07‏/02‏/2014

القضية الكردية من منظور اعتدالي


مسعود عبدالخالق 
تمرُّ منطقتنا بمرحلة حرجة وحسَّاسة، نظراً لوجود سوء تفاهمٍ كثير بين وجهات النظر المتباينة، لا سيَّما بين مكونات (العراق) الأساسية، ولا شكّ أن هذا الواقع المعقّد ليس وليد مرحلة طارئة، كما يتوهَّم البعض، بل على علاقة بعقود تاريخية تمتدُّ إلى عصر تكوين الدويلات (العراق، الأردن، سوريا...) على وفق خطط استعمارية.
وكانت تلك المخططات ترمي إلى ما ظهر الآن من التشتت والخذلان والتناحر والتخلّف، إلى درجة أن الرابطة الأخوية المتينة بين: الكورد والعرب، الشيعة والسنة.. تضاءلت ولم تبق إلاّ من خلال المجاملات.. وأحياناً شملت التناحرات المذكورة الإسلاميين في تلك المكونات، وهم الشريحة الوحيدة التي بإمكانها جمع المكوِّنات على الكلمة الواحدة.

ومن خلال البحث عن هذه الظاهرة الشاذة، يظهر لنا أن معظم المشكلات يأتي من عدم التفاهُم المتبادل، فالكورد ينظرون إلى العرب من خلال الطائرات التي تحملُ القنابلَ الكيمياوية، والعربُ ينظرون إلى الكورد كأنهم رأس الرمح في المؤامرة ضدهم، وكلاهما نسيا أن هذا الواقع من صنع الاستعمار، وحلقة من حلقات مخططاته، التي زرعت في المنطقة من خلال اتفاقيات: سايكس - بيكو 1916، ووعد بلفور 1917، وسان ريمو 1920، وفرساي 1920، والقاهرة 1921، ولوزان 1923...، وبموجبها تقسَّمت الأمة الإسلامية باسم (تقرير المصير)، وتكوين الدويلات المذكورة، إذ قسم (العرب) شر تقسيم، وخرجت إلى الوجود (دولة إسرائيل) من بين تلك التقسيمات، وقُسِّمت (كوردستان) أيضاً أسوأ من ذلك، فضلاً عن حرمانها من تقرير المصير المذكور، وأصبحت المنطقة بؤرة لتوتر دائم، وجعلوا أعزة أهلها أذلة، إذ أُقصيت القوةُ الحقيقية منذ ذلك الحين لحدِّ الآن، وأبرزت قوة مصطنعة، ولا زالت التوترات تأتي من هذا العامل. فقد أثبتت أحداث الجزائر والمغرب والسودان وتركيا وإيران وأفغانستان وفلسطين والعراق... أن القوة الحقيقيَّة ليست هى تيارات العَلمانية الحاكمة، كما ظهر ذلك جليَّاً فى نتائج الانتخابات الديمقراطية سلمياً، أو حتى من خلال الحروب والمقاومة. وما زال الغرب والقوى العالمية الأُخرى تنتهج هذه السياسة (سياسة إبراز قوة مُصطنعة)، وهي سببٌ رئيس للتوتر وعدم الاستقرار والتخلّف، في العالم الإسلامي بشكلٍ عام، والعالم العربي بشكلٍ خاص. وكان المفروض والمطلوب من الحركات الإسلامية عدم التأثر بمخططاتِ التقسيم المذكور، وذلك نتيجةً لعدم الاطلاع عليه بشكلٍ جيِّد، وأدت عَلاقته بالواقع الحالي ببعض منها إلى أخذ مواقف غير سليمة تجاه إخوانهم الكورد أو العكس.
ونحن هنا نحاول عرضَ صورةٍ حقيقيَّة عن القضية الكوردية، من حيث الأُسس والمسؤولية، واستمرارها ومدى أضرارها عند بقائها بهذهِ الحالة، وبالتالي بناء موقف اعتدالي تجاه القضية الكوردية، علماً أن معالجة تخلّف وتمزّق الأمة الإسلامية رهنٌ بالحلولِ المذكورة أيضاً، ولا سيَّما أن العالم على أبواب العولمة، بينما العرب والكورد يعانون حالةً من التأخر والتراجع الحضاريّ، وهم لم يتجاوزوا القضايا القوميَّة ومرحلتها الصعبة، فكيف يدخلون إلى العولمة بهذه الهُوية المشوَّهة؟! ومن الواضح أن المرحلة القومية - على الرغمِ من سلبياتها - شبه حتميَّة أمام الشعوب، لأسباب عديدة نذكرها في ثنايا هذا البحث، ومن المعروف بالضرورة أنه لا يمكن الجمع بين القوميات المختلفة وفق منظورٍ قوميّ، لذلك من الخطأ تحميل الكورد وحدهم تبعات الإرث التاريخي، ولا بد أن توفّر لهم الفرص اللازمة لاجتياز هذه المرحلة بتكوين الدويلة القوميَّة، ثم معالجة جميع هذه المظاهر (الدويلات) بطريقة واحدة، لذا وجبَ على الإسلاميين، ولا سيَّما العرب، تفهّم هذه القضية، والاعتراف بها، وبالتالي الإقرار بالحدود الحقيقيَّة، ووضع نهاية للحدود المصطنعة من قبل الاستعمار، والدخول الى العولمة بهُويةٍ إسلامية.

نشأة الدويلات في الشرق الأوسط وفق المشروع الاستعماري:
في الوقت الذي كانت (أوروبا) تمرُّ بالفترة المظلمة، فإن (العالم الإسلامي) كان يزدهر بالعلوم والحضارة، وبعد عصر التنوير والثورة الصناعية ازدهرت أوروبا، وأصبحت المبادرة بيدها، وفي المقابل بدأ العالم الإسلامي يسير نحو الانحطاط، وبدأت المخططات والمؤتمرات تعقد في أوروبا لتقسيم وتوزيع العالم الإسلامي فيما بينها، ومن أهم تلك المؤتمرات:
1- مؤتمر برلين في 20/ يوليو/ 1878.
2- المؤتمر الأرمني في فيينا عام 1890.
3- المؤتمر الصهيوني بمدينة بازل عام 1897.
4- مؤتمر باريس الأول للجمعيات المناهضة للعثمانية عام 1902.
5- مؤتمر باريس الثاني عام 1907.
6- مؤتمر الاتحاد والترقي، وانتخاب (أحمد رضا بك) رئيساً له عام 1907.
7- المؤتمر العربي الأول في الفترة 18 - 23/ يوليو/1913(1). 
وحسب كتاب (وجه آسيا - لمؤلفه دين كروتسيه)، فإن تصفية (العثمانية) بدأت منذ عام 1699 في معاهدة (كارلو فيجه)، وتوالت فيما بعد المؤتمرات والمعاهدات، وزرعوا وشجعوا التيار التغريبـيّ داخل الخلافة، إلى أن أصبحت (الدولة العثمانية) رجلاً مريضاً(2)، وتمخضت عنها هذه الدويلات. وجاء في المادة الأولى والثانية من معاهدة (سايكس بيكو)، الإشارة إلى تكوين الدويلة العراقية المقترحة، وتتبيَّن أغراض الاستعمار من وراء صنع هذه الدويلات، من خلال تحليل بسيط عبر هذه الأسئلة: هل يُعقل أن تأتيَ بريطانيا المعروفة بطبيعتها الاستعمارية، وتقطعَ آلافَ الأميال، وتضحِّي بأرواح جنودها، وتصرف ملايين الدولارات، من أجل تكوين دولة ذات مؤسسات من حكومة وجيش ومجالس ودستور واستيراد الملك، وأخيراً إدخالها إلى عصبة الأمم؟! فهل من وراء هذه الخطة صداقة إنسانية؟ أم مؤامرة كبيرة؟ فالثاني هو الصحيح مطلقاً!! وبشكلٍ عام كان وراء (سايكس –بيكو) وخطة الدويلات(3) الأغراض السرية الآتية:
1- تقسيم وتضعيف العالم الإسلامي، وإنهاء الخلافة، دون عودة.
2- وكان الغرض الأكبر هو تثبيت (وعد بلفور/ 1917)، والذي حقّق هذا الغرض عام 1948، بتكوين دولة إسرائيل(4)، وكان تكوين هذه الدويلات، مثل: الأردن، لبنان، سوريا، العراق، الكويت،...قد ساعد في تكوين وترسيخ إسرائيل وبقائها، وقد وقّع رؤساء معظم تلك الدويلات مع إسرائيل صفقاتٍ، واعتراف متبادل، قبل نشأة دولة إسرائيل(5).
3- زرع الشقاق وعدم الاستقرار في العالم الإسلامي، على أساس مبدأ التقسيم والضمّ، تقسيم الشعوب وضمِّها إلى الأخرى، وتكوين سكان الدويلات المذكورة من مكونات غير متوازنة ومنسجمة، كما نرى اليوم في العراق مثلاً.
4- لكي لا ينهض أبناء تلك الدويلات ويبقوا مستهلكين لبضاعتهم.
5- لكي يتخلّصوا من الحركات والثورات المناوئة للاستعمار، وذلك بواسطة هذه الدويلات ووكلائهم على رأس السلطة.
6- لكي لا تسود الديمقراطية وتداول السلطة، ومبدأ الشخص المناسب في المكان المناسب. وما زال الغرب صديقاً للحكام الديكتاتوريين من أجل تنفيذ الأغراض المذكورة.
7- إن هذا التقسيم يؤدي تلقائياً إلى إقصاء الإسلام عن الحكم، وقطع العلاقات بين الشعوب الإسلامية. هذا وقد أسفر عن ذلك اختفاء الأمة الإسلامية ودار السلام، وحلَّ محلها نظام القوميات والأوطان والكراهية(6).
8- والغرض الأخير، هو من أجل سرعة السيطرة عليهم، كلما دعت الضرورة، كما نرى الآن(7).
على هذا الأساس نشأت (الدولة العراقية) على يد (بريطانيا)، وقد وصف ذلك المشهد (د.علي الوردي) بقوله: إن الدولة العراقية نشأت بمظهرٍ عربي وباطن إنكليزي، وبالتالي فإن الدوائر التي قرَّرت تكوين (العراق)، وبلدان عربية أُخرى، في الشرق الأوسط، هي نفسها التي ساعدت في تكوين (إسرائيل)، فيما بعد! 
والسؤال الجوهري الذى يطرح نفسه هنا هو: إذا كان مؤسس (اليونان) هو (الاسكندر المقدوني)، ومؤسس (فرنسا) هو (شارلمان)، ومؤسس (بريطانيا) هو (هنري الثامن)، ومؤسس (ألمانيا) هو (بسمارك)، ومؤسس (تركيا) هو (كمال أتاتورك)، ومؤسس (باكستان) هو (محمد علي جناح)، فمن هو مؤسس الدولة العراقية؟ وما هو يوم التحرير، أو العيد الوطني العراقي؟ وهل تكوين هذه الدويلات نعمة أم نقمة؟ وهل حقّقت ما جاء في البروتوكول العاشر من (بروتوكولات حكماء صهيون)، بأن صنع هذه الدويلات بهذه الطبيعة هي بمثابة (لغم) تحت أقدام شعوبها؟
والواقع القائم هو خيرُ جوابٍ لهذه الأسئلة، ومنذ ذلك الوقت يُعاني العرب من عدم الاستقرار، وهو أكبر عائق أمام:
1- بعث الخلافة الإسلامية.
2- الوحدة العربية.
3- إلتحاق العرب بركب الحضارة.
4- إنهاء أزمة العقل العربي.
5- إنهاء محنة الكورد والعرب.
وبالمقابل كانت سنداً قوياً لـ:
1-العَلمانية. 2- كيان إسرائيل.
3- مشروع الاستعمار في المنطقة.
وستبقى هذه الأزمات ما دامت هذه الخريطة باقية، ومن الناحية الداخلية (فيما بين المكونات)، والعراق مع الشعوب المجاورة، ظهرت أول نتيجة لها، وهي تحويل العلاقة القائمة على أساس (مَثَلُ المؤمنينَ...)، إلى العلاقة: (مصائبُ قومٍ عند قوم فوائِدُ).

ظهور القضية الكوردية
نقصد بها القضية القومية التي ارتبط معناها بتقرير المصير في دولة مستقلة. وقد ظهرت القضايا القومية أولاً في أوروبا منذ القرن (18)، وأمَّا في الشرق والعالم الإسلامي، فقد ظهرت في نهاية القرن (19)، عندما كانت الخلافة العثمانية تدخل مرحلة مرضها، على الرغم من أن حكمَها كان مليئاً بالسلبيات، إلاّ أنها لم تكن عنصرية قومية، ولم يُعثر في الوثائق العثمانية على دليلٍ يشير إلى نزعتهم التركية (الطورانية)، إلى أن ظهرت حركة (تركيا الفتاة - جوان تورك) عام 1865، على غرار: إيطاليا الفتاة، وبريطانيا الفتاة، وألمانيا الفتاة، ثم تحوّلت إلى حركة (الاتحاد والترقي) عام 1889، بمناسبة الذكرى المئوية للثورة الفرنسية، وبدأت ملامح العَلمانية والقومية التركية تظهرُ في هذه الحركة، ولا سيَّما بعد انقلابها على (عبدالحميد) عام 1908، وعندها استيقظت القوميات الأخرى من العرب والكورد والجركس(8)، وكلُّ ذلك بتحريضٍ من الغرب. ورافق ذلك ظهور الجمعيات الكوردية، من أمثال: (جمعية تعالي وترقي الكوردي - عام 1908، بقيادة الشيخ عبد القادر شمزيني)، و(الاتحاد المحمَّدي - بقيادة الشيخ سعيد النورسي، في العام نفسه)، و(جمعية العزم والاستقلال) وغيرها، وأصبح شعار تقرير المصير على أساسٍ قوميّ منتشراً، حتى شملت بعض العلماء المخلصين، أحياناً، أمثال الشيخ: محمد عبده، وعبد الرحمن الكواكبـي، من العرب، وعلماء آخرون رفعوا شعار الجامعة الإسلامية. وبعد نشوب الحرب العالمية 1914 – 1908، وانتصار الحلفاء على دول المحور (كانت العثمانية من ضمنها)، تـم تقسيم التركة العثمانية، تكرست مقررات الاستعمار، ومعاهداته، فقد أُعطي لكل شعبٍ دولة، أو عدة دول، وفق مصالح الاستعمار، والمخططات المذكورة، وسُلِّمت السلطات إلى الرؤساء الموالين للاستعمار، ثواباً لخدماتهم، هكذا نشأت تركيا والعراق وسوريا.. إلاّ أن هذه العطاءات لم تشمل الكورد، لأن معظم العلماء الكورد قد تمسكّوا بالخلافة، حتى بعد إلغائها عام 1924، فكانت حركات الشيخ عبدالسلام البارزاني، والملا سليم، والشيخ سعيد النورسي، والشيخ سعيد بيران، والشيخ محمود، وغيرهم، تدعو إلى عودة الخلافة، فضلاً عن قيادة المقاومة ضدَّ الزحف البريطاني في جنوب العراق (قبل وصوله إلى محاذاة حدود كوردستان). وبعد انتهاء الحرب العالمية، قام (الشيخ محمود) بالمقاومة والثورة ضدَّ بريطانيا من عام 1919 إلى 1932، ولم يرضَ بواقع التجزئة، الذي تعرَّضت له الأُمة الإسلامية، و(وعد بلفور)، وتحويل الخلافة إلى دويلاتٍ قومية هزيلة، لذلك لم يشمل العطاء الاستعماريّ الشعب الكوردي، وحُرِموا من تقرير المصير والدولة، على الرغم من أن الأُسس القانونية والسياسية والتاريخية والجغرافية لـ(كوردستان) كانت أكثر جاهزيةً من (العراق) (كأنموذج) كما سيتبيَّن فيما بعد. وهكذا ظهرت (بعد ذلك) هذه القضية وعُرفت بـ"القضية الكوردية".

مسؤوليتها:
يمكن حصرُ هذا الموضوع في السؤال الآتي: هل (العَلمانية) هي المسؤولةٌ عن محنة الكورد، أم (الإسلامية)؟ فئة واسعة من باحثي الكورد يُعمِّقون القضية الكوردية إلى آلاف السنين، وعادة يفتتحون الكتابة عن هذه القضية بالعبارة الآتية: يُضطهد الشعب الكوردي منذ آلاف السنين!! وهذه الفئة على الأغلب من ذوي الثقافة العَلمانية، أمَّا الفئة الثانية فتؤكِّد أن هذه القضية بدأت في بداية القرن العشرين، كما ذكرنا قبل قليل، وهذه الفئة هم الإسلاميُّون الواعون، وهم المحايدون الموضوعيُّون.
فالفئة الأُولى تهدف إلى بناء معرفة للأجيال الحاضرة والقادمة، مفادها أن شعوب المنطقة من العرب والترك، وكذلك سلطة الخلافة الإسلامية، هي المسؤولة عن هذه المحنة، وقلّما تشير إلى مسؤولية الاستعمار ومخططاته، وقد عزَّزت هذه الآراء تصرُّفات السلطة العراقية، والصمتُ العربيّ، والإسلاميّ. أمّا الفئة الثانية، فهي تلقائياً تُبَرِّيءُ التاريخ، والخلافة الإسلامية، وشعوب المنطقة، من هذه المسؤولية. ومن جانبٍ آخر، تدَّعي الفئة الأولى أن العرب لم يكونوا موجودين في المنطقة، بل جاءوا عن طريق الغزوات الإسلامية إلى العراق والشام، وتمكّنوا من إخضاع الكورد، ويضيفون أيضاً: أن الحملاتِ الإسلاميةَ الأُولى هي الأنفال الأُولى، وحملاتُ البعث في عام 1988 هي الأنفال الثانية!! وأمّا بخصوص ما حدث في بداية القرن العشرين، فتؤكِّد الفئة الأولى أن تمسُّك الكورد بالدين أقوى من غيرهم من شعوب المنطقة، وأن مدافعتَهم عنه هي سببُ حِرمانهم من تقرير المصير وبناء الدولة، كما جرى للعرب والترك. ويضيفون: إن العرب (وحتى الإسلاميين) لم يُعيروا اهتماماً بهذه المواقف الكوردية النبيلة، بل قد شاركوا فى محاسبة الكورد بسبب هذه المواقف.. ومن الملاحظ أن كل قارئ يجدُ في هذه الآراء جانباً من الصحة، بينما يجدُ فيها كثيراً من التناقضات. ولكننا نقول: لو كانتِ الخلافة الإسلامية مُضطهِدة لشعوب المنطقة، فكيف يُدافع الكورد عن الخلافة ضد الاستعمار، ولا سيَّما بعد سقوطها؟َ! وقد دُوِّنَتْ معظم المساحات التاريخية بهذه النظرة الخاطئة، من قبل تلك الفئة من الباحثين الكورد، لذلك يحتاجُ هذا الأمر إلى جهود متعدِّدة الأوجه لتصحيحه، وإعادة كتابته، علماً أن هذا النوع من الخطاب لا يخدمُ العَلاقة الأخوية بين شعوب المنطقة، ولا القضية الكوردية، لسببٍ بسيط وهو أنه لو كان التحليل المذكور صحيحاً، وكان الكورد يُعانون من الاضطهاد والاحتلال منذ آلاف السنين، فما معنى الثورات والتطلعات الكوردية في القرن العشرين؟! أليست هي ضَرْباً من العبث والاعتباط؟ فلو أجبنا بنعم، فهذا يعني تبرئة الاستعمار والدول المحتلّة لكوردستان، وبالتالي إضاعة حق الكورد في ظلمات التاريخ. وقد أكّد ذلك مرةً الرئيس الفرنسي عندما قال: "إننا غير مسؤولين عن محنة الكورد، بل التاريخ هوالمسؤول"، وبالتالي، عند مَنْ يطالب الكورد بحقوقهم المشروعة؟! لكن خطاب الفئة الثانية (وإن كان جديداً بين المثقفين) إلاّ أنه يمتاز بما يلي:
1- يسرد الوقائع التاريخية كما هي.
2- ترى هذه الفئة أن شعوب المنطقة، والخلافة الإسلامية، والتاريخ، غير مسؤولين عن هذه القضية، بل لا يوجد دليلٌ على أن الخلافة الأُموية والعباسية والعثمانية، وحتى الصفوية، اضطهدوا الكورد باسم القومية، بل على العكس، فلقد لعب الكورد دوراً تاريخياً رئيسياً، ونهضوا بالإسلام اجتماعياً وسياسياً وعسكرياً، فضلا عن سلطة (صلاح الدين) الكبرى، التي حكمت زُهاء 64 إمارة ودولة كوردية، أي ما يُعادل الإمارات العربية(9)، وسنرجع إلى هذا الموضوع في سياق مواضيع لاحقة.
3- إن مسؤولية هذه القضية تقعُ على عاتق الاستعمار ومخططاته، وليس هذا فقط، بل إن محنة الشعب الفلسطيني، والعرب بشكلٍ عام، تقعُ على عاتق هذه الدويلات. وقد توضَّح فيما بعد أن القضية الكوردية، والقضية العربية، وقضايا الشعوب الإسلامية الأخرى، هي من حيث الجوهر، واحدة، وليست متضادة، كما هي الآن في الواقع السياسي. إن ما يجري الآن، في الحقيقة، هو تنفيذ وتكريسٌ للمخطط الاستعماريِّ مجانياً، ودون علم منهم أحياناً، ويمكن تحديد المسؤولية بمجرَّد تحديد الفترة الزمنية وظروف تلك الفترة. ومن الواضح أننا لا نجدُ في الشعب الكوردي وتاريخه عبارةً تشيرُ - ولو ضمنياً - إلى هذا النوع من الاضطهاد. إننا لا نبرِّئُ السلاطين، لأن المرحلة لم تكن مرحلةً قومية، وحتى الأدبيات الكوردية، قبل عام 1908، هي خالية من العواطف والدوافع القومية، لذلك هناك شبه إجماع على أن تاريخ الحس القومي انطلق بعد العام المذكور(10)، وبالتالي يمكن تحديد الفترة، التي ظهرت فيها محنة الكورد، من الحرب العالمية الأولى، إلى العام 1924، وكانت هذه الفترة تمتاز بما يلي:
1- سقوط الخلافة، وحلول دول قومية علمانية محلها.
2- انتصار الحلفاء على الدولة العثمانية.
3- هيمنة الفكر العلماني التغريبـيّ على المنطقة.
4- تـمَّ تقسيمُ المنطقة، في ظلِّ هذا الوضع، تحت شعار تقرير المصير، حسب المخطط الاستعماري، وبواسطته تكوَّنتِ الدويلات، مثل: العراق، وتركيا، وسوريا، وحُرِم الكورد من هذا الحق.


قصتها في العراق:
لم يكن العراق، كما ذكرنا، كياناً سياسياً بحدود ولاية أو دولة معيَّنة، إلى أن جاءت بريطانيا وأنشأتها، وفى بداية نشأتها لم تشمل كوردستان أو حتى ولاية الموصل. وبموجب معاهدة (سايكس –بيكو/ 1916) كانت (ولاية الموصل) تقع في منطقة (A) الفرنسية(11)، أمَّا الدولة العراقية المقترحة حسب المادة الثانية فيها، هي: "شقة العراق الساحلية من بغداد حتى الخليج الفارسي"، وتكرّرت حقيقة هذا الأمر في رسائل الشريف – ماكماهون(12)، وعُينت حدود العراق على أساسِ سايكس - بيكو، أي شملت ولايتي بغداد والبصرة فقط(13). وجاءت هذه الحقيقةُ أيضاً في مشكلة الموصل، حيث استخدمت بريطانيا الخرائط القديمة النادرة التي تؤيد وجهات نظرها، ولم يعثر اسم العراق سوى في بعض الأوصاف والحالات التى خلطت بين العراق العجمي والعربي، لكن بريطانيا أصرّت على صنع العراق، ثم تنظيم الدولة فوقه، وقصة تكوين الدولة العراقية من قبل بريطانيا طويلة وشاقة.
ومن الواضح أن هذه التداولات لم تشمل كوردستان، لا من قريب ولا من بعيد، كما جاء وتكرّر في تلك البرقيات الواردة من لندن إلى بغداد. ويُلاحظ من رسائل (مس بيل)(14) أنها خالية من اسم الكورد وكوردستان لحدِّ 28/ 8/ 1921(15)، وهذا دليلٌ آخر على أن إلحاق (كوردستان) بالعراق المقترح، لم يكن في بال بريطانيا، في البداية، وبدأت قصتها بعد هذا التاريخ. وعند انتهاء الحرب العالمية الأولى في 1918، عقدت مؤتمرات حول الدول المهزومة، كلاً على حِدة، بحيث خُصص (مؤتمر فرساي) لألمانيا في 28/ 7/ 1919، و(سانجرمان) للنمسا في 10/ 9/ 1919، و(نوى) لبلغاريا في 27/ 11/ 1919، و(تربانو) للمجر في 6/ 7/ 1919، و(رابالو) بين إيطاليا ويوغوسلافيا في 12/ 11/ 1920، و(ريغ) بين بولونيا وروسيا في 18/ 3/ 1921، وللدولة العثمانية (مؤتمر سيفر) في 1/ 8/ 1920، وبموجبه تقسَّمت الدولةُ العثمانية بشكلٍ رسمي، ويُلاحظ أن (العراق) و(كوردستان) انفصلتا عنها بمادتين مختلفتين، حيث انفصلت (كوردستان) على وفق المادة (63، 64) من (سيفر)، بينما انفصلت (العراق) على وفق المادتين (94، 132)، والمادة (63) أقوى من المادة (132)، فالأولى جاءت تحت عنوان كوردستان بدون انتداب، بينما جاءت الثانية تحت الانتداب، لذلك ظلّت بريطانيا مترددة بشأن مصير كوردستان لحين مؤتمر القاهرة عام 1921، وخصصت المادة (4) منه لكوردستان، وحتى في المادة (16) من لائحة الانتداب ترك المجال لمصير كوردستان بوحدها، وكان العلم العراقي حتى 28/ 8/ 1921 يحمل نجمة واحدة، تعبيراً عن أن العراق مكوّن من شعبٍ واحد(16)، وبعد هذا التاريخ أصبح العلم العراقي ذا نجمتين للدلالة على الشراكة الكوردية -العربية في العراق المولود. وهناك دليل أقوى من كل ذلك، وهو أن (نوري سعيد) عرض شراء (ولاية الموصل) من (تركيا) بـ(500.000) ليرة إسترلينية(17)، ويلاحظ ذلك أيضاً من تقرير (لجنة التحكيم) التابعة لـ(عصبة الأمم - لعام 1923) حيث أكّد: إن هذه المنطقة لا تعود إلى العرب، ولا إلى الترك، ولا إلى العراق المقترح، بل إلى كوردستان، والأغرب من ذلك أنه جاء في هذا التقرير: أن أهالي هذه المنطقة لم يسمعوا بكلمة العراق(18).
هكذا ولد العراق السياسي، مع دويلات أخرى، ومعه القضية الكوردية والفلسطينية، وأصبح – بحق-لغماً، كما جاء في البروتوكول العاشر لحكماء صهيون. إذن ظهرت القضية الكوردية بعدما تحوّل انتماء شعوب المنطقة من الإسلام إلى القومية، وتقرر مصيرهم في دولة باسمهم، وجُرِّدوا من مسؤولية الأمة، وحُرم الكورد منها. أي أن القضية الكوردية لم تظهر عندما كان جميعهم في دولة الخلافة - على الرغم من سلبياتها -، ما دام الكلّ يدَّعي الإسلام، ولكن عند ادعاء العروبة والطورانيَّة، فما شأن الكورد فيهما، كما قال المؤرخ العربي محمود شاكر(19). وهكذا نرى أن تعريف القضية الكوردية وهُويتها تتجسَّد في مطالب أول ثورة كوردية عام 1925 - بعد إلغاء الخلافة - بقيادة الشيخ (سعيد بيران)، عندما طالب الشيخ بإعادة الخلافة، أو تقرير المصير للكورد، كباقي شعوب المنطقة، ولا زال محتوى هذه المطالب يشكل الـ(مانيفيست) لكلِّ من يريد تَفَهُّم القضية، وقلّما نجد من الباحثين العرب تفهُّماً على هذا الأساس، وحتى بعض الإسلاميين من الكورد والعرب ينقصهم هذا الفهم.


الخلاصة: 

توصَّلنا إلى نتيجةٍ في غايةِ البساطة، وهي أن الكورد والعرب تعايشا متآخين في ظلِّ دار الإسلام (وليس في العراق)، ولكن عندما تعصَّب العربُ لقوميتهم (في بداية القرن العشرين)، وألغوا الخلافة، بالتعاون مع اليهود والغرب، وأسسَّوا دويلات قومية لهم، فقد شيَّعوا تلك الأخوّة إلى ملاذها الأخير. وأتساءل هنا ترى: ما هي علاقة الكورد بالعروبة، أو العكس؟! وهذا هو سِرُّ المشكلة، والأغرب من ذلك أن علمانيي العرب (في حينه) كانوا جُزءاً من الخطة، وأنتُظر من إسلاميي العرب مواقف عادلة، ولكنَّهم لم يعلنوها صراحةً بصورةٍ جريئةٍ وفاعلة، وكانت مواقفهم في أحسن حالاتها لا تخرجُ عن تصريحاتٍ غامضة، وأحياناً متناقضة - بصرف النظر عن بعض المواقِف المؤيِّدة، هنا أو هناك - فهم كانوا من جهة يقرون بأن الحدود بين العرب مُصطنعة، وعندما تأتي إلى حق الكورد، يُقدِّسون الحدود ووحدة الوطن (العراقي مثلاً).
إذا كان الجميع يريدون العودة إلى الخلافة ودار الإسلام، ويحبُّون أن تُمحى على الخارطة السياسيَّة الدويلات المذكورة الناشئة على الأراضي الإسلامية، فلا يحق للكورد أن يطالِبوا بكورديتهم وكوردستانيتهم، كما جاءَ ذلك في شعار أول ثورة كوردية بقيادة الشيخ (سعيد بيران) عام 1925، أمّا الشراكة المزعومة في وطن (مُصطنع)، كأنه في بيتٍ يكون مِنَ الأرض إلى السقف للعرب، ومن السقفِ إلى السماء للكورد، فقد خسر الكوردي نصف وطنه، وذلك تحت شعاراتٍ أخوية برَّاقة، فضلاً عن تقويضِ حدود كوردستان إلى النصف نتيجةَ التعريب.
صحيح أن الوضع القائم هو من صنع الاستعمار، وما دام الأمر كذلك، فلماذا التمسُّك به، ولقد صدق مَنْ قال (مِنْ سعد زغلول، إلى معمر القذافي): بأن الدويلات العربية ليستْ إلاّ صِفراً (أو - 1). وإني على يقين أن الدولة الكوردية المنتظرة ستكون صفراً أيضاً، وأتساءل: يا إخوة العرب، ترى ما هو الضرر إذا زاد صفرٌ على (22) أصفار أخرى.
وأخيراً، وفي ظلِّ هذا الظرف، فإن من حقّ الكورد - من منظور إنسانيّ، وإسلاميّ - أن يبنوا لأنفسهِم مُستقبلاً، ويعيشوا في ديارهِم آمنين. وختاماً نرى أنه من واجب الحركاتِ الإسلاميَّة، قبل التيارات العَلمانيَّة، العمل من أجل (كوردستان)  
---------

الهوامش:

1- موسوعة السفير، د.محمد حرب: 8/ 75.
2- أوَّل من أطلق هذا الاسم هو القيصر الروسي (نقولا)، في عام 1842م.
3- أي أن تكوين (العراق) و(سوريا)، وغيرها، كان مؤامرة استعمارية، تستهدف تلك النقاط التي ذكرناها.
4- تستقرأ ذلك في بروتوكولات صهيون من (5 إلى 10)، وأدبيات أُخرى لهم. ويمكن أن تتلمَّس بوضوح آثار اليهود الواضحة فى الحرب العالمية الأولى، واتفاقية سايكس - بيكو، وترويج العَلمانية، وإنشاء الدويلات في العالم الإسلامي، فضلاً عن وعد بلفور.
5- ينظر: نص الاتفاقية بين الملك فيصل ووايزمن في كتاب: الملك فيصل الأول، باللغة العربية.
6- قبل هذا العهد كانت شعوب المنطقة تحبُّ العرب كثيراً، وأنا أتذكّر أن الكورد كانوا يحترمون حتى الجمل العربي، ولكن بعد سايكس - بيكو، ونشأة الدويلات، وتعامل العَلمانية القومية العربية مع الكورد، لم يبق هذا الحب والاحترام، الذي كان موجوداً في العهد السابق.
7- للاطلاع على مزيدٍ من تلك الأغراض، راجع رسالتنا باسم :الإسلام والعلمانية وأثرهما في نشأة الدولة العراقية الحديثة - الباحث.
8- جاء في كتاب (محاضرات في نشوء القومية - ساطع الحصري)، و(كورد وكوردستان - محمد أمين زكي بك) العبارة المشتركة الآتية: إننا لم نحس بأننا (عرب أو كورد)، في العهد العثماني، إلاّ عندما ادعى الاتحاديُّون تركيَّتهم.
9- للتوسّع والاستزادة، يُنظر: عدد الإمارات الكوردية في (المردوخي)، والإمارات العربية: البقايا والجذور، في كتاب (د.سيار الجميل).
10- ينظر: الكورد وكوردستان في الوثائق البريطانية، وكورد وكوردستان، محمد أمين زكي.
11- ينظر: خريطة سايكس - بيكو (المنشورة في الملحق الأول من رسالة: الإسلام والعلمانية...).
12- لهذه الرسائل دور مهم في تقسيم المنطقة.
13- ينظر: الملل والنحل والأعراق: 226.
14- وهي الشخصية التي لعبت دوراً مهمَّاً في نشأة الدولة العراقية، على وفق الخطة البريطانية.
15- ينظر: العراق في رسائل مس بيل - نص الرسالة في ص344.
16- العراق في رسائل مس بيل - علماً أن عدد النجمات كانت تمثل عدد الولايات أو الشعوب المكوَّنة للبلد.
17- د.علي الوردي - العراق في...، ص281.
18- د.فاضل حسين - مشكلة الموصل، ص80.
19- التاريخ الإسلامي - بلاد العراق.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق