06‏/02‏/2014

ادب-قصة قصيرة: دراجة هوائية

مروان كردي 
تحت أنغام المسجل العتيق، وأمواج الهواء الساخنة كأزيز جهنم، تسير سيارة (دير) بسرعة متوسطة على الشارع العام، بالقرب من مجمع (مهد) الخاص بالأيزيديين، يقودها (حمزة) ذو البشرة الملفوحة بالشمس منذ سنوات، نتيجة التعب والعمل الشاق، والعرق جفّ على أركان قميصه السماوي وجعله كقماش المنطاد، وبين آونة وأخرى يبدل سرعة سيارته، التي اشتراها منذ شهر، وابنه (صلاح) يجلس بجانبه مرتدياً قميصاً خمري اللون وبشرة مائلة للبياض، وهو طالب في الصف الخامس الابتدائي، يأخذه أبوه معه كل يوم ليصيح على بضاعته الموضوعة بإتقان في الصندوق الخلفي.. البضاعة عبارة عن خضراوات وفواكه صيفية، وبين آونة وأخرى تجتازهم سيارة
(هونداي) أو (شيفروليت) أو (مونيكا) أو ...إلخ، و تمر من الجانب الآخر مركبتان طويلتان، ويعصف إعصارهما بهما بشدة. وبين حين وآخر يسأل الإبن والده:
- يا أبي، من أين يأتي الناس بكل هذه الأموال، هل كلهم أتوا بها من البقالية، كما نجمعها نحن؟
أو يقول:
- هل كانت السيارة التي مرت بجانبنا هي سيارة أستاذ سردار؟
أو يقول:
- أبي... ياليتنا نربح اليوم (نقوداً كثيرة)، ونسعد بذلك أمي وأختي..
أو يقول:
- متى تشتري لي دراجة هوائية؟ كل أصدقائي عندهم دراجات، باستثنائي أنا، أعرف واحدة مستعملة جديدة جداً، وبنصف سعر السوق، إطارها الخلفي مثقوب، ومقودها مائل قليلاً، وليس لها جرس، إنها للبيع يا أبي، لم تركب أبداً، دراجة هوائية صغيرة لم تركب أبداً.. لقد وجدتها والدتي لي من بيت يقع في ركن فرعنا.. 
والوالد بين حين وآخر ينظر إلى ابنه بحزن، بحشرجة، إنه يعلم تماماً أن ابنه في سن ليس من اللائق الإتيان به إلى البقالية، والصياح على الخضراوات والفواكه طيلة النهار، وتضربه الشمس بدون رحمة ساعات وساعات، ويرجع الاثنان إلى البيت بربح قليل يكاد يكون لا يذكر، في حين يتنعم أبناء الأغنياء والمسؤولين بالرفاهية واللعب أو النوم تحت برودة (السبليت) ونعمة الكهرباء الدائم..
وفي السماء، أشعة الشمس الدافئة تنساب إلى الأرض، كالسيف، من خلال أدخنة اللهب النارية التي ترتفع من حقول القمح المشتعلة بعيداً عن القرية، وضجيج الناس الطيبين المخلصين، ومحاولات إخمادها تتشابك مع أصوات سيقان سنابل القمح والأدغال الجافة، يا لقساوة ألسنة اللهب وجحيم حرها، الحشرات والجراد والذبابات الصغيرة والطيور وقلوب أصحاب الحقول في حزن وألم وألف حساب وحساب، نتيجة جريمة إضرام النيران في الحنطة وبأيدي مجهولين.
وفي الشارع العام، ما زالت السيارة تسير بسرعتها المعتادة، وفي داخلها (حمزة) وابنه الصغير (صلاح)، وصلا أمام القرية، واجتازتهما تواً سيارة (برادو)، و(برادو) أخرى، وبما أن الشارع عبارة عن (سايد) واحد، لذا فإن السياقة يجب أن تكون بحذر وبدراية تامة..
وبينما كانت سيارة صاحبنا تسير في جانبها الخاص، وتسير أمامها مركبة طويلة، أراد (حمزة) أن يجتازها، ومال عن طريقه، وأتى إلى الجانب الآخر من الشارع، وداس أكثر على مقود البنزين، وكاد أن يتخلص من المركبة، وإذا بالحسابات كلها تتغير في طرفة عين، وتأتي سيارة (شيفروليت) مقابلة مسرعة وجهاً لوجه، ويكافح صاحبنا أكثر من أجل أن يتخلص من الشر القادم، لكن ... فتح (صلاح) فاه، وصاح على أبيه، أبي، تمالك، وبرزت دمعة حائرة من عيني (حمزة) الدامعتين، وبلع في حلقومه علامة اليأس وهول الفاجعة القادمة، واصطدم طرفا السيارتين ببعضهما.. وتعالت أصوات فرامل الإيقاف وأصوات الاحتكاكات وشدة الاصطدام.. تحولت السماء إلى سواد تام، وتوقفت الأطيار عن التحليق، وسحبت الأفاعي رؤوسها من الأرض بفزع، وطارت سيارة طاحبنا في السماء، ودارت السيارة الأخرى حول نفسها ثلاث دورات، ثم ضربتها سيارة أخرى من الجهة الثانية، وسيارة (حمزة) ما زالت في السماء، وانقلبت انقلابة، وتبعتها بثانية، وثالثة، ورابعة، وطار (حمزة) من الزجاج الأمامي فور الاصطدام، بينما (صلاح) الصغير يدور في دوامة حلزونية داخلها، وتناثرت مكونات بضاعة صاحبنا في الشارع، امتزجت الألوان على الشارع، وانفجرت الطماطم، وتقطع القرع، وبكت الخضار بألم، وماتت حبات العنب السوداء، وصاحت البيوت الواقفة بجنب الشارع، وبكت بالوعات المياه، وانهمرت المياه على الأرض، وتعالت أصوات الرجال الذين أوقفو سياراتهم بلمح البصر، وهرع بعضهم نحو (حمزة)، وبعضهم الآخر نحو سيارة الـ(شيفروليت)، وآخرون ركضوا نحو سيارة (حمزة)، التي وقفت أخيراً على ظهرها، وما زالت إطاراتها تدور، وذرات الغبار تتطاير منها.. 
وقبل أن يصل الناس إلى (حمزة)، استقام من مكانه الذي وقع فيه، ولحظة، نسى كل شيء، وأراد أن يركض بأقصى ما يملك من قوة نحو ابنه (صلاح) داخل السيارة، لكن لسوء الحظ، لم يستطع أن يركض سوى خطوتين، وسقط على وجهه، لأن ساقه الأيمن كان قد انكسر من شدة الاصطدام، من ثم السقوط على الأرض الصلبة، وسالت الدماء من وجهه، وبكى بحرقة شديدة على حبيبه.. ومنظر المصيبة، وألوان بضاعته المنتشرة في طول الشارع وعرضه، يمزقان قلبه، ياحبيبي صلاح، فدوتك بروحي..
ووصل الناس إليه وهو في وعيه.. بينما (الشيفروليت) لم يصب سائقها سوى بكسر بسيط في جمجمته.. 
ومن الجهة البعيدة، أسرع الناس إلى السيارة المنقلبة.. وأخرجوا جثة (صلاح) منها، ما زال قلبه نابضاً، لكن وجهه ملطخ بالدماء، وجسده الصغير صار مهشماً، وبسرعة وضعوه داخل إحدى السيارات، وتأطرت دائرة حول موضع رأسه على المقعد الخلفي بدم حار، واختفت السيارة عن الأنظار، لتتجه نحو طوارئ (الشيخان). 
ووضع الناس (حمزة) في سيارة أخرى، وتوجهت أيضاً نحو (طوارئ الشيخان)، وقلبه ما زال متعلقاً بمصير ابنه المسكين (صلاح).. 
وبعيداً، حيث منزل (حمزة)، كانت (سعاد) تقضي أسعد أوقاتها أمام المرآة، وتغني من قلبها أجمل الأغاني، وهي تتمعن بدقة في وجهها المتورد كرغيف أُخرج تواً من التنور، كانت تراقب نفسها من خلال المرآة، و ثمة إحساس داخلي يخبرها بأنها لم تعد صغيرة بعد، وأنها لا بد أن تتصرف بحذر أكبر واحتشام أكثر، وبينما كانت في متاهات أحلامها الرائعة، إذا برنة من موبايلها توقضها من متاهات أفكارها.. تمسك بالموبايل وتقول في نفسها: عجباً، لم يسبق لأبي أن اتصل بنا في هذا الوقت المبكر، وضغطت على الزر الأخضر وأجابت:
- ألو بابا.. بابا تكلم..
قال لها أبوها:
- ابنتي، لقد اصطدمت سيارة بسيارتنا، وأخبري أمك أننا بخير، وللإطمئنان ذهبنا إلى المستشفى، وها هو (صلاح) يسلم عليكم، لا تقلقوا ستكون الأمور على ما يرام، سنرجع قريباً إلى البيت، لا تنشروا الخبر، لا تقلقوا..
وقبل أن يكمل (حمزة) كلامه، انفجرت (سعاد) باكية.. وسقطت على ركبتيها.. وسقط الموبايل من يدها الناعمة، وأجهشت بالعويل والبكاء، وركضت الأم من المطبخ، وهي تنشج في رنة بكاء: ماذا جرى يا ابنتي.. لماذا هذا البكاء الفجائي؟ وبمنتهى الصعوبة والألم، أخبرتها المصيبة، وبدورها ضربت على صدرها.. ولاحت أمام عينيها صورة ابنها وفقر حبيبها، وصورة دراجة هوائية لم تركب أبداً.. أبداً.. أبداً.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق