06‏/02‏/2014

هل الكلمات في صراع ابدي مع السياسة والايديولوجيا والفلسفة؟

سيروان انور مجيد 
إنّ للكلمة سلطاناً كبيراً في تغييرِ القلوب وأسْرِ العقول وتوجيهها بل وتنميطها، وجوهرُها يكمُن في تداولية استخدامها في الخطابات برمّتها، سواء أكان ذلك في الخطاب العادي أم الخطاب الفلسفي أو السياسي أو الأيديولوجي.
فالمستخدِمُ أو المرسِلُ حالَ توظيفِ كلماتهِ في مستوىً أكاديميّ راقٍ، أو حال إصدار خطاباتٍ سياسية، أو كتابة أخبار وتقارير صحفية، تستوجِبُ طبيعة ظروفه أن يكون ذا درايةٍ سياسية خلاّقة بالمشهدِ السياسيِّ الراهن، بكلِّ تلويناته وتنويعاته، وإشكالاته وإفرازاته، وأن ينظرَ بعُمق إلى الأحداث السياسية التي تعصِفُ بالعالم هنا أو هناك، أي أن عليه - بعبارةٍ أخرى - أن يخترقَ تلك الماورائية التي تحيطُ بهِ كإنسان له نزوعٌ سياسيٌّ ووعيٌّ فكريٌّ، فالكفايةُ اللغويّةُ والأداء اللغوي لا تُسعفانه من جانبٍ واحد، وإنّما عليه أن يزوِّج الخبرة اللغويَّة بالممارسة السياسية والفكرية والفلسفية، ليكون أكثر دقة وحِدة في طَرْحِ تلك الرسالة التي يوجِّهُها إلى جمهورِ المتلقين.

ومن هذا المنطلق، يُقرِّر الفيلسوف اللغوي (ألتوسير): "إنَّ الكلماتِ في الصراعِ السياسيّ، والأيديولوجيّ، والفلسفيّ، هي أسلحةٌ ومتفجِّراتٌ، أو مُهدِّئاتٌ، أو سُمومٌ، نطرحُها من خلال هذه الألفاظِ والكلمات المستخدمة، فالخطابُ يعدُّ شَكْلاً مِنَ الأشكالِ الخاصَّة للأيديولوجيا". ويضيفُ باحِثٌ معاصِر هو (د.عيسى عودة) في بحثه الموسوم بـ(تمثّلات اللغة في الخطاب السياسيّ): "إنَّ اللغة ليستْ جامدةً لأنموذجٍ واحِد، وإنّما نحنُ نشكِّلُ هذهِ اللغةَ ونضعُها في القالَبِ الذي نريدهُ تبعاً للموقفِ الذي نعبِّرُ عنه، فنحن إذن نتلاعَبُ بالعباراتِ مُتحرِّكةً كأي مادةٍ فيزيائية، أو كيميائية، خرجتْ من نطاقِها الضيِّق، وأصبح لها عالَمٌ خاصٌّ بها ونظام مُتكامِل، كما لها عالَمٌ قائِمٌ بذاتِه، لما فيهِ من خواص بنيوية ذات أنظمة تزامنيَّة، من هنا انطلقت مشكلة الخطاب وتطوَّرت اللغة تداعياً لهذه الحياة، وهناك شِفْرةٌ لغويةٌ تُضفي بنية مُحدَّدة على الأنظمةِ اللغويَّة".
فالنصوصُ السياسيَّةُ هي في المستوى الأخير عبارةٌ عن بنى لغويّة، وهي لا تنفكّ عن النظامِ اللغويِّ العام للثقافة التي تنتمي إليها، ولكنّها من ناحيةٍ أخرى تبدعُ شِفْرتها الخاصَّة، التي تعيدُ بناء عناصر النظام الدلاليّ الأصليّ من جديد. وتقاسُ أصالة النصوص، وتتحدَّد درجةُ إبداعيتها، بما تحدثهُ من تطور في النظامِ اللغويّ، وما تحققه نتيجة لذلك من تطوّر في الثقافة والواقع معاً. وعلى ذلك يمكن القول إنَّ النصوص السياسية ترتبطُ بواقعها اللغويّ الثقافي، فتتشكّلُ به من جهة وتبدعُ شِفرتها الخاصّة التي تعيدُ بها تشكيل اللغة والثقافة من جهةٍ أخرى. 
والخطابُ السياسيُّ ليس كالخطابات الأخرى: الدينية، الثقافية، الروائية... فلغته لغةٌ تواصليَّة، فيخلو من اللغة الإبداعيَّة، ولكن لا يعني هذا أن اللغةَ سلسةٌ، ولا تحتاجُ إلى تأمُّل أو فكّ شِفْرة، بل الخطابُ السياسيُّ يكتنهُ بالجمالِ الدلاليِّ والتأمُّلات، والغمُوض والإبهام، ولعلَّ طبيعةُ النصِّ السياسيِّ، كطبيعةِ بعضِ الخطابات، تحتاجُ إلى فهمٍ وتأويل. كما تحتاجُ إلى متلقٍ بارع من خلال الاستدلال المنطقيّ. ونعدُّ الخطاب السياسيّ نصّاً، موضوعه الفائدة أو الخسارة، ووظيفةُ هذا النصّ الحضّ أو التحذير، وانفعاله الخوف أو الأمل، وزمن هذا النص المستقبل. وقد يشتملُ الخطاب السياسيّ على كُلِّ تلك النصوص من خلالِ التناص.
وتأسيساً على ما سبق، فإنّ الكلماتِ في صراعٍ مستمرّ مع السياسة والأيديولوجيا والفلسفة، فكلّما زادت اللعبة بروح الكلمات، زادتِ الشَّرارةُ الديناميكيَّة للغة، وعليه فإذا ما حاول المرسِل توظيف كلماته وتسخيرها للوحته الموجَّهة، أمكنه الوصُول إلى سدَّة الإقناع، ومن ثمَّ الاقتناع، ومثله في ذلك مثل الخبّاز الذي يلعب بعجينه، فهو يحوِّله كيفما يشاء إلى أشكالٍ وهيئاتٍ شتَّى، هذا، والكلماتُ بما لها من سطوةٍ وفاعليَّة، فالمتلقي بحاجةٍ إلى خلفيَّة ثقافيَّة، والخطابُ الذي يكتنِهُ بالسلطة المعرفية، ويكتنزُ بالقدرة والفاعليَّة، هو أحوجُ ما يكونُ إلى مُتلقٍ مثاليّ، لأنه ليسَ كلُّ متلقٍ يُمكنه فكّ شفراتِ الباث، فأحياناً نجدُ عند الباث ثقافة متعدِّدة ومتنوعة، وهي تحتاجُ في الوقتِ نفسهِ إلى متلقٍ مثاليّ، بحيث يفهم ما يتلقّاهُ من نصوصٍ وخطابات، وعليهِ فإذا كان المتلقي ذا قَدْرٍ ضئيل من المعرفة، كان التفاهُم عسيراً بين قطبـي قناة التواصُل.
ومن هنا، تُصبح اللغةُ نقمةً على ذلك الجمهور الذي يتلقّى الخطاب، بعدما كانت نعمة له، لأن المرسل قصد فرضَ هيمنةٍ معنويَّة على المتلقي، والمتلقي الذي لا يفهم المادَّة اللغويَّة التي تملى عليه، فهو يُسيء إلى حقيقة تلك المادَّة نفسها، ويعيدُ إنتاجها بفهمٍ مغلوط، أو بعيد عن المعنى الحقيقي، الذي أرادهُ الباثُّ من خطابهِ أصلاً، وهناك في الضفّة الأخرى أيضاً مرسِلون للخطاب يُسيئون استخدام اللغة، ولا يحسبون للمتلقي حساباً، بل ويحسبُون جمهور المستقبلين لوحاتٍ جامدة بألوانٍ باردة، لا يعرفون حقيقة الشِفرات التي يقومون بتوجيهها إلى الآخرين، وإنّما يوجِّهون كلماتهم الموقوتة إلى المجهول. والذي يؤسف له أنّ السياسيِّين كثيراً ما يُضلِّلون عوام الناس باللعب على فلسفةِ الكلمات، فالكلماتُ ولا سيَّما إذا صدرت عن الزعيم، تُتَّخذ صفة القداسة وتُصبح مُقدَّسة، ولكأنّها كلام الرسول (عليه الصلاة والسلام)، وهذا ما نراهُ واضحاً على امتداد دول العالم الثالث، ومن هنا تكون الطامَّة الكُبرى!
وفي نهاية المطاف، يجملُ بنا أن نوجِّه رسالتَنا إلى جمهورِ المستقبلين، سواءً أكان ذلك المستقبِل مُستقبِلاً لخطابٍ سياسيِّ أو أيديولوجيِّ أو فلسفيِّ، عليه أن يشكّ في مصداقيَّة تلك الخطابات، التي تحلُّ عليه ضيفاً ليلَ نهارَ، حتى يصِلَ إلى الحقيقة المرجوة، فضلاً عن تسلّحه بفنون الألعاب اللغويَّة، ومعرفته بالسياقات التاريخيَّة، واستكشافه للماهيات الماورائيَّة، فالكلمات كالألغامِ الموقوتة، إن لم تُحسِنْ إبطالَها، أو الاستفادةَ منها، بالعدِّ العكسي، وتوظيفها لخدمتك، فإنها ستؤدِّي إلى انفجاراتٍ لا يُحمد عقباها، سائرةً بك إلى طيِّ النسيان، وتكون بذلك مسيّراً مأسوراً في يد غيرك، بعد أن جعلك خالق السموات السبع حُرَّاً مُخيِّراً في كونه اللامتناهي، وكنتَ مخيِّراً حتَّى في قبُول الدعوة الربّانية، والمتجسِّدة في قولهِ تعالى في محكمِ كتابهِ: [لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ](البقرة:256)، وقوله عزَّ وجلَّ: [وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ](الكهف:29).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق