كَذِكرِكم آباءَكمْ أَو أَشد ذكراً} (البقرة: 198 200).
فذِكر الله هو الأساس في هذه المناسك ؛ لذلك يُسنُّ للحاجِّ أن يصيح بالتَّلبية: (لبَّيك اللَّهُمَّ لبَّيك، لبَّيك لاَ شَريك لكَ لبَّيك، إنَّ الحمدَ وَالنِّعمة لكَ وَالمُلك، لاَ شريكَ لَك).
- وإذا نعتنا الحجّ بالرِّحلة، فإنَّها ليست برحلة ميتة، وإنَّما هي رحلة إيمانيَّة كريمة مباركة تُغفَر فيها الذُّنوب، وتمحى فيها العيوب، وتطمئنُّ فيها القلوب.

الهوامش:
1– البخاريّ 467 ، ومسلم 2585 ، مِن حديث أبي موسى.
2– صحيح البخاريّ، كتاب الأدب، حديث رقم 6066. مسلم، ك البِرّ، ح 2564 ، مِن حديث أبي هريرة.
3– البخاريّ: 2/271 ، ومسلم : 2/650.
4– أخرجه التِّرمذيّ برقم 2167.

هناك تعليق واحد: