07‏/02‏/2014

لماذا الاعلان عن الاتحاد الاسلامي الكردستاني؟

صبحي الداودي
كان إعلان (الاتحاد الإسلامي الكوردستاني) إعلاناً لتحرير المثقف الكوردي من الوصاية والتبعية.
 إن مَنْ قرأ ولو شيئاً من التاريخ الحديث يجد أن الشعب الكوردي قد خرج من الحرب العالميَّة الأولى دون أن ينال جزءاً من حقوقه، وإن الغرب الصليبـيّ، وفي مقدمتهم الإنكليز، قد تنكّروا لكلِّ ما قطعوه من عهودٍ ومواثيق لهذا الشعب، وإيغالاً لإقصاءِ وتهميش الكورد، قسَّمُوا بلادهم بين دول أربع.
 أمام هذا الوضع المأساوي وقف مثقفو الكورد موقفاً مُعادياً للغرب، فبدأوا يغذُّون عقولَهم وواقعهم
بلبانِ عداءِ وكراهيَّة الغرب وسياسته، كما أخذوا يفتِّشون عن أعداء العرب ليتخذوا منهم أصدقاء "من بابِ عدو العدو صديق"، ولما لم يكن آنئذٍ من عدوٍّ للغرب على الساحة غير الفكر الماركسيّ، ودوله الشيوعيَّة،
لذلك ارتموا في أحضانِ هذا الفكر دون دراسة، وأصبح مثقفو الكورد أبواقاً للاتحاد السوفيتي.
   ولما كان الفكرُ الإسلامي من أعتى أعداءِ الماركسيَّة، لذلك أخذ مثقفو الكورد يقفون في الخندق المعادي للإسلام دون دراسة، لا بل دون حاجةٍ لذلك، غير إرضاء الفكر الماركسيّ، فكانوا يعتقدون أن الإسلام هو الحؤول دون قيامِ دولتهم القوميَّة.
    واليوم بعد زوالِ الحكم الشيوعي، وأفول الفكر الماركسيّ، وتخلِّي غالبيَّة مثقفي الكورد عن هذا الفكر الملحد، إلاّ أن الملاحظ الذي يلفت النظر هو أن الفكر الماركسيّ لا زالَ حاضراً في تعامُل المثقف الكوردي مع الإسلام وفكره، إذ يقفون بالضدّ لكُلِّ ما هو إسلاميّ، بينما لو أمعنوا النظر في تاريخ الشعب الكوردي لوجدوا أن الإسلامَ لم يكنْ حائلاً أمام قيام دولتهم القوميَّة، ولَوَجدوا العكس أن الإسلامَ كان وراء جميعِ الثوراتِ الكورديَّة، فبدءاً من بدرخان ومروراً بالشيخ عبيدالله النهري والشيخ محمود الحفيد والشيخ سعيد وقاضي محمَّد وانتهاءً بالملا مصطفى، كانوا جميعاً لهم الولاء المطلق للإسلام، كما أن الأدبَ الكورديَّ المورورث كان كلّه من نتاجِ (حجرة) المسجد.
    لذلك كان قيام (الاتحاد الإسلامي الكوردستاني) إيذاناً بفتحِ بابٍ جديد للمثقف الكورديّ، ليتحرَّر من وصايةِ الأفكارِ الوافدة، والثقافات الطارئة، التي أرادت أن تمسخ الهُوية الكورديَّة.
    * كان إعلان (الاتحاد الإسلامي الكوردستاني) إعلاناً لتحريرِ العمل الإسلاميّ الكوردي من الفوضى والتشرذم واللامنهجيَّة والانفراد وذوق الرجال.
   لم يأتِ (الاتحاد الإسلامي الكوردستاني) من الفراغ، كما لم يكن غريباً وطارئاً على الساحة الكورديَّة، وإنما كان جزءاً من هذهِ الساحة حتى قبل قيامه، فقد كان موجوداً كتنظيم منذ عام 1960م، ولكنه كان يخفي نشاطه الدعوي والتنظيميّ وراء تجمعاتٍ ثقافيَّة، أو منظماتٍ خيريَّة، من بابِ الحيطة والحذر.
  ولكن الحالة قد تغيَّرت بعد سيطرةِ الكورد على معظمِ مناطقهم في ربيع عام 1991م، وبروز أحزاب إسلاميَّة وعلمانيَّة مختلفة، لكلِّ منها منهجه الذي يجدهُ المنهج الوحيد الذي يجب أن يجتمع عليهِ القوم، وبذلك اختلفتِ الآراءُ وتباينتِ المواقِفُ وتعدَّدتِ الرايات، ووصلَ الأمرُ ببعضهم أنه يرى أن دولة الخلافة قدِ اقتربتْ وأصبحت قاب قوسين أو أدنى.
   أمام هذا الانقسام والفوضى واللامنهجيَّة والتنافُس على السيطرة، ارتأى عددٌ من العاملين في الحقلِ الإسلاميِّ الكورديّ أن يجدوا لهم منبراً ليلقوا منه خطابهم الإسلاميِّ، بعيداً عنِ التشدُّدِ والتنافُس والوصايةِ على عقولِ ورقاب الناس، وليُعلِنوا على الملأ أهدافَ الإسلام ومطاليبَ الشعب الكوردي، دون أن يتجاوزوا في ذلك حدود الشرع.
  كان هذا المنبر هو إعلان (الاتحاد الإسلامي الكوردستاني) في 6/ 2/ 1994م، فدخلوا ساحةَ العمل الإسلاميّ كجزءٍ منها، ودون وصايةٍ على أحد، مع إقرارهم أن الساحةَ هي للجميع، لا فرقَ في ذلكَ بين العلمانيين والإسلاميين.
   في البداية واجه (الاتحاد الإسلاميّ) صعوباتٍ كثيرةً وكبيرة، ولكنَّه تغلّب على كلِّ ذلك بصبر دونه صبر أيوب، حتّى أصبح قدوةً لجميعِ الأحزابِ الإسلاميَّة، وغير الإسلاميَّة، وبذلك سادت روحُ الأخوّة على الجميع.
* كان إعلان (الاتحاد الإسلامي الكوردستاني) إعلاناً لمشروعٍ إسلاميّ ينسجِمُ مع واقعِ الشعب الكورديّ وحاجته.
في الحقيقة كانتِ الدعوة الإسلاميَّة الحديثة قد وجدت طريقَها إلى كوردستان، عن طريقِ الجولات التي كان يقومُ بها الشيخان الجليلانِ الإمام أمجد الزهاوي، والإمام محمَّد محمود الصوَّاف (عليهما الرحمة)، في فترة الخمسينيات من القرنِ الماضي، وكان من أوائِل الذين تأثّرُوا بهذينِ الشيخينِ المباركين، مجموعة من علماءِ حلبجة، وفي مقدّمتهم الشيخ الجليل المجاهِد (عثمان عبدالعزيز)، إلاّ أن محاولاتِ وجولاتِ هذينِ الشيخين لم ترقَ إلى مستوى تنظيم عملي ودعوي، على الرّغم من وجودِ عددٍ من العلماء المتأثرين بفكرِ الإخوان، واستمرّ الأمرُ على هذا المنوالِ إلى حين انقلاب 14 تموز عام 1958م، إذ تغيّرت بعدهُ الخارطةُ السياسيَّة في العراق، فتمكن الإخوان من إقامةِ أوّل أسرة تنظيميَّة في حلبجة، بعد المؤتمر الأوّل للحزبِ الإسلاميّ العراقي في صيف 1960م، فأصبحَ العملُ الإسلاميّ في (حلبجة) جزءاً من العملِ الإسلاميّ العراقي، وعندما تطوّرتِ الأمور السياسيَّة في كوردستان، وتعرَّض الشعبُ الكورديّ لبطشِ الحكوماتِ العراقيَّة، وفي مقدمتهم حكومة البعث، أخذتِ الأنظارُ تتّجهُ إلى قيادةِ الدعوة الإسلاميَّة في العراق لتكون عوناً للشعب الكوردي، لكنه لم يجد عندهم لا فهماً ولا حلاً.
   أمام هذا الوضع المأساوي، الذي كان يمرُّ به الشعبُ الكورديُّ، توزّع الإسلاميُّون في كوردستان على مذاهبَ مختلفة، فمنهم من حملَ السلاح ليُحاربَ البعث، ومنهم مَنْ هاجر إلى إيران خوفاً من بطش البعث، ومنهم من بقي في العراق، ولكن ورثة التنظيم الإسلامي في كوردستان لم ينسوا دعوتهم، كما لم يتركوا تنظيمهم، فأخذوا يعملون للدعوة بأسلوبٍ ينسجمُ مع تطلعاتِ وهموم ودوافع الشعب الكورديّ.
* كان إعلان (الاتحاد الإسلامي الكوردستاني) إعلاناً متواضعاً، بعيداً عن صليل السيوف، وأزيز الرصاص، ولا يحمل معه لغة التهديد والوعيد لأحد.
   كان العاملون في (الاتحاد الإسلامي الكوردستاني)، قبل الإعلان، جزءاً فعّالاً من العمل الإسلاميّ في الساحة الكورديَّة، لذلك كانوا على معرفةٍ تامّة بدوّاماتِ العملِ، ومتاهاتِ الساحة وشعابها، فقد عرفوا جيِّداً أن أسلوب الهدمِ والعنف وإقصاء الآخرين لا يأتي بخير، كما علموا أن الوصولَ إلى الهدف والغايات لا يتحقّق بتوجيهِ أصابع الاتهام إلى الآخرين، وإنما يتحقّق بمدِّ يد المصافحة إليهم.
  كانت كوردستان عند قيام الاتحاد الإسلاميّ الكورديّ ساحةً للصراع والتنافس الحزبيّ والتصفيات الجسديَّة، ولا يستطيعُ البقاء فيه مَنْ لا سلاح له، لذلك كان الكل يراهنون على أن لا بقاء لحزب (الاتحاد الإسلامي الكوردستاني) على هذهِ الساحة. ولكن قادة الاتحاد الإسلاميّ ودعاته استطاعوا بحكمتهم، وبإيمانهم العميق بمستقبل الشعب الكورديّ، وبما أبدوهُ من تعقل، وبما تحمّلوهُ من صبر ولوم وتقريعٍ وتهديد، أن يعيدوا إلى الساحة لغة الحوار والتفاهم.
   واليوم يجدُ المرءُ أن (الاتحاد الإسلامي الكوردستاني) أصبح رائداً وقدوةً وقائداً في إعادةِ الصفاء والأخوّة إلى نفوسِ وصفوفِ العاملين على الساحة السياسيَّة الكورديّة، كما لا يمكن تجاوز دوره البنَّاء في الإصلاح وفي الهجومِ على أوكارِ الفساد وآكلي لقمةِ الحرام.
* كان إعلان (الاتحاد الإسلامي الكوردستاني) ضرورة دعوية من ضروراتِ الدعوة الإسلاميَّة في كوردستان.
   في النصفِ الثاني من القرنِ الماضي هبّت نسماتُ صحوةٍ إسلاميَّة رائدة ومباركة على ديارِ الإسلام - ومنها كوردستان -، وكانت بصماتُ الأئمة حسن البنَّا، وسعيد النورسي، وأبو الأعلى المودودي (رحمهم الله) واضحة على هذهِ الصحوة.
  ولكن مِمّا يُؤسف له أن الإسلاميين في كوردستان لم يستطيعوا توسيعها وتعميقها في نفوسِ الكورد، ولم يعملوا على صقلها لتوافق الواقع الكوردي، بل أخذوا في تقطيعِ أوصالها وحرفها عن مسارها الصحيح حتّى تصبَّ في دائرة حزبيَّة ضيّقة، فدخلوا في نقاشاتٍ حادّة وصراع مذموم ومحموم مع بعضهم البعض لاقتسام الساحة، في الوقتِ الذي كانتِ الساحة تسعهم جميعاً، لا بل تسعُ المزيد، وبذلك فوّتوا على الساحة، وعلى أنفسهم، فرصة الاستفادة من هذه الصحوة المباركة، ويمكن القول: إن الإسلاميين قد ساهموا مع العلمانيين في ذبح ووأد هذهِ الصحوة، وكان الفرق الوحيد بينهم وبين العلمانيين هو أنهم كانوا يستقبلون القبلة عند الذبح، حتى يكون الذبحُ إسلاميَّاً، بينما العلمانيون ليسَ المهم عندهم أن يتوجّهُوا بذبيحتهم شرقاً أو غرباً.
  قبيل قيام (الاتحاد الإسلامي الكوردستاني)، كان العملُ الإسلاميّ الكوردي يعاني تعثراً وفرقةً، ويشكو من عدم وضوح الرؤى، وبالأخص أمام الشباب الذين اندفعُوا بكلِّ حماسٍ وإخلاص، ولكن مِمَّا يُؤسف له أنهم كانوا يفتقرون إلى الفهم الصحيح، فأصبحُوا بذلك جزءاً من مشكلةِ العمل، وعالةً على المسيرة، في كثيرٍ مِنَ الأحيان، لذا فعند قيامِ (الاتحاد الإسلامي الكوردستاني) حاول الإسلاميّون في الساحة أن يستدرجوهم إلى جوّ الصراع والتنافس، ليكونوا جزءاً من مشكلة الساحة، ولكن العاملين في الاتحاد أبوا إلاّ أن يكون الاتحاد جزءاً من الحل.
* كان إعلان (الاتحاد الإسلامي الكوردستاني) تحريراً لتجربة العمل الإسلاميّ في كوردستان من الترجمة الحرفيَّة لمواقفِ وآراء وتجارِب الآخرين خارج كوردستان.
   كما قلتُ سابقاً: إن (الاتحاد الإسلامي الكوردستاني) لم يأتِ من الفراغ، كما أنه لم يكن غريباً وطارئاً على ساحةِ العملِ الإسلاميّ، وإنما كان استمراراً لعملٍ دعويّ موغل في القدم، فهو وارث تنظيم إسلاميّ بدأ في كوردستان منذ صيف عام 1960م، وكان هذا التنظيمُ على اتصالٍ وثيق بدعوةِ الإخوان المسلمين في العراق، لا بل كان جزءاً من تنظيمِ الإخوان يستمدّ منه النهج والفكر وحتى المعلومات، واستمرّ هذا التنظيم في اتصالهِ بدعوةِ الإخوان المسلمين إلى ربيع عام 1971م، عندما أعلنت قيادة الإخوان المسلمين إلغاء التنظيم خوفاً من بطشِ البعثيين، وبذلك ارتكبت خطأ تاريخيّاً جسيماً، لا تزالُ الدعوةُ الإسلاميّةُ في العراق تدفعُ ضريبةَ هذا الإلغاء.
   قبل إلغاء التنظيم كان التنظيمُ الكوردستاني يعاني إقصاءً وتهميشاً من مجتمعهم الكورديّ، لأن قيادة الدعوة في العراق لم تقدّم حلاً منصفاً للقضية الكورديَّة، لا بل لم تفهم هذهِ القضية، ولذلك كان الإخوانُ من الكورد يواجهون عتاب ولوم واتهام بني جلدتهم.
   ولكن بعد إلغاء التنظيم الإخوانيّ في العراق، أصبحَ التنظيمُ الكوردستانيّ في حِل من أيّ ارتباطٍ تنظيميّ خارج كوردستان، وأصبحت له استقلاليَّة في العمل، وبذلك أصبحت لهموم الشعب الكورديّ وقضيته مكانة خاصّة في دعوتهم، واستمرّ العملُ الدعويُّ في كوردستان يسيرُ بشكلٍ يلفتُ نظر الأعداءِ والأصدقاء، إذ لم يعد التنظيمُ الإسلاميُّ الكوردستانيّ يترجمُ مواقِف وآراء الآخرين حرفيّاً، وإنما كان له رأيه الخاص والمستقل عن كل موقفٍ ورأي.
* كان إعلان (الاتحاد الإسلامي الكوردستاني) إعلاناً لإعادة حالة التوازن بين الثوابت والمستجدات في الساحة الكورديّة.
   عند قيام (الاتحاد الإسلامي الكوردستاني) كانت هناك دعوات تحاولُ أن تحصر الحق والحل في دائرة النصوص، وترى العمل بغير النصوص بدعة وخروجاً عن الإسلام، فأخذت تسعى جاهدةً على إرباكِ العملِ الإسلاميّ بحرفِ مسارهِ ومسيرته، وبذلك كانت تقفُ حجر عثرة أمام الصحوة الإسلاميّة، وتعملُ بكل الوسائل أن تجعلَ من توجهاتها سوطاً تكوي به عقلَ الأمّة، وتحطِّم صرحها العلميّ والثقافيّ، الذي ساهمَ في بنائه علماء الأمّة خلال أكثر من أربعة عشر قرناً من الزمان.  
   ومن جانبٍ آخر، كان هناك على ساحةِ العملِ الإسلاميّ آخرون يديرون ظهورهم حتى من النصوص، ويعوِّلون على العقل في أعمالهم، ويحاولون تفسيرَ كل مسألة حياتيَّة - غيبيَّة كانت أم ماديَّة - بالعقل، فضاعوا في متاهاتِ العقل، كما ضاعت معهم الحقيقة.
* لقد عمل (الاتحاد الإسلامي الكوردستاني) منذ قيامهِ على إعادةِ حالةِ التوازن إلى ساحةِ العمل الإسلاميّ، فكان بحق عنصر خير في ذلك.
   ويتجلّى هذا التوازن في منهاج الاتحاد الإسلاميّ، وفي تعامله الحذر والمرن والموضوعيّ مع متغيراتِ العصر، ومستجدات الواقع، وفي تمييزهِ الواضح والدقيق بين الثوابت والمستجدات، وإعطائه كلاً منهما ما يستحق من الاهتمام.
   كان الاتحاد الإسلاميّ على ثقةٍ ويقين من أن مواجهةَ الحياة لا تتحقق فقط بالنصوص، لأنها لا تكفي لذلك، وإنما لا بد من فقهٍ آخر يواجه به مستجدات الواقع، وهذا لا يعني بحالٍ مِنَ الأحوال قصور الشريعة وعجزها ونقصها، بل بالعكس يعني كمالها ومرونتها، وإعطاؤها العقل مساحةً واسعةً ليدلو فيها بدلوه، ويبحث عن الحلِّ الأمثل لكلِّ مسألةٍ لا يمكن درجها في دائرة النصوص.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق