سوق الطيور
شيء من أسرار البصرة القديمة
شيء من أسرار البصرة القديمة
هالة جابر المنصور – البصرة
بصرة الـ(شناشيل) أو البصرة الـ(قديمة) كما يطلق عليها أبناءها، حيث جاءت هذه التسمية لكونها مازالت تحتفظ ببعض تراثها القائم في طلعات الشرفات وواجهاتها المزخرفة على اجود انواع الاخشاب الذي يعكس ضوء الشمس عند طلاءه بالزيت، في نفس الوقت الزجاج الملون المثبت على الشبابيك يعطي روعة الذوق والمهارة الفنية التي امتازت بها، كما انها تميزت ايضا بتقوسات الابواب والشبابيك دلالة على طابعها الشرقي الذي مزج بالمهارة الهندية، هذا التراث الذي بدأ"يندرس" تدريجيا ويصبح في طي النسيان بني بشكل يلائم اجواء هذه المدينة ذات الجو الحار المصحوب برطوبة عالية جدا في الصيف،حيث استخدم الطابوق في البناء فيما كان الخشب المادة الأساسية في هذا البناء، ودخلت أخشاب البلوط المستوردة والجاوة والجندل في هذه التركيبة، وكذلك تدخل الحصيرة المصنوعة من القصب كغطاء لعمل الاسقف ما يضفي على الغرف أجواء باردة نسبيا.لم يبقى من هذه البيوتات سوى واجهات شاحبة تطل على نهر من المياه الاسنة والازبال بعدما كان هذا النهر يشهد حركة غير طبيعية من الزوارق والابلام "واللنجات" القادمة من دول الخليج والهند وغيرها لتفرغ بضاعتها وتحميل التمور البصرية المتنوعة!!.شارع البصرة القديمة الذي يزدحم بالباعة والبسطات يخفي خلفه الطرقات ذات الدهاليز الترابية الكثيرة؛ وأسرار لا يمكن فك رموزها بسهولة الا اذا كنت تعرف غورها.. ففي صباح كل يوم جمعة يدخل الشارع المؤدي الى العشار في إنذار شديد بسبب جمهرة الناس الذين يتزاحمون قدوما إلى سوق الجمعة أو سوق (الحرامية) كما يسمى من كل المحافظة، ولا تجد النساء بين الجموع إلا ما ندر لكثرة الرجال الذين يعيقون حركتنهن. ظاهرة غريبة تسود وسط البصرة لتربك حركة العجلات والمرور بسبب قطع الشارع بالكامل،كما انه يتحول الى "بازار" غير حضاري لبيع الحيوانات الأليفة من مختلف الفصائل، فتجد فتيان وصبية يعرضون بضاعتهم من الطيور الداجنة والمتوحشة الهائجة وحيوانات مقيدة بالحبال في أقفاص إما حديدية أو مصنوعة من جريد النخل الأخضر، وبينما يتعالى صوت الباعة وصراخهم المرتفع في مزاد عشوائي يتجمهر محبي ومقتني الحيوانات للمزايدة للحصول على ما يبتغون وبسعر يناسبهم ، عالم غريب جدا ....منافسة محتدمة بين تجار ورواد هذا السوق، من يحصل على أعلى سعر؟ ومن يشتري أجمل طائر بأرخص سعر..؟.لمعرفة المزيد عن هذا السوق كان لمجلة الحوار هذه الجولة واستفسرنا من الناس هناك عن عدة أمور شاهدناها في جولتنا، فهناك العشرات من الأقفاص لطيور مختلفة الألوان والأنواع، وحيوانات مثل القردة تسنفر عيونها الرحمة ،وكلاب مختلفة الأنواع تثير فضول المشاهد لتلك الحيوانات،وأرانب يبتاعها المارة للتدجين والأكل، وقطط مختلفة الأشكال بائسة تبحث عن من يقتنيها ويدفع عنها ظلم القفص المقيت.أكد لي أبو عبدحسين وهو "احد الباعة " انه شاهد من يبيع الذئاب والحيوانات الغريبة والصقور والنسور أيضا في هذا السوق ثم بدء يصفها لي، لذلك الباعة يتعرضون بين فينة وأخرى إلى مداهمات من قبل القوى الأمنية للحد من ممارسة عملهم الذي يتجاوز القوانين ويضيق الخناق على الشارع ويعيق الحركة.إن كنت هاويا حقيقيا؛ تستوقفك أسئلة كثيرة، اولها ما مدى صحة بيع هذه الحيوانات؟ وأين قانون حماية الحيوان، أو اتفاقية المتاجرة بالأحياء البرية المهددة بالانقراض؟ ومن يقول أن الحيوانات المعروضة في السوق موطنها العراق أو العيش فيه يلائمها؟ .غياب الرقابة والاهمال الكبير في عدم العناية الصحية بالمكان؛ والسلوكيات الخاطئة في التعامل مع الطيور التي يمكن ان تحمل بعض الامراض .سيما أن أنفلونزا الطيور مرض عالمي لم ينتهي خطره. باعة هذا السوق من الطبقة الفقيرة المعدمة وأكثرهم من الأطفال، هؤلاء يعتاشون على البيع والشراء ، فقد أوضح لي احد الفتيان ان الظروف الصعبة التي مرت بها عائلته في زمن الحصار ورؤيته والدته تعاني من شظف العيش جعله يفكر في مساعدتها، وهذا ما جعله يساهم في معيشة عائلته منذ الصغر ،حيث اعتاد ومنذ زمن ان يقوم بتربية الطيور، وجعل اسطح منزله مليء بالأقفاص والطيور والتي تصل اعدادها الى حوالي 70 _75 زوج ،يبيع منها ويعيل أسرته.يضحك بقوة (مهدي) هذا اسمه عندما طلبت منه أن يعدد أسماء وانواع "الحمام " الذي يتعامل به، ومن الواضح تماما أنه ماهر في تعداد الأسماء والانواع فقد اصبح خبيرا بسبب طول الفترة التي تعامل فيها بهذه التجارة، فالطيور أصبحن عالمه وعائلته الثانية.من طرف السوق سمعت صوت فتى يقلد صوت طائر نادر يحمله معه في قفص حديدي، هذا الطير من اجمل ما رأيت شكلا وصوتا الصبي يقلد صوت الطائر كأسلوب من أساليب لفت انظار الزبائن كي يبيعه بأعلى ثمن ممكن، وقد لايدرك هذا الصبي بان الطير الذي معه ينتمي الى الطيور التي تتعرض لخطر الانقراض، لذلك يباع بأسعار غالية كما أخبرني الفتى (أحمد) الطالب في المرحلة الاعدادية، وهو يجمع مابين الدراسة والمتاجرة بالطيور، وقد علل ذلك لي بالقول العوز أرغمني على ان أمارس هذا العمل كي أخفف عن أسرتي أعباء مصاريف دراستي، ويضيف(أحمد) ان هذا النوع من الطيور الذي يبيعه من الممكن أن يصل سعره الى ارقام خيالية؛ وشرح لي مسهبا عن كيفية تدجين الطير من قبل مربيه للوصول الى مواصفات عالية توافق رغبات الزبائن.ويطلق العامة على السوق اسم سوق الحرامية لوجود الكثير من الحيوانات المسروقة التي تباع هنا. هذا السوق يطرح أمام المسئولين تساؤلا مشروعا، لماذا لازالت مثل هذه الأسواق العشوائية منتشرة في العراق؟ وهي تشكل خطرا حقيقيا من عدة نواحي أهمها البيئية على حياة الناس، بالإضافة إلى كونها تشوه المظهر الحضاري للبلد.ويشير عدد من المهتمين بالبيئة إلى أن القوانين العراقية والمحميات التي قامت الدولة باستحداثها لضمان التوازن البيئي لم تحقق أهدافها المرجوة وهو ما يؤشر إلى وجود خلل كبير في الجانب التنظيمي للمدن العراقية، وهو ما نضعه أمام أنظار السادة المسؤولين في الدولة العراقية من خلال هذا التقرير لعله يجد الحلول لديهم .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق